روزا لوكسمبورغ

مقدمة في الاقتصاد السياسي

I. ماهو الاقتصاد السياسي

1.3


يجري الحدث عن حاجات شعب ما، وعن إرضاء هذه الحاجات ضمن اقتصاد يؤلف كلا واحدا، وفي هذه الحالة عن اقتصاد شعب. إن على نظرية الاقتصاد السياسي أن تكون العلم الذي يشرح لنا جوهر اقتصاد هذه الشعب، أي القوانين التي يخلق بها الشعب ثروته، بواسطة عمله، ثم يزيد هذه الثروة ويقسمها بين الأفراد، ويستهلكها ومن ثم يخلقها من جديد. إذن على غرض الدراسة أن يكون الحياة الاقتصادية لشعب بأسره. بالتعارض مع الاقتصاد الخاص، مهما كانت دلالة ومغزى هذا الأخير. ومن هنا نجد أن الكتاب الكلاسيكي الذي صدر عام 1776 للإنكليزي آدم سميت، المسمى بـ«أبي الاقتصاد السياسي»، إنما يؤكد أسلوب النظر هذا إذ يحمل عنوانا ذا مغزى هو «ثروة الأمم». 

ولكن، هل ثمة حقا ما يمكننا تسميته بـ«اقتصاد شعب»؟ هذا هو السؤال الذي علينا أن نطرحه على أنفسنا. إذ هل لدى كل شعب من الشعوب اقتصاده الخاص المنغلق على نفسه؟ إن تعبير «الاقتصاد القومي» يستخدم الآن بكل إيثار في ألمانيا، لذا علينا أن نيمم وجهنا شطر ألمانيا.

تنتج أيدي العاملات والعمال الألمان، كل عام في مجالي الزراعة والصناعة، كمية هائلة من مواد الاستهلاك، من مختلف الأصناف. فهل كل هذه المواد منتجة لكي يستهلكها سكان الرايخ الألماني؟ نحن نعرف أن قسما كبيرا، بل ويتزايد عاما بعد عام، من المنتجات الألمانية يصدر سنويا إلى الشعوب الأخرى. نحو بلدان أخرى وقارات أخرى. فالمنتجات الحديدية الألمانية تذهب نحو مختلف البلدان المجاورة في أوربا. وكذلك نحو أمريكا الجنوبية واستراليا. والجلد والمنتجات الجلدية تصدر إلى كافة الدول الأوربية. ومصنوعات الزجاج، والسكر. والقفازات تصدر على إنكلترا، والفراء يصدر إلى فرنسا، إنكلترا، والنمسا-هنغاريا، ومادة الاليذارين (العصارين) الملونة تصدر إلى إنكلترا والولايات المتحدة والهند، والنفايات تصدر بعد تحويلها إلى أسمدة، باتجاه إنكلترا وهولندا والنمسا -هنغاريا، والفحم الحجري يصدر إلى النمسا وبلجيكا وهولندا وسويسرا، بينما يصدر فحم الكوك إلى فرنسا، واللعب إلى الولايات المتحدة، والبيرة الألمانية وغيرها من المواد الجيلاتينية والأدوية والمذهبات والجوارب والأقمشة والثياب الصوفية والقطنية، والسكك الحديدية، يصدر تقريبا إلى كافة بلدان العالم التي تتعامل بالتجارة.

مقابل هذا، نجد أن عمل الشعب الألماني يرتبط في كل مرحلة من مراحله، وفي استهلاكه اليومي، بمنتجات البلدان والشعوب الأجنبية. فالخبز الألماني يصنع بالحبوب الروسية، واللحمة تأتي من الماشية المجرية، والدنمركية والروسية، والرز يأتي من الهند الشرقية أو من أمريكا الشمالية، والتبغ من الهند الهولندية (إندونيسيا) أو من البرازيل، والكاكاو من أفريقيا الغربية، والتوابل من الهند، والشاي من الصين والفواكه من إيطاليا وإسبانيا والولايات المتحدة، والبن من البرازيل وأمريكا الوسطى وإندونيسيا، ومشتقات اللحم تأتي من الأوروغواي، والبيض من روسيا وهنغاريا وبلغاريا، والسيغار من كوبا، والساعات من سويسرا، والخمور من فرنسا، والجلود من الأرجنتين والحرير من إيطاليا وفرنسا، والصوف من روسيا، والقطن من الولايات المتحدة والهند ومصر، والصوف المصنع من إنكلترا والخيش من الهند، وبعض أنواع الفحم الحجري من إنكلترا، واللينييت من النمسا، والأخشاب من كبراكو، وأخشاب البناء من روسيا والخيوط من البرتغال، والنحاس من الولايات المتحدة، والقصدير من لندن واندونيسيا، والزنك من استراليا، والألمنيوم من النمسا -هنغاريا وكندا، والأميانت من كندا، والإسفلت والرخام من ايطاليا، والبلاط من السويد، والرصاص من بلجيكا والولايات المتحدة واستراليا، والغرافيت من سيلان والأيود من الشيلي... الخ. 

إن معظم المواد، من أبسط الأغذية اليومية حتى المواد الكمالية النادرة، والمواد الأولية والآلات الضرورية، إنما تأتي، مباشرة أو بشكل غير مباشر، وكليا أو جزئيا، من البلدان الأجنبية، حيث تكون منتوجا ناتجا عن عمل الشعوب الأجنبية. فلكي يكون بالمستطاع العيش والعمل في ألمانيا، علينا أن نجعل كافة البلدان وكافة الشعوب وكافة القارات، تعمل لأجلنا... وكذلك علينا بدورنا أن تعمل لأجلها.

ولكي نقدم صورة عن الأحجام الهائلة لهذه المبادلات، علينا أن نلقي نظرة على إحصاءات التصدير والاستيراد الرسمية، المستقاة من «الحولية الإحصائية للرايخ الألماني لعام 1914»، ففي هذه الإحصاءات نجد التجارة الألمانية، باستثناء بضائع الترانزيت، على النحو التالي:

في عام 1913 استوردت ألمانيا:

مواد أولية بقيمة 5262 مليون مارك

مواد نصف مصنعة 1246 مليون مارك

مواد مصنعة 1776 مليون مارك

مواد غذائية بقيمة 3063 مليون مارك

حيوانات حية 289 مليون مارك

المجموع 11638 مليون مارك

أي نحو 12 مليار مارك ألماني.

وفي نفس ذلك العام صدرت ألماني:

مواد أولية بقيمة 1720 مليون مارك

مواد نصف مصنعة 1159 مليون مارك

مواد مصنعة 6642 مليون مارك

مواد غذائية 1362 مليون مارك

حيوانات حية 7 مليون مارك

المجموع 10891 مليون مارك

أي نحو 11 مليار مارك. أي بما يساوي (بالنسبة إلى التصدير والاستيراد معا) أكثر من 22 مليار مارك كقيمة إجمالية للتجارة الخارجية الألمانية لعام 1913.

بيد أن هذا الوضع هو نفسه، وإن يكن بنسبة أقل أو أكثر، بالنسبة إلى البلدان الحديثة الأخرى، أي تلك التي تكون حياتها الاقتصادية، هي غرض العلم المسمى بـ«الاقتصاد السياسي». فكل هذه البلدان تنتج واحدها من أجل الأخرى، وكذلك تنتج جزئيا من أجل القارات الأكثر تأخرا. لكنها في الوقت نفسه تستخدم منتجات هذه القارات لاستهلاكها، كما تستخدم منتجاتها... الخ.

كيف يمكن رسم الحدود بين «اقتصاد» شعب، واقتصاد شعب آخر، وكيف يمكن التحدث عما يسمى بـ«الاقتصادات القومية» كما لو كان الأمر يتعلق بمجالات تشكل كلا واحدا، ويمكن النظر إليها في ذاتها، تجاه كل هذا التطور الهائل في حجم المبادلات؟

من الواضح أن المبادلات العالمية، وازديادها، ليست اكتشافا فات العلماء البرجوازيين التنبه له. فالإحصائيات الرسمية، التي تنشر في تقارير سنوية، جعلت هذه الوقائع مصممة بشكل كبير، وفي متناول كافة الأشخاص المثقفين، ثم أن رجل الأعمال والعامل الصناعي، يعرفان هذه الأمور عن كثب بحكم تعاملهم اليومي معها. إن التعاظم السريع للتجارة العالمية، بات اليوم واقعا معلوما بشكل شمولي، ومعترفا به إلى حد أن ما من أحد بامكانه نفيه أوالشك بمدى صحته. ولكن كيف يفهم خبراء الاقتصاد السياسي هذا الواقع؟ إنهم يفهمونه باعتباره علاقة خارجية صرف، أي باعتباره مجرد تصدير لما يسمونه «الفائض» الذي يزيد عن حاجات بلد معين، من إنتاجه، ومجرد استيراد لما «يفتقر» إليه الاقتصاد الخاص بهذا البلد –وهي علاقة لا تمنعهم أبدا من الاستمرار في التحدث عن «الاقتصاد السياسي».

