مراسلات ماركس - أنجلس
من انجلس إلى فرانتس مهرينغ


المصدر: صدرت للمرة الاولى مع اختصارات في كتاب لفرانتس مهريينغ في عام 1898 في شتوتغارت
كما صدرت بنصها الكامل باللغة الروسية في مؤلفات ماركس وانجلز،الطبعة الاولى، المجلد 29 ،عام 1946
المصدر العربي: مختارات ماركس انجلس الجزء الرابع ص168 ص74
ترجمة: الياس شاهين
جهة الاصدار: دار التقدم موسكو
سنة الاصدار: 1987
النسخ الالكتروني: أبتهال حسين


في برلين

لندن 14 تموز( يوليو) 1893

عزيزي السيد مهرينغ

اليوم فقط أستطيع أخيرا أن أشكرك على تلطفك وإرسالك لي أسطورة ليسينغ Lessing Legend. وإني أود أن لا أكتفي بمجرد بعث تأكيد صريح لك باستلامي الكتاب، بل أن أقول لك أيضا شيئا ما عنه بالذات، عن مضمونه. وهذا سبب تأخري في الجواب.

أبدأ من النهاية، من الملحق (في المادية التاريخية) الذي عرضت فيه كنه المسألة عرضا ممتازا ومقنعا لكل امرئ لا رأي مسبقا له. وإذا كانت تظهر عندي بعض الاعتراضات، فليس ذلك إلا على أنك تنسب إلي من الأفضال أكثر مما ينبغي، حتى وإن اعتبرنا كل ما يبلغ إليه تفكيري أغلب الظن، – مع مر الزمن – بصورة مستقلة، وما اكتشفه ماركس قبلي بزمن طويل، وهو الذي يتحلى بنظر أبعد وأفق أوسع. إن مَن حالفه الحظ وعمل في سياق 40 سنه مع رجل مثل ماركس، لا يتمتع عادة في حياته بذلك التقدير الذي يمكنه،على ما يبدو، أن يأمل به. ولكن عندما يموت الرجل العظيم، يحدث بكل سهولة أن يشرعوا في تقدير رفيقه الأقل شأنا منه بأكثر مما يستحق، وهذا ما يحدث لي الآن على ما يظهر. بيد أن التاريخ يضع كل شي في مكانه في آخر المطاف، ولكن حتى ذاك، سأمضي مع السلامة إلى العالم الآخر، ولن اعرف شيئا عن أي شيء.

وعدا ذلك، وقع تقصير في عنصر آخر فقط، لم يتناوله التأكيد الكافي، على العموم والحق يقال، لا في أعمال ماركس ولا في أعمالي، والذنب في هذا المجال نتشاطره جميعنا بالقدر نفسه. وأعني به أننا ركزنا بصورة رئيسية، وكان ينبغي علينا أن نركز، بادئ ذي بدء، على استخلاص التصورات السياسية والحقوقية وغيرها من التصورات الأيدلوجية، والأفعال التي تشترطها، من الوقائع الاقتصادية التي تقوم في أساسها. وبسبب المضمون، أهملنا آنذاك مسألة الشكل. أي سبل يتبعها تشكل هذه التصورات، وما إلى ذلك. وهذا ما أعطى خصومنا الحجة المنشودة من اجل الإشاعات الكاذبة، وكذلك من أجل تشويه يقدم باول بارتPaul Barth المثال الساطع عليه.

إن الإيديولوجية إنما هي عملية يقوم بها من يسمى بالمفكر، وإن عن إدراك خاطئ. فإن القوى المحركة الحقيقية التي تحمله على النشاط تظل مجهولة بالنسبة إليه، وإلا لما كانت العملية عملية أيديولوجية. ولذا يصنع لنفسه تصورات عن قوى حافزة كاذبة أو ظاهرية. وبما أن الكلام يتناول عملية التفكير، فإنه يستخلص المضمون وشكله على السواء من التفكير الصرف، إما من تفكيره بالذات، وإما تفكير أسلافه. وهو يعنى بوجه الحصر بمادة تفكيرية، وهو يعتقد صراحة أن هذه المادة وليدة التفكير، وهو على العموم لا ينصرف إلى دراسة أي مصدر آخر، أكثر بعدا ومستقل عن التفكير . فإن هذا الموقف من المسألة يبدو له بديهيا لأن كل عمل يبدو له مرتكزا في آخر المطاف على التفكير، إذ انه يتحقق بواسطة التفكير. إن الإيديولوجي التاريخي (والتاريخي هنا يعني مجرد تعبير جامع يشمل المفهوم السياسي والحقوقي والفلسفي واللاهوتي – وبكلمة، جميع الميادين المتعلقة بالمجتمع لا بالطبيعة) يجد تحت تصرفه في كل ميدان من ميادين العلوم مادة معينة تشكلت بصورة مستقلة من تفكير الأجيال السابقة وأتبعت سبيلا مستقلا، خاصا بها من التطور في أدمغة هذه الأجيال المتعاقبة واحداً تلو آخر. يقينا أنه من الممكن أن توثر أيضا في هذا التطور، كأسباب مرافقة، وقائع خارجية تتعلق بهذا أو ذاك من الميادين، ولكن هذه الوقائع، كما يفترض ضمنا، هي مع ذلك مجرد ثمرات عملية التفكير، وعليه لا نزال دائما في مضمار الفكر الخالص الذي يبدو كأنه هضم بسلامة حتى اشد الوقائع عنادا.

