الفصل الأول
هدف هذا الكتاب وطبيعته القسرية

لقد لبّت الجبهة اليمينية-الوسطية الحاجة إلى نظرية في الحزب بشنها حملة على التروتسكية خلال ست سنوات متتالية، لكون هذه الحملة البضاعة الوحيدة المتوفّرة بكلمات هائلة للتوزيع المجاني. ولقد خاض ستالين غمار الفكر النظري لأول مرة عام 1924 بمقالاته الخالدة ضد الثورة الدائمة. وحتى مولوتوف جرى تعميده قائدا في هذه الجوقة. فبلغ التزوير ذروته. منذ بضعة أيام صادفتُ إعلانا عن نشر كتابات لينين عام 1917 باللغة الألمانية. إن هذه هدية ثمينة للطبقة العاملة المتقدمة في ألمانيا. ولكن بإمكاننا أن نتخيّل سلفا مقدار الأكاذيب التي ستحشر في النص وبخاصة في الحواشي. يكفي أن نشير إلى أن رسائل لينين إلى كولانتاي(1) في نيويورك تشغل الحيز الأكبر من فهرس هذا الكتاب. لماذا ؟ لمجرد أن هذه الرسائل تحوي ملاحظات قاسية ضدي تعتمد على معلومات مغلوطة تماما من كولانتاي التي كانت قد حقنت اتجاهها المنشفي الخالص بمصل من الهستيريا اليسارية المغالية. لقد أجبر "رجال الصف الثاني" على أن يشيروا في الطبعة الروسية، وإن يكن بشكل مبهم، إلى أن لينين قد اعتمد على أخبار مغلوطة. غير أننا نستطيع أن نسلّم بأن الطبعة الألمانية ستخلو حتى من هذا التحفّظ الهروبي. وبالإضافة إلى ذلك، فإن رسائل لينين إلى كولانتاي تحتوي على هجوم قاس على بوخارين الذي كان متضامنا مع كولانتاي. لقد اختفى هذا القسم من الرسائل على الأقل للوقت الحاضر. وسوف ينشر على الرأي العام عندما تبدأ الحملة العلنية على بوخارين. وسوف لن نضطر إلى الإنتضار طويلا حتى يتم ذلك(2). ومن جهة أخرى، فإن عددا من الوثائق البالغة الأهمية والمقالات والخطب والمحاضر والرسائل إلى آخره المتعلقة بلينين ما تزال طيّ الكتمان لمجرّد أنها موجهة ضد ستالين وشركاه، لأنها تنسف أسطورة "التروتسكية" من أساسها. فلم يبق سطر واحد من تاريخ الثورات الروسية الثلاث ومن تاريخ الحزب إلاّ وجب التلاعب به، فجرى التضحية بالنظرية والوقائع والتقاليد وبتراث لينين في سبيل الحملة على "التروتسكية"، هذه الحملة التي ابتكرت ونظّمت، بعد موت لينين، كصراع شخصي ضد تروتسكي ثم ما لبث أن تطورت إلى حملة على الماركسية ذاتها.

ولقد تأكد مرّة أن ما قد يبدو نبشا لا مبرّر له لخلافات انتهت منذ زمن طويل يلبّي عادة حاجة اجتماعية غير واعية في الحاضر، حاجة لا علاقة لها بخط الخلافات القديمة. إن الحملة ضد "التروتسكية القديمة" هي، في الحقيقة، حملة ضد تقاليد أكتوبر التي غدت مع الزمن عقبة لا تطاق في طريق البيروقراطية الجديدة. فأخذت توجه تهمة "التروتسكية" إلى كل ما تريد التخلص منه. وهكذا أصبح الصراع ضد التروتسكية، تدريجيا، التعبير عن الردة النظرية والسياسية في أوساط واسعة من العناصر غير البروليتارية وفي بعض الأوساط البروليتارية كذلك، والتعبير عن انتكاس هذه الردة على الحزب من الداخل. وخاصة في الطريقة المضحكة والممسوخة تاريخيا التي جرى التصدي بها لنظرية الثورة الدائمة بموضوعة لينين عن "التحالف مع الموجيك(3)" التي ولدت فجأة عام 1923. فنشأت مع مرحلة الردة الإجتماعية والسياسية والحزبية، وكانت التعبير الخطي عنها، والتعبير عن التناقض العضوي بين البيروقراطية والمالك وبين الثورة العالمية بإزعاجاتها "الدائمة"، وعن حنين الموظفين والبرجوازية الصغيرة إلى الأمن والنظام. ولقد أدّى التجريح السافل بالثورة الدائمة بدوره إلى تمهيد الطريق أمام نظرية الاشتراكية في بلد واحد، أي إلى آخر زي ترتديه الاشتراكية-الوطنية. طبعا، فإن هذه الجذور الاجتماعية الجديدة للصراع ضد التروتسكية بحد ذاتها، لا تثبت شيئا عن صحة نظرية الثورة الدائمة أو عن تهافتها. ومع ذلك، وإذا نحن لم نفهم هذه الجذور الخفية لا بد للخلاف من أن يتخذ طابعا أكاديميا عقيما.

لم أستطع في السنوات الأخيرة أن أنسلخ عن المشكلات الجديدة لأعود إلى مشكلات قديمة تتعلق بثورة عام 1905 ما دامت هذه المشكلات تتعلق بماضي وتستخدم الآن بشكل زائف ضد هذا الماضي. وسوف أحتاج إلى كتابة مجلد خاص إذا ما أردت تحليل الخلافات القديمة في الرأي عامة وأخطائي القديمة خاصة في ضوء الظرف الذي نشأت فيه، ليكون هذا التحليل من التفصيل بحيث يفهمه الجيل الصاعد وبعض العناصر من الجيل القديم التي سقطت في طفولة سياسية ثانية. وقد بدا لي أنه من السخف أن أهدر وقتي ووقت غيري على عمل كهذا، في حين تطرح على بساط البحث قضايا بالغة الأهمية كمهام الثورة الألمانية، والعلاقة بين أوروبا وأمريكا، والقضايا التي طرحتها إضرابات البروليتاريا البريطانية ومهام الثورة الصينية وأخيرا وبشكل خاص تناقضاتنا ومهامنا الإقتصادية والاجتماعية والسياسة الداخلية؛ إن هذا كله يبرر برأيي استمرار في تأجيل كتابي التاريخي-السجالي عن الثورة الدائمة. إلاّ أن الوعي الإجتماعي يرفض أي نوع من أنواع الفراغ. وفي السنوات الأخيرة، ثمّ ملء هذا الفراغ النظري، كما قلت سابقا، بحثالات الهجوم على التروتسكية. إن رجال الصف الثاني وفلاسفة الردّة في الحزب وسماسرتها قد انحدروا إلى الدرك، وتتلمذوا على يد المنشفيكي التافه ماتينوف، وداسوا لينين تحت أقدامهم، وتتلمذوا في المستنقعات ثم أطلقوا على كل ذلك اسم الصراع ضد التروتسكية. وحلال هذه السنوات الأخيرة، عجزوا عن إنتاج أثر جدّي أو هام نستطيع أن نتكلم عنه بصوت مرتفع دون أن يعترينا الخجل؛ وفشلوا في إيجاد تقييم سياسي واحد ما زال يحتفظ بقيمته، ولا بشعار مستقل واحد جعلنا نتقدم خطوة إلى الأمام في الحقل الإيديولوجي. لا شيء سوى التفاهة والآثار المملة في كل مكان.