وعلى هذا النحو مثلا، يصرح الأستاذ بوخر، بعد أن يكون قد لقنا، بالطول وبالعرض، الشيء الكثير عن «الاقتصاد السياسي» الراهن، المعتبر مرحلة أخيرة وعالمية ضمن سلسلة من القوى الاقتصادية التاريخية، قائلا:

«إنه لمن الخطأ الاعتقاد بأن التسهيلات التي وفرها العهد الليبرالي، للتجارة الدولية، ستؤدي إلى انهيار مرحلة الاقتصاد القومي، التي ستخلى المكان للاقتصاد العالمي. صحيح أننا نشهد اليوم في أوربا عددا من الدول التي فقدت استقلالها القومي في مجال الحصول على المواد التي تحتاجها، بالنظر إلى أنها مجبرة على استيراد كميات كبيرة من المواد الغذائية من الخارج، في الوقت الذي تجاوز فيه إنتاجها الصناعي، حاجاتها القومية، بحيث بات يشكل، بصورة مستمرة، فوائض ينبغي العثور على استخدام لها في الخارج. غير أن علينا ألا نرى في التماشي بين البلدان التي تنتج المواد الأولية، المتعلقة ببعضها البعض، في هذا «التقسيم الدولي للعمل»، إشارة إلى أن الإنسانية باتت على وشك اجتياز مرحلة جديدة في تطويرها، مرحلة تقف بالعارض مع المراحل السابقة، هي مرحلة «الاقتصاد العالمي». وذلك لأن أي مرحلة اقتصادية، من جهة، لم يسبق لها أن ضمنت السد الوافي للاحتياجات، لقد تركت كافة المراحل، على قيد الوجود بعض الثغرات التي كان ينبغي سدها بطريقة أو بأخرى. ومن جهة أخرى نجد أن هذا الاقتصاد العالمي المزعوم، لم يظهر، حتى الآن على الأقل، أية ظواهر مختلفة. جوهريا، عن ظواهر الاقتصاد القومي. وثمة ما يحملنا على الشك في إمكانية ظهور مثل هذه الظواهر الجديدة في المستقبل المنظور». [1]

أما الأستاذ سومبارت، زميل بوخر الشاب، فيلجأ إلى المزيد من الجرأة، حين يصرح بأننا لسنا بداخلين، ولن ندخل أبدا مرحلة الاقتصاد العالمي، بل إننا نبتعد عن هذه المرحلة أكثر فأكثر، ويقول:

«أؤكد بأن الشعوب المتمدنة، ليست اليوم مرتبطة فيما بينها بعلاقات تجارية. بل ثمة علاقات تتناقض مع مرور الوقت. إن الاقتصاد القومي الخاص، لم يعد الآن مندمجا في السوق العالمية، كما كان الأمر منذ مئة عام أو خمسين عام... بل بات أقل اندماجا. في هذه الأثناء، علينا ألا نقر بأن العلاقات التجارية الدولية تحوز على أهمية، متعاظمة نسبيا، بالنسبة إلى الاقتصاد السياسي الحديث. إن ما يحدث هو العكس تماما.» ويبدو الأستاذ سومبارت على اقتناع بأن «الاقتصادات القومية المختلفة تتحول إلى منظومات صغيرة ذات اكتمال متزايد، وأن السوق الداخلية هي التي تفوز بالأسبقية على السوق العالمية، بالنسبة إلى منتوجات كافة المصانع». [2]

إن هذه الحماقة البراقة، التي ترمي –ودون أي انزعاج –إلى سحق كل الملاحظات الجارية على الحياة الاقتصادية، إنما تشير إلى التكالب الغريب الذي يرفض به هؤلاء السادة العلماء، الاعتراف بالاقتصاد العالمي كمرحلة جديدة من مراحل تطور المجتمع الإنساني –وهو رفض علينا أن نلاحظه على حدة لكي نتمكن من العثور على جذوره المخبوءة.

وهكذا، لأنه حدث خلال «مراحل سابقة من مراحل الاقتصاد» وفي زمن الملك نبوخند نصر مثلا، أن تم سد بعض «الثغرات» في الحياة الاقتصادية، عن طريق التبادل، لم يعد بالامكان القول بأن التجارة العالمية الراهنة، تعني أي شيء، بحيث ينبغي علينا أن نتوقف فقط عند «الاقتصاد القومي»... وهذا بالتمام ما ينادي به البروفيسور بوخر.

إن هذا ما يميز فظاظة المفاهيم التاريخية التي يلجأ إليها عالم قامت شهرته على أساس ثقوب ذهنه وعمق أرائه في التاريخ الاقتصادي! هذا العالم يضع، في كيس واحد، وباسم مخطط تجريدي، مختلف مراحل الاقتصاد والحضارة، التي تفصل بينها ألوف السنين! صحيح أنه لم تكن ثمة مراحل في المجتمعات التي لم تعرف التبادل. غير أن أقدم التقنيات الماقبل-تاريخية، وأخبار القوافل التي عرفها عالم ما قبل الطوفان، والقبور العتيقة الأكثر بدائية، تشهد جميعا على أنه كان ثمة نوع من تبادل المنتجات بين التجمعات البعيدة الواحدة عن الأخرى. فالتبادل قديم قدم تاريخ الحضارات البشرية، بل ولقد رافق كل تلك الحضارات على مدى الأزمان، وكان أكبر محرك أدى إلى تطورها. ومع هذا ها هو عالمنا الحصيف، يغرق في هذه الحقيقة العامة، بل والمبهمة كليا، كل خصائص المراحل والعهود، والحضارات والأشكال الاقتصادية. فإذا كانت كل القطط رمادية في الليل، لا يمكن في ظلام هذه النظرية الجامعية، لكل أشكال التواصل والمواصلات المختلفة، إلا أن تكون واحدة. أي أن التبادل البدائي الذي تعرفه قبيلة هندية في البرازيل تعطي، بالمناسبات أقنعة رقصها مقابل الأقواس والأسهم، لقبيلة أخرى، وحوانيت بابل التي كانت تمتلئ على الدوام بروائع الأسواق الشرقية، والسوق العتيق في كورنتا حيث كان يباع حرير المشرق في أوائل الشهور القمرية، وآنية الإغريق الفخارية، وأوراق صور، وعبيد سوريا والأناضول للمستعبدين الأثرياء، والتجارة البحرية في البندقية أيام العصور الوسطى، التي كانت توفر أغلى الكماليات للأسواق الفيودالية ومنازل أوربا العريقة.. وكذلك التجارة الرأسمالية العالمية التي نعرفها اليوم مادة شباكها فوق الشرق رفوف الغرب، فوق الشمال والجنوب، فوق كل المحيطات وفي كل زوايا العالم، متعالمة بجمهرة هائلة من المواد –ابتداء بالخبز اليومي وكبريت المتسول، حتى القطع الفنية النادرة إلي يشتريها الهواة الأثرياء، ومن أبسط المنتجات حتى أكثر الآلات تعقيدا، تلك التي تصنعها أيدي العمال الذين هم مصدر كل ثراء، وحتى آلات الحرب القاتلة –كل هذا لا يشكل، بالنسبة إلى أستاذ الاقتصاد السياسي المذكور، سوى كل واحد: فهو ليس أكثر من «ملء» لبعض «الثغرات» ضمن التنظيمات الاقتصادية المستقلة!...

منذ خمسين عاما، كان شولتز فون دليتش، يقول للعمال الألمان بأن كل واحد ينتج اليوم لنفسه، لكنه يعطي «مقابل منتجات الآخرين» تلك «الفوائض التي تستخدمها». ولقد رد لاسال على هذا الهراء حين قال بشكل حازم:

«أيها السيد شولتز، أو ليست لديك، إذن، أية فكرة عن واقع العمل الاجتماعي اليوم؟ أتراك لم تخرج أبدا حتى الآن من «بترفلد» ومن «دليتش»؟ وفي أي عصر وسيط تراك تعيش الآن مع كل هذه المفاهيم التي تتحدث باسمها؟... هل تراك تجهل إذن، بشكل كلي، أن من أهم مميزات العمل الاجتماعي هذه الأيام، أن أي إنسان، لا ينتج أبدا لنفسه؟ وأتراك تجهل تمام الجهل أن الأمر على هذا النحو، بالضرورة، منذ الثورة الصناعية، وأن في هذا يكمن اليوم شكل وجوهر العمل، وأنه إذا لم يتنبه المرء، بكل وضوح، لهذه النقطة،، لا يمكنه أن يفهم ملمح من ملاحم الوضع الاقتصادي الراهن، ولا أي ظاهرة من الظواهر الاقتصادية الراهنة؟

«إذا أخذنا كلامك على محمل الجدية نستنتج أن السيد ليونور ريشنهايم، من وست-جيرسدورف، إنما ينتج أولا، خيط القطن الذي يحتاج إليه. ثم يبادل الفائض الذي لا يمكن لبناته أن يحولنه إلى جوارب أو إلى قمصان نوم... 

