I

1– "العمل مصدر كل ثروة وكل ثقافة، ولمّا كان العمل المفيد غير ممكن إلا في المجتمع وبواسطة المجتمع، فإن دخل العمل يخص بشكله غير المنقوص، وبالحق المتساوي، جميع أعضاء المجتمع".

القسم الأوّل من هذه الفقرة: "العمل مصدر كل ثروة وكل ثـقافة".

إن العمل ليس مصدر كل ثروة. فالطبيعة هي مصدر القيم الإستعمالية (التي هي بالضبط تؤلف الثروة المادية !) بقدر ما هو عليه العمل الذي ليس هو نفسه سوى ظاهرة لقوة من قوى الطبيعة أي لقوة عمل الإنسان. وهذه الجملة الواردة أعلاه تعثرون عليها في جميع كتب الألفباء، ولا تصح إلا بقدر ما تعني أن العمل يجري عند توافر الأشياء والأدوات المناسبة. ولكنه لا يجوز لبرنامج إشتراكي أن يحتوي مثل هذه التعابير والجمل البرجوازية التي تلزم الصمت حول الشروط التي وحدها تستطيع أن تعطيها معنى. فإن عمل الإنسان لن يصبح مصدر القيم الاستعمالية، وبالتالي مصدر الثروة، إلا شرط أن يسلك، منذ البدء، سلوك المالك إزاء الطبيعة، إزاء هذا المصدر الأول لجميع وسائل العمل ومواد العمل، شرط أن يعاملها كأنها شيء يخصه. إن للبرجوازيين أسبابا وجيهة جدا لكي ينسبوا إلى العمل هذه القوة الخلاقة الفائقة الطبيعة ؛ إذ ينجم من كون العمل مشروطا بالطبيعة، أن الإنسان الذي لا يملك غير قوة عمله، يصبح بالضرورة، مهما كانت أحواله الإجتماعية والثـقافية، عبد الذين وضعوا أيديهم على شروط العمل المادية. فلا يستطيع أن يعمل، وبالتالي أن يعيش، إلا بإذن هؤلاء.

ولكن لندع الآن هذه الجملة كما وردت ومهما كانت عيوبها. فأي استـنتاج يمكن أن نتوقعه ؟ طبعاً، الإستـنتاج التالي:

"لمّا كان العمل مصدر كل ثروة، فما من إنسان في المجتمع يستطيع أن يستأثر بالثروة بدون الإستـئـثار بنتاج العمل. فإذا كان هذا الإنسان لا يشتغل بنفسه، فإنه يعيش على حساب عمل الآخرين، بل إنه يكسب ثـقافته أيضاً على حساب عمل الآخرين".

وبدلا من هذا الإستـنتاج، يضيفون إلى الجملة الأولى جملة ثانية بواسطة التعبير "ولمّا"، لكي يستخلصوا من الثانية، لا من الأولى، استنتاجاً.

القسم الثاني من الفقرة: "العمل المفيد غير ممكن إلا في المجتمع وبواسطة المجتمع".

وفقاً للموضوعة الأولى، كان العمل مصدر كل ثروة وكل ثـقافة، وبالتالي لا يمكن أن يكون ثمة مجتمع دون عمل. ولكن، ها نحن نعلم بالعكس أن العمل "المفيد" غير ممكن بدون المجتمع.

وعلى هذا المنوال، يمكن القول أيضاً أن في المجتمع فقط يمكن للعمل غير المفيد، وحتى الضار اجتماعياً، أن يصبح فرعا من فروع الصناعة، وأن في المجتمع فقط للمرء أن يعيش بدون عمل، الخ.، الخ. – أي إنه، بكلمة موجزة، يمكن استنساخ كل روسو (Rousseau).

وما هو العمل "المفيد" ؟ إنه ليس العمل الذي يعطي النتيجة المفيدة المرغوب فيها. فالإنسان المتوحش – وقد كان الإنسان متوحشاً بعد أن كف عن أن يكون قرداً – الذي يقتل حيواناً بضربة حجر، أو يقطف الثمر، الخ.، إنما يقوم بعمل "مفيد".

