الفصل الرابع
كيف بدت نظرية الثورة الدائمة عند تطبيقها العملي

يضيف راديك لنقده لنظريتنا نقدا "للخطة التكتيكية المستخرجة منها" كما رأينا. إن هذه الإضافة جد مهمة. فالنقد الستاليني الرسمي "للتروتسكية" قد اقتصر بحذر على النظرية… إلاّ أن هذا ليس كافيا بالنسبة لراديك. إنه يخوض معركة ضد خط تكتيكي (بلشفي) معيّن في الصين. لذا فهو يسعى إلى الحظ من هذا الخط بواسطة نظرية الثورة الدائمة، ولكي يصل إلى ذلك عليه أن يبيّن، أو أن يدّعي أن غيره قد سبق وبيّن، أن خطا تكتيكيا خاطئا قد انبثق في الماضي عن هذه النظرية. في عمله هذا يخدع راديك قراءه. قد يكون غير ملمّ بتاريخ الثورة التي لم يشترك فيها بشكل مباشر. ولكن يبدو أنه لم يبذل أي جهد ليتفحص المسألة على ضوء الوثائق. وأهم هذه الوثائق يتضمنها الجزء الثاني من مؤلفاتي الكاملة التي هي في متناول كل من يجيد القراءة. لذا، فليعلم راديك أني كنت خلال جميع مراحل الثورة الأولى على اتفاق تام مع لينين حول تقدير قوى الثورة ومهامها المتعاقبة بالرغم من أني أمضيت عام 1905 كله مختبئا في روسيا وعام 1906 في السجن. إني مجبر على الاكتفاء هنا بالحد الأدنى من الإثباتات والوثائق.

في مقالة لي في فبراير 1905 طبعت في مارس من العام نفسه، أي قبل شهرين أو ثلاثة من موعد انعقاد أول مؤتمر بلشفي (المعروف في تاريخ الحزب بالمؤتمر الثالث للحزب)، كتبت ما يلي:

"إن الصراع المرير الذي يدور بين الشعب والقيصر والذي سيستمر حتى إحراز النصر، والانتفاضة الوطنية الشاملة التي هي ذروة هذا النضال، والحكومة المؤقتة التي هي تتويج ثوري لانتصار الشعب على عدوه القديم، وانتزاع السلاح من الرجعية القيصرية وتسليح الشعب من قبل الحكومة المؤقتة، وعودة الجمعية التأسيسية إلى الانعقاد على أساس انتخاب عام متساوي ومباشر وسري – إن هذه كلها هي المراحل المحددة موضوعيا التي تمر بها الثورة"
(تروتسكي: المؤلفات الكاملة: المجلد 2 – الجزء الأول – ص 232).

يكفي أن نقارن هذه الكلمات بمقررات المؤتمر البلشفي في ماي 1905 لنتبين في الطريقة التي صيغت بها هذه المقررات تضامني الكامل مع البلاشفة حول المشكلات الأساسية.

وليس هذا كل ما في الأمر. فعلى ضوء هذه المقالة، وضعت في بطرسبرغ بالاتفاق مع كراسين أطروحات حول الحكومة المؤقتة وزعت بشكل سري في ذلك الحين. وقد دافع كراسين عنها في المؤتمر البلشفي. وكلمات لينين هذه تبيّن مدى اتفاقه معها:

"إني أتفق مع أراء الرفيق كراسين جملة وتفصيلا. من الطبيعي أن أكون، بوصفي كاتبا، قد أوليت الصياغة الأدبية للمسألة اهتماما زائدا. لقد بيّن الرفيق كراسين أهمية الهدف الذي يسعى إليه النضال، وكان مصيبا في ذلك، إني أمنحه تأييدي المطلق. فليس بالإمكان أن نخوض النضال إذا لم نكن مصممين على الاستيلاء على الموضع الذي نناضل من أجله"…
(لينين: المؤلفات الكاملة: المجلد 6 – ص 180 – الطبعة الروسية).