«والسيد بورسيغ ينتج، أولا، الآلات لسد حاجاته العائلية، ثم يبيع ما يفيض عن هذه الحاجات...

«والمخازن التي تبيع وسائل الدفن، تعمل أولا تحسبا لوفاة تحصل في عائلة أصحابها. ثم تعمد إلى مبادلة الفائض من هذه الوسائل. لأن الوفيات لديها نادرة...

«والسيد وولف/ مالك مكتب التلغراف المحلي، يتلقى، أولا، الأخبار التي همها أعلامه بآخر الأنباء، وسد حاجاته منها. أما الباقي فإنه يرسله إلى محرري الصحف، الذين يضعون بتصرفه ما يزيد عن حاجاتهم من الرسائل التي يتلقونها...

«كان الطابع المميز للعمل، في المراحل الاجتماعية السابقة. وهو طابع علينا أن نلتف إليه بعناية، يكمن في الإنتاج لسد الحاجات المحلية، ومن ثم بيع الفائض أو المقايضة به، أي ممارسة الاقتصاد الطبيعي بشكل غالب. بيد أن الطابع المميز والخاص للعمل في المجتمع الحديث هو في أن كل إنسان ينتج، ليس ما هو بحاجة إليه، بل ينتج قيما تبادلية، تماما مثلما كان في الماضي ينتج قيما استعمالية. 

«أتراك لا تفقه، أيها السيد شولتز، بأن هذا هو الشكل الضروري، والأكثر انتشارا، للعمل في مجتمع وصل فيه تقسيم العمل إلى الاتساع الذي هو عليه في المجتمع الحديث؟»

إن ما يحاول لاسال، هنا، أن يشرحه لشولتز بصدد المشروع الرأسمالي الخاص، ينطبق كل يوم أكثر فأكثر الآن على نمط الإنتاج في البلدان الرأسمالية المتطورة كإنكلترا وألمانيا وبلجيكا والولايات المتحدة، وهو نمط إنتاج تسير باتجاهه الدول الأخرى واحدة بعد الأخرى. أما الطريقة التي سعى عبرها قاضي بترفيلد التقدمي (نقصد شولتز) لمخادعة العمال، فهي طريقة قد تكون أكثر سذاجة من مغالطات بوخر أو سومبارت بصدد مفهوم الاقتصاد السياسي، غير أنها ليست أحط منها بأي حال من الأحوال.

إن الأستاذ الألماني، الموظف الرسمي المنتظم، يود أن يرى النظام مستتبا في مجال عمله. وبسبب حبه للنظام، نراه ينحو إلى ترتيب العالم، بكل ما في هذه الكلمة من معنى ضمن اضبارات واثلام مخطط علمي. وتماما مثلما يرتب كتبه فوق رفوف مكتبته بشكل متراص، نراه يوزع بلدان العالم على شعبتين: فهنا، تقف البلدان التي تنتج المواد الصناعية، ولديها «فائض» منها، وهناك البلدان التي تمارس الزراعة وتربية المواشي، ولديها مواد أولية تفتقر إليها بقية البلدان. ومن هذا كله ينبثق، ويترعرع، ما يسمى بالتجارة العالمية.

ألمانيا هي واحدة من البلدان الأكثر تصنيعا في العالم. إذن تبعا لمخطط الأستاذ، يجب أن تكون لديها أكثر المبادلات نشاطا وحركة، مع بلد زراعي كبير كروسيا مثلا. فكيف حدث يا ترى أن ألمانيا تقيم علاقتها التبادلية الأساسية مع بلدين صناعيين آخرين هما الولايات المتحدة وبريطانيا؟ فالحال أن مبادلات ألمانيا مع الولايات المتحدة قد بلغت 2,4 مليار مارك عام 1913، في الوقت الذي بلغ فيه حجم مبادلاتها مع بريطانيا، وفي نفس العام، 2,3 مليون مارك، بحيث أن روسيا تأتي في المكانة الثالثة فقط! ومن جهة أخرى نرى، بصدد الصادرات، أن أول دولة صناعية في العالم تعتبر أكبر زبون يشتري من ألمانيا المصنعة: فإنكلترا، حين تستورد سنويا بضائع ألمانية بقيمة 1,4 مليار مارك، إنما تأتي على رأس البلدان الأخرى التي تستورد من ألمانيا. والإمبراطورية البريطانية تمتص، على أي حال، نحو خمس الصادرات الألمانية، فما رأي دكتورنا الأستاذ بهذه الظاهرة الملفتة للنظر؟.

إن المحور الصارم الذي يبني عليه البروفسور بوخر واضرابه، كل نظرياتهم، يقول بأن هنا، في هذا الجانب، ثمة دولة صناعية، وهناك في الجانب الآخر دولة زراعية. بيد أن ألمانيا كانت في ستينات القرن التاسع عشر، دولة زراعية، وكانت تصدر فائض منتجاتها الزراعية، كما كان لزاما عليها أن تشتري المنتجات المصنعة الضرورية من إنكلترا. ولكن بعد ذلك، أضحت ألمانيا دولة صناعية، تعتبر المنافس الأول لإنكلترا. والولايات المتحدة الآن في طريقها للانتهاء من اجتياز نفس المرحلة التي اجتازتها ألمانيا خلال السبعينات والثمانين، وإن يكن بشكل أكثر سرعة. والولايات المتحدة ما تزال حتى الآن، مع روسيا وكندا واستراليا ورومانيا، واحدة من أكبر الدول المنتجة للحبوب في العالم، وتقول آخر الاحصاءات أن 36% من سكان الولايات المتحدة الأمريكية كانوا ما يزالون حتى عام 1900 يشتغلون بالأعمال الزراعية. غير أن الصناعة الأمريكية تتقدم، في الوقت نفسه، بسرعة لا مثيلا لها، بحيث باتت تشكل خطرا تنافسيا يحيق بالصناعتين الإنكليزية والألمانية. لهذا، ها نحن نطرح –على سبيل المثال المسابقة- وعلى كلية سامية من كليات الاقتصاد السياسي، السؤال التالي: 

«هل علينا، تبعا لمخطط البروفسور بوخر، أن نصنف الولايات المتحدة في خانة الدول الزراعية، أم في خانة الدول الصناعية؟»

وروسيا بدورها تنخرط، ببطء، في الدرب نفسه، ومن المؤكد أن عدد سكانها الهائل، وحجم ثرواتها الطبيعية المذهل، سيجعلانها، ما أن تتخلص من بناها الدولتية السلفية، تعوض على التأخر الذي تعرفه في مجال الصناعة، بسرعة مذهلة، لكي تساوي، بل وربما تتجاوز في أيامنا قبل أن نموت، حجم الصناعة الألمانية والإنكليزية ثم الأمريكية، إذن، ليس في العالم وجود لذلك المحور الصارم الذي يصر عليه البروفسور بوخر، فالعالم يتحرك، يعيش، يتبدل. والتناقض بين الصناعة والزراعة، هذا التناقض الذي يؤدي إلى انبثاق المبادلات الدولية، هو بدوره عنصر مرن، نراه الآن يدفع أكثر فأكثر إلى أطراف العالم المتمدن؟ الجواب، حسب البروفسور بوخر، سيقول بأن التجارة العالمية ستصبح أكثر فأكثر تقلصا. غير أن الواقع يرينا – ويا للمعجزة- أن حجم هذه التجارة يزداد الآن أكثر فأكثر بين البلدان الصناعية نفسها!

