5- الرأسمالية والدولة

الشرط الثاني للتحول التدريجي إلى الاشتراكية، طبقا لبرنشتاين، هو تطور الدولة إلى مجتمع. لقد أصبح أمرا عاديا القول أن الدولة دولة طبقية. وهذا أيضا، كما بالنسبة لكل ما يشير إلى المجتمع الرأسمالي، ينبغي أن لا يفهم بطريقة مطلقة جامدة، ولكن جدليا.

لقد أصبحت الدولة رأسمالية بانتصار البرجوازية السياسي. فالتطور الرأسمالي يعدل جوهريا من طبيعة الدولة فيوسع نطاق عملها ويفرض عليها مهاما جديدة باستمرار (على الأخص تلك التي تتعلق بالحياة الاقتصادية)، ويجعل من تدخلها في المجتمع ورقابتها عليه أمرا ضروريا أكثر فأكثر. فالتطور الرأسمالي بهذا المعنى يمهد السبيل شيئا فشيئا لذوبان الدولة والمجتمع في المستقبل. أي أنه يمهد لعودة مهام الدولة إلى المجتمع. ويستطيع المرء بتتبع خط التفكير هذا أن يتحدث عن تطور الدولة الرأسمالية إلى مجتمع، وهذا ما كان يقصده ماركس بالتأكيد عندما أشار إلى أن تشريع العمل هو أول تدخل واع من « المجتمع » في العملية الاجتماعية الحيوية، تلك الجملة التي يستند إليها برنشتاين كثيرا.

لكن التطور الرأسمالي ذاته يحقق من جهة أخرى تحولا آخر في طبيعة الدولة. فالدولة الراهنة هي أولا منظمة للطبقة الحاكمة. وهي تتخذ لنفسها أعمالا محابية للتطور الإجتماعي، بالتحديد لأن هذه المصالح وهذا التطور الاجتماعي يتوافقان بشكل عام مع مصالح الطبقة المسيطرة. فتشريع العمل يسن لمصلحة الطبقة الرأسمالية مباشرة بالقدر الذي هو لمصلحة المجتمع بشكل عام. ولكن هذا التوافق لا يدوم إلاّ إلى حد معين من التطور الرأسمالي. فعندما يصل التطور الرأسمالي مستوى معينا، تأخذ مصالح البرجوازية كطبقة في الاصطدام بحاجات التقدم الاقتصادي حتى بمعناه الرأسمالي. ونحن نعتقد أن هذه المرحلة قد ابتدأت. فهي تظهر في ظاهرتين هامتين جدا من ظاهر الحياة الاجتماعية المعاصرة: من جهة سياسة حدود التعرفة (الحدود الجمركية) ومن ناحية ثانية الظاهرة العسكرية. وقد لعبت هاتان الظاهرتان في تاريخ الرأسمالية دورا لا غنى عنه وبهذا المعنى دورا تقدميا و ثوريا. إذ لم يكن تطور الصناعة الكبيرة في أقطار عدة ممكنا بدون الحماية الجمركية. لكن الوضع مختلف الآن.

ففي الوقت الراهن لا تخدم الحماية تطور صناعة شابة بقدر ما تبقي بصورة مصطنعة على أشكال إنتاجية قد شاخت.

ليس مهما من وجهة نظر التطور الرأسمالي، أي من وجهة نظر الاقتصاد العالمي، ما إذا كانت ألمانيا تصدر بضاعة أكثر من إنكلترا أو العكس. فمن وجهة نظر هذا التطور يمكن القول أن الزنجي قد أدى عمله وآن له أن يذهب في سبيله3. نظرا لاعتماد فروع الصناعة المتبادلا على بعضها البعض، فإن فرض تعرفة حماية على أية سلعة يؤدي بالضرورة إلى رفع كلفة إنتاج داخل البلد ذاته. ولكن هذا ليس من مصلحة الطبقة الرأسمالية. فبينما لا تحتاج الرأسمالية التعرفة لتطورها، فإن الرواد الرأسماليين يحتاجون التعرفة لحماية أسواقهم. وهذا يدلل على أن التعرفة الراهنة لم تعد تعمل على حماية قطاع رأسمالي نام ضد قطاع آخر أكثر تقدما. إنها الآن الذراع الذي تستخدمه جماعة من الرأسماليين من قومية رأسمالية ضد جماعة أخرى. كذلك لم تعد التعرفة ضرورية كأداة لحماية الصناعة في حركتها لخلق وغزو السوق المحلي. إنها الآن وسيلة لا غنى عنها لخلق الكارتلات الصناعية، أي أنها وسيلة يستخدمها الرأسماليون المنتجون في صراعهم ضد المجتمع المستهلك ككل. إن ما يدل بصورة حاسمة على الطابع المحدد للسياسة الجمركية المعاصرة هو أن الزراعة لا الصناعة هي التي تلعب اليوم الدور المسيطر في صنع التعرفة . لقد أصبحت سياسة الحماية الجمركية أداة لتحويل المصالح الإقطاعية والتعبير عنها في شكل رأسمالي.

