روزا لوكسمبورغ

مقدمة في الاقتصاد السياسي

V. العمل المأجور

5.5

لقد درسنا حتى الآن مستوى الحياة الذي يوفرها الاقتصاد السلعي الرأسمالي للطبقة العاملة ولمختلف شرائحها. لكننا لا نعرف بعد أي شيء محدد حول علاقات مستوى حياة العمال هذا بالثروة الاجتماعي في مجموعها. فأحيانا يمكن للعمال أن يحوزوا على كمية أكبر من وسائل العيش، على غذاء أوفر، وعلى ملابس أفضل مما كان في السابق، فإذا كانت ثروة الطبقات الأخرى قد زادت أيضا بشكل أكثر تسارعا، فمعنى هذا أن حصة العمال من الناتج الاجتماعي قد تقلصت. فالواقع أن مستوى حياةالعمال قد يرتفع في المطلق وينخفض نسبيا بالمقارنة مع الطبقات الأخرى. فمستوى حياة كل إنسان وكل طبقة لا يمكن الحكم عليه حكما صحيحا إلا إذا نظر إليه بالنسبة إلى الوضع في الفترة المعينة وبالنسبة إلى وضع الشرائح الأخرى في المجتمع نفسه. فأمير قبيلة زنجية بدائية نصف متوحشة أو بربرية في أفريقيا قد يكون له مستوى حياة أكثر انخفاضا أي منزلا أكثر بساطة وثياب أقل جودة وأغذية أقل فائدة مما يحصل عليه العامل المشتغل في مصنع متوسط في ألماني. ومع هذا فإن هذا الأمير يعيش عيشة «أميرية» بالمقارنة مع وسائل ومتطلبات قبيلته، بينما يعيش العامل الألماني عيشة بائسة بالمقارنة مع الترف الذي تعيشه البرجوازية الثرية في بلده، ومع متطلبات الحياة في هذا البلد. إذن من أجل الحكم حكما صحيحا على وضع العمال في المجتمع الراهن من الضروري عدم الاكتفاء بدراسة الأجر المطلق، أي حجم الأجر، بل ويجب دراسة الأجر النسبي أي الحصة التي يمثلها الأجر ضمن إطار المنتوج الكلي لعمل العامل. لقد افترضنا في المثل الذي أعطيناه أعلاه أن على العامل، خلال يوم عمل يتألف من 11 ساعة أن يستعيد أجره، أي المبلغ الذي يكفي لإعالته، خلال أول 6 ساعات عمل، ومن ثم يخلق مجانا خلال الساعات الخمس التالية فائض قيمة للرأسمالي. في هذا المثل، اتفقنا على إنتاج وسائل العيش يكلف العامل 6 ساعات عمل. ولقد رأينا كيف أن الرأسمالية تسعى وبكل الوسائل لتخفيض مستوى حياة العامل من أجل إحداث أكبر زيادة ممكنة في حجم العمل غير المدفوع. أي فائض القيمة. ولنفترض هنا أن مستوى حياة العامل لا يتغير أبدا وأن هذا العامل قادر على الحصول دائما على نفس كمية الغذاء واللباس والأثاث الخ. ولنفترض أن الأجر مأخوذا بشكل مطلق لا ينخفض أبدا. فإذا حدث مع هذا أن إنتاج وسائل العيش هذه قد صار أرخص كلفة بفضل تقدم التقنية وصار يتطلب زمنا أقل، سيكون العامل بحاجة إلى فترة أقل من أجل استعادة أجره، ولنفترض أن كمية الغذاء واللباس والأثاث التي يحتاجها العامل يوميا تتطلب 5 ساعات عمل بدلا من 6 ففي يوم عمل من 11 ساعة لن يشتغل العامل 6 ساعات بل 5 ساعات فقط للتعويض على أجره، وسيبقى 6 ساعات للقيام بعمل غير مدفوع أي لخلق فائض قيمة للرأسمالي. إن حصة الإنتاج التي ينالها العامل انخفضت الآن بنسبة السدس. أما حصة الرأسمالي فإنها زادت بنسبة الخمس، بيد أن الأجر المطلق لم ينخفض أبدا، بل وقد يحدث أحيانا أن يرتفع مستوى حياة العامل، أي أن يرتفع أجره المطلق بنسبة 10% مثلا، ولا ينطبق هذا فقط على أجره النقدي بل على وسائل العيش الحقيقية. فإذا زادت إنتاجية العمل في القوت نفسه أو بعد فترة بنسبة 15%، تكون حصة الإنتاج التي نالها العامل، أي أجره النسبي قد انخفضت، رغم أن أجره الحقيقي قد ارتفع. إذن فإن حصة الإنتاج التي ينالها العامل ترتبط بإنتاجية العمل. وكلما كان حجم العمل المطلوب لإنتاج وسائل عيش العامل أكثر تدنيا. كلما انخفض أجره النسبي. فإذا كانت القمصان والأحذية والقبعات التي يرتديها، تصنع خلال وقت أقل بفضل تقدم الصناعة، يكون في امكانه الحصول على نفس الكمية من القمصان ومن الأحذية ومن القبعات التي كان يحصل عليها في السابق أي أنه يتلقى على أي حال قسطا أكثر ضآلة في الثروة الاجتماعية، ومن إجمالي العمل الاجتماعي. إن جميع المنتجات والمواد الأولية الممكنة تدخل بكمية معينة في الاستهلاك اليومي للعامل. فليس فقط إنتاج القمصان هو الذي يجعل إعالة العامل أرخص كلفة، بل هناك أيضا إنتاج القطن الذي يوفر الأقمشة للقمصان، وصناعة الآلات التي تنتج آلات الخياطة وصناعة الخيطان التي تنتج الخيطان وتقدم صناعة الخبز ليس هو وحدة ما يجعل إعالة العامل أرخص، بل أن هناك أيضا الزراعة الأمريكية التي توفر الحبوب وتطور السكك الحديدية والملاحة التجارية التي تنقل الحبوب إلى أوربا الخ. إن كل تطور يصيب الصناعة وكل زيادة في إنتاجية العمل الإنساني تجعل إعالة العمال تتطلب عملا أقل وأقل. إن على العامل أن يخصص حصة تتناقص دائما من يوم عمله للتعويض على أجره، وحصة تتزايد دائما للعمل غير المدفوع أي لخلق فائض القيمة للرأسمالي.