إن لا شيء أقدر على إعلامنا حقيقة هذا، أكثر مما تفعل الصورة التي تعكس تطور عالمنا الاقتصادي الحديث، خلال ربع القرن الأخير. وبالرغم من أننا نشهد منذ عام 1880، تزاحما حقيقيا لعمليات وتشريعات الحماية الجمركية، بمعنى أن «الاقتصادات القومية» تنغلق، بشكل مصطنع، واحدتها على الأخرى، في كافة البلدان الصناعية، وفي الدول الأوربية الأخرى، نجد أن نمو التجارة العالمية، لم يكتف فقط بأنه لم يتوقف بل انطلق إلى الأمام بشكل مذهل، بحيث أن أي شخص كان بامكانه أن يرى، وبكل وضوح، العلاقة الحميمة القائمة بين التصنيع المتعاظم من جهة، ونمو التجارة العالمية من جهة ثانية، وحسبه لهذا، أن يراقب ما يجري بين البلدان الثلاثة الرئيسية: إنكلترا، ألمانيا، والولايات المتحدة.

باعتبار أن الفحم والحديد هما روح الصناعة الحديثة، نجد أن استخراج الفحم قد ازداد، بين عام 1855 وعام 1910

في إنكلترا من 162 إلى 269 مليون طن

في ألمانيا من 74 إلى 222 مليون طن

في الولايات المتحدة من 110 إلى 455 مليون طن

في نفس الوقت، زاد إنتاج الحديد الخام المصبوب:

في إنكلترا من 7,5 إلى 10,2مليون طن

في ألمانيا من 3,7 إلى 14,8 مليون طن

في الولايات المتحدة من 4,1 إلى 27,7 مليون طن

أما التجارة الخارجية السنوية (تصدير واستيراد) فقد زادت بين 1855 و1912: 

في إنكلترا من 12 إلى 27,4 مليون مارك

في ألمانيا من 6,2 إلى 21,3 مليون مارك -في الولايات المتحدة من 5,5 إلى 16,2 مليون مارك

اذا أخذنا مجمل التجارة الخارجية (تصدير واستيراد) لكافة البلدان الكبيرة في العالم، نجد أنه ازداد من 1,5 مليار مارك عام 1904، إلى 165 مليار مارك عام 1912. أي بزيادة قدرها 57% خلال ثمانية أعوام فقط! والحقيقة، أنها وتيرة للتطور الاقتصادي لم يسبق لها مثيل في التاريخ العالمي حتى الآن! «إن الأموات يرحلون بسرعة» ويبدو أن «الاقتصاد القومي» الرأسمالي على عجلة من أمره لاستنفاذ مقدرات وجوده، واختصار سنوات عمره. فما رأي المخطط الأستاذي الذي ذكرناه أعلاه، بكل هذا، وموقعه بالنسبة إلى المعارضة التي يقيمها –أي المخطط- بين الدول الصناعية والدول الزراعية؟

ومع هذا، ثمة الكثير من الألغاز، ومن نفس الطراز، في الحياة الاقتصادية الحديثة. ولننظر الآن عن كثب إلى بيان الصادرات والواردات الألمانية، بدلا من الاكتفاء بالتحدث بشكل إجمالي عن البضائع المتبادلة، أو عن فئات البضائع بشكل عام، ولنستعرض أهم أصناف البضائع التي تشملها التجارة الألمانية.. 

ففي عام 1913

الواردات لالمانيا:   الصادرات من المانيا:
  مليون مارك     مليون مارك
قطن خام 607   الات 680
قمح 417   خرداوات 652
صوف 413   فحم حجري 516
شعير 390   مواد قطنية 446
نحاس خام 335   صوفيات 271
جلود 322   ورق و مشتقاته 263
فلزات الحديد 227   فرو خام 225
فحم حجري 204   قضبان حديد 205
بيض 194   مواد حريرية 202
فرو خام 188   فحم اكوك 147
نترات الصوديوم 172   آنيلين 142
حرير خام 158   ثياب 132
كاوتشوك 147   مواد نحاسية 130
خشب منشور 135   جلود احذية 114
خيوط قطن 116   مواد جلدية 114
خيوط صوف 107   دمى 103
خشب خام 97   صفائح فولاذ 102
جلد بقر 95   خيوط صوف 91
جوت 94   انابيب فولاذ 84
الات 80   جلود 81
جلود مختلفة 73   خيوط فولاذ 76
مواد قطنية 72   سكك حديدية 73
لينيت 69   سبائك 67
صوف مغزول 61   خيوط قطن 61
مواد صوفية 43   ماود كاوتشوكية 57

إن أي مراقب لهذه الأرقام، مهما كان سطحي الرؤية، سوف يدهش من جراء عاملين اثنين: أولهما هو أن نفس فئات البضائع ترد عدة مرات في العمودين، ولو لكميات مختلفة. الحال أن ألمانيا تصدر كمية هائلة من الآلات، لكنها كذلك تستورد آلات بقيمة لا تقل عن 80 مليون مارك. كذلك نجد أن ألمانيا تستورد الفحم الحجري، لكنها في الوقت نفسه تصدر من هذا الفحم الحجري إلى الخارج. ونفس الشيء يقال عن المواد القطنية، وخيوط الصوف، والمواد الصوفية، والجلود والفراء، وكذلك عن عدة بضائع أخرى لا ترد في هذا البيان، من وجهة النظر التبسيطية المتعلقة بالتعارض بين الصناعة والزراعة هذا التعارض الذي من شأنه شأن مصباح علاء الدين السحري الذي يتيح لبروفيسور الاقتصاد السياسي، فرصة لتبيان كافة غوامض التجارة العالمية الحديثة، ومن وجهة النظر هذه، سنقف بلا ريب دون أية قدرة على تفسير هذه الازدواجية المدهشة: إذ تبدو هنا وكأنها عبث في عبث. ماذا؟ هل لدى ألمانيا فائض يزيد عن حاجتها من الآلات، أم لديها نقص في الآلات؟ وماذا بشأن الفحم الحجري والمواد القطنية؟ وماذا عن الجلود؟... ماذا عن مئات الأصناف الأخرى؟!؟ وبالأحرى كيف يمكن لاقتصاد قومي، أن يكون في الوقت نفسه، وبالنسبة إلى المواد نفسها، ذا «فائض» و«عجز» معا؟ آه... ها هو مصباح علاء الدين يهتز ويرتجف.

من الواضح أن هذا الواقع الملحوظ غير قابل للتفسير، إلا إذا اقرينا بأن ثمة بين ألمانيا والبلدان الأخرى، علاقات اقتصادية معقدة ومتنامية، وتقسيم للعمل غزير التشعبات والاتجاهات، يمكن ضمنه، بالنسبة لبعض السلع والمواد أن تطلب من ألمانيا للخارج، وتطلب من الخارج لألمانيا، مما يؤدي إلى عملية «مجيء وذهاب» يومية، لا يكون فيها كل بلد سوى عنصر عضوي من عناصر كل شامل أكثر اتساعا.

في البيان المذكور أعلاه، ثمة عامل آخر من شأنه أن يبعث على الدهشة: فالتصدير والاستيراد لا يظهران فيه بوصفهما ظاهرتين منفصلتين يمكن تفسيرهما عن طريق «العجز» بالنسبة إلى «هنا»، وعن طريق «الفائض» بالنسبة إلى هناك، بل هما ظاهرتان مرتبطتان ببعضهما البعض، عن طريق روابط السبب والنتيجة. فمن الواضح أنه من غير الممكن تفسير واردات ألمانيا الهائلة من القطن، بالتحدث عن الحاجات الخاصة للسكان الألمان، وذلك لأن هذه الواردات هي التي تتيح لألمانيا أن تكون لها صادرات ضخمة من الأقمشة والملابس القطنية. وثمة علاقة مشابهة قائمة بين الواردات الصوفية، والصادرات الصوفية المصنعة، وبين واردات الفلزات من الخارج، وصادرات البضائع الفولاذية من كافة الأنواع إلى الخارج... ومثل هذه الظواهر، ثمة الكثير الذي نصادفه في كل خطوة. فألمانيا تستورد إذن، لكي تتمكن من التصدير. أي أنها تخلق لنفسها، بشكل مصطنع، «بعض مجالات العجز»، لكي تتمكن بعد ذاك من تحويل هذا العجز إلى فائض. إذن، نرى من كل هذا أن «العالم الألماني الصغير» إنما هو في حقيقته جزء من كل شامل أكبر منه بكثير، أو بالأحرى مشغل في هذا العالم الواسع.

والآن لنتفحص عن كثب هذا «العالم الصغير» في استقلاليته «الأكثر اكتمالا». ولنتصور أن كارثة اجتماعية أو سياسية قد أدت، حقا، إلى فصل «الاقتصاد القومي» الألماني عن بقية العالم، مما أدى بهذا الاقتصاد إلى أن يعيش بعزلة... فما هي الصورة التي ستراها آنئذ؟.