إن القسم الأكبر من تعديلات كراسين المفصّل، الذي أحيل القارئ إليه، قد أدخل في مقررات المؤتمر. ومما يثبت إني كنت كاتب هذا التعديل رسالة من كراسين ما تزال في حوزتي. إن كامنييف وغيره يعرفون هذه الحقبة من تاريخ الحزب معرفة جيدة.

كانت مشكلة الفلاحين ومشكلة جذبهم للالتفاف حول سوفييت العمال وتنسيق العمل مع "عصبة الفلاحين" تستأثر باهتمام سوفييت بطرسبرغ بشكل متزايد يوما بعد يوم. هل يعلم راديك أن رئاسة هذا السوفييت أوكلت إلي ؟ وفيما يلي نص من بين مئات النصوص التي كتبتها في ذلك الحين حول المهام التكتيكية للثورة:

"على البروليتاريا أن تنشئ "مجالس سوفييت" في جميع المدن لتقود نضال الجماهير في المدن وتضع في حيّز التنفيذ التحالف النضالي مع الجيش والفلاحين".
(تروتسكي: مجلة "ناشالو" – العدد 4 في 30 نوفمبر 1905).

إني أقرّ أن الاستشهاد بنصوص تثبت أني لم أتكلم أبدا عن "قفزة" من الحكم الفردي إلى الاشتراكية أمرٌ مملٌ ومخجل معا. ولكن لا مفرّ منه. ففي فبراير عام 1906، مثلا، كتبت ما يلي حول مهام الجمعية التأسيسية، دون أن أطرحها كبديل لمجالس السوفييت، كما يفعل الآن راديك الذي يسير على خطى ستالين بالنسبة للصين، لكي يزيل بمكنسة يسارية –فعالية كل أوساخ سياسة الأمس الانتهازية:

"إن الشعب المتحرر سيدعو الجمعية التأسيسية بقوته هو. وستلقى على عاتق هذه الجمعية مهام جسام. عليها أن تعود بناء الدولة على أسس ديموقراطية، أي وفق مبادئ سيادة الشعب المطلقة. وسيكون من واجبها أن تنظم الميليشيا الشعبية وأن تجري إصلاحا زراعيا بعيد المدى وتدخل يوم العمل من ثماني ساعات وضريبة دخل تصاعدية". (تروتسكي: المؤلفات الكاملة: المجلد 2 – الجزء الأول – ص 349 – الطبعة الروسية).

وهذا ما كتبته عام 1905 في منشور تحريكي مسألة إدخال الاشتراكية "مباشرة":

"هل من المعقول إدخال الاشتراكية إلى روسيا مباشرة ؟ كلا.. فإن ريفنا ما زال يسوده الظلام والجهل إلى حد كبير. والاشتراكيون الحقيقيون بين الفلاحين قلة. علينا بادئ بدء أن نقضي على الحكم الفردي الذي يبقى جماهير الشعب في الظلام. يجب تحرير فقراء الريف من جميع الضرائب، وإدخال ضريبة دخل تصاعدية وفرض التعليم الإلزامي العام، وأخيرا يجب صهر البروليتاريا وشبه-البروليتاريا في الريف مع بروليتاريا المدن في جيش اشتراكي- ديموقراطي واحد. إن هذا الجيش وحده هو الذي يستطيع أن يحقق الثورة الاشتراكية العظمة". (تروتسكي: المؤلفات الكاملة: المجلد 2 – الجزء الأول – ص 228 – الطبعة الروسية).

ويستنتج من ذلك أني كنت أميز بين المرحلة الديموقراطية والمرحلة الاشتراكية من الثورة، قبل أن يبدأ راديك، الذي يسير على خطى ستالين وثالمان(1)، بتزويدي بالنصائح حول هذا الموضوع. منذ اثنين وعشرين عاما كتبت ما يلي:

"عندما تبلورت فكرة الثورة المتقطعة في الصحافة الاشتراكية، تلك الفكرة التي تربط بين تصفية الحكم المطلق والإقطاعية وبين الثورة الاشتراكية إلى جانب تفاقم الصراعات الاجتماعية وتمرد قطاعات جماهيرية جديدة وشن البروليتاريا للهجمات المستمرة على الامتيازات الاقتصادية والسياسية للطبقات الحاكمة، عندما تبلورت هذه الفكرة أطلقت صحافتنا "التقدمية" صيحة استنكار واحدة".(تروتسكي: "ثورتنا" – 1906 – ص258)