بيد أن التقدم المستمر والدائب للتقنية يشكل ضرورة حيوية بالنسبة للرأسماليين. والتنافس بين المقاولين الأفراد يرغم كل واحد من بينهم على بيع منتوجاته بأرخص ما يمكن، وذلك عبر توفير الحد الأقصى من العمل البشري. فإذا أدخل رأسمالي في مصنعه تحسينا جديدا، من الواضح أن المنافسة سترغم المقاولين الآخرين المشتغلين في نفس الفرع على تحسين تقنياتهم لكي لا يمّحوا من السوق. ويتم التعبير عن هذا الأمر خارجيا عبر إدخال المكننة بديلا للعمل اليدوي وعبر استحضار آلات جديدة أكثر تطورا بدلا من الآلات القديمة الموجودة. فالاختراعات التقنية أضحت الخبز اليومي في كل مجالات الإنتاج. إن الانقلاب التقني سوء في الإنتاج نفسه أو في وسائل النقل، صار ظاهرة دائمة، وقانونا حيويا من قوانين الإنتاج السلعي الرأسمالي. وكل تقدم في إنتاجية العمل يتبدى في انخفاض كمية العمل الضروري لإعالة العامل. والإنتاج الرأسمالي لا يمكنه أن يخطو أية خطوة إلى الأمام إن لم يقلص من حصة العمال في المنتوج الاجتماعي.

ولدى ظهور كل اختراع تقني جديد ولدى كل تحسن يطرأ على الآلات، ولدى كل إدخال جديد للبخار والكهرباء في الصناعة وفي النقل من الواضح أن حصة العامل من الإنتاج تتضاءل بينما تكبر حصة الرأسمالي. وعلى هذا ينخفض الأجر النسبي أكثر وأكثر انخفاضا لا يقاوم ولا يهدأ بينما يزيد فائض القيمة، أي الثروة غير المدفوعة المنتزعة من العامل على يد الرأسماليين.

وها نحن نرى من جديد هنا فارقا صارخا بين الإنتاج السلعي الرأسمالي وبين كافة الأشكال الاقتصادية السابقة. ففي المجتمع المشاعي البدائي كان المنتوج يقسم بشكل مباشر بعد الإنتاج وبطريقة متساوية، بين كل العاملين أي بين كل أعضاء المجتمع لأن ليس ثمة أي عاطل هنا من الناحية العملية. في مجتمع القنانة ليس هناك مساواة، لكن الأمر المحدّد هو استغلال الذين يعملون للذين لا يعملون. ومع هذا لا يتم هنا تحديد حصة أولئك الذين يعملون، أي الأقنان، في ثمار عملهم، بل تحدد حصة المستغل أي السيد الإقطاعي التي يحصل عليها على شكل جزيات وأعشار محددة يتلقاها من الفلاحين أما ما يتبقى على شكل زمن عمل وعلى شكل إنتاج فهو حصة الفلاح بشكل جعل هذا الفلاح، وقبل التفكك الكبير للقنانة، حائزا إلى حد ما على إمكانية زيادة حصته الخاصة عبر مضاعفة جهوده. صحيح أن حصة الفلاح تناقصت خلال العصور الوسطى حيث صار النبلاء والكنيسة يزيدون في طلبهم للجزيات والأعشار. ولكن كانت هناك على الدوام قواعد محددة، قد تكون محددة بشكل عشوائي لكنها قواعد مرئية حددها البشر حتى ولو كانوا بشرا غير إنسانيين، هدفها تحديد حصة القن وحصة سيده ومستغلة من الإنتاج. وعلى هذا النحو كان فلاح القرون الوسطى يرى ويستشعر جيدا حين تُلقى عليه أعباء كثيرة بينما تتضاءل فعلا حيثما كان الأمر ممكنا، على شكل صراع مفتوح بين الفلاح المستغل وبين من يقلص من حصته في منتوج عمله. في بعض الأوضاع كان هذا الصراع يتتوج بالنجاح: فتجربة البرجوازية المدنية لم تتأت إلا عن نضال الحرفيين الذين كانوا في الأصل أقنانا، من أجل التخلص قليلا فقليلا من كل أنواع الجزيات والأعشار المتزايدة في العهد الإقطاعي، ولقد انتهى بهم الأمر إلى تحقيق الظفر في الصراع المفتوح- وكان الظفر متمثلا في الحرية الشخصية الشاملة للملكية[1] .