لنبدأ أولا، بالخبز اليومي: إن إنتاجية الأرض في ألمانيا تبلغ ضعفي إنتاجية الأرض في الولايات المتحدة، ولا يفوق إنتاجيتها في العالم سوى بلجيكا وايرلندا وهولندا. منذ خمسين عام، وباقتصاد أقل تطورا، كانت ألمانيا تشكل جزءا من خزانات القمح الأوربية الرئيسية، بحيث كانت تغذي، بفائضها، بقية الدول. اليوم أصبحت الأرض الألمانية، بالرغم من إنتاجيتها، أعجز من أن تكتفي لتغذية سكانها وماشيتها، لذا على ألمانيا أن تستورد نحو سدس حاجتها من المواد الغذائية، أي أن ألمانيا، إذا فصلت، اقتصاديا، عن بقية إنحاء العالم، ستشهد حرمان سدس سكانها من الغذاء، وسدس سكانها معناه 11 مليون ألماني.

يستهلك الشعب الألماني، سنويا، ما قيمته 220 مليون مارك من البن. و67 مليون مارك من الكاكاو، و8 مليون مارك من الشاي، و61 مليون مارك من الأرز، ويمتص نحو 12 مليون مارك ثمنا للتوابل المختلفة، 134 مليون مارك ثمنا لأوراق التبغ... وكلها مواد يستوردها من الخارج. وهذه المواد كلها باتت ضرورية بحيث أن أفقر فقير ألماني لم يعد بوسعه العيش دونها، إذ تشكل جزءا من عادتنا اليومية، ومن مستوى حياتنا، وهي مواد لا تنتج في ألمانيا (باستثناء التبغ جزئيا) وذلك لأسباب تتعلق بالمناخ. فلنفصل ألماني عن بقية العالم... فماذا يحصل؟ سيتهاوى المستوى الحياتي للشعب الألماني، وهذا المستوى يعادل مستوى الحضارة الألمانية... التي ستتهاوى كذلك. 

بعد الغذاء تأتي الثياب. إن البياضات، بل ومجمل الثياب التي ترتديها جماهير الشعب، تصنع اليوم، كليا، من القطن... تقريبا، أما بياضات البرجوازيين المرفهين فتصنع من الكتان، أما ثيابهم فتصنع من الجوخ والحرير. بيد أن ألمانيا لا تنتج لا القطن ولا الحرير، كما أنها لا تنتج الجوت (الخيش) ذلك النسيج الهام، ولا الجوخ الذي تحتكره الهند عالميا، وألمانيا تعاني نقصا كبيرا في الكتان والقنب. فإذا فصلنا ألمانيا عن بقية العالم، سنحرمها من المواد الأولية ومن الأسواق الأجنبية، بحيث نحرم فئات بأسرها من الشعب الألماني من ثيابها الضرورية. إن صناعة النسيج الألمانية التي تغذي الآن، مع صناعة الثياب1400000 عامل وعاملة، من الصغار والبالغين، ستصاب بالدمار، إن حدث هذا.

والآن، لنسر إلى أبعد من هذا. إن ما يسمى بـ«الصناعة الثقيلة»، أي إنتاج الآلات وتحويل المعادن، يشكل بنية الصناعة العصرية الكبيرة، غير أن أساس هذه الصناعة الثقيلة، هو الفلزات. وألمانيا تستهلك سنويا (عام 1913) نحو 17 مليون طن من الحديد المصبوب. وهي نفسها تنتج 17 مليون طن من هذه المادة. للوهلة الأولى، قد نعتقد بأن «الاقتصاد القومي» الألماني يغطي على هذا النحو، حاجاته الخاصة من الحديد. غير أن الحديد المصبوب إنما يصنع من فلزات الحديد. لكن ألمانيا لا تستخرج من هذه الفلزات سوى نحو 27 مليون طن قيمتها الإجمالية 110 مليون مارك، بينما ثمة 12 مليون طن من أجود أنواع الفلزات، والتي تمثل أكثر من 200 مليون مارك وهي ضرورية للغاية بالنسبة إلى صناعة الحديد الألمانية، إنما تأتي من السويد وفرنسا واسبانيا.

والوضع هو نفسه تقريبا، بالنسبة إلى المعادن الأخرى. فألمانيا تستهلك سنويا 220 ألف طن من الزنك، وهي تنتج 270 ألف طن من هذه المادة تصدر منها 100 ألف طن، بينما يأتيها من الخارج 50 ألف طن من الزنك بدورها لا تستخرج في ألمانيا إلا جزئيا: نصف مليون طن، قيمتها نحو 50 مليون مارك، لذا تستورد ألمانيا 300 ألف طن من أجود أنواع فلزات الزنك، قيمتها نحو 40 مليون مارك. وألمانيا تستورد 94 ألف طن من الرصاص المصفى، و123 ألف طن من فلزات الرصاص، أما بالنسبة لإلى النحاس، فتستورد ألمانيا 206 آلاف طن سنويا. إذ أنها تستهلك 241 ألف طن. فإذا فصلنا ألمانيا عن بقية العالم، وحرمناها من واردتها المعدنية ذات النوعية الجيدة، ومن أسواقها الخارجية حيث تصرف المنتجات الفولاذية والآلات الألمانية، لا شك ستختفي صناعة الآلات التحويلية المعدنية الألمانية التي تستخدم 662 ألف عامل، كما ستختفي صناعة الآلات التي تعيل 1130 ألف عامل وعاملة. وكذلك سوف تختفي فروع صناعية أخرى تجد موادها الأولية وآلاتها لدى الصناعة الأخرى، كما ستختفي المؤسسات التي تزود هذه الأخيرة بالمواد الأولية والمواد الملحقة، ولاسيما المناجم، وأخيرا ستختفي تلك الصناعات التي تنتج مواد العيش لجيوش العمال الجرارة. 

ولنذكر أيضا الصناعة الكيميائية التي تشغل 168 ألف عامل، وتزود العالم بأسره بمنتوجاتها. ولنذكر صناعة الخشب التي تشغل اليوم 450 ألف عامل، والتي دون استيراد الأخشاب الأجنبية ستضطر إلى وقف إنتاجها. ولنذكر صناعة الجلود التي تشغل 117 ألف عامل، والتي ستشل إن لم تتوفر لها الجلود الأجنبية والأسواق الخارجية الهائلة. ولنذكر الذهب والفضة، المادتين اللتين تصك منهما النقود المعتبرة قاعدة أساسية لكل حياة اقتصادية راهنة، وهما مادتان لا يتم إنتاجهما داخل ألمانيا. والآن، إذ ننتهي من التحدث عن كل هذه الصناعات بهذا الشكل الحي، ينبغي علينا أن نطرح على أنفسنا السؤال التالي:

ما هو «الاقتصاد القومي» الألماني؟

بكلمات أخرى، إذا افترضنا أن ألمانيا مقطوعة، حقا باستمرار، عن بقية العالم وأن على اقتصادها أن يكفيها، فما الذي سيكون عليه شأن الحياة الاقتصادية الراهنة، وما الذي ستكون عليها الحضارة الألمانية الراهنة بأسرها؟ لسوف يتدهور الإنتاج، قطاعا بعد الآخر، وستتوقف عن العمل جماهير هائلة من البروليتاريا، ولسوف تحرم من الغذاء الضروري والملبس، قطاعات بأسرها من السكان، والتجارة سوف تحرم من قاعدتها: المعادن الثمينة، أما «الاقتصاد القومي» كله فلن يعود أكثر من ركام من الأطلال. ذلكم ما يسميه البعض «بعض النقص الحاصل في الحياة الاقتصادية الألمانية»، وذلكم ما يزعمون أنه «عالم صغير شديد الاكتمال»... هذا الزعم الذي يخط بماء الأثير اللازوردي على الأوراق التي تضم فحوى النظرية الأستاذية.