أريد أولا أن الفت الأنظار إلى تعريف الثورة غير المتقطعة الذي تحويه هذه الكلمات: إنها تربط بين تصفية بقايا القرون الوسطى وبين الثورة الاشتراكية من خلال عدد من الاصطدامات الاجتماعية المتزايدة الحدة. فأين إذن هي القفزة ؟ أين هو تجاهل المرحلة الديموقراطية ؟ وعلى كل، أليس هذا ما حدث فعلا عام 1917 ؟

وتجدر الإشارة، في هذا الصدد، إلى أن صرخة الاستنكار التي أطلقتها الصحافة "التقدمية" عام 1905 ضد الثورة غير المتقطعة لا يمكن بأي حال من الأحوال مقارنتها بالنباح غير التقدمي الذي يطلقه مرتزقة هذا الزمن الذين تدخلوا في الموضوع بعد مضي ربع قرن.

ماذا كان موقف "الحياة الجديدة" لسان حال الجناح البلشفية التي كانت تصدر تحت إشراف لينين اليقظ عندما أثرتُ موضوع الثورة الدائمة في الصحافة. لا شك ان هذه النقطة لا تخلوا من الأهمية. كتبت صحيفة "حياتنا" البرجوازية "الراديكالية" مقالة تحاول فيها أن تواجه "نظرية الثورة الدائمة"، لتروتسكي بآراء لينين "الأكثر معقولية"، فأجابت عليها صحيفة "الحياة الجديدة" البلشفية (في 27 نوفمبر 1905) بما يلي:

"إن هذا الافتراض الكيفي هراء ليس إلاّ. لقد قال الرفيق تروتسكي إنه من الممكن أن لا تتوقف ثورة البروليتاريا عند المرحلة الأولى بل تكمل طريقها فتقوض حكم المستغلين؛ وقد أشار لينين من طرفه إلى أن الثورة السياسية ما هي إلاّ الخطوة الأولى. إن محرر "حياتنا" يريد أن يرى تناقضا بين هاذين القولين… إن سوء التفاهم كله يرجع إلى أسباب ثلاثة: أولا: الرعب الذي تثيره في أوساط أسرة تحرير صحيفة "حياتنا" عبارة الثورة الإجتماعية. ثانيا: رغبة هذه الصحيفة في اكتشاف خلاف عميق حاد بين وجهات نظر الاشتراكيين-الديموقراطيين. وثالثا: الثورية التي يستعملها الرفيق تروتسكي في عبارة "دفعة واحدة". في العدد العاشر من صحيفة "ناشالو"(البداية)يوضح الرفيق تروتسكي هذه العبارة بما لا يفسح المجال أمام أي تأويل فيقول:
"ولكن هذا الانتصار يعني بدوره ديمومة الثورة في المستقبل. إن البروليتاريا تحقق في الحياة المهام الديموقراطية الأساسية غير أن منطق صراعها العاجل من أجل ترسيخ حكمها السياسي يطرح عليها، في لحظة معينة، مشكلات ذات طابع اشتراكي فحسب. فتتولد ديمومة ثورية بين برنامج الحد الأدنى وبرنامج الحد الأقصى (من مطالب الاشتراكيين-الديموقراطيين). ليست المسألة مسألة "دفعة واحدة"، أو مسألة يوم واحد أو شهر واحد، إنها مسألة حقبة تاريخية برمتها. ومن العبث أن نحاول تحديد مدتها سلفا."

