روزا لوكسمبورغ

مقدمة في الاقتصاد السياسي

V. العمل المأجور

5.3

تكمن الطريقة الثانية التي يلجأ إليها الرأسمالي لزيادة فائض القيمة في تخفيض الأجور. فالأجر، كما هو الحال يوم العمل ليست له أية حدود معينة. وحين نتحدث عن الأجر ينبغي علينا قبل أي شيء آخر أن نميز بين المال الذي يقبضه العامل من المقاول وبين كمية وسائل العيش التي يتلقاها مقابل هذا المال. فإن نخن علمنا أن العامل يتلقى أجرا قيمته ماركان (2 مارك) يوميا لا نكون قد علمنا أي شيء على الإطلاق. وذلك لأن ما يشتريه العامل بالماركين في الفترات التي تكون فيها الحياة غالية، يقل كثيرا عما يمكن له أن يشتريه في الفترات التي تكون فيه الحياة رخيصة، وفي بلد ما توازي قطعة الماركين مستوى حياة يختلف عن المستوى الذي توازيه فيه هذه السلعة في بلد آخر، بل ويصدق الأمر في فارق يقوم بين منطقة وأخرى في البلد نفسه، وعلى هذا النحو يمكن للعامل أن يتلقى في مرة من المرات أجرا يفوق ما كان يتلقاه في مرة سابقة مثلا دون أن يعني هذا أنه يعيش الآن في شكل أفضل، هذا إذا لم يكن مستوى حياته الجديد أكثر سوءا. إن الأجر الحقيقي هو مجموع وسائل العيش التي يحصل عليها العامل بينما لا يكون الأجر النقدي سوى أجرٍ اسمي. فإذا لم يكن الأجر سوى التعبير النقدي عن قيمة قوة العمل، فإن هذه القيمة تتمثل في كمية العمل المستخدم لإنتاج وسائل العيش الضرورية للعامل. فما هي «وسائل العيش الضرورية»؟ بشكل مستقل عن الفوارق الفردية بين عامل وآخر، وهي فوارق لا تلعب أي دور، نجد أن الفوارق في مستوى معيشة الطبقة العاملة في مختلف البلدان وفي مختلف الأزمان تظهر لنا أن المفهوم الذي أمامنا مفهوم قابل للتغير ومرن. فالعامل الإنكليزي المرفه يعتبر أن تناول شريحة اللحم بشكل يومي أمر ضروري للحياة، أما الحمال الصيني فيمكنه أن يعيش على قبضة من الرز. وبالنظر إلى الطابع المرن لمفهوم «وسائل العيش الضرورية»، يدور على الدوام صراع شبيه بالصراع المتعلق بطول يوم العمل، بين الرأسمالي والعمال يتعلق بحجم الأجر. فالرأسمالي ينطلق من وجهة نظر كمشتر للسلع ويعلن قائلا: «صحيح أنه ينبغي عليّ، مثل كل مشتر نزيه، أن ادفع ثمن سلعة «قوة العمل» بما يتلاءم مع قيمتها، ولكن ما هي قيمة قوة العمل؟ حسنا! إنني أعطي عاملي بقدر ما يحتاج لعيشه، وما هو ضروري بصورة مطلقة لإقامة أود الإنسان أمر يحدده العلم والطب أولا ثم التجربة الكونية ثانيا. ومن البديهي القول أنني أعطي هذا الحد الأدنى الضروري، وذلك لأنني لو أعطيت قرشا زيادة، لن أكون مشتريا نزيها، بل إنسانا أحمق، أبله يقدم من جيبه هدايا لذاك الذي منه اشترى البضاعة، كذلك أنا لا أقدم قرشا هدية للاسكافي الذي أتعامل معه أو لبائع الستائر، بل إنني أحاول دائما أن اشتري بضاعتهما بأرخص ما يمكن. كذلك أسعى دائما لشراء قوة العمل بأرخص ما يمكن ولسوف أكون عادلا تمام العدل إن أعطيت عاملي الحد الأدنى الذي به يعتاش».