وما كتاب ستالين "قضايا اللينينية" إلاّ تتويجا لهذه الحثالة الإيديولوجية، إنه سجل رسمي في ضيق الأفق، وقاموس للتفاهات (إني أبذل جهدي لانتقاء أكثر الأوصاف اعتدالا). أما كتاب زينوفييف "اللينينية" فهو… لينينية زينوفييف لا أكثر ولا أقل. فزينوفييف يسير على مبدأ لوثر تقريبا. ولكن، بينما يقول لوثر "هنا أقف؛ ولا أستطيع الوقوف في مكان آخر". يقول زينوفييف:" هنا أقف … ولكنني أستطيع الوقوف في مكان آخر أيضا". إن انشغال المرء بهذه البضاعة النظرية التي يصدرها رجال الصف الثاني أمر لا يطاق في كلا الحالين، مع وجود هذا الفارق: خلال قراءة كتاب زينوفييف، "اللينينية" يشعر المرء بأنه يختنق بنتف من القطن، أما كتاب ستالين فهو يثير الشعور بالاختناق بشظايا حديدية مسنّنة. وهذان الكتابان هما، كل على طريقته، صورة لحقبة الردة الإيديولوجية وتتويج لها.

إن رجال الصف الثاني، بإدخالهم جميع القضايا في نطاق التروتسكية وربطها بها، إن على اليمين أو على اليسار، وإن من فوق أو من تحت، إن من الأمام أو من الوراء، قد تمكنوا أخيرا من أن يجعلوا كل حدث عالمي مرتبطا بشكل مباشر أو غير مباشر بكيف بدت الثورة الدائمة لتروتسكي عام 1905. إن أسطورة التروتسكية، التي تفيض بالأكاذيب، غذت إلى حد ما عاملا من عوامل التاريخ المعاصر. وبينما الخط اليميني-الوسطي خلال السنوات الأخيرة يورّط نفسه بافلاسات ذات مستوى تاريخي في كل قارة، يغدو النضال ضد أيديولوجية الكومنترن أمرا مستحيلا في الوقت الحاضر، أو يغدو في غاية الصعوبة، دون تقييم الخلافات والتكهنات القديمة كما برزت في بداية عام 1905.

إن انبعاث الفكر الماركسي واللينيني في الحزب لا يمكن أن يتمّ بدون مساجلات مباشرة ضد خربشات رجال الصف الثاني وبدون إصدار حكم الإعدام الفكري على حجّاب الآلة الحزبية. ليس من الصعب كتابة مثل هذا الكتاب. فجميع عناصره في متناول اليد. ولكن الصعوبة تكمن في أنه على المرء أن يهبط إلى مستوى تفاهات مكتوبة بدقة بالغة وأن يمكث مدة طويلة في جو أقل ما يقال فيه أنه آسن. ومهما يكن من الأمر، فلم يعد بالإمكان تأجيل مثل هذا الكتاب لأن الصراع ضد الثورة الدائمة هو الدعامة الأولى لتبرير الخط الانتهازي في حلّ قضايا الشرق، أي النصف الأكبر من البشرية.

كنت على وشك الشروع في مساجلة نظرية ضد زينوفييف وستالين، اى في عمل هو ابعد مايكون عن التسلية، مؤجلا روائعنا الادبية الروسية لساعات الفراغ ( حتى الغواصون يصعدون إلى سطح الماء لتنشق الهواء النقي بين الحين والاخر) عندما ظهرت مقالة رادريك بشكل مفاجيء وبدا تداولها، وكانت غاية هده المقالة التصدي، - بشكل اعمق- ،لنظرية الثورة الدائمة بواسطة اراء لينين حول الموضوع. في البدء، اردت ان اطرح مؤلف راديك جانبا خوفا من ان يصرفني هدا المزيج الدي اختاره لي القدر من نثف القطن والشظايا المسننة عن متابعة عملي .ولكن وصلني عدد من الرسائل من أصدقاء يحثونني على قراءة مقالة راديك بتان اكثر ،فتوصلت إلى النتيجة التالية: ان مقالة راديك اشد خطورة من الكتابات الرسمية على حلقة صغيرة من الاشخاص يدرسون الماركسية بشكل واع وليس بامر من احد ؛ مثلما تكون الانتهازية في السياسة اشد خطورة كلما كانت مقنعة بمهارة اكثر وكلما عظمت الشهرة الشخصية التي تتستر وراءها.

إن راديك من أقرب اصدقائي السياسيين. ولقد تأكد هذا بشكل جلي خلال أحداث الحقبة الأخيرة. غير أن عددا من الرفاق كان يتابع تطور راديك بقلق خلال الاشهر الماضية، إذ انتقل من الجناح اليساري المتطرف في المعارضة إلى جناحها اليميني. إن جميع أصدقاء راديك الحميمين يعرفون أنه يتمتع بامكانات سياسية وادبية رائعة تمتزج بالهوائية والانفعالية البالغتين ؛ وهده الميزات تشكل مصدرا غنيا للمبادرة والنقد في ظروف العمل الجماعي، غير أنها تؤدي إلى نتائج جد مختلفة في ظروف العزلة. ان مقال راديك الاخير، وعلاقته بعدد من اعماله السابقة، يدعونا إلى الاعتقاد بأن راديك قد انحرف عن اتجاهه او ان بوصلته هي تحت تأثير خلل مغناطيسي مستمر . ولا يمكن اعتبار مقالة راديك ،في اي حال من الاحوال، رحلة انية في الماضي . كل، انها مساهمة لم تختمر ما فيه الكفاية في دهن كاتبها، ولكنها تبقى مساهمة هدامة للدفاع عن الخط الرسمي بكل ترهاته النظرية.

إن النتيجة السياسية التي عرضناها مند قليل والتي يؤدي اليها الصراع ضد التروتسكية لايعني باي حال من الاحوال ان النقد الداخلي ممنوع في صفوف المعارضة وبخاصة نقد الخلافات القديمة بيني وبين لينين، فهده المعارضة قد نشأت لتكون الدعامة الماركسية ضد الردة الايديولوجية والسياسية. بل على العكس فان عملا كهدا يضطلع بمهمة التوضيح الداتي سيكون بالتأكيد عملا مثمرا.