إن ظاهرية التاريخ المستقل لأشكال البنيان السياسي والنظم الحقوقية والتصورات الأيديولوجية في أي ميدان كان، هي التي تعمي، قبل غيرها، أغلبية الناس. فإذا كان لوثر وكالفين (يتغلبان) على الدين الكاثوليكي الرسمي، وإذا كان هيغل (يتغلب) على كانط وفيخته، وإذا كان روسو (يتغلب) بعقده الاجتماعي الجمهوري على الدستوري مونتسكيو بصورة غير مباشرة ، فإن هذه العملية تبقى داخل اللاهوت والفلسفة وعلم الدولة، وهي تمثل مرحلة في تطور ميادين التفكير هذه ولا تتخطى أطلاقا حدود التفكير. ومنذ أن ظهر، علاوة على هذا، الوهم البرجوازي حول خلود الإنتاج الرأسمالي وكماله المطلق، منذ ذلك الحين، يعتبر (تغلب) الفيزيوقراطين (physiocrats) وآدم سميث على أنصار المركنتيلية انتصارا خالصا للفكر، لا انعكاسا في ميدان التفكير للوقائع الاقتصادية المتغيرة، يعتبر أنه الفهم الحقيقي، الذي تم بلوغه في آخر الأمر، للظروف الفعلية القائمة في كل مكان دون أي تغير. ينجم مما سبق أنه لو أن ريتشارد قلب الأسد وفليب – أوغست طبقا حرية التجارة بدلا من أن ينجرا إلى الحروب الصليبية، لأمكن تجنب 500 سنة من الفقر والجهل.

وإني أعتقد أننا جميعنا أولينا هذا الجانب من القضية الذي لم أستطع أن ألمسه هنا إلا لمسا، قدراً من الاهتمام أقل مما يستحق. وهذه حكاية قديمة. دائما في البدء لا يهتمون بالشكل بسبب المضمون. وأكرر أنني اقترفت هذا الخطأ بنفسي، وكان هذا الخطأ يفقأ عيني دائماً (Post festum) ولهذا لست بعيدا وحسب عن توجيه اللوم إليك بالارتباط مع هذا – فليس لي أي حق في هذا لأني أذنبت قبلك في الأمر نفسه، بل بالعكس،– ولكني وددت مع ذلك لو الفت انتباهك إلى هذه النقطة من أجل المستقبل.

وبالارتباط مع هذا، يوجد أيضا تصور سخيف عند الايديولوجين. فنحن لا نقر بالتطور التاريخي المستقل لمختلف الميادين الإيديولوجية التي تضطلع بدور في التاريخ، فننكر بالتالي كل إمكانية لتأثيرها في التاريخ. وفي أساس هذا، يقوم تصور سطحي، غير ديالكتيكي، عن السبب والنتيجة يعتبرهما قطبين متضادين أحدهما للآخر أبدا ودائماً، ويغيب عن البال كليا التفاعل بينهما. إن هؤلاء السادة ينسون في كثير من الأحيان، قصداً وعمداً تقريباً أن الظاهرة التاريخية، التي تولدها بالأحرى أسباب من طراز آخر هي في أخر المطاف أسباب اقتصادية، تصبح على الفور بدورها عاملاً فعالاً، ويمكنها أن تؤثر بالمقابل في البيئة المحيطة وحتى في الأسباب التي ولدتها. بارت، مثلا، بصدد المرتبة الدينية والدين، عندك في ص 475. فقد أعجبني جداً كيف صفيت حساب هذا الكائن السافل إلى درجة لا تصدق. وهذا الكائن يعينونه أستاذ التاريخ في ليبزيغ Leipzig، مع أنه كان هناك العجوز فاكسموتWachsmuth ، وهو والحق يقال، رجل ضيق الأفق مثل بارت، ولكنه رجل من طراز آخر تماماً، ويمتلك ناصية الوقائع بصورة ممتازة.

أما في ما يخص الكتاب، ففي وسعي على العموم أن أكرر فقط ما سبق أن قلته غير مرة بصدد المقالات التي ظهرت في Neue Zeit فهو أفضل عرض بين العروض المتوفرة عن ولادة البروسية، بل إن في وسعي، أغلب الظن، أن أقول أنه العرض الجيد الوحيد الذي يكشف بصورة صحيحة، في معظم الأحوال، جميع الصلات المتبادلة، بما فيها تفاصيلها الصغيرة. إلا أنه يمكن الأسف لأنك لم تستطع أن تدرس كذلك كل التطور اللاحق حتى بيسمارك. وبصورة عفوية، يولد الأمل بأنك ستفعل هذا في المرة القادمة وتعطي لوحة عامة في عرض مترابط، ابتداء من الكورفورست (الأمير) فريدريك غيليوم وانتهاء بغليوم العجوز. ذلك أنك قمت بالعمل مسبقاً، بل إنه يمكن القول أنك قمت به نهائياً، على الأقل في المسائل الأساسية. والحال كان ينبغي القيام بذلك قبل أن ينهار كل هذا الصرح المتداعي. صحيح أن تدمير الأساطير الملكية الوطنية ليس مقدمة ضرورية بالقدر المظنون لأجل القضاء على الملكية التي تستر السيادة الطبقية (لأن الجمهورية الخالصة، البرجوازية في ألمانيا صارت مرحلة من الماضي قبل أن تنشأ)، ولكنه يشكل مع ذلك واحداً من أكثر الروافع فعالية لأجل هذا القضاء.