من وجهة نظر الإنتاج السلعي، من المؤكد أن الرأسمالي محق تماما فيما يقوله. والعامل ليس بأقل صوابا منه حين يجيبه كبائع للسلعة بقوله: «أنا ليس في استطاعتي أن أطالب بما يزيد عن القيمة الفعلية لسلعة «قوة العمل» التي أملكها. لهذا أطالب بأن تعطيني القيمة الحقيقية لسلعتي بمعنى أنني لا أرغب في الحصول على ما يزيد عن وسائل العيش الضرورية لي. كم حجم تلك الوسائل وما هي؟ إنك تقول أن الطب والتجربة يجيبان على هذا السؤال بتأكيدها على الحد الأدنى الذي يحتاجه الإنسان لكي يعيش. إذن فواضح أنك تقصد «بوسائل العيش الضرورية» الضرورة الفيزيولوجية المطلقة. لكن هذا أمر يتناقض مع قانون تبادل السلع. وذلك لأنك تعرف خيرا مني أن ما يحدد قيمه سلعة في السوق هو العمل الضروري اجتماعيا لإنتاجها. لو حمل إليك إسكافيّك زوجا من الأحذية وطلب فيها عشرين ماركا لأنه اشتغل عليها أربعة أيام، ستقول له: «لقد اشتريت هذا الحذاء نفسه من المصنع بـ 12 مارك لأنه يصنع هناك في يوم واحد بواسطة الآلات. أي أن عملك الذي استغرق أربعة أيام لم يكن ضروريا اجتماعيا لأن إنتاج الأحذية آليا صار رائجا-، حتى ولو كان ضروريا لك أنت الذي لا تملك الآلات. لا يمكنني أن أفعل أي شيء لأجلك ولن أدفع لك سوى العمل الضروري اجتماعيا أي 12 مارك. إنك تفعل هذا الأمر بالنسبة لشراء الأحذية، لذا يتوجب عليك أن تدفع لي النفقات الضرورية اجتماعيا لإعالة قوة عملي حين تشتريه. إنه ضروري لعيشي اجتماعيا كل ما يعتبر ضروريا بالنسبة إلى رجل ينتمي لطبقتي في هذا البلد رقي هذا العصر. باختصار أنت لا ينبغي عليك أن تعطيني فقط الحد الأدنى الضروري فيزيولوجيا، مما يبقيني على قيد الحياة مثل حيوان وحسب، بل ينبغي عليك أن تعطيني الحد الأدنى الساري اجتماعيا، والذي يضمن لي مستوى حياة عادي. فلو فعلت هذا ستكون مشتريا نزيها دفع القيمة الحقيقية للسلعة وإلا ستكون قد اشتريتها بما يقل عن قيمتها».

وهكذا نرى، أن العامل، من وجهة نظر سلعية بحتة، محق فيما بقوله بقدر ما الرأسمالي محق. لكنه غير قادر على فرض وجهة النظر هذه إلا على المدى الطويل، وذلك لأنه لا يمكن له أن يفرضها إلا كطبقة اجتماعية، أي عبر الجماعة، وعبر التنظيم، فمع تشكل النقابات والحزب العمالي فقط، سيكون بوسع الأجير أن يبدو في فرض بيع قوة عمله بقيمتها الحقيقية، أي فرض مستوى حياته كضرورة اجتماعية. قبل ظهور النقابات في بلد ما وفي فرع ما من فروع النشاط الاقتصادي، كان العامل الحاسم في تحديد الأجور اتجاه الرأسماليين لتخفيض حجم وسائل العيش الضرورية فيزيولوجيا، أي حيوانيا، بمعنى اتجاههم لدفع قيمة لقوة العمل تقل عن قيمتها الحقيقية بكثير. والأزمان التي لم تكن فيها التحالفات والمنظمات العمالية قادرة بعد على مقاومة هيمنة الرأسمال الجشعة، أدت كذلك إلى تدهور بربري لأوضاع الطبقة العاملة سواء فيما يتعلق بالأجور أو بزمن العمل… وهذا كله كان قبل صدور التشريعات الصناعية. إنها حملة صليبية قام بها الرأسمال ضد كل آثار الرفاهية والراحة التي كانت قد بقيت للعمال من أيام الحرفية والاقتصاد الزراعي البسيط، وكانت تلك الحملة عبارة عن جهد يهدف إلى تقليص استهلاك العامل ليقتصر على مجرد امتصاصٍ للحد الأدنى من الغذاء، تماما كما يحدث حين تطعم الماشية أو تزيت الآلات. والعمال الذين كانوا يعيشون في أخفض المستويات ولا تُسد سوى أقل احتياجاتهم كانوا يُذكرون كنموذجٍ أمام العمال «المدللين» أكثر من اللازم. إن هذه الحملة ضد مستوى حياة العمال بدأت في إنكلترا، مثلما كان حال الرأسمالية نفسها. وفي القرن الثامن عشر قال الكاتب الإنكليزي: «وماذا لو ننظر إلى الكمية المذهلة من الأشياء التافهة التي يستهلكها عمال مصانعنا: المسكرات، البن، الشاي، السكر، الفواكه المثيرة، البيرة القوية، الأقمشة المطّبعة، التبغ الخ». ومع مثل هذا القول كان العمال الفرنسيون والهولنديون والألمان يُذكرون أمام العمال الإنكليز كنموذج على التواضع. وعن هذا الوضع كتب صاحب مصنع إنكليزي يقول: «إن العمل هو أرخص في فرنسا منه في إنكلترا: ولأن البائسين (وهو الاسم الذي كان يطلق على العمال) الفرنسيين يعملون بجهد لكنهم متواضعون في طعامهم ولباسهم، فهم يكتفون في أعلب الأحيان بتناول الخبز والفواكه والأعشاب والسمك المجفف، ونادرا ما يأكلون اللحم، ويكتفون بالقليل حين يكون القمح غاليا».