في النظام القائم على الأجر، ليست هناك تحديدات تشريعية أو قائمة على العرف ولا حتى تحديدات تعسفية تحدد حصة العامل من إنتاجه. فهذه الحصة تحددها درجة إنتاجية العمل ومستوى التقنية. وليس تعسف المستغلين بل تقدم التقنية هو الذي يخفض دون رحمة أو هوادة من حصة العامل. إنها قوة خفية، وأثر ميكانيكي صرف من آثار التنافس والإنتاج السلعي هو ذاك الذي ينتزع من العامل قسطا متزايدا باستمرار في إنتاجه تاركا له على الدوام قسطا أقل وأقل. إنها قوة تتحرك دون صخب من وراء ظهور العمال قوة صار النضال ضدها مستحيلا. إن الدور الشخصي للمستغل يمكن رؤيته حين يتعلق الأمر بالأجر المطلق أي بمستوى الحياة الحقيقي. فانخفاض الأجر الذي يؤدي إلى انخفاض في مستوى الحياة الحقيقي للعمال، يُعتبر عدوانا يشنه الرأسماليون ضد العمال في وضح النهار والعمال يعمدون إلى الرد عبر النضال حيث تكون ثمة نقابة، ويتمكنون في بعض الحالات الملائمة من وقف ذلك العدوان. أما انخفاض الأجر النسبي فإنه يتم دون أي تدخل شخصي من الرأسمالي، وضعه لا يمكن للعمال بأن يقوموا بأي نضال أو أن يدافعوا عن أنفسهم ضمن إطار نظام الأجور، أي على أرضية الإنتاج السلعي نفسها. ضد التقدم التقني للإنتاج وضد الاختراعات وضد إدخال الآلات وضد البخار والكهرباء وضد تطوير أدوات النقل، لا يمكن للعمال بأن يقوموا بأي نضال. غير أن مفعول هذا التطور كله على الأجر النسبي للعمال ينتج تلقائيا عن الإنتاج السلعي وعن الطابع السلعي لقوة العمل. وهذا ما يجعل أقوى النقابات عاجزة في وجه هذا الاتجاه الدائم للانخفاض السريع للأجر النسبي. إن النضال ضد انخفاض الأجر النسبي هو النضال ضد الطابع السلعي لقوة العمل، وضد الإنتاج الرأسمالي بأكمله. فالنضال ضد سقوط الأجر النسبي ليس نضالا يخاض على أرضية الاقتصاد السلعي، بل هو هجمة ثورية ضد هذا الاقتصاد، إنه التحرك الاشتراكي للبروليتاريا.

من هنا كان تعاطف الطبقة الرأسمالية مع النقابات التي كانت في البداية قد حاربتها بشراسة، ولقد بدأ هذا التعاطف ما أن ابتدأ النضال الاشتراكي ومع ازدياد حدة مجابهة النقابات للاشتراكية. ففي فرنسا ظلت الصراعات التي خاضها العمال للحصول على حق إقامة الاتحادات، غير مجدية حتى سبعينات القرن التاسع عشر وظلت النقابات مطاردة وعرضة لأشد العقوبات وهولا. ومع هذا بعد فترة يسيرة من حدوث الخوف العظيم الذي استشعرته البرجوازية في الكومونة ومن شبحها الأحمر، حدث في الرأي العام تغير مفاجئ. فبدأت صحيفة الرئيس غامبيتا «الجمهورية الفرنسية»، وكل الحزب المهيمن باسم الجمهوريين بدأوا في تشجيع الحركة النقابية وفي الدعاية لها بنشاط. وعند بدايات القرن التاسع عشر كان العمال الألمان يذكرون أمام العمال الإنكليز كمثال على الطاعة والهدوء، أما أمام العامل الألماني فكان يؤتي على ذكر العامل الإنكليزي، ليس بوصفه عاملا هادئا بل بوصفه عاملا «نهما» ترديونيونيا (نقابيا) من أكله «البفتيك». ولقد ظل هذا الأمر قائما طالما كان صحيحا أن البرجوازية ترى في النضال الأكثر شراسة من أجل زيادة الأجر المطلق عملا غير مؤذ بالمقارنة مع الهجمة على قدس الأقداس على قانون الرأسمالية. الذي ينحو دائما إلى إحداث انخفاض مستمر في الأجر النسبي.


الهوامش

[1].في المخطوطة شطبت روزا بالقلم، عبارة "الحرية الشخصية الشاملة للملكية"، واستبدلتها بملاحظة هامشية تقول "الحقوق السياسية".



أرشيف روزا لوكسمبورغ