روزا لوكسمبورغ

مقدمة في الاقتصاد السياسي

II. التاريخ الاقتصادي (1)

2.2

لقد شكل كتاب مورغان حول «المجتمع البدائي» -إن جاز لنا مثل هذا القول- مدخلا لاحقا للبيان الشيوعي الذي وضعه ماركس وانجلز. وكانت كافة الشروط قد توفرت لإجبار العلم البرجوازي على التحرك. وهكذا، خلال عقدين أو ثلاثة عقود من الزمن تلت منتصف القرن، أضحى مفهوم الشيوعية البدائية، متغلغلا من كافة الجوانب، إلى دخال العلم. وهذه الاكتشافات، طالما ظل الأمر متعلقا بتقاليد «عريقة تنتمي إلى القانون الجرماني» و«خصوصيات تنتمي إلى القبائل السلافية» وإلى دولة الانكا في البيرو.. الخ، ظلت تحتفظ بطابع الطرائف العلمية غير المؤذية، ودن أن تحمل أي معنى راهن، أو تكون لها أية علاقة مباشرة مع مصالح المجتمع البرجوازي ومعاركه اليومية. ولقد كان هذا الأمر على هذا النحو إلى درجة أن بعض المحافظين المتصلبين، والسياسيين الليبراليين المعتدلين من أمثال لودفيغ فون مورر والسير هنري مين، كان بوسعهم أن ينالوا الكثير من التقريظ بسبب وصولهم إلى مثل هذه اكتشافات. ومع هذا، سرعان ما ظهرت تلك العلاقة التي تربط الاكتشافات بالأحداث الراهنة، وذلك ضمن اتجاهين. ونحن سبق لنا أن رأينا كيف أن السياسة الاستعمارية كانت قد خلقت هوة بين المصالح المادية الملموسة للعالم البرجوازي وبين شروط الحياة ضمن الشيوعية البدائية. وكلما كان النظام الرأسمالي يعمل على فرض قدرته الكلية في أوربا الغربية منذ أواسط القرن التاسع عشر بعد عواصف ثورة عام 1848، كلما كانت تلك الهوة تزداد اتساعا. في نفس ذلك الحين، وبالتحديد منذ ثورة 1848، ظهر هناك عدو آخر بدأ يلعب دورا تزداد أهميته أكثر فأكثر داخل المجتمع البرجوازي: هذا العدو اسمه الحركة العمالية الثورية. ومنذ أيام حزيران 1848 في باريس، لم يعد «الشبح الأحمر» يختفي عن مسرح الأحداث، بل انبثق من جديد في العام 1871، إبان الارتباك العام الذي رافق نضالات الكومونة مما جعل البرجوازية الفرنسية والعالمية، ترتعد من رأسها حتى أخمص قدميها. ولكن على ضوء هذه الصراعات الطبقية العنيفة، أظهرت أحدث اكتشافات البحث –أعني الشيوعية البدائية- سمتها الخطيرة. فالبرجوازية، التي أصيبت في صميم مصالحها الطبقية، اشتمت رائحة علاقة غامضة بين التقاليد الشيوعية القديمة التي كانت في البلدان المستعمرة –بفتح الميم- تقف بعنف وصلابة في وجه عملية البحث عن الربح كما في وجه عملية «أوربة» السكان الأصليين، وبين الإنجيل الجديد الذي أتت به الحمى الثورية التي أصابت الجماهير البروليتارية في البلدان الرأسمالية العجوز.

وحين تم، في الجمعية الوطنية الفرنسية، في العام 1873، البحث لتقرير مصير عرب الجزائر عن طريق قانون يوطد الملكية الخاصة بالقوة، لم يكف المجتمعون في تلك الجمعية التي كانت ما تزال تحركها أسباب الجبن والرغبة العمياء في انتقام من آثار بطولات الكومونة، لم يكفوا عن القول بأن من الضروري، ومهما كان الثمن، تدمير الملكية المشاعية البدائية لدى عرب الجزائر، لأن شكل هذه الملكية «من شأنه أن يدخل إلى العقول والأذهان، اتجاهات شيوعية». إما في ألمانيا، خلال ذلك الوقت بالذات، فإن أبهات الإمبراطورية الألمانية الجديدة، ومضاربات عن التأسيس، والأزمة الرأسمالية الأولى التي شهدتها سنوات السبعين، ونظام الدم والحديد الذي وطده بسمارك عن طريق قوانينه المتخذة ضد الاشتراكيين، كلها أمور كانت في طريقها إلى تكثيف حدة الصراعات الطبقية حتى حدودها القصوى، وإلغاء كل مجاملة، حتى ولو كانت في مجال البحث العلمي البحت. والتطور الذي لا مثيل له الذي عرفته الاشتراكية-الديموقراطية، وتجسيد نظريات ماركس وانجلز، مسألتان عززتا، بشكل فريد من نوعه، الغريزة الطبقية لدى العلم البرجوازي في ألمانيا. وعلى هذا النحو كانت ردود الفعل ضد نظريات الشيوعية البدائية، شديدة الصرامة والحزم، فاليوم أضحى مؤرخون للحضارة من أمثال ليبرت وشورتز، ومنظرون للاقتصاد السياسي من أمثال بوخر، وعلماء اجتماع من أمثال شتراكه وويسترمارك وغروس، أضحوا جميعا متفقين على ضرورة التصدي بكل قوة لنظرية الشيوعية البدائية، وعلى وجه الخصوص لأفكار مورغان حول تطور العائلة، وسيطرة القانون العائلي في الماضي، بكل ما فيه من مساواة بين الجنسين وديموقراطية عامة. وعلى سبيل المثال نذكر هنا أن شتراكه يصف في كتابه «العائلة البدائية» الصادر عام 1888، أفكار مورغان وفرضياته بصدد نظام القرابة، بأنه «حلم متوحش»... «لكي لا نقول هذيان» [1].

بل وأن علماء أكثر جدية، مثل أفضل مؤرخ لتاريخ الحضارة مر في بلادنا، هو ليبرت، انطلقوا في حرب قاسية ضد مورغان، فليبرت، مثلا، استنادا منه إلى التقارير السطحية والمترهلة التي بعث بها المبشرون في القرن الثامن عشر (وهم لا يتمتعون عادة بأي إدراك اقتصادي أو عرقي)، وفي معرض تجاهله التام لدراسات مورغان الفذة، وصف العلاقات الاقتصادية لدى هنود أمريكا الشمالية، وهم الذين دخل مورغان على حياتهم وتنظيمهم الاجتماعي ، كما لم يقيض لأحد أن يفعل من قبله، وصفها على أنها البرهان على عدم وجود أي تنظيم جماعي للإنتاج لدى الشعوب التي تعيش على الصيد بشكل عام، كما قال بأنهم لا يهتمون أدنى اهتمام بالمستقبل، وأن ما يهيمن على وضعهم هو غياب كل قواعد وكل فكر وتنظيم.