قفوا أيها السادة فماذا عن حرب 1914 العالمية، هذا المحك الذي وضع عليه «الاقتصاد القومي»؟ أوتراها لم تعط، وبكل أبهة، الحق لأمثال بوخر وأمثال سومبارت؟ أوتراها لم تبرهن للعالم بأن «العالم الألماني الصغير» يمكنه أن يعيش عيشة متكاملة، قويا وصلبا، في عزلته النسوكية بعيدا عن التجارة العالمية، وبفضل تنظيمه الدولتي الحازم، وبأقوى ما يمكنه من ردود؟ وتغذية السكان أو لم تتم يا ترى بشكل مثالي، دون أي لجوء إلى الزراعة الأجنبية؟ وعجلات الصناعة أو تراها لم تستمر في الدوران الجذل، دون مواد أولية أو أسواق خارجية؟ 

لنستعرض الآن بعض الوقائع. هناك أولا مسألة التموين، لقد عجزت الزراعة الألمانية عن توفير كل التموين اللازم، بمفردها. وهكذا رأينا كيف أن بضعة ملايين من الشبان البالغين، المنتمين إلى الجيش الألماني، قد أكلوا طوال الحرب، بفضل الطعام الذي حصلت عليه ألمانيا من الخارج، من بلجيكا، وشمال فرنسا، ولاسيما من بولونيا وليتوانيا. إذن، وجد «الاقتصاد القومي» نفسه، وفي سبيل تموين الشعب الألماني، متسعا ليشمل كل المساحة المحتلة من بلجيكا وشمال فرنسا، كما وجد نفسه يتسع خلال العام الثاني للحرب، ليشمل الجزء الغربي من الإمبراطورية الروسية التي غطت منتجاتها الزراعية جزءا كبيرا من النقص الحاصل في الواردات. وكانت نتيجة هذا كله إصابة سكان كل المناطق المحتلة بسوء التغذية، مما جعلهم يتهافتون بدورهم –كما حدث بالنسبة إلى بلجيكا مثلا- للحصول على المساعدات الأمريكية من المواد الزراعية. أما السمة الثانية المكملة لهذا كله، فكانت في ألمانيا عبارة عن زيادة في سعر المواد الغذائية تتراوح بين 100 و200%، مما أدى، كذلك، إلى سوء تغذية أصاب قطاعات عريضة من السكان.

وماذا عن عجلات الصناعة؟ كيف تراها بقيت على حركتها، دون مساندة المواد الأولية ووسائل الإنتاج الأخرى الآتية من الخارج، والتي رأينا أعلاه أهمية حجمها، كيف قيض لمثل هذه المعجزة أن تحدث؟ هذا السر كله، بالامكان تفسيره بأبسط الطرق، ودون أثر لأية معجزة كانت. فالصناعة الألمانية لم تتمكن من البقاء على نشاطها إلا لأنها ظلت تغذي بالمواد الأولية الأجنبية الضرورية، ولقد تم هذا عبر ثلاث طرق:

أولا، عن طريق مخزونات القطن والصوف والنحاس الهائلة التي كانت ألمانيا تملكها على عدة أشكال، بحيث لم يكن عليها، لاستخدامها، إلا أن تعمد إلى إخراجها من المخابئ، ثانيا، عن طريق المخزونات التي صادرتها في البلدان المحتلة، في بلجيكا وشمال فرنسا، وجزئيا في ليتوانيا وبولونيا، ومن ثم استخدمتها لصناعتها الخاصة، وثالثا عن طريق الواردات التي لم تكف عن الوصول إلى ألمانيا طوال زمن الحرب، وذلك بواسطة بلدان حيادية مثل اللوكسمبورغ. فإذا أضفنا إلى هذا كله، أن المصارف الألمانية كانت متخمة بكميات هائلة من المعادن الثمينة الأجنبية، وهي الشرط الأساسي لكل «اقتصاد حربي»، سيبدو لنا سريعا أن العزلة النسوكية للصناعة والتجارة الألمانيتين، ليست سوى خرافة، تماما مثلما هي خرافة فكرة تغذية الشعب الألماني كله، بطريقة كافية، بفضل زراعة ألمانيا، ومثلما يمكننا التأكيد على أن الاكتفاء الذاتي للعالم الألماني الصغير، خلال الحرب العالمية، هو أشبه بالطرف التي ترويها النساء الطيبات في ليالي الشتاء.

أما بالنسبة إلى أسواق تصريف الصناعة الألمانية، المنتشرة في كافة أرجاء المعمورة، كما لاحظنا أعلاه، فلقد استبدلت خلال الحرب، بالدولة الألمانية نفسها، إذ أن هذه الدولة امتصت معظم الصناعة الألمانية بسبب مسلتزمات الحرب. أي أن فروع الصناعة الأكثر أهمية: الصناعات المعدنية، النسيجية، الجلدية، والكيميائية، سرعان ما تحولت لتنتج مستلزمات الحرب، ولا شيء غيرها. وبما أن تكاليف الحرب كانت على عاتق دافع الضرائب الألماني، كما معنى تحويل هذه الصناعة إلى صناعة حربية، أن «الاقتصاد القومي» الألماني، بدلا من أن يبعث بجزء كبير من إنتاجه إلى الخارج لكي يبادله، تركه عرضة للدمار المستديم، غير أن هذه الخسائر حددت، وعلى مدى عقود طويلة من السنين المقبلة، نتائج هذا الاقتصاد المستقبلية، وذلك بسبب نظام القرض العام.

إذا لخصنا هذا كله، سيكون من الواضح أن الازدهار الهائل الذي عرفته ألمانيا «بعالمها المغلق الصغير» خلال الحرب، إنما يقدم –وعلى كافة الأصعدة- تجربة يصح معها مجرد التساؤل عن مقدار الزمن الذي يمكنها أن تشغله أيضا، قبل أن يتهاوى البنيان المصطنع على نفسه، تماما مثلما تتهاوى القصور المصنوعة من ورق اللعب.

ولنلق الآن نظرة على ظاهرة ملفتة للنظر. إذا أخذنا بعين الاعتبار، الأرقام الإجمالية للتجارة الخارجية الألمانية، سوف ندهش من جراء التفوق الواضح لحجم الواردات على حجم الصادرات، إذ بينما تصل واردات ألمانيا عام 1913 إلى 11,6 مليار مارك، لا تصل الصادرات في نفس ذلك العام إلى أكثر من 10,9 مليار. بيد أن عام 1913 لا يشكل استثناء، إذ بامكان أن نتأكد من وجود نسبة التفاوت نفسها، على مدى سنوات طويلة، والشيء نفسه يقال عن بريطانيا العظمى التي استوردت عام 1913 بما قيمته 13 مليار مارك، بينما لم تصدر إلا بما قيمته 10 مليارت. والوضع هو نفسه بالنسبة إلى فرنسا، وبلجيكا وهولندا. فكيف يمكن لمثل هذه الظاهرة أن تتحقق؟ أو ترى الأستاذ بوخر غير راغب في منحنا هنا الضوء الكاشف المتمخض عن نظريته. نظرية «الفائض عن الحاجات الخاصة» و«بعض العجز الحاصل... الخ»؟

إذا تقلصت العلاقات الاقتصادية بين مختلف «الاقتصادات القومية»، لتصبح، كما يعلمن الأستاذ المذكور، مجرد تخلي هذه «الاقتصادات القومية» عن الفائض عن حاجتها، كما كان الحال أيام الملك نبوخذ نصر، وإذا كان التبادل البسيط للبضائع هو الجسر الوحيد الذي يعبر الأثير اللازوردي الذي يفصل كل «عالم منغلق» عن الآخر، سيكون من الواضح أن ما من بلد بامكانه أن يستورد أكثر مما يصدر. وذلك لأن التبادل السلعي البسيط يعتبر العملة النقدية مجرد وسيط، بحيث أن كل بلد يدفع، في نهاية التحليل، ثمن مشترياته من السلع الأجنبية، سلعا محلية. فكيف يمكن، والوضع على هذا الحال، لاقتصاد قومي أن يحقق كل هذا القدر من الاستيراد الدائم الذي يفوق حجمه حجم ما يصدره من «فائضه» الخاص؟ ربما سيصرخ الأستاذ الآن ساخرا منا بقوله: إن حل هذه المسألة لهو أسهل حل في العالم! فالبلد المستورد ليس عليه إلا أن يغطي ما زاد من وارداته على صادراته، بالعملة السائلة. عفوا أيها الأستاذ! إن رمي مثل هذه الكمية الهامة من المال السائل في حفرة التجارة الخارجية، يعتبر ترفا لا يمكن أن يسمح به لنفسه سوى بلد غني متخم بالذهب والفضة، وليس هذا حال ألمانيا أو فرنسا أو بلجيكا أو هولندا. أضف على هذا أن لدينا هنا –ويا للمعجزة- مفاجأة أخرى: إن ألمانيا لا تستورد فقط، مزيدا من البضائع عما تصدر، بل تستورد أيضا من المال أكثر مما تتصدر! أي أن واردات ألمانيا من الذهب والفضة قد ارتفعت عام 1913 إلى 441,3 مليون مارك، بينما لم تزد صادراتها من هاتين المادتين عن 102,8 مليون مارك في العام نفسه... ونسبة التفاوت هذه، هي كذلك نفسها، منذ سنوات عديدة. فما رأي أستاذنا الجليل بوخر بهذا السر، بل ما رأي «فائضه» و«عجزه» الشهيرين؟

ها هو المصباح السحري الرائع يهتز ويرتجف بحزن!