ثالثا. الإستـنتاج: "ولما كان العمل المفيد غير ممكن إلا في المجتمع وبواسطة المجتمع، فإن دخل العمل يخص بشكله غير المنقوص، وبالحق المتساوي، جميع أعضاء المجتمع".

فيا له من استنتاج ظريف ! فإذا كان العمل المفيد غير ممكن إلا في المجتمع وبواسطة المجتمع، فإن دخل العمل يخص المجتمع، ولا يعود إلى الشغيل بمفرده من هذا الدخل إلا شيء يزيد عما لا غنى عنه لبقاء المجتمع بوصفه "شرط" العمل.

وبالفعل، كان المدافعون عن كل نظام اجتماعي قائم يتـقدمون في جميع الأزمان بهذه الموضوعة. أولا، ترد ادعاءات الحكومة، مع كل ما يلتصق بها، لأن الحكومة، كما يقال، هي جهاز المجتمع للمحافظة على النظام الاجتماعي ؛ ثم ترد ادعاءات شتى أنواع الملكية الخاصة، لأن شتى أنواع الملكية الخاصة هي كلها، كما يقال، أساس المجتمع، الخ.. وهكذا نرى أن جميع هذه الجمل الفارغة يمكن قلبها وتفسيرها حسب الرغبة.

ولن يكون ثمة أي ترابط منطقي بين القسم الأول والقسم الثاني من هذه الفقرة إلا إذا وضعناها كما يلي:

"إن العمل لا يكون مصدراً للثروة والثـقافة إلا إذا كان عملا اجتماعياً"، أو، بتعبير آخر يؤدي المعنى نفسه، "في المجتمع وبواسطة المجتمع".

إن هذه الموضوعة صحيحة لا جدال فيها لأن العمل المنفرد (هذا إذا افترضنا وجود شروطه المادية)، إذا كان يستطيع أن يخلق قيماً استعمالية، إنما لا يستطيع أن يخلق لا الثروة ولا الثـقافة.

ولكن الموضوعة الأخرى صحيحة أيضاً ولا جدال فيها:

"وبقدر ما يتطور العمل تطوراً اجتماعياً ويغدو بالتالي مصدراً للثروة والثـقافة، بقدر ما يشتد الفقر والإملاق عند العامل، وتـتعاظم الثروة والثـقافة عند غير العامل".

ذلك هو قانون التاريخ برمته حتى الآن. فبدلا من الجمل والتعابير العامة حول "العمل" و"المجتمع"، كان ينبغي اذن أن يوضع هنا بدقة كيف تكوّنت في نهاية الأمر، في ظل المجتمع الرأسمالي الحالي، الشروط المادية وغيرها من الشروط التي تجعل العمال قادرين على دك هذه اللعنة الاجتماعية وتدفعهم إلى تحطيمها.

ولكن كل هذه الفقرة، غير الموفقة شكلا والخاطئة أساساً، لم ترد هنا إلا لكي يستطاع كتابة الصيغة اللاسالية "دخل العمل غير المنقوص"، كأول شعار على راية الحزب. وسأعود فيما بعد إلى "دخل العمل" و"الحق المتساوي"، الخ..، لأن الشيء نفسه يتكرر فيما بعد على نحو مختلف نوعاً.

 

2– "إن وسائل العمل في المجتمع الحالي هي احتكار الطبقة الرأسمالية. وتبعية الطبقة العاملة، الناجمة عن هذا الوضع، هي سبب البؤس والاستبداد بكل أشكالهما".

إن هذه الفقرة، المقتبسة من نظام الأممية الداخلي، خاطئة بهذه الصيغة "المحسنة".

فإن وسائل العمل في المجتمع الحالي هي احتكار الملاكين العقاريين (بل إن احتكار الملكية العقارية هو ساس الاحتكار الرأسمالي) والرأسماليين. إلا إن نظام الأممية الداخلي ى يذكر في المقطع المعني، لا الطبقة الاحتكارية الأولى ولا الثانية. إنما يشير إلى "احتكار وسائل العمل أي مصادر الحياة". إن إضافة كلمتي "مصادر الحياة" تبين كفاية أن الأرض هي في عداد وسائل العمل.