لقد حدث التغير ذاته في الظاهرة العسكرية. فإذا نظرنا إلى التاريخ كما كان، لا كما ممكنا أو واجبا، فإن علينا أن نوافق على أن الحرب كانت ملمحا ملازما للتطور الرأسمالي. فالولايات المتحدة وألمانيا وإيطاليا ودول البلقان وبولندا مدينة جميعا بشرط تطورها الرأسمالي أو بصعوده للحروب، سواء انتهت بالنصر أم بالهزيمة. ففي الحالات التي كانت فيها بلدان تعاني من الانقسام السياسي الداخلي أو العزلة التي يجب أن تحطم، لعبت الظاهرة العسكرية دورا ثوريا من وجهة نظر الرأسمالية. لكن الوضع الآن مختلف. ذلك أنه إذا كانت السياسة العالمية قد أصبحت متلبدة بنذر الصدام، فليس ذلك متعلقا بمسألة فتح بلدان جديدة للرأسمالية، بل هي نتيجة لوجود عداوات أوروبية نقلت إلى الأقطار الأخرى لتنفجر هناك. ولا نضع الدول المتصاعدة عسكريا، التي نراها اليوم في أوروبا وفي غيرها من القارات، أنفسها في جانب كأقطار رأسمالية والبلدان المتخلفة في الجانب الآخر، فهي دول تدفع إلى الحرب على وجه الخصوص نتيجة تشابهها في تقدم التطور الرأسمالي. ولذا فإن الانفجار سيؤدي بهذا التطور إلى حتفه بالتأكيد، بمعنى أنه سيثير اختلالا عميقا جدا وتحويلا للحياة الاقتصادية في كل الأقطار. بيد أن هذه المسألة تبدو مختلفة تماما عندما ينظر إليها من وجهة نظر الطبقة الرأسمالية. فقد أصبحت العسكرة أمرا لا غنى عنه لهذه الطبقة. أولا كوسيلة للنضال من أجل حماية المصالح « القومية » في التنافس مع الجماعات « القومية » الأخرى. وثانيا كوسيلة لتوظيف رأس المال النقدي والصناعي. وثالثا كأداة للسيطرة الطبقية على السكان العاملين داخل البلد نفسه. وهذه المصالح بحد ذاتها لا تملك أية علاقة بتطور نمط الإنتاج الرأسمالي. وليس أدل على الطابع المحدد للظاهرة العسكرية الراهنة من أنها تتطور بشكل عام في كل البلدان كأثر لقوتها الدافعة الميكانيكية الداخلية ، وهذه ظاهرة كانت مجهولة تماما قبل عدة عقود .ونستطيع أن نتعرف على هذا في الطابع المميت للانفجار الوشيك الذي يبدو محتما على الرغم من أن أهداف ودوافع الصدام ليست محددة إطلاقا. لقد تحولت العسكرية من محرك للتطور الرأسمالي إلى داء رأسمالي.

تقف الدولة إلى جانب الطبقة المسيطرة في الصدام بين مصالح هذه الطبقة والتطور الرأسمالي. فتصطدم سياسيا كسياسة البرجوازية بالتطور الاجتماعي. فتفقد بذلك طابعها كممثل للمجتمع كله شيئا فشيئا وتتحول بالوتيرة ذاتها إلى دولة طبقية محضة. أو، إذا توخينا الدقة، تتمايز هاتان الصفتان عن بعضهما وتجدان نفسيهما في علاقة تناقضية بحكم طبيعة الدولة ذاتها. وتزداد حدة هذا التناقض رويدا رويدا. ذلك أن هناك من جهة نمو وظائف الدولة المعبرة عن مصلحة عامة –تدخلها في الحياة الاجتماعية ورقابتها على المجتمع- ومن جهة أخرى تجد الدولة نفسها مجبرة شيئا فشيئا بفعل طابعها الطبقي على تحريك محاور نشاطها ووسائل القسر التي تملكها إلى مجالات يستفيد منها فحسب الطابع الطبقي للبرجوازية وليس لها بالنسبة للمجتمع ككل سوى أهمية ثانوية، كما في حالة الظاهرة العسكرية والتعرفة والسياسات الكولونيالية. بالإضافة إلى ذلك، يسيطر الطابع الطبقي للدولة على « الرقابة الاجتماعية » التي تمارسها ويتسلل إلى هذه الرقابة (فلنلاحظ كيف يطبق تشريع العمل في كل البلدان).