وعند بداية القرن التاسع عشر وضع أمريكي هو الكونت رامغو رد كتابا أسماه «كتاب الطبخ للعمال» وملأه بوصفات تجعل الغذاء أرخص. وهاكم وصفة منتزعة من ذاك الكتاب الشهير الذي استقبل استقبالا طيبا من قبل برجوازيي عدد من البلدان: «5 ليبرات من الشعير، 5 ليبرات من الذرة، 30 جزء من الليبرة من سمك الرنكة، عشرة أجزاء من الملح، 10 أجزاء من الخل، 20 جزء من البهار والأعشاب، المجموع 2,08 مارك- وهي مواد تعطي حساء يكفي 64 شخصا، بل ويمكن تخفيض كلفة الشخص الواحد 3 أجزاء حسب معدل أسعار الحبوب». مما لاشك فيه أن عمال مناجم أمريكا الجنوبية يعيشون بفضل أقسى أنواع العمل في العالم، إذ يقوم عملهم في نقل بين 90 و100 كلغ من المعادن يوميا على أكتافهم، على مسافة من عمق الأرض حتى سطحها تصل إلى 450 قدما، لكنهم مع هذا يعيشون كما يقول جوستوس ليبنغ بفضل الخبز والفول وحدهما. هم أنفسهم يفضلون تناول الخبز وحده، لكن أسيادهم اكتشفوا بأنهم يعملون بشكل أبطأ لو تناولوا الخبز وحده، فعمدوا إلى معاملتهم معاملة الأحصنة وأجبروهم على تناول الفول، لأن الفول يساهم في تكوين العظام بشكل أفضل من الخبز. في فرنسا كانت أول ثورة سببها الجوع في العام 1831 قام بها عمال النسيج في ليون، ثم في عهد الإمبراطورية الثانية حين دخلت المكننة فرنسا بدأ الرأسمال في سلوك أبشع السبل لتخفيض الأجور، حيث عمد المقاولون إلى ترك المدن والتوجه إلى الأرياف طمعا في الحصول على أيد عاملة أرخص. وهم ذهبوا إلى أبعد من هذا بتشغيلهم النساء ومقابل أجر يومي للمرأة لا يزيد عن قروش قليلة. لكن تلك الأوقات السعيدة لم تدم فترة طويلة، وذلك لأن مثل تلك الأجور لم تكن لتسمح حتى بالعيش الحيواني. أما في ألماني فإن الرأسمال أوجد شروطا مشابهة في مصانع النسيج في البداية حيث أدت الأجور التي خفضت لما دون الحد الأدنى الفيزيولوجي أدت في أربعينات القرن التاسع عشر إلى قيام ثورات قام بها عمال النسيج في سيليزيا وبوهيميا. اليوم نجد أن الحد الأدنى الحيواني يشكل قاعدة للأجور في أي مكان لا تمارس فيه النقابات تحركها في مجال مستوى الحياة كما هو الحال لدى العمال الزراعيين في ألمانيا وفي صناعة الثياب وفي مختلف فروع الصناعات المنزلية.




أرشيف روزا لوكسمبورغ