وقد أجريَ هذا التحسين لأن لاسال، لأسباب غدت معروفة اليوم لدى الجميع، كان يهاجم الطبقة الرأسمالية وحدها، دون الملاكين العقاريين. ففي إنجلترا، لا يكون الرأسمالي، عادة، مالكا حتى للأرض التي يقوم عليها مصنعه.

 

3– "إن تحرير العمل يتطلب رفع وسائل العمل إلى مستوى ملكية المجتمع بأسره، وضبط العمل الإجمالي بصورة جماعية مع توزيع دخل العمل توزيعا عادلاً".

"إن رفع وسائل العمل إلى مستوى ملكية المجتمع بأسره" ( !) يعني على ما يبدو "تحويلها إلى ملكية للمجتمع بأسره"، ونقول هذا عرضاً.

ما المقصود بـ"دخل العمل ؟" أهو نتاج العمل أم قيمته ؟ فإذا عنيت قيمته، فهل قيمة النتاج الإجمالية أم فقط القسم من البقية الذي أضافه العمل إلى قيمة وسائل الإنتاج المستهلكة ؟

إن "دخل العمل" عبارة عن فكرة غامضة كان لاسال يتخذها بدلا من مفاهيم اقتصادية واضحة.

وما هو "التوزيع العادل" ؟

ألا يدّعي البرجوازيون أن التوزيع الحالي "عادل" ؟ وبالفعل، أليس التوزيع الحالي التوزيع "العادل" الوحيد على أساس أسلوب الإنتاج الحالي  ؟ وهل العلاقات الاقتصادية تنظمها المفاهيم الحقوقية أم الأمر على العكس، أي إن العلاقات الحقوقية هي التي تنبثق من العلاقات الاقتصادية  ؟ ثم، ألا يتبنى أصحاب الشيع الاشتراكية المختلفة، أكثر الآراء تبايناً حول هذا التوزيع "العادل" ؟

فلكي ندرك ما هو المقصود هنا بهاتين الكلمتين: التوزيع "العادل"، ينبغي لنا إن نقارن الفقرة الأولى بالفقرة الثالثة. فالفقرة الثالثة تفترض مجتمعاً "تكون قيه وساءل العمل ملكية المجتمع بأسره، ويضبط فيه العمل الإجمالي بصورة جماعية"، بينما تقول لنا الفقرة الأولى "إن دخل العمل بخص بكليته وبالحق المتساوي، جميع أعضاء المجتمع".

"جميع أعضاء المجتمع" ؟ حتى أولئك الذين لا يشتغلون ؟ وإذ ذاك، أين هو "دخل العمل غير المنقوص" ؟ مجرد أعضاء المجتمع الذين يشتغلون ؟ فأين هو إذن "الحق المتساوي" بين جميع أعضاء المجتمع ؟

ولكن "جميع أعضاء المجتمع" و"الحق المتساوي" ليسا سوى مجرد جملتين. أما الجوهر، فقوامه إنه ينبغي في هذا المجتمع الشيوعي إن ينال كل شغيل، كما يقول لاسال، "دخل العمل غير المنقوص".

فإذا أخذنا أولا كلمتي "دخل العمل" بمعنى نتاج العمل، فإن دخل العمل الجماعي يعني حينذاك النتاج الاجتماعي الإجمالي.

والآن، ينبغي إن نقتطع منه:

أولا، ما نستعيض به عن وسائل الإنتاج المستهلكة ؛

ثانيا، قسماً إضافيا لتوسيع الإنتاج ؛

ثالثا، أموالا للاحتياط أو للتأمين ضد الطوارئ، والكوارث الطبيعية، الخ..

إن هذه الاقتطاعات من "دخل العمل غير المنقوص" تحتمها الضرورة الاقتصادية، وتتحدد مقاديرها وفقاً للوسائل والقوى المتوافرة، وجزئياً بموجب حساب الاتفاق ؛ ولكنها في مطلق الأحوال لا يمكن تحديدها على أساس العدالة.

يبقى القسم الآخر من النتاج الإجمالي، وهو القسم المعد للاستهلاك.