إن ليبرت يستعيد، دون أي حس نقدي، كل التشويه الغبي الذي تمارسه عين المبشرين الأوربيين في النظر إلى الشيوعية القائمة لدى الهنود، وهكذا، على سبيل المثال، حين يأتي على ذكر تاريخ بعثة الإخوة الإنجيليين لدى هنود أمريكا الشمالية، الذي كتبه لوزكيك في عام 1789 يكتب قائلا: «إن كثيرين من أولئك الهنود، كما يقول مبعوثنا المبشر الفائق الإطلاع، كسلاء إلى درجة أنهم لا يزرعون شيئا بأنفسهم، بل يكتفون باقتسام ما لا يقدر الآخرون على رفض اقتسامه معهم. ربما أن العمال، على هذا النحو لا يتمتعون بثمرة عملهم أحسن مما يفعل غير العاملين، لذا نراهم يقللون شيئا فشيئا من حجم ما يزرعونه. وهكذا ما أن يأتي شتاء قاس تتراكم فيه الثلوج الكثيفة بحيث تحول بينهم والذهاب إلى الصيد، حتى تسود المجاعة العامة بكل سهولة، مما يؤدي إلى وفاة كثير من الأشخاص... وعند ذلك يتعلمون، في بؤسهم، الاستعانة بأكل لحاء الشجر للتغذية» ويضيف ليبرت إلى هذا الكلام الذي يستشهد به قوله: «وهكذا، عبر سلسلة متعاقبة من الظروف الطبيعية، يؤدي سقوط هؤلاء في الإهمال، إلى سقوط نمط حياتهم بأسره». وفي هذا المجتمع الهندي الذي لا «يمكن فيه لأحد أن يرفض» اقتسام مؤونته مع الآخرين، والذي عمد فيه «الإخوة الإنجيليون» على لسان منظرهم إلى إقامة تعارض وتقسيم حتميين، بشكل تعسفي واضح، بين «العاملين» وغير العاملين، تبعا للنمط الأوربي، يزعم ليبرت أنه، في هذا كله، قد وجد أفضل دليل لدحض فكرة الشيوعية البدائية ف«عند مثل هذا المستوى، يقل اهتمام الجيل المسن بتعليم الجيل الشاب أساليب وضرورات الحياة. وبهذا نرى أن الهندي بعيد جدا عن الإنسان البدائي. فمنذ أن يحوز المرء على آلة ما، حتى يصبح لديه حس التملك، غير أن هذا الحس يكون مقصورا على الآلة نفسها. أي أن لدى الهندي هذا الحس، ابتداء من اخفض المستويات، وفي هذه الملكية البدائية، نلاحظ غياب أي عنصر من عناصر الشيوعية... بل وأن التطور يبدأ بعكس هذا تماما».

أما البروفسور بوخر فلقد عارض نظرية الاقتصاد الشيوعي البدائي بنظريته حول «بحث الفرد عن الغذاء» لدى الشعوب البدائية، وحول «فسحات الزمن غير المتناظرة» التي كان «الإنسان يوجد فيها ودون أن يعمل». والمهم هنا أن مؤرخ الحضارات شورتز، ينظر إلى البروفسور بوخر وإلى «نظراته الثاقبة العبقرية» على أنه نبي ينبغي إتباع خطاه ولو بأعين مغمضة، ولاسيما حين يتعلق الأمر بدراسة اقتصاديات الحقب البدائية [2]. أما حامل البوق، الأكثر تمثيلا لرد الفعل القوي ضد نظريات الشيوعية البدائية الخطيرة وضد «أب الكنيسة الاشتراكية-الديموقراطية الألمانية» مورغان، فهو السيد المبجل ارنست غروس. للوهلة الأولى، يبدو هذا السيد نفسه واحدا من محازبي الفهم المادي للتاريخ، فهو يفسر مختلف أشكال الحق والقانون والعلاقات بين الجنسين والفكر الاجتماعي، بالاستناد إلى علاقات الإنتاج، بوصفها العامل المحدد لهذه الأشكال. ويقول غروس في كتابه «بدايات الفن» الذي ظهر في عام 1894 «أن قلة من مؤرخي الحضارة تبدو مدركة لكل أهمية الإنتاج. ثم إنه لمن الأكثر سهولة الاستخفاف بهذا العامل، بدلا من تضخيم أهميته. فالاقتصاد -إذا جاز لنا القول –هو التمركز الحيوي لكل شكل من أشكال الحضارة، فهز الذي يمارس التأثير الأكثر عمقا والأكثر صلابة على كافة العوامل الحضارية الأخرى، بينما نجد أنه هو نفسه خاضع لسيطرة عوامل طبيعية: جغرافية ومناخية. ويمكننا أن نقول بالتحديد عن نمط الإنتاج أنه الظاهرة البدائية للحضارة، وهي ظاهرة لا تكون أمامها كافة سمات الحضارة الأخرى سوى فرعية (متفرعة عنها) وثانوية –ولكن ليس بالمعنى الذي يؤدي إلى القول بأن الفروع الأخرى تتحدر كلها من هذا الجذع، بل بالمعنى القائل بأنها جميعا تولد بشكل مستغل ثم تتطور وتتشكل تبعا لضغط العامل الاقتصادي المسيطر.»

للوهلة الأولى سيبدو أن السيد غروس نفسه قد استعار أفكاره الرئيسية من ترسانة «آباء الكنيسة الاشتراكية-الديموقراطية الألمانية»، بالرغم من أنه يترك مجالا للشك، ولو عن طريق كلمة واحدة من كلامه بوجود منبع علمي يستقي منه أفكاره التي تجعله يتفوق على «معظم مؤرخي الحضارات»، بل وهو، فيما يتعلق بالفهم المادي للتاريخ «أكثر كاثوليكية من بابا روما»، ففي الوقت الذي يقر فيه انجلز –خالق الفهم المادي للتاريخ، بالاشتراك مع ماركس- بالنسبة إلى تطور العائلة منذ الأزمان البدائية حتى الزواج الراهن الذي تنظمه الدولة، بأن العائلة وظيفة مستقلة عن العلاقات الاقتصادية تستند وحسب على ديمومة الجنس البشري، نجد غروس يذهب إلى أبعد مما ذهب إليه انجلز بكثير. فهو يضع النظرية التي تقول بأن شكل العائلة ليس، في كل مرحلة، سوى النتاج المباشر للعلاقات الاقتصادية القائمة، ويقول: «أن دلالة الإنتاج وأثره على الحضارة، لا يبدوان في أي مكان آخر، أكثر وضوحا مما هما في مجال تاريخ العائلة. فالأشكال الغربية، للعائلة البشرية، التي قادت علماء الاجتماع إلى فرضيات أكثر غرابة، تصبح مفهومة للغاية ما أن تنظر إليها بعلاقتها مع أشكال الإنتاج».