وآنذاك سيتوفر لك مزيد من المجال والإمكانيات لأجل تصوير تاريخ بروسيا وحدها بوصفها جزءاً من العاهة الألمانية العامة. وهذا ما يشكل تلك النقطة التي أختلف معك في شيء ما بصددها، وأعني بها فهمك لمقدمات تجزؤ ألمانيا ولفشل الثورة البرجوازية الألمانية في القرن السادس عشر. وإذا تسنى لي وعدلت المقدمة التاريخية لكتابي (حرب الفلاحين)، الأمر الذي سيحدث، كما أظن، في الشتاء القادم، فإني سأستطيع أن أطور فيها المسائل المتعلقة بهذا الموضوع. وليس ذلك لأني أعتبر المقدمات التي أوردتها غير صحيحة، بل لأني سأقدم إلى جانبها مقدمات أخرى وأصنفها بنحو مختلف نوعا ما.

عند دراسة التاريخ الألماني الذي هو عبارة عن حقارة وحسب، اقتنعت دائما بأن المقارنة مع العهود المقابلة من تاريخ فرنسا هي وحدها التي تعطي البعد الصحيح، لأنه حدث في فرنسا تماما عكس ما حدث عندنا. فهناك – تشكل الدولة القومية من disjectis membris الدولة الإقطاعية؛ وعندنا، في الوقت نفسه– الهبوط الأعمق. هناك – منطق موضوعي بديع في كل سير التطور؛ وعندنا – بلبلة رهيبة، مشتدة أكثر فأكثر. هناك – في مرحلة القرون الوسطى، كان الفاتح الانجليزي الذي يتدخل في مصلحة قوم إقليم بروفانس ضد قوم فرنسا الشمالية، ممثلاً للتدخل الأجنبي. والحروب ضد الانجليز هي نوع من حرب الثلاثين سنة التي تنتهي هناك بطرد الأجانب المتدخلين وبخضوع الجنوب للشمال. ثم يعقب نضال السلطة المركزية ضد التابع البورغندي الذي يعتمد على ممتلكاته في الخارج والذي يوازي دوره دور براندنبورغ – بروسيا. ولكن هذا النضال ينتهي بانتصار السلطة المركزية وينجز تشكيل الدولة القومية. أما عندنا فإن الدولة القومية تنهار نهائيا في هذا الوقت بالذات (هذا إذا كان من الممكن تسمية الملكية الألمانية ضمن حدود الإمبراطورية الرومانية المقدسة بالدولة القومية) ويبدأ، على نطاق كبير، سلب الأراضي الألمانية. وهذه مقارنة مخجلة للغاية للألمان، ولكنها لهذا السبب على وجه الضبط ذات دلالة خاصة؛ ومنذ أن قدم عمالنا ألمانيا من جديد إلى الصفوف الأولى من حركة التاريخ، أصبح من الأسهل علينا بعض الشيء احتمال خزي الماضي.

إن السمة المميزة الخاصة تماما التي يتميز بها التطور الألماني تقوم أيضا في أن القسمين اللذين يشكلان الإمبراطورية واللذان تقاسما بينهما في أخر المطاف ألمانيا بأسرها، ليسا كلاهما ألمانيين صافيين، بل كانا مستعمرتين في الأرض السلافية المفتوحة، النمسا مستعمرة بافارية، وبراندنبورغ مستعمرة ساكسونية؛ ولم يظفرا بالسلطة في ألمانيا بالذات إلا لأنهما كانا يعتمدان على ممتلكاتهما الأجنبية، غير الألمانية؛ النمسا – على المجر (فضلا عن بوهيميا)، براندنبورغ – على بروسيا. وعلى الحدود الغربية المتعرضة للخطر الأكبر، لم يكن هناك شيء من هذا القبيل؛ وعلى الحدود الشمالية،عهدوا إلى الدنماركيين أنفسهم بأمر حماية ألمانيا من الدنماركيين؛ وفي الجنوب كانت الحاجة إلى الحماية على درجة من التفاهة بحيث أن الذين كان ينبغي عليهم أن يحموا الحدود – أي السويسريين – استطاعوا أن ينفصلوا عن ألمانيا؛ ولكني انسقت وراء محاكمات متنوعة؛ فلتكن هذه الثرثرة بالنسبة لك، على كل حال، برهانا على مبلغ الاهتمام الحي الذي استثاره عملك في نفسي.

مرة أخرى الشكر القلبي والتحية من المخلص لك ف.أنجلس