ولكن قبل الشروع بتوزيعه على الأفراد منه أيضاً:

أولا، النفقات الادراية العامة، التي لا علاقة مباشرة لها بالإنتاج.

إن هذا الجزء سيهبط فوراً هبوطاً ملحوظاً بالقياس إلى قدره في المجتمع الحالي، وسيقل بقدر ما يتطور المجتمع الجديد.

ثانيا، ما هو معذّ لتلبية حاجيات المجتمع المشتركة، من مدارس، ومؤسسات صحية، الخ..

إن هذا الجزء سيزداد فوراً زيادة كبيرة بالقياس إلى قدره في المجتمع الحالي، وسينمو بقدر ما يتطور المجتمع الجديد.

ثالثاً، الأموال الضرورية لإغاثة العاجزين عن العمل، الخ.، أي، بكلمة موجزة، ما يعود إلى ما يسمى اليوم بإغاثة الفقراء الرسمية.

وبعد ذلك فقط، نصل إلى ذلك "التوزيع" الذي لا يعني البرنامج إلا إياه، تحت تأثير لاسال، وبصورة ضيقة، محدودة، أي إلى هذا القسم من أشياء الاستهلاك الذي يوزع بصورة افرادية بين منتجي المجتمع.

وهكذا تحوّل "دخل العمل غير المنقوص" بصورة غير محسوسة إلى "دخل منقوص"، رغم إن ما يؤخذ من المنتج، بوصفه فرداً، إنما يعود عليه بالنفع من جديد، مباشرة ام بصورة غير مباشرة، بوصفه عضواً في المجتمع.

وكما إن تعبير "دخل العمل المنقوص" قد ذاب واختفى، كذلك يذوب ويختفي تعبير "دخل العمل" بوجه عام.

في مجتمع قائم على المبادئ الجماعية، قائم على الملكية العامة لوسائل الإنتاج، لا يتبادل المنتجون منتجاتهم ؛ إن العمل المبذول على المنتجات لا يظهر في هذا النظام الاجتماعي على إنه قيمة هذه المنتجات، على إنه صفة مادية تنطوي عليها المنتجات، إذ أنه خلافاً لما يجري في المجتمع الرأسمالي، يغدو عمل الفرد بصورة مباشرة، لا بصورة غير مباشرة، جزءاً لا يتجزأ من عمل المجتمع. وهكذا، إن تعبير "دخل العمل"، الذي لا يصمد للنقد حتى في أيامنا هذه بسبب إبهامه، يفقد كل معنى.

إن ما نواجهه هنا، إنما هو مجتمع شيوعي لا كما تطور على أسسه الخاصة بل بالعكس، كما يخرج لتوه من المجتمع الرأسمالي، أي مجتمع لا يزال، من جميع النواحي، الاقتصادية والأخلاقية والفكرية، يحمل سمات المجتمع القديم الذي خرج من أحشائه. فالمنتج يتلقى إذن بصورة فردية –بعد جميع الاقتطاعات– ما يوازي تماماً ما قدمه للمجتمع. وما قدمه للمجتمع، إنما هو نصيبه الفردي من العمل. مثلا، إن يوم العمل الاجتماعي يمثل مجمل ساعات العمل الفردية ؛ ووقت العمل الفردي الذي بذله كل منتج هو النصيب الذي قدمه من يوم العمل الاجتماعي، هو القسط الذي أسهم به في هذا العمل. وهو يتلقى من المجتمع سنداً يثبت إنه قدّم قدراً معيناً من العمل (بعد اقتطاعات العمل المبذول من اجل الصناديق الاجتماعية) وبهذا السند، يأخذ من المخزون الاجتماعي كمية من أشياء الاستهلاك تناسب قدر عمله. وهكذا فإن نفس النصيب من العمل الذي قدمه للمجتمع بشكل معين، إنما يتلقاه من المجتمع بشكل آخر.