والواقع أن كتاب غروس الذي صدر في عام 1896 بعنوان «أشكال العائلة وأشكال الاقتصاد» مكرس بكامله للتدليل على صحة هذه الفكرة. ولكن في الوقت نفسه نجد أن غروس هو من ألد أعداء نظرية الشيوعية البدائية. وهو بدوره يسعى للبرهان على أن التطور التاريخي للبشرية لم يبدأ بالملكية المشاعية بل الملكية الخاصة، وهو، على منوال ليبرت وبوخر، يجهد لكي يقول، انطلاقا من وجهة نظره، بأننا كلما توغلنا قدما في زمن ما قبل التاريخ، وجدنا أن «الفرد» بـ«ملكية الفردية» يهيمن على الوضع الاجتماعي. صحيح أن ليس بالوسع معارضة كل الاكتشافات التي تمت في كافة أرجاء المعمورة، والمتعلقة بالمشاعيات القروية الشيوعية والقبائل، غير أن غروس –وها هنا تكمن نظريته الخاصة- يحاول ألا يبرز التنظيمات التي تشكل إطار الاقتصاد الشيوعي، ألا بانتمائها إلى مرحلة محددة من مراحل التطور: عند المستوى الزراعي المتدني، وذلك لكي يعود إلى إلغائها عند مستوى الزراعة الأرفع، حيث تخلى المكان لـ«الملكية الخاصة». وعلى هذا النحو يقلب غروس، بظفر، كل الأفق التاريخي الذي جاء به ماركس وانجلز. فهذان الأخيران يريان ضمن منظورهما هذا، بأن الشيوعية كانت مهد البشرية في تطورها باتجاه الحضارة، مطورة معها شكل العلاقات الاقتصادية التي رافقت هذا التطور خلال الفترات الزمنية اللامتناظرة، لكي لا تتحلل إلا مع مجيء الحضارة حيث تركت مكانها للملكية الخاصة، والحضارة نفسها، عبر عملية تفكك سريعة، سائرة مجددا نحو الشيوعية، ولكن على الشكل الأرفع للمجتمع الاشتراكي.

ولكن حسب ما يقول غروس نجد أن الملكية الخاصة هي التي رافقت ولادة وتقدم الحضارة لكي لا تترك مكانها للشيوعية إلا بشكل مؤقت، وعند مرحلة محددة، هي مرحلة المستوى الزراعي المتدني. أما ماركس-انجلز ومورغان فيؤكدون على أن بداية تاريخ الحضارة لم يعرف سوى الملكية المشاعية والتضامن الاجتماعي، ومقابل هذا نجد غروس وصحبه أفذاذ العلم البرجوازي ينادون بأن «الفرد» بملكيته الخاصة هو الأصل.

غير أن هذا كله لا يكفي!

فغروس هو الخصم اللدود، ليس فقط لمورغان ولنظرية الشيوعية البدائية، بل لكل نظرية التطور في مجال الحياة الاجتماعية، وهو لا يني يفرغ كل ما يعتقد أنه «روح السخرية عنده» على أذهان التي تريد ربط كل ظواهر الحياة الاجتماعية ضمن سلسلة تطورية، واعتبارها عملية فريدة، أو تقدما للبشرية من الأشكال الأدنى للحياة نحو الأشكال الأكثر سموا. إن هذه لفكرة الأساسية التي عليها يرتكز كل العلم الاجتماعي الحديث –ولاسيما مفهوم التاريخ ونظرية الاشتراكية العلمية- هي الشيء الذي يسعى السيد غروس، العالم البرجوازي النموذجي، إلى مقارعتها بكل قواه. وهو يعلن بصوت مدوي: «إن البشرية لا تضع نفسها أبدا ضمن خط وحيد وفي اتجاه وحيد، بل على عكس هذا، نجد أن تنوع طرق الشعوب وأهدافها، إنما يستجيب لتنوع شروط حياتها». وهكذا توصل العلم الاجتماعي البرجوازي، في شخص غروس، وفي رده فعله إزاء النتائج الثورية التي تمخضت عنها اكتشافات كان –أي العلم البرجوازي- قد توصل إليها بنفسه، توصل إلى نفس النقطة التي كان الاقتصاد البرجوازي المبتذل قد وصل إليها في رد فعله ضد الاقتصاد الكلاسيكي: إلى رفض كل قانون يتعلق بالتطور الاجتماعي [3].

والآن لنتفحص عن كثب تلك «المادية» التاريخية الغريبة التي يأتينا بها أحدث مشوهي أعمال ماركس-انجلز ومورغان.

يتحدث غروس كثيرا عن «الإنتاج»، وهو طوال الوقت لا يكف عن ذكر «طابع الإنتاج» على أنه العامل المحدد الذي يؤثر على مجمل الحضارة. فماذا تراه يعني حين يتحدث عن الإنتاج وطابع الإنتاج؟ يقول غروس: أن الشكل الاقتصادي الذي يهيمن لدى مجموعة اجتماعية، والطريقة التي يتوصل عبرها أعضاء هذه المجموعة إلى الحصول على الوسائل بقائهم، هي أمور واقعية يمكن ملاحظتها بشكل مباشر، وهي موجودة في كل مكان بسماتها الرئيسية، وثمة تأكيد كاف على هذا. إن بامكاننا أن نشك، ما شاء لنا الشك، بصدد المفاهيم الدينية والاجتماعية لدى الأستراليين، غير أنه لا يمكن أن يساورنا أي شكك بصدد إنتاجهم، فالأستراليون يعيشون من الصيد ومن جمع المزروعات. وربما كان من المستحيل التسلل إلى ثقافة البيروفيين (أهل البيرو) القدماء وأفكارهم، غير أن من الأمور الأكيدة أن شعب إمبراطورية الأنكا القديم هذا، كان شعبا من المزارعين».