ولا يعاكس اتساع الديموقراطية، الذي يرى فيه برنشتاين وسيلة لتحقيق الاشتراكية على درجات، التحول الذي جرى في طبيعة الدولة بل يتوافق تماما مع هذا التحول.

يعلن كونراد شميدت أن حصول الاشتراكية الديموقراطية على الأغلبية في البرلمان يؤدي مباشرة إلى « التشريك » التدريجي للمجتمع. لا شك أن الأشكال الديموقراطية للحياة السياسية ظاهرة تعبر بوضوح عن تطور الدولة إلى مجتمع. وهي إلى هذا الحد تشكل خطوة نحو التحويل الاشتراكي. ولكن الصدام داخل الدولة الرأسمالية، كما وصفناه سالفا، يتجلى بقدر أكبر من الوضوح في البرلمانية الحديثة. فالبرلمانية فعلا وبالتوافق مع شكلها تعبر من داخل تنظيم الدولة عن مصالح المجتمع كله. ولكن ما تعبر عنه البرلمانية هنا هو المجتمع الرأسمالي، أي مجتمع تسوده المصالح الرأسمالية. وفي هذا المجتمع تكون المؤسسات التمثيلية ديموقراطية شكلا، ولكنها في المحتوى أدوات في خدمة مصالح الطبقة الحاكمة. ويتجلى هذا بشكل واضح للعيان في أنه ما أن تبدي الديموقراطية ميلا إلى نفي طابعها الطبقي لتتحول إلى أداة في خدمة المصالح الحقيقية للسكان، حتى تضحي البرجوازية وممثلي دولتها بكل الاشكال الديموقراطية. وهذا هو السبب في أن فكرة كسب أغلبية برلمانية إصلاحية حساب يجري تماما بروح البرجوازية الليبرالية فيشغل نفسه. بجانب واحد، هو الجانب الشكلي، للديموقراطية، ولا يأخذ في الحسبان الجانب الآخر، وهو محتوى الديموقراطية الحقيقي. إن البرلمانية، في كليتها، ليست عنصرا اشتراكيا مباشرا يتغلغل بالتدريج في كل المجتمع الرأسمالي. بل هي على العكس من ذلك شكل محدد من أشكال الدولة الطبقية البرجوازية تساعد على إنضاج وتنمية التعاديات القائمة في الرأسمالية.

إن اعتقاد برنشتاين وكونراد شميدت بأن ازدياد « الرقابة الاجتماعية » يؤدي إلى الادخال المباشر للاشتراكية، يتحول في ضوء تاريخ التطور الواقعي للدولة إلى معادلة تجد نفسها يوما فيوما في تناقض متزايد مع الواقع.

تقترح نظرية التحقيق التدريجي للاشتراكية إصلاحا تقدميا للملكية الرأسمالية وللدولة الرأسمالية باتجاه الاشتراكية. ولكن كليهما يتطور في الاتجاه المعاكس بالضبط نتيجة للقوانين الموضوعية التي تسود المجتمع القائم. إن عملية الإنتاج المستشرك باطراد وتدخل الدولة ورقابتها على عملية الإنتاج يتسعان. ولكن الملكية الخاصة في الوقت ذاته تصبح بتزايد مستمر شكل الاستغلال الرأسمالي المفضوح لعمل الآخرين، كذلك فإن المصالح الخاصة للطبقة الحاكمة تخترق رقابة الدولة. فالدولة، أي التنظيم السياسي للرأسمالية، وعلاقات الملكية، أي التنظيم الحقوقي للرأسمالية، تصبحان أكثر رأسمالية وليس أكثر اشتراكية، مما يضع عقبتين لا يمكن تخطيهما في وجه نظرية الادخال المضطرد للاشتراكية إلى المجتمع.

لقد كانت خطة فورييه لتحويل مياه كل البحار إلى شراب لذيذ المذاق بواسطة نظام التعاونيات فكرة خيالية. ولكن برنشتاين إذ يقترح تحويل بحر المرارة الرأسمالية إلى بحر من العذوبة الاشتراكية بسكب قوارير من شراب الاصلاحات الاجتماعية، إنما يقدم فكرة أكثر بلاهة ولكنها ليست بحال أقل خيالية.

إن علاقات الإنتاج في المجتمع الرأسمالي تقترب شيئا فشيئا من علاقات انتاج المجتمع الاشتراكي. ولكن العلاقات السياسية والحقوق أقامت بين المجتمع الرأسمالي والمجتمع الاشتراكي سدا منيعا يرتفع باستمرار. ولا يتهدم هذا الجدار بتطور الاصلاحات الاجتماعية وتقدم الديموقراطية، بل هو يتعزز ويقوى بهما. ولن يستطيع شيء غير ضربة الثورة القاصمة، أي استيلاء البروليتاريا على السلطة السياسية، أن يحطم هذا الجدار.