ومن الواضح إننا نواجه هنا نفس المبدأ الذي ينظم تبادل البضائع طالما إنه تبادل قيم متساوية. إن المحتوى والشكل يتغيران لأنه، نظراً لتغير الأحوال، لا يستطيع احد إن يقدّم شيئاً غير عمله، هذا من جهة، ولأنه، من جهة أخرى، لا يمكن لغير أشياء الاستهلاك الفردي إن يدخل في ملكية الفرد. أما فيما يتعلق بتوزيع هذه الأشياء بين المنتجين بصورة فردية، فإن المبدأ الموجه هو نفس المبدأ الذي يسود فيما يتعلق بتبادل البضائع المتعادلة: فإن قدراً معيناً من العمل بشكل ما يبادل لقاء نفس القدر من العمل بشكل آخر.

وهكذا فإن الحق المتساوي يظل هنا، من حيث المبدأ، الحق البرجوازي، رغم إن المبدأ والتطبيق العملي يكفان عن التناقض هنا، في حين إن تبادل القيم المتعادلة لا يبقى في ظل تبادل البضائع إلا بصورة وسطية، لا في كل من الحالات.

ورغم هذا التقدم، يظل هذا الحق المتساوي محصوراً من ناحية واحدة ضمن حدود برجوازية. فإن حق المنتج يتناسب مع العمل الذي بذله ؛ والمساواة تتجلى هنا في اتخاذ العمل وحدة مشتركة للقياس.

ولكن، رب فرد يتفوّق جسدياً أو فكرياً على فرد آخر، فهو إذن يقدّم، خلال الوقت نفسه، قدراً اكبر من العمل أو إنه يستطيع إن يعمل وقتاً أطول ؛ ولكن يكون العمل مقياساً، ينبغي إن يتحدد بمدته أو شدّته، وإلا كفّ عن إن يكون وحدة للقياس. إن هذا الحق المتساوي هو حق غير متساو لقاء عمل غير متساو ؛ فهو لا يقر بأي امتياز طبقيان كل إنسان ليس سوى شغيل كغيره ؛ ولكنه يقرّ ضمناً بعدم المساواة في الملكات الفردية، وبالتالي في الكفاءات الإنتاجية بوصفها امتيازات طبيعية. فهو إذن، من حيث المحتوى، حق قائم على عدم المساواة، ككل حق. فالحق، بحكم طبيعته، لا يمكن إن يتجلى إلا في استعمال نفس الوحدة القياسية ؛ ولكن الأفراد غير المتساوين (ولن يكونوا أفرادا متمايزين إذا لم يكونوا غير متساوين) لا يمكن قياسهم وفقاً لوحدة مشتركة إلا بقدر ما يرى إليهم من وجهة النظر نفسها، إلا بقدر ما يرى إليهم من زاوية معينة، واحدة، مثلا، في الحالة المعينة، حيث لا يرى إليهم إلا بوصفهم عمالا، لا أكثر، وبصورة مستقلة عن كل الباقي. وبعد: رب عامل متزوج، والآخر عازب ؛ ورب رجل عنده من الأولاد أكثر من رجل آخر ؛ الخ.. وهكذا، لقاء العمل المتساوي، وبالتالي مع الاستفادة المتساوية من الصندوق الاجتماعي للاستهلاك، يتلقى احدهم بالفعل أكثر من الآخر، ويظهر أغنى منه، الخ.. ولاجتناب كل هذا، لا ينبغي إن يكون الحق متساوياً، بل ينبغي إن يكون غير متساو.

ولكنها تلك عيوب محتومة لا مناص منها في الطور الأول من المجتمع الشيوعي كما يخرج من المجتمع الرأسمالي بعد مخاض طويل وعسير.فالحق لا يمكن أبدا إن يكون في مستوى أعلى من النظام الاقتصادي ومن درجة التمدن الثقافي التي تناسب هذا النظام.

وفي الطور الأعلى من المجتمع الشيوعي، بعد إن يزول خضوع الأفراد المذل لتقسيم العمل ويزول معه التضاد بين العمل الفكري والعمل الجسدي ؛ وحين يصبح العمل، لا وسيلة للعيش وحسب، بل الحاجة الأولى للحياة أيضاً ؛ وحين تتنامى القوى المنتجة مع تطور الأفراد في جميع النواحي، وحين تتدفق جميع ينابيع الثروة العامة بفيض وغزارة، –حينذاك فقط، يصبح بالإمكان تجاوز الأفق الضيق للحق البرجوازي تجاوزاً تاماً، ويصبح بإمكان المجتمع إن يسجل على رايته: من كل حسب كفاءاته، ولكل حسب حاجاته !