إذا يفهم غروس بـ«الإنتاج» و«طابعه» وبكل بساطة، أنهما المنبع الرئيسي لغذاء شعب ما. والصيد والقنص وتربية المواشي والزراعة هي تلك.. «العلاقات الإنتاجية» التي تمارس تأثيرا حاسما على كافة العلاقات الحضارية الأخرى لدى الشعب. إن علينا أولا أن نلاحظ بأنه إذا كان تفوق السيد غروس على «معظم مؤرخي الحضارة». يعود إلى هذا الاكتشاف الهزيل، فإنه تفوق لا أساس له على الإطلاق. ففكرة أن المنبع الرئيسي الذي يستقي منه شعب ما غذاءه، هو مسألة ذات أهمية فائقة بالنسبة إلى نمو الحضارة، ليست بأي حال من الأحوال اكتشافا جديدا جاء به السيد المذكور، بل هي واحدة من المكتسبات الأساسية القديمة التي حققها علم تاريخ الحضارات. ولقد قادت هذه الملاحظة إلى التصنيف الراهن للشعوب تبعا لكونها صيادة أو راعية أو مزارعة. وهو تصنيف وارد في كل تواريخ الحضارة، ويطبقه السيد غروس بدوره، إنما بعد كثير من المراوغة والمداورة.

وهذه الفكرة ليست فقط مغرقة في القدم... بل هي أيضا -ضمن نسختها المسطحة لدى غروس- مغرقة في الخطأ أيضا. فأن نعرف فقط عن شعب ما، أنه يعيش من الصيد أو القنص أو الرعي، أمر لا يجعلنا بأي حال ندرك علاقات الإنتاج المهيمنة في حضارة هذا الشعب. فالحوتنتو المعاصرين في جنوب غرب أفريقيا، وهم شعب حرمه الألمان المستعمرون من مصدر وجودهم الأساسي، بعد أن سلبوهم ماشيتهم، وزودوهم بالمقابل ببنادق للقتال، تحولوا –بالقوة- إلى صيادين. غير أن علاقات الإنتاج لدى هذا «الشعب من الصيادين» ليست على أدنى علاقة مشتركة مع علاقات الإنتاج القائمة لدى هنود كاليفورنيا الذين ما يزالون يعيشون في عزلتهم البدائية، وهؤلاء –بدورهم- ليست لهم أية علاقة تشابه مع فرق الصيادين، في كندا، الذين يزودون الرأسماليين الأمريكيين والأوربيين بكميات هائلة من جلود الحيوانات، لاستخدامها صناعيا. والرعاة البيروفيون الذين كانوا قبل الغزو الاسباني، يحتفظون بقطعان اللاما في زرائب جماعية، ضمن اقتصاد شيوعي أيام حكم إمبراطورية الانكا، والرعاة البدو العرب بكل ما لديهم من قطعان في أفريقيا والجزيرة العربية، والفلاحون المعاصرون في جبال الألب السويسرية وفي بافاريا والتيرول، هؤلاء الذين يحافظون على أخلاقهم وعاداتهم التقليدية وسط عالم رأسمالي، والعبيد الرومان الذين كانوا يعيشون عيشة نصف بدائية حيث يحافظون على قطعان أسيادهم في «آفوليا»، والمزارعون الأرجنتيون المعاصرون الذين يربون أعدادا هائلة من القطعان ليرسلوها فيما بعد، إلى مسالخ اوهايو ومصانع التعليب فيها –كل هؤلاء هم نماذج على جماعات تمارس «تربية الماشية» غير أن كلا منهم يشكل نمطا مختلفا تماما، بالنسبة إلى شكل علاقات الإنتاج، ومستوى الحضارة. وأخيرا نلاحظ أن «الزراعة» تشمل عددا متنوعا من أنماط الاقتصاد ومستويات الحضارة يبتدئ بالمشاعية الهندية البدائية حتى الإقطاعية الحديثة، وبالاستغلالية ذات الحجم الصغير، حتى الأراضي الهائلة التي يملكها السادة البلطيين، وبالمزرعة الإنكليزية الصغيرة حتى المزارع الرومانية، وبالبستنة الصينية حتى المزارع البرازيلية والعمل الزراعي العبودي، وبأعمال نزع الأعشاب التي تمارسها النساء في هايتي، حتى مزارع أمريكا الشمالية التي تدار بالكهرباء وبقوة البخار.

الحق أن مكتشفات السيد غروس حول أهمية الإنتاج، لا تكشف لنا إلا عن لا إدراكه الغريب لما هو «الإنتاج» حقا. والحق أيضا أن ما قام ماركس وانجلز ضده بكل قوة، هو هذه «المادية» المبتذلة التي لا تنظر إلا إلى الشروط الطبيعية الخارجية للإنتاج والحضارة، وهي مادية يعتبر عالم الاجتماع الإنكليزي «باكلي» خير ممثليها. إن ما هو حاسم بالنسبة إلى العلاقات الاقتصادية والثقافية بين البشر، ليس المصدر الطبيعي الخارجي لغذائهم، بل العلاقات التي يقيمها البشر فيما بينهم خلال عملهم. والواقع أن علاقات الإنتاج اجتماعية تنضوي تحت لواء هذا السؤال: أي شكل للإنتاج يهيمن لدى شعب ما؟ والحقيقة أنه ليس بمقدورنا أن نفهم العلاقات العائلية، ومفاهيم الحق القانوني، والأفكار الدينية، وتطور الفنون لدى شعب ما، إلا حين نتمكن من إدراك أساس هذه السمة الجذرية للإنتاج. غير أنه من العسير جدا، على معظم المراقبين الأوربيين، التسلل إلى داخل العلاقات الاجتماعية التي تقوم داخل إنتاج شعب يقال أنه متوحش. فعلى عكس السيد غروس الذي يعتقد مسبقا أنه يفهم كل الأمور، حين يعرف فقط أن الانكا في البيرو كانوا من المزارعين، نعود إلى عالم جدي هو السير هنري مين الذي يكتب قائلا: «إن الخطأ الرئيسي الذي يقع فيه المراقب المباشر للحقائق الاجتماعية أو القضائية (الحقوقية) الأجنبية، يكمن في أنه يقارنها، بسرعة، بالحقائق المعروفة لديها، والتي تكون –ظاهريا- من نفس الطبيعة».