ومهما تكن الاحوال، يجب على عمل كهدا ان يحافظ على الافق التاريخي بامانة، وأن يتحرى بجدية المصادر الاصلية وأن يوضح الخلافات القديمة في ضوء الصراع الحالي، هدا كله في غاية الاهمية .ولكن لايوجد اي أثر لدلك عند راديك . فقد انضم ببساطة وبدون وعي منه، إلى قافلة الصراع ضد "التروتسكية". فهو لا يستعين بأقوال متحيزة فحسب، وإنما يتبنى التفسير الرسمي الكاذب لها أيضا. وعندما يبدوا وكأنه ينفصل عن الحملة الرسمية، يفعل ذلك بشكل مبهم بحيث يزوّد هذه الحملة نفسها بتأييد مزدوج من شاهد "هام". وكما يحدث دائما في حالات الانحراف الإيديولوجي، نجد أن مقالة راديك خالية من أي أثر لنباهته السياسة ولبراعته الأدبية. إنها مقالة بدون أفق ولا عمق، مقالة تعتمد على سرد للأقوال ليس إلا؛ وهي باهتة السبب بالذات.

ما هي الحاجات السياسية التي ولدت هذه المقالة ؟ لقد ولدت من الخلافات في الرأي التي نشأت بين راديك وبين الغالبية الساحقة من أفراد المعارضة حول قضايا الثورة الصينية. صحيح أن بعض الاعتراضات تقول أن الخلافات في الرأي حول الصين "ليست هامة الآن" (بريوبراجنسكي). غير أن هذه الاعتراضات لا تستأهل أن نتوقف عندها بجدية. إن البلشفية قد نمت واتخذت شكلها الحالي من خلال نقد وتجميع تجارب عام 1905 وهي بعد حديثة العهد، وبينما ما تزال التجارب تجارب مباشرة خاضها الجيل الأول من البلاشفة. وكيف يمكن للأمر أن يكون غير ذلك ؟ ومن أي تجربة أخرى يتعلم الجيل الجديد من البروليتاريين الثوريين اليوم إن لم يتعلموا من تجارب الثورة الصينية التي هي حديثة العهد والتي لا تزال ترشح بالدم ؟ إن المتحذلقين الجامدين هم وحدهم الذين يطالبون "بتأجيل" بحث قضايا الثورة الصينية لكي يدرسوها فيما بعد براحة و"بهدوء". هذه ليست من شيم البلاشفة-اللينينيين، فثورات بلدان الشرق لم تمح من سجل الأحداث اليومية وما زال الجميع يعلم وقائعها.

إن راديك بتبنيه موقفا زائفا يتعلق بقضايا الثورة الصينية يحاول تبرير هذا الموقف بواسطة عرض متحيز ومشوّه لخلافاتنا القديمة مع لينين. وهنا يضطر راديك إلى استعارة أسلحته من مخزن غيره وإلى الإبحار بدون بوصلة في بحر ليس بحره.

إن راديك صديقي، غير أن الحقيقة أعزّ عليّ منه. وها أنا مضطر مرّة أخرى لأن أطرح جانبا مؤلفي الأكثر تفصيلا حول قضايا الثورة لكي أردّ على راديك. لقد أثيرت أسئلة أهم من أن نتجاهلها خاصة وأنها أثيرت بهذا الشكل المفاجئ. وها أنا أمام صعوبة ذات ثلاث جوانب: تعدّد الأخطاء في مؤلف راديك وتنوعها؛ وكون الكتابات والوقائع التاريخية التي تدحض راديك موّزعة على ثلاث وعشرين عاما (1905-1928)؛ وأخيرا الوقت القصير الذي أستطيع أن أخصصه لهذا الكتاب لأن المشكلات الإقتصادية في الإتحاد السوفييتي أخذت تبرز إلى المقدمة.

إن جميع هذه الظروف تحدّد طبيعة كتاب هذا الذي لن يفي الموضوع حقه. فالكثير مما يجب ان يقال لم يقل بعد. ويعود هذا جزئيا، بالمناسبة، إلى كون هذا الكتاب قد جاء بعد عدة كتب أخصّ منها بالذكر "نقد مشروع برنامج الأممية الشيوعية". لذا سيبقى العدد الكبير من الأدلة التي جمعتها بدون استعمال بانتظار أن أشرع في كتابة مؤلفي الجديد الموّجه ضد رجال الصف الثاني، أي ضد الإيديولوجيا الرسمية لحقبة الرّدة.

ترتكز مقالة راديك عن الثورة الدائمة على هذا الاستنتاج:

« إن القطاع الجديد من الحزب (أي المعارضة) مهددة بخطر نشوء تيارات سوف تؤدي إلى إنفصال تطور الثورة البروليتارية عن حلفائها الفلاحين. »

ويستغرب المرء، بادئ بدء، لكون هذا الاستنتاج المتعلق بالقطاع "الجديد" من الحزب يعرض في النصف الثاني من عام 1928 على أنه استنتاج جديد . لقد سمعناه يتردد باستمرار منذ خريف عام 1923. ولكن كيف يبرر راديك تبنّيه للحجة الرسمية الأساسية ؟ إنه لا يفعل ذلك بشكل جديد: إنه يعود إلى نظرية الثورة الدائمة. في عام 1924-1925 أبدى راديك رغبته أكثر من مرّة في أن يكتب منشوراّ مكرّسا لإثبات الفكرة القائلة أن نظرية الثورة الدائمة وشعار لينين عن دكتاتورية العمال والفلاحين الديموقراطية، إذا ما نظرنا إليها على الصعيد التاريخي أي في ضوء تجربة الثورات الثلاث، لا يمكن مواجهة الواحدة منها بالأخرى وإنما، على العكس من ذلك يطابق الواحد منها الآخر في الجوهر. الآن، وبعد أن تمحّص راديك في المسألة "مجددا"، كما قال لأحد أصدقائه، فقد توصّل إلى الاستنتاج أن نظرية الثورة الدائمة القديمة تهدّد القطاع "الجديد" من الحزب بخطر الانفصال عن الفلاحين لا أكثر ولا أقل.

ولكن كيف "محص" راديك في هذه المسألة ؟ إنه يزوّدنا ببعض المعلومات حول هذه النقطة.

« إن الصيغ التي عرضها تروتسكي عام 1904 في مقدمته لكتاب ماركس "الحرب الأهلية في فرنسا" وفي عام 1905 في كتاب "ثورتنا" ليست في متناول أيدينا ».

ليست الأعوام مذكورة بشكل صحيح هنا، ولكن لا ضرورة للتوقف عند هذه النقطة. إن الموضوع كله يتلخص في أن الأثر الوحيد الذي عرضت فيه آرائي بشكل منظّم إلى حدٍّ ما حول تطور الثورة هو مقالة مفصولة بعنوان "نتائج وتوقعات" (في كتاب "ثورتنا"، سان بطرسبرغ، 1906، ص 224-286). أما المقالة المنشورة في مجلة روزا لوكسمبورغ وتسيزكو في بولونيا عام 1909 التي يشير إليها راديك فإنها غير كاملة ولا شاملة. وتعتمد هذه المقالة نظريا على كتاب "ثورتنا" الآنف الذكر. ليس على أحد أن يقرأ هذا الكتاب الآن. فمنذ ذلك الزمن، جرت أحداث هامة وتعلمنا الكثير من هذه الأحداث بحيث تولّد عندي نفور من طريقة رجال الصف الثاني الحالية في معالجة القضايا التاريخية الجديدة ليس في ضوء التجربة الحيّة للثورات التي حققناها، وإنما في ضوء كتابات تتعلق فقط بتكهناتنا المتعلقة بما كانت في ذلك الحين ثورات قادمة. طبعا، لست أريد بهذا أن أحرم راديك من حق معالجة للقضية من الزاوية التاريخية-الكتابية أيضا. ولكن، في هذا الحال، يجب معالجة الأمر بشكل سليم. لقد تعهّد راديك بأن يلقي ضوءا على مصير نظرية الثورة الدائمة خلال ما يقارب ربع قرن، إلا أنه يشير بشكل عابر إلى أنه ليس "في متناول يده" الوثائق ذاتها التي عرضت فيها هذه النظرية.