لقد توسعت بخاصة حول "دخل العمل غير المنقوص" من جهة، وكذلك حول "الحق المتساوي" و"التوزيع العادل"، من جهة أخرى، لكي أبين أية جريمة كبيرة ترتكب، من جهة، حين يراد من جديد أن تفرض على حزبنا، كعقائد جامدة، مفاهيم كان لها بعض المعنى في مرحلة معينة، ولكنها لم تبق اليوم سوى عبارات مطروقة باطلة، ومن جهة أخرى، حين يراد تشويه النظرة الواقعية التي كلفت جهوداً طائلة لبثها في صفوف الحزب، ولكنها التي رسخت فيه عميقا اليوم، وذلك بواسطة مفاهيم حقوقية خرقاء وغير ذلك من الأضاليل الشائعة بين الديمقراطيين وبين الاشتراكيين الفرنسيين.

وبصرف النظر عما قيل آنفاً، كان من الخطأ على وجه العموم أن يجعل مما يسمى التوزيع الأمر الأساسي وإن يصار إلى إبرازه.

فإن توزيع أشياء الاستهلاك، في كل عصر وطور، ليس سوى نتيجة لتوزيع شروط الإنتاج نفسها. ولكن توزيع هذه الأخيرة يعبر عن طابع أسلوب الإنتاج بالذات.

فإن أسلوب الإنتاج الرأسمالي، مثلاً، يرتكز على كون شروط الإنتاج المادية بشكل ملكية الرأسمال وملكية الأرض، تقع في أيدي غير الشغيلة بينما سواد الناس لا يملكون سوى الشرط الشخصي للإنتاج – قوة العمل. وإذا كانت عناصر الإنتاج موزعة على هذا النحو، فإن التوزيع الحالي لأشياء الاستهلاك ينبع منه تلقائيا. فإذا غدت شروط الإنتاج المادية ملكية عامة للعمال أنفسهم، تغير توزيع أشياء الاستهلاك عما هو عليه الآن. إن الاشتراكية المبتذلة (ومن خلالها أيضاً قسماً من الديمقراطية) قد اقتبست من الاقتصاديين البرجوازيين عادة اعتبار التوزيع وبحثه بوصفه أمرا مستقلاً عن أسلوب الإنتاج، وعادة تصوير الاشتراكية بالتالي كأنها تدور في الأساس حول قضايا التوزيع. ولكن حين تكون العلاقات الفعلية قد اتضحت منذ زمن بعيد. فما الفائدة من العودة إلى الوراء ؟

4– "إن تحرير العمل ينبغي أن يكون من صنع الطبقة العاملة التي لا تشكل جميع الطبقات الأخرى إزاءها سوى كتلة رجعية واحدة".

إن الجملة الأولى مستقاة من مقدمة نظام الأممية الداخلي، ولكنها واردة بصيغة "محسنة". فإن هذه المقدمة تقول: "إن تحرير الطبقة العاملة ينبغي إن يكون من صنع العمال أنفسهم"، ولكن "الطبقة العاملة"، هنا، ترى، ماذا عليها إن تحرر ؟ – "العمل". فافهم إذا كنت قادراً على الفهم.

وبالمقابل، يتحفوننا بجملة إضافية موصولة، مستقاة من أعمق ينابيع لاسال : "(الطبقة العاملة) التي لا تشكل جميع الطبقات الأخرى إزاءها سوى كتلة رجعية واحدة".

لقد جاء في "البيان الشيوعي" قوله: "ليس بين جميع الطبقات التي تقف الآن أمام البرجوازية وجهاً لوجه إلا طبقة واحدة ثورية حقاً، هي البروليتاريا. فإن جميع الطبقات الأخرى تنحط وتهلك مع نمو الصناعة الكبرى، أما البروليتاريا فهي، على العكس من ذلك، اخص منتجات هذه الصناعة".