والرابط المشترك بين أشكال العائلة و«أشكال الإنتاج» المنظور إليها على هذا النحو، يقدم إلينا من قبل السيد غروس، على النحو التالي:

«عند المستوى الأكثر تدنيا، يحصل المرء على غذائه عن طريق القنص –بالمعنى العريض للكلمة- كما عن طريق جمع النباتات. وهذا الشكل البدائي للإنتاج، يترافق مع الشكل الأكثر بدائية لتقسيم العمل، أي التقسيم الفيزيولوجي للعمل بين الجنسين. ففيما يتولى الرجل الحصول على الأغذية الحيوانية، تولى المرأة جمع الغصون والثمار. وضمن هذه الشروط يلقى على الرجل، وبشكل دائم تقريبا، العبء الأكبر في الحياة الاقتصادية، وكنتيجة لهذا يرتدي الشكل البدائي للعائلة، في كل مكان طابعا بطريركيا (أبويا). ومهما تكن الأفكار المتعلقة بقرابة الدم، فإن الرجل هو –كأمر واقع- سيد ومالك نسائه وأطفاله، حتى من صلبه. انطلاقا من هذا المستوى المتدني، يمكن للإنتاج أن يتقدم ضمن اتجاهين، تبعا لسيطرة واحد من الاقتصاديين: الاقتصاد الأنثوي أو الاقتصاد الذكوري. والحقيقة أن الأوضاع الطبيعية التي تعيش المجموعة البدائية ضمنها هي التي تحول هذا الفرع أو ذاك لتجعله الجزع الرئيسي. فعندما يجبر مناخ البلد وأحواله الجغرافية على تشكيل احتياطي من المزروعات الضرورية، ومن ثم زراعتها، يتطور الاقتصاد الأنثوي وتتحول عملية جمع المزروعات شيئا فشيئا لتصبح عمل زرع للمزروعات. ومن هنا نجد أن المرأة هي التي تتولى هذه المهام لدى الشعوب البدائية الزراعية. وعلى هذا النحو يتحول ثقل الحياة الاقتصادية نحو المرأة، مما يجعلنا نجد في المجتمعات البدائية التي تعيش، بشكل أساسي، من الزراعة، شكل عائلة مطريركية (أمومية) أو على الأقل آثارا تدل على مثل هذا الشكل الذي تكون فيه المرأة، المعيل الأول للأسرة وسيدة أرض، في مركز العائلة. صحيح أن هذا التطور لم يؤد، إلا نادرا إلى مجتمع أمومي بالمعنى الضيق للكلمة، أي إلى سيطرة حقيقية تمارسها المرأة، ومثل هذا الوضع لا يوجد عادة إلا لدى المجموعات الاجتماعية التي تعيش في مأمن تام من أية هجمات يشنها عدو خارجي. أما في الحالات الأخرى كلها، فلقد استعاد الرجل، بوصفه حاميا للمجموعة، هيمنته التي كان قد فقدها بوصفه معيلا للعائلة. وعلى هذا الشكل تكونت مختلف أنواع العائلات التي كانت قائمة لدى معظم تلك الشعوب الزراعية، والتي تشكل حلا وسطا بين الاتجاه إلى المجتمع الأمومي والاتجاه إلى المجتمع الأبوي.

«ومع هذا فإن جزءا كبيرا من البشرية قد عرف تطورا من نوع آخر تماما. فشعوب الصيادين التي كانت تعيش في مناطق قليلة اتجاه إلى الزراعة، أو حيث كانت ألفنة DOMESTICATION بعض الحيوانات أمرا ممكنا ومربحا، لم تتطور باتجاه زراعة النباتات بل باتجاه تربية الحيوانات. بيد أن هذه التربية، التي نمت شيئا فشيئا انطلاقا من الصيد، هي منذ البدائية، واحدة من الأمور الخاصة بالرجل مثلها مثل الصيد. وعلى هذا النحو تدعمت هيمنة الرجل الاقتصادية، وهي هيمنة قائمة مسبقا، ووجدت تعبيرها المنطقي في واقع أن الشكل البطريركي (الأبوي) للعائلة يهيمن لدى كافة الشعوب التي تعيش أساسا بفضل تربية المواشي. أضف إلى هذا أن الموقع المهيمن للرجل في مجتمعات الرعب، قد ازداد تفاقما بسبب أن الشعوب الرعاة قد اضطرت، من جراء حفظ الحروب، إلى أن تتشكل في تنظيمات عسكرية ممركزة. ومن هنا أتى ذلك الشكل المتطرف من أشكال البطريركية، حيث لا يكون للمرأة أي حق، بل تعيش عبدة لرجل هو الزوج والسيد الذي يتمتع بقدرة استبدادية» [4].

إن المصائر التاريخية الغربية للعائلة البشرية، كما هي موصوفة ها هنا في تبعيتها إزاء أشكال الإنتاج، إنما تقودنا إلى الصورة التالية: عصر الصيد –العائلة الزوجية بهيمنة ذكورية، عصر الرعي- عائلة زوجية بهيمنة ذكورية متفاقمة، عصر الزراعية الدنيا- عائلة زوجية مع هيمنة للمرأة، تبعا لاختلاف الأماكن، ثم خضوع المزارعين للرعاة، وهنا أيضا نعود إلى العائلة الزوجية ذات الهيمنة الذكورية، ثم لتتويج كل هذا التطور: عصر الزراعة العليا –عائلة زوجية بهيمنة ذكورية. وهكذا كما نرى، ها هو السيد غروس يأخذ بعين الجدية نفيه لنظرية التطور الحديثة. فهو لا يرى أن ثمة تطورا في عملية تكون الخلية العائلية. والتاريخ، بالنسبة إليه يبدأ وينتهي، بعائلة زوجية ذات هيمنة ذكورية. وهو –أي غروس- حين ينظر إلى الأمر على هذا النحو –لا يهمه ابدأ واقع أنه بعد أن جهد ليفسر ولادة الأشكال العائلية انطلاقا من أشكال الإنتاج، يعود ليفترض مسبقا تكون العائلة كشيء معطى سلفا ومنجز، هو الشكل الحديث للعائلة، ويدخله دون أي تبديل أو تعديل في كافة أشكال الإنتاج. والحقيقية أن ما يلاحقه غروس عبر الحقب الزمنية، ليس «الخلايا العائلية»، بل –وبكل بساطة- العلاقات بين الجنسين. سيطرة للمرأة أو سيطرة للرجل- هاكم، تبعا لرأي غروس، بذرة الخلية العائلية التي يقصرها على دليل خارجي كان، وبكل ابتذال، قد ربطه بشكل الإنتاج المتعلق بنوعية الإنتاج: صيد، تربية ماشية أو زراعية.