أريد أن أشير رأسا هنا إلى أن لينين لم يقرأ مؤلفي الرئيسي الآنف الذكر، وقد تجلّى لي هذا الأمر الآن بعد قراءة مقالاته القديمة. وربما يعود ذلك إلى أن كتاب "ثورتنا" صودر بعد مدّة وجيزة من صدوره عام 1906، وبأني سرعان ما هاجرت بعد ذلك، وربما أيضا لأن ثلثي هذا الكتاب كان من المقالات القديمة التي أعيد طبعها. وقد سمعت فيما بعد من عدة رفاق أنهم لم يقرءوا هذا الكتاب لأنهم ظنوا أنه يحتوي فقط على مؤلفات قديمة أعيد طبعها. وعلى كل، فإن الملاحظات السجالية القليلة المبعثرة التي وجهها لينين ضد الثورة الدائمة مبنية كلها تقريبا على مقدمة بارفوس لمنشور لي بعنوان "قبل التاسع من ديسمبر"، وعلى نداء بارفوس "لا قيصرية بعد الآن !" الذي كنت أجهله؛ وعلى خلافات داخلية بين لينين وبين بوخارين وغيره. ولم يحصل أن حلل لينين أو استشهد، ولو بشكل خاطف، بمقالة "نتائج وتوقعات"، وتؤكد بعض اعتراضات لينين على الثورة الدائمة، التي لا تتعلق بي من بعيد أو من قريب، أنه لم يقرأ هذه المقالة(4).

ومهما يكن من أمر، فمن العبث أن نعتبر أن هذا كل فحوى "لينينية" لينين. ولكن يبدو أن هذا هو رأي راديك: على كل، فإن مقالة راديك التي سأعالجها هنا لا تثبت فقط أن مؤلفاتي الأساسية لم تكن "في متناول يده" فحسب، وإنما أنه لم يقرأها أيضا. وإذا كان قد قرأها فيكون ذلك منذ مدّة طويلة قبل ثورة أكتوبر. وعلى كل فإنه لا يحتفظ بالشيء الكثير منها في ذاكرته.

غير أن الأمر لا ينتهي عند هذا الحدّ. في عام 1905 أو في عام 1909، كان من المشروع وحتى في المحتم أن ندخل في مساجلات فيما بيننا حول مقالات فردية كانت هامة آنذاك أو حتى حول جمل في مقالات معزولة، خاصة في ظروف الانشقاق. أما اليوم فمن غير المسموح به بالنسبة لماركسي ثوري، يريد أن يعود إلى مراجعة هذه الحقبة التاريخية الضخمة، الاّ يطرح على نفسه هذا السؤال: كيف جرى تطبيق الصيغ التي هي موضع نقاش ؟ كيف جرى تفسيرها وترجمتها عمليا ؟ وأي خطط تكتيكية اتبعت لذلك ؟ فلو أخذ راديك عناء إلقاء نظرة على كتابيّ حول "ثورتنا الأولى" فقط (المجلد 2 من مؤلفاتي الكاملة)، لما كان غامر بكتابة مقالته هذه؛ أو لكان، على كل حال، حذف منها سلسلة كاملة من محاوراته التغلوطة. على الأقل، هذا ما كنت أودّه أن يفعل.

لو قرأ راديك هاذين الكتابين لكان علم، في الدرجة الأولى، أن الثورة الدائمة بالنسبة لعملي السياسي لم تكن تعني مطلقا القفز عن المرحلة الديموقراطية من الثورة أو عن أي من خطواتها المحددة. ولكان اقتنع أنه رغم أني كنت أعيش بشكل غير شرعي عام 1905 في روسيا دون أي علاقة مع المهاجرين، فقد صغت مهام الأطوار المتتالية من الثورة بنفس الطريقة التي صاغها بها لينين؛ ولكان علم أني قد كتبت النداءات الأساسية التي نشرت في لسان الحال المركزي للبلاشفة عام 1905؛ وأن صحيفة "نوفيا جيزن" (الحياة الجديدة) التي كان يحرّرها لينين قد دافعت بحرارة في إحدى افتتاحياتها عن مقالتي حول الثورة الدائمة التي نشرت في صحيفة "ناشالو" (البداية)؛ وأن صحيفة لينين "نوفايا جيزن"، وأحيانا لينين نفسه، كانت دوما تدعم وتدافع عن القرارات السياسية لمجالس السوفييت التي كنت أكتبها والتي كنت أعرضها بنفسي على السوفييت في معظم الأحيان؛ ولكان علم أني، بعد هزيمة ديسمبر، كتبت في السجن منشورا أشرت فيه إلى أن المزيج من الاقتحامية البروليتارية ومن ثورة الفلاحين الزراعية هو القضية الستراتيجية الأساسية؛ وأن لينين طلب نشر هذا الكتاب في دار النشر البلشفية "بوفايا فولنا" (الموجة الجديدة) وأبلغني بموافقته القبلية بواسطة كنونيانتس؛ وأن لينين قد تكلم في مؤتمر لندن عام 1907 عن "تضامني" مع البلاشفة في آرائي حول الفلاحين والبرجوازية الليبرالية. إن أيا من هذا كله ليس موجودا بالنسبة لراديك، والواضح أن هذا أيضا لم يكن "في متناول يديه".

ما هو موقف راديك من مؤلفات لينين ؟ ليس أفضل من موقفه من مؤلفاتي، أو ليس أفضل بكثير. لقد اقتصر راديك على الاستشهاد بتلك الكتابات التي وجهها لينين ضدي ولكنه كان غالبا ما يعني بها أناسا آخرين (بوخارين وراديك مثلا؛ إن راديك نفسه يشير إلى هذا الموضوع بوضوح). ولم يتمكن راديك من أن يجد مقطعا جديدا واحدا موجها ضدي، لقد اكتفى باستعمال المواد الجاهزة التي يجدها كل مواطن في الإتحاد السوفييتي "في متناول يديه" في أيامنا هذه. وقد أضاف راديك بعض المقاطع التي يوضّح فيها لينين بعض الحقائق الأولية للفوضويين والاشتراكيين-الثوريين حول الفرق بين الجمهورية البرجوازية والاشتراكية، ويصور راديك الأمور بحيث تبدو هذه المقاطع وكأنها موجهة ضدي. إنه أمر لا يصدق، ولكن هذا ما حصل !