وهكذا يرى في هذا المقطع إلى البرجوازية – بوصفها عامل الصناعة الكبيرة – على إنها طبقة ثورية بالنسبة للإقطاعيين والفئات المتوسطة، الذين يرغبون في الحفاظ لأنفسهم على جميع المراكز الاجتماعية الباقية عن أساليب الإنتاج البالية. فالإقطاعيون والفئات المتوسطة لا يشكلون إذن مع البرجوازية كتلة رجعية واحدة.

ومن جهة أخرى، نرى أن البروليتاريا ثورية بالنسبة للبرجوازية لأنها، وهي التي نشأت ونمت وترعرعت على أساس الصناعة الكبيرة، تقصد أن تنزع عن الإنتاج هذا الطابع الرأسمالي الذي تحاول البرجوازية تخليده. ولكن "البيان الشيوعي" يضيف قائلاً: إن "الفئات المتوسطة" تغدو ثورية "إذ ينتظرها السقوط إلى صفوف البروليتاريا".

ومن وجهة النظر هذه، كان خطأ الرأي أن يقال عن الفئات المتوسطة إنها "تشكل مع البرجوازية"، ومع الإقطاعيين أيضاً، "كتلة رجعية واحدة" بالنسبة للطبقة العاملة.

فإبان الانتخابات الأخيرة، ترى، هل قيل للحرفيين وصغار الصناعيين، الخ..، والفلاحين: "إنكم لا تشكلون مع البرجوازيين والإقطاعيين سوى كتلة رجعية واحدة بالنسبة إلينا" ؟

لقد كان لاسال يعرف "البيان الشيوعي" عن ظهر قلب، كما أن أتباعه الأمناء يعرفون الكتابات المقدسة التي دبجها هو بنفسه . فإذا كان قد زوّر "البيان الشيوعي" بمثل هذه الفظاظة، فإنه شاء فقط إن يبرر تحالفه مع الاخصام الإقطاعيين والمستبدين ضد البرجوازية.

وفضلا عن ذلك، تبدو الحكمة اللاسالية الواردة في الفقرة المذكورة آنفاً، كأنها ملصوقة لصقا، ولا تمت بأية صلة إلى الاستشهاد "المحسن" بشكل اخرق من نظام الأممية الداخلي. وهكذا نجد أنفسنا هنا أمام وقاحة، ووقاحة، في الحقيقة، لا تزعج السيد بيسمارك أبدا، أمام فظاظة من هذه الفظاظات الرخيصة التي اشتهر بها مارا برلين (1).

 

5– "إن الطبقة العاملة تعمل على تحرير نفسها أولا في نطاق الدولة القومية الحالية، وهي على علم تام بإن النتيجة الضرورية لجهودها التي يشاركها بها عمال جميع البلدان المتمدنة، ستكون تآخي الشعوب العالمي".

خلافا لـ"البيان الشيوعي" ولكل الاشتراكية السابقة، كان لاسال قد نظر إلى الحركة العمالية من أضيق وجهات النظر القومية. وها هم يقتفون خطواته في هذا الميدان، وذلك بعد ما قامت به الأممية من أعمال !

وغنيّ عن البيان تماماً أنه ينبغي للطبقة العاملة، لكي تستطيع النضال على وجه العموم، أن تنتظم حيثما هي بوصفها طبقة، وأن بلادها بالذات هي الميدان المباشر لنضالها. ولهذا كان نضالها الطبقي قومياً، لا من حيث المحتوى، بل، كما يقول "البيان الشيوعي"، "من حيث الشكل". ولكن "نطاق الدولة القومية الحالية"، مثلا، نطاق الامبراطورية الألمانية، يدخل أيضاً بدوره، اقتصادياً "في نطاق السوق العالمية"، وسياسياً "في نطاق نظام الدول". فإن أول تاجر تصادفه يعرف أن التجارة الألمانية هي في الوقت نفسه تجارة خارجية، وأن عظمة السيد بيسمارك تكمن على وجه الدقة في انتهاجه نوعاً معيناً من السياسة الدولية.