إن السيد غروس أمين وصادق مع نفسه في تبسيطاته هذه. أما أن تكون «الهيمنة الذكورية» أو «الهيمنة الأنثوية» قادرة على استكمال عشرات الأشكال المختلفة للعائلة، أو أن يكون ثمة داخل مستوى حضارة «الصيادين»، مجال لاكتشاف عشرات الأنظمة المختلفة من أنظمة القرابة، فمسائل لا يفكر بها السيد غروس أبدا، تماما مثلما لا يفكر بقضية العلاقات اجتماعية داخل نوع إنتاج معين. وعلى هذا النحو نجد أن العلاقة المتبادلة بين أشكال العائلة وأشكال الإنتاج إنما تقودنا إلى «مادية» مغرقة في روحانيتها هي على النحو التالي: يصار إلى اعتبار الجنسين متنافسين في الأعمال. وأي من الجنسين يعيل العائلة، يكون هو ربها... هذا ما يراود ذهن السفسطائي، وما يراود ذهن قانون الأحوال الشخصية البرجوازي كذلك. ومن هذا كله نرى أن سوء حظ الجنس الأنثوي قد شاء لهذا الجنس أن يكون معيلا للأسرة سوى مرة واحدة في التاريخ: خلال عهد الزراعة الدنيا، بل وحتى في ذلك الحين اضطر الجنس الأنثوي إلى التخلي عن هيمنته ومواقعه للجنس الذكوري المحارب. والحقيقة أن تاريخ العائلة، تبعا لهذا المنطق، ما هو سوى تاريخ استعباد المرأة، ضمن كافة «أشكال الإنتاج» وبالرغم من كافة أشكال الإنتاج.

إن الرابط الوحيد بين أشكال العائلة وأشكال الاقتصاد، ليس في نهاية الأمر سوى الفارق الضئيل بين أشكال أكثر أو أقل قسوة، من أشكال الهيمنة الذكورية. ولكي نختم هذا كله نذكر بأن أول تعويض قدم إلى المرأة المستعبدة في تاريخ الحضارة البشرية، هو ذاك الذي قدمته الكنيسة المسيحية التي قالت بأنه إذا كانت أرض قد عرفت فوارق بين الجنسين، فإن السماء لن تعرف مثل هذه الفوارق. ويقول غروس: انطلاقا من هذا الاجتهاد، أعادت الكنيسة إلى المرأة كرامة ينبغي على تعسف الرجال أن ينحي أمامها» [5]. والواقع أن هذا ما يخلص إليه السيد غروس، حين يرمي مرساته أخيرا في مرفأ الكنيسة المسيحية بعد أن يكون قد تمشى فترة طويلة بين رحاب التاريخ الاقتصادي. وبما أن أشكال العائلة التي قادت علماء الاجتماع إلى «فرضيات غريبة»، يمكن فهمها بشكل مدهش للغاية لذا من السهل النظر إليها في، علاقتها مع أشكال الإنتاج»وعلى المؤمنين السلام!

في هذه الأثناء نجد أن الأكثر إثارة للدهشة، في تاريخ «أشكال العائلة» هذه، هو الطريقة التي تعالج بها شراكة القربى، أو العشيرة حسب تعبير غروس. لقد سبق لنا أن رأينا الدور الهام الذي تلعبه الجمعيات العائلية في الحياة الاجتماعية، خلال المراحل الأولى للحضارة. ولكن، بشكل خاص، منذ برزت أبحاث مورغان التي سجلت انعطافة تاريخية هامة، بتنا نعلم أن تلك الجمعيات كانت، قبل تشكل الدولة الجغرافية (القائمة على وحدة الأراضي)، كانت الشكل الخاص بالمجتمع البشري، وأنها حتى فترة طويلة جدا بعد ذلك، ظلت تشكل الوحدة الاقتصادية والجماعية الدينية. فكيف ترانا نحدد موضع التاريخ الغريب لـ«أشكال العائلية» كما جاء به غروس، بالنسبة إلى هذه الوقائع؟ مما لا شك فيه أنه ليس بوسع إنكار وجود العشائر لدى كافة الشعوب البدائية. ولكن بما أن وجود هذه العشائر يتناقض مع الصورة التي يقدمها عن العائلة الزوجية وعن سيطرة الملكية الخاصة، نراه يبذل كل جهده لتقليص أهميتها إلى الحد الأدنى، اللهم إلا في فترات الزراعة الدنيا. وهو يقول:«لقد ولدت سلطة العشيرة مع ولادة الاقتصاد الزراعي الأدنى، كذلك اختفت مع اختفاء هذا الاقتصاد: وهكذا نرى أن العشيرة لدى كافة المجتمعات الزراعية (ذات الاقتصاد الزراعي الأعلى)، أما أن تكون قد انهارت نهائيا، وأما أنها تعيش انهيارها» [6] ،وبهذا نرى أن غروس يبرز «سلطة العشيرة» باقتصادها الشيوعي في مرحلة من مراحل تاريخ الاقتصاد وتاريخ العائلة، ليعود ويلغيها من جديد بعد ذلك على الفور. فكيف، إذن، بوسعنا أن نفسر ولادة، ووجود، ووظائف العشائر خلال أحقاب تطور الحضارة قبل عصر الزراعة الدنيا، بينما «يؤكد» لنا غروس بأنه لم تكن للعشائر آنذاك أية وظيفة اقتصادية، أو أي مداول اجتماعي بالنسبة إلى العائلة الزوجية؟ وما هي، بشكل عام، تلك العشائر التي تعيش وجودها في الظل، وخلف العائلات الخاصة ذات الاقتصاد الخاصة، لدى شعوب الصيادين، كما لدى الرعاة؟ إنه، كما يبدو، سر خاص يمتلكه السيد غروس. وهذا السيد لا يبدي أدنى اهتمام بالتناقض الصارخ بين تاريخه الصغير، وبين جملة من الوقائع المعترف بها عالميا. يقول أن العشائر لم تحز على أهميتها إلا في عصر الزراعة الدنيا، غير أن العشائر ارتبطت في معظم الأحيان بعادات الثأر، وبالعبادة الدينية، وغالبا أيضا بمسألة تعيين حيوان طوطمي (حيوان له صفات القداسة)، إن كل هذه الأمور قديمة، بل هي أقدم من الزراعة، لذا ينبغي عليها، تبعا للنظرية الخاصة بالسيد غروس، أن تستخلص سلطتها من علاقات الإنتاج العائدة إلى مراحل بعيدة عنها بعد السماء عن الأرض. إن غروس يفسر وجود العشائر لدى المزارعين (في الاقتصاد الزراعي الأعلى) الجرمانيين والشلتيين والهنديبن، على أنه إرث من عصر الزراعة المنخفضة حيث تغوص جذور الشلل في اقتصاد ريفي أنثوي. غير أن الزراعة العليا لدى الشعوب المتمدنة، لا تنحدر من الزراعة الأنثوية القائمة على عمليات جمع المحاصيل، بل تنحدر من تربية المواشي، التي كان يمارسها الرجال، وحيث –حسب مال يقول غروس- لم يكن للعشيرة أية أهمية بالنسبة إلى الوضع في الاستغلالية العائلية البطريركية. وتبعا لما يقوله غروس أيضا نجد أن التنظيم في عشائر، لم تكن له أية أهمية لدى الرعاة البدو، وأن هذه العشائر –لم تحصل على السلطة إلا لفترة يسيرة من الزمن حين ثبتت الجماعة في أرض معينة وتحولت إلى الزراعة.