ويتحاشى راديك ذكر تلك التصريحات التي اعترف فيها لينين بتضامني مع البلاشفة حول قضايا الثورة الأساسية بحذر بالغ وبحرص شديد ولكن بوضوح تام. ولا يجب أن يغيب عن الأذهان هنا أن لينين قال ذلك في زمن كنت فيه خارج الجناح البلشفي، وكان لينين يهاجمني بدون رحمة (وقد كان على حق في ذلك) بسبب موقفي التوفيقي، ليس بسبب الثورة الدائمة التي اقتصر كلامه عنها على بعض الاعتراضات العابرة، وإنما بسبب موقفي التوفيقي، أي سبب استعدادي للتفاؤل بإمكان تطور المنشفيك نحو اليسار. لقد كان لينين مهتما بالصراع ضد التوفيقية أكثر بكثير من اهتمامه "بعدالة" الضربات السجالية المبتورة الموجهة لتروتسكي "التوفيقي".

في عام 1924، كتب ستالين مدافعا عن سلوك زينوفييف في أكتوبر عام 1917 ضد تهجماتي عليه:

« إن الرفيق تروتسكي قد فشل في فهم رسائل لينين (حول زينوفييف) ومعناها وهدفها. أحيانا كان لينين يستبق الأمور عن قصد فيبرز إلى المقدمة أخطاء يرجّح أنها سترتكب، وينقد سلفا لغاية تحذير الحزب منها وحمايته من هذه الأخطاء. وفي بعض الأحيان، يلجأ إلى تضخيم "أمر تافه" و"يجعل من الحبّة قبّة" للسبب التعليمي نفسه… ولكن أن نحاول أن نستخلص من مثل هذه الرسائل للينين (وقد كتب العديد منها) وجود خلافات فاجعة. وان نبالغ في التكلم عنها يعني أننا لا نفهم رسائل لينين وأننا لا نعرف لينين. » (ج. ستالين "تروتسكية أم لينينية" 1924).

الفكرة معروضة هنا بشكل فظ، لا عجب: كما يكون الأسلوب كذلك يكون الإنسان"، إلاّ أن جوهر الفكرة صحيح رغم كونها تنطبق أقل ما تنطبق على الخلافات خلال فترة أكتوبر، التي لا تشابه "القبة" بشيء. ولكن إذا كان لينين يلجأ إلى المبالغات "التعليمية" والمساجلات الوقائية فيما يتعلق بأقرب الناس إليه في جناحه، إذن كان يفعل نفس الشيء فيما يتعلق بأناس كانوا خارج الجناح البلشفي في ذلك الحين وكانوا يبشّرون بموقف توفيقي. ولم يخطر ببال راديك مطلقا أن يدخل إلى النصوص القديمة هذه التعديلات اللازمة.

في عام 1922، كتبت في مقدمتي لكتاب "عام 1905" أن توقعاتي بإمكان وترجيح قيام دكتاتورية البروليتاريا في روسيا قبل قيامها في البلدان المتقدمة قد أكد الواقع صحته بعد اثني عشر عاما. ويقتدي راديك بأمثلة ليست جذابة فيعرض الأمور بحيث يبدو أنى قد اعتبرت توقيعي بديلاً لخط لينين الستراتيجي. إلاّ أن المقدمة تظهر بوضوح أني عالجت توقع الثورة الدائمة على أساس سمتين أساسيتين تلتقيان بخط البلاشفة الستراتيجي. وعندما أتكلم في إحدى الحواشي عن "إعادة تسليح" الحزب في بداية عام 1917، فإني لا أعني بذلك أن لينين قد إعترف بأن الطريق السابق الذي كان يسلكه الحزب كان "خاطئا" وإنما أعني أن لينين قد وصل إلى روسيا، ومع أنه تأخر فقد وصل في الوقت المناسب لإنجاح الثورة، ليعلم الحزب أن يتخلى عن شعار "الدكتاتورية الديموقراطية" الذي تخطاه الزمن الذي كان أمثال ستالين وكامنييف وريكوف وزينوفييف وغيرهم ما زالوا متمسكين به. ولا عجب إذا امتلك الغيظ أمثال كامنييف عند ذكر "إعادة تسليح الحزب"، فقد كان هذا موجها ضدهم. ولكن ماذا بشأن راديك ؟ كانت أول مرة ينزعج فيها عام 1924، أي بعد أن بدأ هو نفسه بالصراع ضد ضرورة "إعادة تسليح " الحزب الشيوعي الصيني.

فليتذكر راديك أن كتابي "العام 1905" (بمقدمته المجرمة) و"ثورة أكتوبر" كانا، عندما كان لينين ما يزال على قيد الحياة، بين الكتب التاريخية الأساسية عن كلا الثورتين. وفي ذلك الحين، صدر الكتابان بعدة طبعات باللغة الروسية وباللغات الأجنبية أيضا. ولم يقل لي أحد إن كتابيّ يحتوي على خطين متضادين؛ لأنه في ذلك الحين، أي قبل الحملة التحريفية، لم يكن هناك حزبي واحد يسخر تجربة أكتوبر للنصوص القديمة وإنما ينظر إلى النصوص القديمة في ضوء ثورة أكتوبر.

وفيما يتعلق ذلك، ثمة موضوع آخر يسيء راديك استعماله بشكل لا يطاق، إذ يقول إن تروتسكي قد اعترف أن لينين كان على حق وليس هو. طبعا قلت ذلك. ولم يكن هذا الاعتراف يحوي ولو قيراطا واحدا من الدبلوماسية. فقد كان في ذهني طريق لينين التاريخي، وموقفه النظري كله، واستراتيجيته وبناؤه للحزب. إلا أن هذا الاعتراف لا ينطبق طبعا على كل واحد من النصوص السجالية، التي يساء استعمالها بالإضافة لذلك لأغراض معادية للينينية. في عام 1926 خلال التحالف مع زينوفييف، حذرني راديك من أن زينوفييف يحتج إلى تصريحي بأن لينين كان على حق وليس أنا ليستر بها كونه،أي زينوفييف، كان مخطئا تجاهي. وطبعا فهمت هذا الأمر فهما تاما. ولهذا قلت في الاجتماع السابع للجنة التنفيذية للأممية الشيوعية أني أعني صوابية لينين وحزبه التاريخية، ولكني لا أعني، بأي حال من الأحوال، صوابية نقادي الحاليين الذين يحاولون تستير أنفسهم بنصوص منتقاة من لينين. يؤسفني الآن أن أضطر إلى جعل هذه الكلمات تشمل راديك كذلك.

أما فيما يتعلق بالثورة الدائمة، فقد تكلمت فقط عن مساوئ النظرية التي هي حتمية بحكم كون القضية قضية تكهن. لقد أكد بوخارين عن حق في الاجتماع السابع للجنة التنفيذية للأممية الشيوعية أن تروتسكي لم يتخلّ عن المفهوم كلّه. سوف أتكلم عن "المساوئ" في كتاب آخر أكثر شمولا وسوف أسعى فيه إلى عرض تجارب الثورات الثلاث وتطبيقها على المسيرة القادمة للكومنترن وفي الشرق بخاصة. ولكن حتى لا أفسح المجال أمام سوء الفهم أودّ أن أقول باختصار ما يلي: بالرغم من مساوئ نظرية الثورة الدائمة، حتى كما كانت عليه عندما عرضتها في مؤلفاتي الأولى وخاصة في "نتائج وتوقعات" (1906)، فإنها أكثر انسجاما مع روح الماركسية وبالتالي أقرب من خط لينين والحزب البلشفي من حكمة ستالين وبوخارين التأملية ومن مؤلفات راديك الأخيرة كذلك.