لقد بدأنا الآن نشعر بأن ثمة خلف أسرار التجارة الدولية هذه، واقعا يقول بأنه لا بد من وجود علاقات اقتصادية مختلفة تماما عن المبادلات السلعية المجردة، بين مختلف «الاقتصادات القومية». ومن البديهي أن بلدا له على البلدان الأخرى حقوق اقتصادية، هو وحده القادر على أن يتلقى من هذه البلدان، وبشكل دائم، قدرا من المنتجات يزيد عما يبعث إليها. وهذه الحقوق ليست على أدنى علاقة بالمبادلات التي تحصل بين شركاء متساوين. وبديهي أن لمثل هذه الحقوق والعلاقات التبعية بين البلدان، وجودا حقيقيا، رغم أنف كل النظريات الأستاذية التي تتجاهل هذه الحقيقة. وتمثل العلاقات بين ما يدعى بالمركز Metropole والمستعمرات، نموذجا لعلاقات التبعية هذه، تبعا لشكلها الأكثر بساطة. فبريطانيا العظمى تنتزع سنويا، وبمختلف الأشكال، أتاوة تفرضها على الهند البريطانية، يزيد مقدارها عن مليار مارك. ونلاحظ بأن صادرات الهند تتجاوز وارداتها السنوية بنحو 1,2 مليار مارك. وهذا «الفائض» ليس سوى التعبير الاقتصادي عن عملية النهب الاستعماري التي تمارسها الرأسمالية الإنكليزية على الهند: وهذا يحدث عن طريقين، فأما أن تتجه البضائع الهندية مباشرة إلى بريطانيا العظمى، وأما أن تصدرها الهند إلى مكان آخر لكي تتمكن من دفع الأتاوة إلى المستعمر الإنكليزي. وهناك أيضا علاقات تبعية أخرى، ليست قائمة على القمع السياسي.[3]

فالصادرات السنوية لروسيا تزيد عن وارداتها من البضائع بنحو مليار مارك. فهل هو «الفائض» الهائل من البضائع إلى خارج الإمبراطورية الروسية؟ إننا نعلم جيدا أن «الموجيك» الروسي، الذي يصدر قمحه إلى الخارج، يعاني من فقر دائم بسبب سوء التغذية الذي يدفعه إلى تناول خبز أضيف قشر الشجر إلى الحبوب التي يصنع منها. الحال أن التصدير المكثف للحبوب، هذا التصدير الذي يفرضه نظام مالي وضرائبي داخلي، يعتبر ضرورة حيوية لبقاء الدولة الروسية، ولكي تتمكن من الوفاء بتعهداتها والتزاماتها الناتجة عن قروضها الخارجية.

والواقع أن جهاز الدولة الروسية لا يتمكن على الوقوف على قدميه، جزئيا، منذ أزمة حرب القرم ومنذ تحديث هذا الجهاز عن طريق الإصلاحات، إلا بفضل الرساميل الأجنبية، ولاسيما الفرنسية. وينبغي على روسيا، لكي تتمكن من دفع فوائد هذه الرساميل الفرنسية، أن تبيع سنويا كميات هائلة من الخشب والكتان والقنب والماشية وغيرها، لإنكلترا وألمانيا وهولندا. وبهذا نرى أن الفائض العظيم في الصادرات الروسية، إنما يشكل الأتاوة التي يدفعها المدين إلى الدائن، وهو وضع يقابله، بالنسبة إلى فرنسا، فائض كبير في الواردات. بيد أن ترابط العلاقات الاقتصادية، داخل روسيا نفسها، يصل إلى أبعد من هذا. فالرساميل الفرنسية تستخدم، في روسيا، منذ عشرات السنين، لهدفين اثنين: أولا، لإنشاء السكك الحديدية بضمان من الدولة، وثانيا لسد نفقات الجيش. وعلى سبيل الاستجابة إلى هذين الهدفين، ولدت في روسيا في السبعينات، صناعة ضخمة هامة –وجدت حماية لها في نظام الحماية الجمركية. أي أن الرأسمال الفرنسي أبرز في روسيا رأسمالية شابة باتت بحاجة، بدورها، إلى تعزيز نفسها عبر استيراد كميات هائلة من الآلات والمعدات ووسائل الإنتاج الأخرى الآتية من البلدان الصناعية الرائدة كألمانيا وإنكلترا. وهكذا نسجت، بين روسيا وفرنسا وألمانيا وإنكلترا، علاقات اقتصادية، لم يكن تبادل السلع سوى نتيجتها المنطقية.

غير أن هذا الكلام لا يعني عدم وجود تنوع في العلاقات الاقتصادية بين البلدان. فالواقع أن بلدا مثل تركيا أو مثل الصين، يقيم لغزا جديدا في وجه المخطط الأستاذي: فهذه البلدان تستورد، على عكس روسيا، ومثل ألمانيا وفرنسا، أكثر بكثير مما تصدر. بل أن وارداتها تبلغ في بعض السنوات نحو ضعفي صادراتها. فكيف يمكن لتركيا أو للصين أن تسمحا لأنفسهما بمثل هذا الترف، أي بترف سد «النواقص» في «اقتصادها القومي»، في الوقت الذي لا تقدران فيه على تقديم «فوائض» مناسبة بالمقابل؟ فهل تقدم دول أوربا الغربية القوية، على سبيل الهدية أو الإحسان، إلى العثمانيين أو إلى شعب إمبراطورية السماء، بضعة ملايين من الماركات، هي قيمة البضائع المختلفة التي تشتريها هاتان الدولتان؟ على عكس، أن العالم بأسره يعرف بأن تركيا والصين واقعتان في حبائل المرابي الأوربي، بحيث أن عليهما أن تدفعا، على سبيل الفوائد، أتاوات ضخمة للمصارف الإنكليزية والفرنسية والألمانية. تبعا للنموذج الروسي، سيكون على تركيا والصين أن يكون لديهما فائض في الصادرات الزراعية لكي تتمكن من دفع الفوائد لمدينيها الأوربيين الغربيين. بيد أن «الاقتصاد القومي» في تركيا كما في الصين، يختلف جذريا عنه في روسيا. صحيح أن القروض الأجنبية تستخدم في الصين وتركيا كذلك، وبشكل أساسي، لإنشاء السكك الحديدية، والمنشآت المرفئية، والنفقات العسكرية. غير أنه ليست لتركيا صناعة ما، كما لا يمكنها أن تخلق مثل هذه الصناعة بغتة، انطلاقا من اقتصاد فلاحي أو قروسطي (نسبة إلى القرون الوسطى)، وعن طريق مناهج زراعية بدائية أو نظام الخراج والعشور. والوضع مشابه تقريبا في الصين، وإن يكن مختلف الأساليب. وهذا هو السبب في أن هذين البلدين لا يكتفيان فقط باستيراد حاجات سكانهما من المواد المصنعة من أوربا الغربية، بل يستوردان أيضا ما يلزمهما من وسائل المواصلات والمعدات العسكرية والأساطيل. أما عملية إنجاز كل هذا فينبغي أن تجري محليا عن طريق مقاولين وتقنيين ومهندسين أوربيين.

بل وغالبا ما تستنكف دول أوربا عن تقديم القروض، إلا إذا صاحبتها اتفاقيات تنص على مثل هذه المشتروات والمساهمات التقنية. فمثلا نجد أن الرأسمال المصرفي الألماني النمسوي، يمتنع عن تقديم أي قرض للصين، إلا بشرط أن تشتري هذه الأخيرة كميات محددة من السلاح، من مصانع «سكودا» و«كروب»، كما أن هناك قروضا أخرى تقدم بالارتباط مع امتيازات تحصل عليها الشركات الغربية، لإقامة السكك الحديدية. وبهذا نرى كيف أن الرساميل الأوربية لا تذهب إلى تركيا والصين، على الغالب، إلا على شكل بضائع (أسلحة وعتاد) أو على شكل رأسمال صناعي، على شكل آلات ومعدات وكميات من الفولاذ... الخ. وهذه البضائع لا تتجه إلى البلدان المتخلفة صناعيا لكي تكون عنصرا في مبادلة معينة، بل لكي تحقق أرباحا. وما فوائد هذه الرساميل والأرباح الأخرى، سوى مقادير منهوبة من تعب الفلاحين والأتراك أو الصينيين، من قبل الرأسماليين الأوربيين، بمساعدة نظام ضرائبي يخضع بدوره لسيطرة مالية أوربية. إذن تحتفي خلف الأرقام المجردة التي تعكس الواردات التركية أو الصينية الفائضة، والصادرات الأوربية المقابلة، علاقات فريدة من نوعها بين الغرب الرأسمالي الغني، والشرق الفقير المتأخر، حيث يدفع الأول الثاني إلى التزود بأحدث واهم وسائل المواصلات والمنشآت العسكرية، في نفس الوقت الذي يعمد فيه إلى هدم «الاقتصاد القومي» الفلاحي العتيق في الشرق الفقير. 