غير أن أفضل الأخصائيين في الحضارات الزراعية يؤكدون لنا على أن التطور الحقيقي إنما تم ضمن اتجاه معاكس: فطالما ظل الرعاة يعيشون حياة بدوية، كانت التنظيمات العشائرية (المستندة على أساس القرابة) تتمتع بالجزء الأكبر من السلطة، ولكن مع بدء حياة الاستقرار الزراعية، بدأ تلاحم العشيرة يتفكك ويتراجع لمصلحة التجمع المحلي للمزارعين الذين كانت مصالحهم المشتركة أكثر أهمية لديهم من تقاليد روابط الدم، وهكذا تحولت الجماعة العائلية، إلى جماعة جغرافية (وحدة الجوار). وهذا هو في لواقع رأي لودفيغ فون مورر، وكولفالفسكي وهنري مين ولافلي... وفي زماننا الراهن هذا، يسعى كوفمان للبرهنة على وجود نفس هذه الظاهرة لدى القرخيزيين والياكوتيين في أواسط آسيا.

ولنشر أخيرا إلى أن غروس يقر بنفسه أن ليس لديه أي تفسير يقدمه للظواهر الهامة التي تتحدر من مجال العلاقات العائلية البدائية، مثل المطريركية (الأمومية)، وأنه سيكتفي، وهو يهز كتفيه، باعتبار الحكم النسائي هذا بمثابة «أغرب الأمور النادرة التي يواجهها علم الاجتماع». وهو يصل إلى حد التأكيد، المذهل، بأن أفكار رابطة الدم، لم يكن لها لدى الاستراليين، أي تأثير على الأنظمة العائلية، وأنه لم تكن أية آثار لوجود العشائر لدى البيروفيين القدماء، وهو يحكم على حضارة الجرمانيين الزراعية. انطلاقا من وثائق لافلي القديمة والقابلة للنقاش، ونراه أخيرا يتبنى، مثلا، ذلك التأكيد الخرافي الذي جاء به لافلي ويقول بأن «الجماعة القروية الروسية ما تزال حتى أيامنا هذه أيضا، تشكل لدى الـ 35 مليون نسمة الذين تضمهم روسيا الكبرى، تجمعا عشائريا قائما على أساس قرابة الدم، أي أنهم جميعا يشكلون «جماعة عائلية» وهو أمر لا يمكننا أن نصدقه إلا إذا آمنا، مثلا، بأن كافة سكان برلين يشكلون، حتى أيامنا هذه، جماعة عائلية كبيرة. والواقع أن كل هذا يدفع بالسيد غروس إلى وصف مورغان «والد الكنيسة الاشتراكية-الديموقراطية الألمانية» بأنه كلب هالك. والواقع أن الأمثلة الواردة أعلاه حول الطريقة التي يلجأ إليها غروس لمعالجة أشكال العائلة والعشيرة، تعطينا فكرة عن طريقته في معالجة «الأشكال الاقتصادية». والحقيقة أن كل محاججته التي يسوقها ضد الشيوعية البدائية، ترتكز على سلسلة من «الصحيح أن...» و«... اللكن»، صحيح أنه يخضع أمام الوقائع التي من المستحيل دحضها، غير أنه يعارضها بأخرى، بشكل يقلص من أهمية الأشياء التي لا تناسبه وتؤدي إلى تضخيم ما يناسبه، وأخيرا إلى الحصول على النتائج التي ينشدها.

وغروس يورد بنفسه، بصدد صيادي عصر الصيد الأدنى ما يلي: «أن الملكية الفردية، التي تشمل في كافة المجتمعات الدنيا، الأغراض المنقولة، ليست لها ها هنا أية أهمية، غير أن الجزء الأكثر أهمية من الملكية، وهو كلب الصيد، فإنه يخص الجماعة كلها بشكل مشترك، أي أن كل رجال القبيلة يمتلكونه. وكنتيجة لهذه يمكننا القول بأن الغنائم نفسها كانت كذلك توزع بين كافة أفراد الجماعة. وهذا، على سبيل المثال ما ينقله العلماء بصدد جماعات البوتوكودوس. وثمة وجود لمثل هذه العادات في بعض أجزاء أستراليا. إن كافة أعضاء الجماعة البدائية كانوا، ولا يزالون فقراء بالتساوي. وبما أنه ليس ثمة أية فوارق هامة في نسبة الثراء، نجد أن السبب الرئيسي لتشكيل فرق وشيع متميزة عن بعضها، لا وجود له. فبشكل عام، يتمتع كافة الرجال البالغين داخل قبيلة ما... بنفس الحقوق» (ص 55-56) وعلى هذا النحو نجد أن «الانتماء إلى القبيلة يكون ذا نفوذ هام على حياة الصياد. فهذا الانتماء هو الذي يعطيه الحق في استخدام كلب الصيد، كما يعطيه حق (ويفرض عليه واجب) الحماية والثأر» (ص 64). وكذلك نلاحظ أيضا أن غروس يقر بإمكانية وجود شيوعية عشائرية، لدى الصيادين الهنود في كاليفورنيا.

ومع هذا فإن العلاقات العشائرية هنا ضعيفة للغاية، إذ ليست هناك مشاعية اقتصادية. «...فنمط إنتاج الصيادين، نمط فردي، بحيث أن تلاحم العشيرة لا يمكنه أن يصمد طويلا أمام الأطماع». كذلك نجد، لدى الاستراليين «أن الصيد وجني المزروعات في الأراضي المشتركة، لا يمارسان، عامة، بشكل مشترك، إذ أن لكل عائلة منطقة استغلال خاصة بها». وبشكل عام نجد «أن شبح المواد الغذائية، لا يترك أي مجال لتلاحم الجماعة الدائم... بل هو يؤدي إلى تشتتها» (ص63).