ولست أعني بهذا القول أن مفهومي للثورة يسلك، في جميع كتاباتي، خطا واحدا لا ينحرف. لم أكن أنشغل بتجميع النصوص القديمة، إني مجبر الآن على ذلك فقط بسبب حقبة الردة في الحزب وبسبب طغيان رجال الصف الثاني؛ وإنما كنت أحاول، عن حق أو عن خطأ، أن أحلل عمليات الحياة الحقيقية. ويوجد في الإثني عشر سنة من نشاطي الثوري والصحفي (1905-1917) مقالات كانت الظروف الآنية وحتى المبالغة السجالية العابرة التي لا غنى عنها في الصراع تبرز إلى المقدمة بشكل مغاير للخط الستراتيجي. وهكذا، نجد مثلا مقالات عبّرت فيها عن شكوكي فيما يتعلق بدور الفلاحين الثوري في المستقبل ككل وكطائفة؛ ورفضت في هذا الصدد، خلال الحرب الاستعمارية بشكل خاص، أن أصف الثورة الروسية القادمة بأنها ثورة "وطنية" لأني كنت أشعر أن هذه الصفة مبهمة. ولكن لا يجب أن ننسى أن العمليات التاريخية التي تهمنا، بما فيها عمليات الفلاحين، هي أكثر وضوحا الآن بعد أن تحققت مما كانت عليه إبان نموّها. ولنلاحظ في هذا المضمار أن لينين، الذي لم تغب عن باله قط القضية الفلاحية بكل ضخامتها التاريخية - هذا الدرس الذي تعلمناه منه جميعا، كان يظن حتى بعد قيام ثورة فبراير أنه من غير المؤكد أننا سننجح في إبعاد الفلاحين عن البرجوازية واستمالتهم إلى جانب البروليتاريا. إني أقول: لنناد القساة أنه لأسهل أن ننبش خلال ساعة التناقضات الرسمية الموجودة في مقالات الآخرين الصحفية خلال ربع قرن من أن نلاحظ، ولو لعام واحد، على وحدة الاتجاه الرئيسي.

ولم يبق لي في هذه المقدمة سوى أن أتعرض لاعتبار محض أسطوري، يقول راديك: لو كانت نظرية الثورة الدائمة غير صحيحة لتمكن تروتسكي من تأليف جناح كبير على أساسها. ولكن هذا لم يحصل. لذلك فإن النظرية… خاطئة.

إذا ما نظرنا إلى موضوعة راديك هذه بشكل عام يتبيّن لنا أنها لا تحوي على أي أثر من الديالكتيك. وبالإمكان أن نستنتج منها أن موقف المعارضة من الثورة الصينية أو موقف ماركس من الشؤون البريطانية كما خاطئا، وإن موقف الكومنترن من الإصلاحيين في أمريكا وفي النمسا وإن شئنا في جميع البلدان، هو خاطئ أيضا.

ولكن لم نأخذ حجة راديك في شكلها "التاريخي، الفلسفي" العام وإنما كما تنطبق فقط على القضية التي نعالجها، إذن لارتدت على راديك نفسه. لو كنت من الرأي القائل أن اتجاه الثورة الدائمة يناقض الخط الإستراتيجي البلشفي أو يدخل في تضاد معه أو يختلف عنه شيئا فشيئا؛ ولو أثبتت الأحداث ذلك وهذا ما هو أهم، إذن لكان لحجة راديك بعض المعنى. وفي مثل هذه الحالة يكون ثمة مبرر لقيام جناحين. ولكن هذا هو بالتحديد ما يريد أن يثبته راديك. إلا أني أريد أن أبيّن، على عكس ذلك، أن الخط الستراتيجي الأساسي كان واحدا بالرغم من المبالغات السجالية بين الأجنحة والمزايدات الحوارية حول الموضوع. من أين، إذن، سيأتي الجناح الآخر ؟ لقد اتضح في الواقع أني تعاونت مع البلاشفة في الثورة الأولى ودافعت فيما بعد عن هذا العمل المشترك في الصحافة العالمية ضد المنشفيك المرتدين. وفي عام 1917 ناضلت جنبا إلى جنب مع لينين ضد الخط الانتهازي الديموقراطي الذي كان يسلكه أولئك "البلاشفة القدامى" الذين صعدوا على رأس الموجة الرجعية الآن والذين لا يملكون من السلاح سوى التجريح بالثورة الدائمة.

وأخيرا، إني لم أحاول مطلقا أن أنشئ مجموعة على أساس أفكار الثورة الدائمة. كان موقفي داخل الحزب هو موقف توفيقي، وعندما حاولت تكوين مجموعات فقد كانت تقوم على أساس هذا الموقف. وكان موقفي التوفيقي نابعا من نوع من القدرية الإشتراكية-الديموقراطية. كانت الدلالة التاريخية العظيمة لسياسة لينين ما تزال غير واضحة بالنسبة لي في ذلك الحين، وكذلك سياسته في الانطلاق الإيديولوجي غير المهادن، واللجوء إلى الانشقاق عند الضرورة لغاية لحم وتمتين لبّ الحزب الثوري الحق. وقد كتب لينين عام 1911 حول هذا الموضوع ما يلي:

« إن الاتجاه التوفيقي هو المجموع العام لأمزجة ومحاولات وآراء تلتحم بجوهر المهمة التاريخية التي يواجهها الحزب الإشتراكي-الديموقراطي الروسي خلال فترة الثورة المضادة خلال الأعوام 1908-1911. لهذا السبب، انزلق عدد من الاشتراكيين-الديموقراطيين، الذين انطلقوا من منطلقات مختلفة إلى الاتجاه التوفيقي في تلك الفترة. وكان تروتسكي يعبّر عن الاتجاه التوفيقي بثبات أكثر من الآخرين. ولعله كان الوحيد الذي حاول أن يبني هذا الاتجاه على أسس نظرية ». (لينين: المؤلفات الكاملة –المجلد 11 –الجزء الثاني- ص331 –الطبعة الروسية).

إني بسعيي إلى الوحدة بأي ثمن قد عملت، بشكل غير إرادي محتم، على رفع اتجاهات المنشفيك الوسطية إلى الصعيد المثالي. ورغم محاولاتي الآنية الثلاث لم أصل إلى الاتفاق مع المنشفيك ولا كان ذلك ممكنا. ومن جهة أخرى، فإن إتجاهي التوفيقي اضطرني إلى خوض معركة مع البلاشفة لأن لينين كان، على عكس المنشفيك، يرفض التوفيق رفضا قاطعا، ولم يكن بإمكانه أن يفعل غير ذلك. ومن البديهي أنه لا يمكن إنشاء جناح على أساس الموقف التوفيقي.