بالنسبة إلى الولايات المتحدة، نجد أنفسنا أمام حالة أخرى. فهنا، كما في روسيا، تزيد الصادرات كثيرا عن الواردات: ففي عام 1913 بلغت صادرات الولايات المتحدة 10,2 مليار مارك، بينما لم تزد الواردات عن 7,4 مليار مارك. غير أن أسباب هذه الظاهرة ليست في الولايات المتحدة تمتص كذلك كميات هائلة من الرساميل الأوربية. ومنذ بداية القرن التاسع عشر، تكوم بورصة لندن كميات هائلة من الأسهم ومن سندات الإقراض الأمريكية. ولقد أشارت المضاربات الحاصلة على السندات والأسهم الأمريكية، وحتى سنوات الستين (في القرن التاسع عشر)، على دنو الأزمات التجارية والصناعية الكبرى التي أصابت الصناعة البريطانية فيما بعد. ومنذ ذلك الحين لم يتوقف تدفق الرساميل الإنكليزية المتجهة إلى الولايات المتحدة وترحل هذه الرساميل على شكل قروض تمنح للمدن وللشركات الخاصة، ولاسيما على شكل رساميل صناعية: إما عن طريق شراء أسهم سكك الحديد أو المصانع الأمريكية مباشرة في بورصة لندن، وإما عن كطريق الكارتلات الصناعية الإنكليزية التي تنشئ في الولايات المتحدة فروعا لها، لتتمكن بهذا من اختراق الحواجز الجمركية، أو تشتري مؤسسات أمريكية (عبر اقتناء أسهمها) لكي تتلخص من منافسة هذه الأخيرة لهال في السوق العالمية. وما هذا إلا لأن الولايات المتحدة تمتلك اليوم صناعة كبيرة متطورة بشكل هائل، وتتقدم بسرعة وتعمد بدورها على تصدير كميات متعاظمة من الرأسمال الصناعي –آلات، فحم... الخ- إلى كندا والمكسيك وإلى بقية دول أمريكا الوسطى والجنوبية، في نفس الوقت الذي يتابع فيه الرأسمال المالي الأوربي تدفقه على الولايات المتحدة. وبهذا تحقق هذه الأخيرة صادرات هائلة من المواد الخام –قطن، نحاس، حبوب، خشب، بترول- ترسلها إلى البلدان الرأسمالية القديمة، إلى جانب صادرات صناعية متعاظمة تذهب باتجاه البلدان الفتية السائرة على طريق التصنيع. وما ينعكس في الفائض الكبير الذي تعرفه صادرات الولايات المتحدة، ما هو سوى هذه المرحلة الطريفة التي تشهد انتقال بلد يتلقى الرساميل، إلى بلد صناعي يصدر الرساميل، وما هذا سوى الدور الوسيط الذي تلعبه الولايات المتحدة بين أوربا العجوز الرأسمالية، والقارة الأمريكية الفتية المتخلفة.

والآن إذا تفحصنا مجمل هذه الهجرة التي تعرفها الرساميل الذاهبة من البلدان الصناعية القديمة باتجاه البلدان الصناعية الفتية، والعودة المقابلة لعائدات هذه الرساميل التي تتدفق سنويا وكأنها أتاوات تدفعها البلدان الفتية للبلدان العجوز، سنجد أمامنا ثلاثة تيارات رئيسية. فتبعا لتقديرات عام 1906، نجد أن إنكلترا كانت قد وظفت في مستعمراتها وفي الخارج، في تلك الفترة نفسها، 54 مليار مارك، مدخولها السنوي 2,8 مليار مارك على شكل فوائد. في الوقت نفسه وصل حجم الرأسمال الفرنسي في الخارج إلى 32 مليون مارك مدخولها السنوي لا يقل عن 1,3 مليار مارك. وأخيرا، كانت ألمانيا قد استثمرت في الخارج، منذ عشر سنوات 26 مليار مارك مدخولها السنوي يصل إلى نحو 1,24 مليار مارك. ولقد تزايدت هذه التوظيفات وعائداتها، بعد ذلك، بشكل متسارع. وفي الوقت نفسه انقسمت التيارات الرئيسية الثلاثة إلى تيارات أكثر عددا وأقل حجما. وتماما كما أن الولايات المتحدة تنشر الرأسمالية في طول القارة الأمريكية وعرضها، ها هي روسيا – بالرغم من أنها مازالت تغذي عن طريق الرساميل الفرنسية، والصناعة الإنكليزية والألمانية –تعمل على إدخال الرساميل والمواد المصنعة إلى المناطق التي تقع وراءها: الصين، فارس (إيران)، وآسيا الوسطى، كما أنها تشارك في إنشاء خطوط السكك الحديدية في الصين... الخ.

إننا نكتشف، خلف الهيروغليفيات الخاوية ذات العلاقة بالتجارة العالمية، شبكة كاملة من الترابطات الاقتصادية التي ليست لها أدنى علاقة بالتبادل البسيط للسلع، هذا التبادل الذي يرى الأساتذة الجامعيون الكرام، أنه الحقيقة الوحيدة الفريدة. 

إننا نكتشف أن التمييز الذي يقيمه العالم بوخر، بين البلدان ذات الاقتصاد الصناعي، والبلدان المنتجة للمواد الخام، ليس سوى النتاج البكر للتبسيطات الأستاذية الساذجة. إن العطور، والمواد القطنية، والآلات، كلها منتجات مصنعة. وتبرهن لنا صادرات فرنسا من العطور على أن فرنسا بلد ينتج المواد الكمالية التي تستهلكها فئة من البرجوازية الثرية في العالم، وصادرات اليابان من المواد القطنية تبرهن على أن اليابان تنافس أوربا الغربية في عملية تدمير الإنتاج الفلاحي والحرفية التقليدية في الشرق الأقصى بأسره، لإبدالهما بتجارة السلع المصنعة، أما الصادرات الإنكليزية والألمانية والأمريكية من الآلات والعدد، فتبرهن لنا على أن هذه الدول الثلاث تعمل لإدخال الصناعة الكبرى إلى كافة أرجاء المعمورة.

إننا نكتشف أن ثمة تصديرا واستيرادا، اليوم، لـ«سلعة» لم تكن معروفة أيام الملك نبوخذ نصر، وكذلك إبان كل الفترة التاريخية التي تمتد من سحيق العصور إلى القرون الوسطى، هذه السلعة اسمها «رأس المال». وهي لا تستخدم لسد «بعض النقص» في «الاقتصادات القومية» الأجنبية، بل بالعكس، لغلق ثغرات جديدة وأخاديد وحفر في بنيان «الاقتصادات القومية» العجوزة، وذلك لكي تتمكن من التسلل إليها، والتحرك فيها كما لو كانت براميل من البارود تهدف إلى تغيير «الاقتصادات القومية» على المديين القصير والطويل، ومن ثم تحويلها إلى مجرد ركام من الأطلال. ومع هذه «السلعة» ثمة كذلك «سلع» أخرى عديدة، أكثر إلفاتا للنظر، تنتشر بكميات هائلة في العالم أجمع، بعد أن تأتي من بضعة بلدان يقال أنها بلدان متمدنة، وهذه السلع هي: وسائل مواصلات حديثة، عمليات إبادة شاملة للسكان المحليين، اقتصاد نقدي وديون تغرق جماهير الفلاحين، ثراء وفقر، بروليتاريا واستغلال، عدم أمان وأزمات، فوضى وثورات. إن «الاقتصادات القومية» الأوربية تمد خثورها باتجاه بلدان وشعوب الكرة الأرضية لكي تمزقها داخل شبكة الاستغلال الرأسمالي الهائلة.



الهوامش

[1]. تكون الاقتصاد القومي، بالألمانية، الطبعة الخامسة، ص 147 Bucher: "Die Entsrehung der Volkswirtschaft"

[2]. الاقتصاد القومي الألماني، الطبعة الثانية 1909، ص 399 ـ 420. W SOMBART: "L'Economie Natonale Allemade Auxixs"

[3]. هامش من ر. ل.: خلفية الوضع في الهند: "الاقتصاد القومي للجماعة الفلاحية يتدهور. صناعة.. الأرقام الخرساء للواردات والصادرات تحكي بلغة مذهلة".



أرشيف روزا لوكسمبورغ