والآن لنيمم وجوهنا شطر صيادي العصور الأعلى. صحيح «أن الأرض لدى الصيادين الأعلى تكون أيضا، وبشكل عامة، ملكية جماعية للقبيلة أو للعشيرة» (ص 69) وصحيح، أيضا أننا عند هذا المستوى نعثر على منازل جماعية، أو على عشائر تعيش عيشة مشتركة (ص 84)، وصحيح أن الكتاب يعلمنا بأن «حفر الآبار، وأشغال الإنتاج الهامة التي شاهدها ماكنزي في أنهار الهايدا، والتي ينبغي، تبعا لتقديراته أن تكون من عمل القبيلة كلها، كانت خاضعة لرقابة الزعيم، الذي لا يمكن لأي شخص أن يصطاد فيها إلا بإذن منه. إذن فهذه أشغال والآبار كانت، بكل وضوح، معتبرة كملكية تخص مجموع الجماعة القروية، التي تملك أيضا –دون قسمة- المياه المليئة بالأسماك والأراضي الصالحة لقنص الحيوانات» (ص 87).

كل هذا صحيح، ولكن «الوسائل المنقولة حازت هنا على أهمية جعلت ثمة إمكانية لقيام تفاوت في الثروة، بالرغم من المساواة في ملكية الأرض المشتركة» (ص 69) ثم «بشكل عام، وبصدد الغذاء، تبعا لما يمكننا أن نصدره من أحكام، لا يمكن أن يعتبر ملكية مشتركة، وهو في هذا ذو وضع يشابه وضع الوسائل المنقولة. ولهذا لا يمكننا وصف العشائر العائلية بأنها جماعات اقتصادية، إلا بمعنى محصور جدا للكلمة» (ص 88).

والآن لنستدر صوب مستوى من الحضارة أكثر علوا، مستوى حضارة الرعاة البدو. فبصدد هؤلاء أيضا، يورد غروس ما يلي: صحيح « أنه حتى البدو الأكثر تنقلا لا يتجاوزون حدودا جغرافية معينة، فهم يتحركون داخل أراض محددة تعتبر ملكية خاصة بقبيلتهم، وهي غالبا ما تكون مقتسمة بين مختلف العائلات والعشائر». وبعد ذلك يقول «تعتبر الأرض، في كل الحيز الخاص بالرعي تقريبا، ملكية مشتركة للقبيلة أو العشيرة» (ص 91) «وصحيح أن الأرض هي ملك مشترك لكافة أعضاء العشيرة، وهي تقسم –انطلاقا من هذا الوضع- على يد العشيرة أو الزعيم، بين مختلف العائلات التي تستغلها» (ص 128)

ولكن «الأرض ليست أغلى الممتلكات التي يمتلكها البدوي. فالشيء الأثمن هو القطيع، وهذا القطيع يعتبر على الدوام (!) ملكية خاصة بالعائلات الفردية. ولذا لم تصبح عشيرة الرعاة على الإطلاق (!) جماعة اقتصادية، وهي لم تعرف أية مشاعية في الملكية».

وبعد هذا يأتي مزارعو المستوى الأدنى. فهنا، صحيح، أن العشيرة اعتبرت للمرة الأولى، مشاعية شيوعية تماما. ولكن –وهنا أيضا ثمة «ولكن» تأتي بسرعة -ولكن أيضا ثمة الصناعة التي تأتي للتقليل من شأن المساواة الاجتماعية» (يتحدث غروس هنا عن الصناعة، ولكن من الواضح أنه يعني بهذا إنتاج البضائع، وهو إنتاج يبدو أنه لا يقدر على التمييز بينه وبين العمل الصناعي) وهذه «الصناعة» تخلق ملكية خاصة منقولة تكون ذات أفضلية على الملكية الجماعية للأرض، بل وتدمرها (ص 136-137). إذن بالرغم من مشاعية الأرض، يفيدنا غروس بأن «التمييز بين الغني والفقير موجود ها هنا» بحيث أن الشيوعية لا تعود أكثر من فترة استراحة قصيرة تتخلل التاريخ الاقتصادي، هذا التاريخ الذي يبدأ بالملكية الخاصة... لكي ينتهي أيضا بالملكية الخاصة.

ولكن مهلا... ما يزال ينبغي على عالمنا الفذ أن يبرهن على هذا!


الهوامش

[1].لقد أخضع العالم "كونو" في مؤلفه الذي صدر عام 1894 بعنوان "تنظيمات القرابة لدى زنوج المناطق الجنوبية"، أخضع نظريات شترايكة ويوسترمارك، لدراسة عميقة وقاسية، لم يتمكن السيدان المذكوران من الرد عليها حتى الآن. لكن هذا لم يمنع علماء اجتماع أكثر حداثة، مثل غروسة، من الثناء على الأستاذين بوصفهما ثقة الثقاة وبوصفهما العالمين الذين ألغيا أفكار مورجان. لقد حدث لنقاد مورغان ما حدث لنقاد ماركس: إذ حسبهم أن تخدم أفكارهم ضد الثوريين المكروهين، وأن تحل النوايا الطيبة لديهم مكان النتائج العلمية. ملاحظة من ر. ل.

[2]. كتب ماير أيضا في مقدمته 1907 لتاريخ الزمن القديم (ص 67) يقول: إن الفرضية التي وضعها هانس والمقبولة عامة. والقائلة بأن الملكية الخاصة للأرض سبقتها، عالميا، ملكية عامة مع توزيع دوري، كالذين يصفهما سزار وتاسيتوس لدى الجرمان، هذه الفرضية وجدت أخيرا من يعارضها على أي حال، نجد أن "المير" الروسي، لا يعود إلى أبعد من القرن السابع عشر، ونلاحظ أن ماير يتبنى هنا هذا التأكيد مستعيرا إياه عن العالم الروسي تشيتشيرين.

[3]. ملاحظة من ر. ل.: تجميع مواد و"وقائع ملحوظة" مثل جمعية السياسة الاجتماعية، ودراسات.. الخ.

[4]. غروس: بدايات الفن (ص 34).

[5]. غروس: أشكال العائلة ص 207 ـ 215 ـ 238.

[6]. غروس: المصدر السابق نفس الصفحات.



أرشيف روزا لوكسمبورغ