من هنا كانت هذه العبرة: أنه من غير المسموح به ومما يؤدي إلى عواقب وخيمة تحطيم خط سياسي معين أو إضع افه لغايات توفيقية مبتذلة؛ ومن غير المسموح به أن نطلي الاتجاه الوسطي بألوان زاهية عندما ينعرج إلى اليسار وأن نعمد، في السعي وراء الأوهام الوسطية. ان نضخم ونبالغ في الخلافات في الرأي مع رفاق ثوريين أصيلين. تلك هي العبر الحقيقية التي تعلمنا إياها أخطاء تروتسكي الحقيقية. وهذه العبر جد مهمة. وهي ما تزال تحتفظ بأهميتها إلى يومنا هذا، ويتوجب على راديك بالذات أن يفكر فيها.

لقد قال ستالين ذات مرة بتلك اللهجة النظرية الحقيرة التي هي إحدى خصائصه « لا يمكن لتروتسكي إلاّ أن يكون على علم بأن لينين قد حارب نظرية الثورة الدائمة إلى نهاية حياته. إلاّ أن تروتسكي لا يهتم بهذا الأمر ». ("البرافدا" –العدد 262 – 12 نوفمبر 1926).

إن هذا القول فظ وكاذب، أي أنه مسخ ستاليني كامل للواقع. في أحد تصريحاته للشيوعيين الأجانب، فسّر لينين أن الخلافات في الرأي بين الشيوعيين تختلف إلى حد ما عن الخلافات في الرأي مع الاشتراكيين-الديموقراطيين. وكتب أن البلشفية قد عانت في الماضي من مثل هذه الخلافات في الرأي. ولكن « …عندما استلم البلاشفة الحكم وشيّدوا الجمهورية، أثبتوا أنهم متحدون فاستمالوا إليهم أفضل تيارات الفكر الاشتراكي التي كانت لصيقة بهم… » (لينين: المؤلفات الكاملة – المجلد 16 – الصفحة 333).

ما هي تيارات الفكرالشتراكي التي كان يفكر فيها لينين عندما كتب هذه الأسطر ؟ مارتينوف أم كييوسينين ؟ أم كاشين وثالمان وسميرال ؟ هل بدأ هؤلاء بالنسبة إليه "أفضل التيارات اللصيقة بهم" ؟ وأي اتجاه آخر كان أكثر التصاقا بالبلشفية من الذي كنت أمثله في جميع القضايا الأساسية بما فيها قضية الفلاحين ؟ حتى روزا لوكسمبورغ قد نفرت، في البدء، من السياسة الزراعية التي انتهجتها الحكومة البلشفية. أما بالنسبة لي فليس من شك حول موقفي: لقد كنت إلى الطاولة بجانب لينين عندما كتب القانون الزراعي. واقتصر عملي على تبادل الآراء فيما بيننا على حوالي عشر ملاحظات قصيرة كانت تدور حول النقطة التالية: الخطوة متناقضة، ولكن لا مفر منها على الصعيد التاريخي. سوف تصحَّح هذه التناقضات في ظل نظام ديكتاتورية البروليتاريا وفي نطاق الثورة العالمية – وكل ما نحتاج إليه هو مزيد من الوقت. إذا كان يوجد تناقض أساسي بين نظرية الثورة الدائمة وبين ديالكتيك لينين حول قضية الفلاحين، كيف يفسّر راديك إذن أني لم أخطئ مطلقا حول قضية الفلاحين عام 1917 كما فعل أغلبية البلاشفة آنذاك بالرغم من تمسكي بآرائي الأساسية حول مسيرة التطور الثوري ؟ بعد ثورة فبراير تبنّى المفكرون والسياسيون الحاليون يقفون وراء الحملة ضد التروتسكية، زينوفييف وكامنييف وستالين وريكوف ومولوتوف وغيرهم، بدون استثناء الموقف الديمقراطي المبتدل ولم يتبنوا الموقف البروليتاري - كيف يفسّر راديك ذلك ؟ مرّة أخرى: عن ماذا وعن من كان لينين يتكلم عندما أشار أن الاندماج الذي تمّ بين البلاشفة وبين أفضل العناصر في التيارات الماركسية الأكثر التصاقا بها ؟ أليس هذا التقييم الذي انهى فيه لينين الخلافات السابقة في الرأي دليلا على أنه يعتبر أن ثمة خطين استراتيجيين متناقضين ؟

ومما تجدر الإشارة إليه في هذا المضمار خطاب للينين في جلسة "لجنة بتروغراد(5)" في أول أكتوبر عام 1917. في تلك الجلسة تمّ بحث موضوع التحالف مع المنشفيك والاشتراكيين-الثوريين. ولقد سعى مؤيدو التحالف حتى في ذلك الحين أن يغمزوا بخجل من قناة "التروتسكية". فماذا كان جواب لينين ؟

"تحالف ؟ إني لا أستطيع أن أتكلم بشكل جدي عن هذا الموضوع. لقد قال تروتسكي منذ زمن طويل أن الوحدة مستحيلة. لقد فهم تروتسكي هذا – منذ ذلك الحين وهو أفضل البلاشفة".

لم تكن الثورة الدائمة هي التي فرقت بيني وبين البلاشفة، بالنسبة للينين، وإنما موقفي التوفيقي. ولكي أصبح "أفضل البلاشفة" كان عليّ أن أفهم فقط أن التفاهم مع المنشفيك أمر مستحيل كما رأينا.

ولكن كيف يمكن تفسير انعطاف راديك المفاجئ بالنسبة لموضوع الثورة الدائمة ؟ إني أعتقد أن ثمة تفسيرا واحدا. يخبرنا راديك في مقالته أنه كان يتفق مع نظرية "الثورة الدائمة" عام 1916؛ ولكنه كان يتفق مع تفسير بوخارين لهذه النظرية الذي يعتبر أن الثورة البرجوازية قد تحققت في روسيا، وليس فقط دور البرجوازية الثوري ولا حتى الدور التاريخي الذي لعبه شعار الديكتاتورية الديموقراطية وإنما الثورة البرجوازية بحد ذاتها، لذا يجب على البروليتاريا أن تتقدم للاستيلاء على الحكم تحت راية الإشتراكية فحسب. ولقد فسر راديك موقفي في ذلك الحين على طريقة بوخارين وأذاع هذا التفسير علنا، ولو لم يكن الأمر كذلك لما أعلن تضامنه مع بوخارين ومعي في آن واحد، وهذا يفسر أيضا لماذا كان لينين يوجه هجومه ضد تروتسكي عندما كان يعني بالفعل بوخارين وراديك اللذين كانا يتعاونان معه. (إن راديك يعترف بهذا الأمر في مقالته). وإني أذكر أيضا أن المدعو م.ن. بوكروفسكي، أحد زملاء بوخارين الفكريين الذي يبني بدون ككل المناهج التاريخية ويحاول تصويرها على أنها هي الماركسية، قد أثار شكوكي خلال أحاديث لي معه في باريس بسبب "تضامنه" المشبوه في هذه المسألة. ففي السياسة كان بوكروفسكي وما يزال معاديا لحزب الكاديت وهو يعتقد بصدق أن هذا الموقف يجعل منه بلشفيا.