وعلام يقصر حزب العمال الألماني أمميته ؟ على إدراك أن نتيجة جهوده ستكون "تآخي الشعوب العالمي". وتلك جملة مقتبسة عن عصبة السلام والحــرية (2) البرجوازية، ويقصد منها أن تعني شيئاً يساوي التآخي العالمي بين الطبقات العاملة في البلدان المختلفة في نضالها المشترك ضد الطبقات السائدة وحكوماتها. ولكننا لا نجد كلمة واحدة عن المهمات الأممية للطبقة العاملة الألمانية ! وهذا كل ما يقترحونه على الطبقة العاملة الألمانية لمعارضة برجوازيتها الخاصة التي تآخت ضدها مع برجوازية جميع البلدان الأخرى ولمعارضة سياسة السيد بيسمارك القائمة على التآمر الدولي !

وبالفعل، إن نزعة البرنامج الأممية أدنى إلى ما لا حد له، من النزعة الأممية التي يتصف بها حزب التجارة الحرة. فإن هذا الحزب أيضا يزعم أن نتيجة عمله ستكون "تآخي الشعوب العالمي". ولكنه على الأقل يعمل شيئاً ما لجعل التجارة عالمية، ولا يكتفي أبدا بأن يعرف أن كل شعب يتعاطى التجارة في بلاده.

إن نشاط الطبقة العاملة في مختلف البلدان لا يتوقف، في حال من الأحوال، على وجود "جمعية الشغيلة العالمية (3)". فإن هذه المنظمة كانت فقط أول محاولة لتزويد هذا العمل بجهاز مركزي، محاولة كانت لها نتائج لا تمحى بسبب من الإندفاع الذي بثـته، ولكنه لم يبق من الممكن القيام بها، بشكلها التاريخي الأول، بعد سقوط كمونة باريس.

لقد كانت صحيفة بيسمارك، "Norddeutsche"، على تمام الحق حين أعلنت، لما فيه رضى صاحبها، إن حزب العمال الألماني قد جحد النزعة الأممية في برنامجه الجديد.


(1) يبدو أنه هاسلمان، رئيس تحرير جريدة "Neuer Social–Demokrat" ("الاشتراكي–الديموقراطي الجديد").

 

(2) عصبة السلام والحرية: منظمة مسالمة برجوازية، أسسها عام 1867 في سويسرا الجمهوريون الليبيراليون البرجوازيون الصغار. كانت العصبة، إذ تدلي بالتصريحات القائلة إنه من الممكن إنهاء الحرب عن طريق إنشاء "الولايات المتحدة الأوروبية"، تنشر الأوهام الكاذبة بين الجماهير وتصرف البروليتاريا عن النضال الطبقي.

 

(3) إنعقد مؤتمر جمعية الشغيلة العالمية في لاهاي من 2 إلى 7 سبتمبر 1872. وقد حضره 65 مندوباً عن 15 منظمة وطنية. اشرف ماركس وإنجلس على عمل المؤتمر. وفي المؤتمر بلغ النضال الذي خاضه ماركس وإنجلس وأنصارهما طوال سنوات عديدة ضد الإنعزالية البرجوازية الصغيرة بجميع صورها في الحركة العمالية، غايته. فقد شجب المؤتمر نشاط الفوضويين الإنشقاقي وفصل زعماءهم من الأممية. أرست قرارات مؤتمر لاهاي الأساس لإنشاء أحزاب سياسية مستقلة للطبقة العاملة في مختلف البلدان في المستقبل.

 

كمونة باريس:أول حكومة في التاريخ لديكتاتورية البروليتاريا، تتويجا لانتفاضة عمال باريس في 18 مارس 1871. دامت حتى إقبارها في أنهار من الدماء في 18 ماي 1871.

 

"Norddeutsche Allgemeine Zeitung" ("الجريدة العامة لألمانيا الشمالية"): جريدة رجعية يومية. صدرت في برلين من 1861 إلى 1918. في العقد السابع والثامن والتاسع من القرن التاسع عشر، لسان الحال الرسمي لحكومة بيسمارك. يقصد ماركس المقالة المنشورة في الجريدة في 20 مارس 1875.