ويبدو أن راديك كان، خلال عام 1924 و1925، ما يزال يقتات من فتات بوخارين عام 1916 وظلّ يدمج بين هذا الموقف وبين موقفي. وبعد دراسة سريعة لكتابات لينين خاب ظنه في هذا الموقف اليائس، كما يحصل في حالات كهذه، ورسم قوسا من 180 درجة فوق رأسي. هذا أمر محتمل جدا لأنه إحدى شيم راديك. وهكذا، فإن بوخارين الذي انقلب رأسا على عقب بين عام 1923 و1925، أي أنه تحوّل من يساري متطرف إلى انتهازي، يجعلني مسؤولا عن ماضيه الأيديولوجي الذي يطلق عليه لقب "التروتسكية". في الفترة الأولى من الحملة ضدي، عندما كنت أجبر نفسي أحيانا على قراءة مقالات بوخارين، غالبا ما كنت أتساءل: من أين أتى بهذا ؟ ولكن سرعان ما فطنت إلى أنه قد ألقى نظرة إلى كتاباته السابقة. واني أتساءل الآن ما إذا كان تحول راديك من أحد دعاة الثورة الدائمة إلى أحد أعدائها يرتكز على البنيان النفسي ذاته. إني لا أصرّ على هذه الفرضية. غير أني لا أستطيع أن أجد تفسيرا آخر.

على كل: لقد غُرفت الخمرة ولا بد من شرابها، على حد تعبير الفرنسيين. وها نحن مجبرون على الشروع في رحلة طويلة إلى مجاهل النصوص القديمة. لقد خفضت من عددها قدر المستطاع. ومع ذلك لا يزال هناك العديد منها. فليكن عزائي أني بتنقيبي الإلزامي في هذه النصوص القديمة أسعى وراء الخيوط التي ترتبط بالقضايا المعاصرة الملحة..


(1) كولانتاي: مناضلة اشتراكية-ديموقراطية ما لبثت أن انضمت إلى الحزب البلشفي. كانت من قادة "المعارضة العمالية" بين 1917 و 1923 مطالبة بزوال سلطة الدولة وسيطرة النقابات على الإقتصاد وتسييرهم شؤون الوطن بمجمله. (المترجم)
 

(2) لقد تحققت هذه النبوة. (ل. ت.)
 

(3) الموجيك هو الفلاح الروسي الفقير. (المترجم)
 

(4) الواقع ان لينين قد استشهد فعلا، عام 1909، بمقالة "نتائج وتوقعات" في مقالة له يرد فيها على مارتوف نفسه. وليس من الصعب أن نثبت أن لينين قد أخذ الإستشهاد عن مصدر ثان، أي عن مارتوف نفسه. وهذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكن أن نفسر فيها بعض الإعتراضات الموجهة ضدي والمبنية على سوء تفاهم واضح.

في عام 1919، نشرت "الدار الحكومية للنشر" مقالة "نتائج وتوقعات" على شكل منشور. أما الملاحظة التي أضافها لينين إلى الطبعة الكاملة لمؤلفاته الكاملة، التي تقول أن نظرية الثورة الدائمة جديرة بالإهتمام "الآن" بشكل خاص، بعد ثورة أكتوبر، إن الملاحظة تعود إلى التاريخ نفسه تقريبا. هل قرأ لينين مقالتي "نتائج وتوقعات" عام 1919 أم أنه القى نظرة عليه فقط ؟ لا أستطيع أن أعطي حكما قاطعا حول هذا الموضوع. فقد كنت في ذلك الحين مسافرا معظم الوقت، ولا أمكث في موسكو إلا فترات قصيرة؛ وخلال اجتماعاتي مع لينين في تلك الحقبة –ذروة الحرب الأهلية- لم تكن تخطر ببالنا ذكريات الخلافات النظرية القديمة. إلا أن "أدولف يوف" قد تحادث مع لينين حول نظرية الثورة الدائمة في الوقت ذاته تقريبا. ولقد نقل "يوف" ما جرى في هذا الحديث في الرسالة الوداعية التي كتبها لي قبل موته. (راجع كتاب تروتسكي "حياتي" نيويورك –ص535 و537) هل يمكن أن نفهم مما يؤكده "يوف" أن لينين قرأ "نتائج وتوقعات" لأول مرة عام 1919 وتعرف إلى صحة التوقع التاريخي الذي تحتويه ؟ لا أستطيع أن أقدم حول هذا الموضوع إلا تكهنات نفسية. إن مقدرة هذه النكهنات على الإقناع تتوقف على تقييم جوهر الموضوع المختلف عليه نفسه. وقد تبدو كلمات "أدولف يوف" أن لينين قد أكد صحة، توقعي، غير مفهومة بالنسبة لإنسان نشأ على الزبدة النظرية في الحقبة التي عقبت موت لينين. (يقول تروتسكي في كتابه "حياتي" –ص 535- إن لينين قال لأدولف يوف بالحرف الواحد: "أجل، لقد كان تروتسكي على حق") (المترجم). ومن جهة أخرى، فإن كل من يتأمل تطور أفكار لينين فيما يتعلق بتطور الثورة داتها سوف يفهم أن لينين كان مضطرا، عام 1919، إلى أن يقدم تقييما جديدا لنظرية الثورة الدائمة يختلف عن استشهادات مقبورة، دون أن يتفحص موقفي العام.
ولكي يؤكد لينين صحة توقعي عام 1919 لم يكن بحاجة إلى التصدي بموقفه لموقفي. كان يكفي أن يعالج كلا الموقفين في تطورهنا التاريخي. ولا حاجة لي أن أكرر هنا أن المحتوى المحدد الذي أعطاه لينين دائما لصيغة "الدكتاتورية الديموقراطية" والذي كان ينبثق من تحليل التغيرات الحقيقية في العلاقات الطبقية أكثر مما انبثق من صيغة فرضية –وإن هذا المحتوى التكتيكي والتنظيمي قد دخل التاريخ كنموذج كلاسيكي على الواقعية الثورية. في جميع الحالات تقريبا، وبالأحرى في جميع الحالات الهامة، عندما عارضت لينين إن على الصعيد التكتيكي أو على الصعيد التنظيمي كان الحق إلى جانبه. لهذا السبب بالذات، لم أكن مهتما بأن أتقدم للدفاع عن توقعي التاريخي القديم، ما دام الأمر يبدو أنه مجرد ذكريات تاريخية. إلا أني وجدت نفسي مضطرا إلى أن أعود إلى هذه المسألة فقط عندما بدأ نقد رجال الصف الثاني لنظرية الثورة الدائمة بتغذية الردة النظرية في "الأممية" كلها، وعندما غدا أداة لنسف الثورة الصينية. ل.ت.)
 

(5) كما هو معلوم، أمر ستالين بتمزيق الصفحات العديدة التي تحوي محاضر هذه الجلسة التاريخية من "كتاب اليوبيل" وما تزال حتى يومنا هذا مخفية عن الحزب. (ل.ت.)