إن هذه الإشارة تستنفذ موضوع المنشور الحالي. أي دحض لكل النقد اللاحق الذي وجهه "رجال الصف الثاني" هو أكثر وضوحا ودقة ومتانة من هذا الدحض الذي تحويه مقالتي الصحفية التي نقلتها صحيفة لينين "الحياة الجديدة" معلنة تأييدها الكامل لها ؟ إن مقالتي توضّح إن البروليتاريا المنتصرة، خلال إنجازها للمهام الديموقراطية، سوف يفرض عليها منطق وضعها ذاته مواجهة مشكلات ذات طابع اشتراكي فحسب في مرحلة معينة. هنا بالتحديد تكمن الديمومة بين برنامج الحد الأدنى وبرنامج الحد الأقصى التي تنبثق بشكل حتمي عن دكتاتورية البروليتاريا. وقد أوضحت في ذلك الحين لنقادي في معسكر البرجوازية الصغيرة أن هذه لن تتم دفعة واحدة وأنها ليست قفزة بل هي حقبة تاريخية كاملة. ولقد وقفت صحيفة لينين "الحياة الجديدة" بحزم إلى جانب هذا التوقع. وأهم من ذلك هو أن هذا التوقع قد أكده سير التطور الفعلي، وبرهن عام 1917 عن صحته بشكل حاسم.

إلى جانب العناصر الديموقراطية من البرجوازية الصغيرة المتكتلة حول صحيفة "حياتنا"، كان هنالك المنشفيك الذين تكلموا عام 1905 وبخاصة عام 1906 بعد أن بدأت الثورة بالانتكاس، عن "القفزة" المروعة عن الديموقراطية باتجاه الاشتراكية. ومن بين هؤلاء المنشفيك كان مارينوف والمرحوم يوردانسكي بشكل خاص السباقين في هذا المجال. ولنذكر بشكل عابر أنهما صارا فيما بعد من الستالينيين المتحمسين. وقد خصصتُ عام 1906 مقالة مفصلة ومكتوبة بأسلوب شعبي للرد على هؤلاء المنشفيك الذين حاولوا إلصاق تهمة "القفز إلى الاشتراكية" بي، فبينت تهافت هذا الإدعاء وسفاهته. وباستطاعتي الآن إعادة طبع هذه المقالة دون أن أحذف منها شيئا للردّ على نقد "رجال الصف الثاني" ولكنني سأكتفي بالاستشهاد بخاتمة هذه المقالة التي تتلخص بالكلمات التالية:

"فليطمئن ناقدي (يوردانسكي) إني أعلم علم اليقين أن القفز عن عقبة سياسية في مقالة صحفية لا يشبه بشيء تخطيها عمليا".
(تروتسكي: المؤلفات الكاملة: المجلد 2 – الجزء الأول – ص 454 – الطبعة الروسية).

ترى أيكفي هذا ؟ وإذا لم يكن كافيا، فإني سوف أستمر. حتى لا أفسخ المجال أمام نقاد على طراز راديك ليقولو أن المواد ليست "في متناول أيديهم" لكي يطلقوا عليها أحكامهم الشهمة.

لقد كتبت خلال وجودي في السجن عام 1906 منشورا صغيرا بعنوان "خططنا التكتيكية" طبعه لينين رأسا وهو يحوي الخاتمة المميزة التالية:

"سوف تتمكن البروليتاريا من الاستناد إلى انتفاضة في الريف وفي المدينة، مركزي الحياة السياسية، وسوف تتمكن من أن تحقق انتصار القضية التي بادرت بإثارتها. وباعتمادها على قوى الفلاحين الأساسية وبقيادتها لها لن توجه البروليتاريا الضربة القاضية المظفرة للرجعية فحسب، ولكنها ستعرف كيف تحقق انتصار الثورة أيضا".
(تروتسكي: المؤلفات الكاملة: المجلد 2 – الجزء الأول – ص 448 – الطبعة الروسية).

هل يبدو هذا من هذا القول أني أتجاهل الفلاحين ؟ وبالمناسبة، بلورت في المنشور ذاته الفكرة التالية:

"إن خططنا التكتيكية، المبنية على تقدّم الثورة المضطرد، لا يجب أن تتجاهل أطوار الحركة الثورية ومراحلها أكانت هذه حتمية أم ممكنة أم متوقعة".
(تروتسكي: المؤلفات الكاملة: المجلد 2 – الجزء الأول – ص 436 – الطبعة الروسية).

هل يبدو هذا وكأنه قفزة مروعة ؟

في مقالة لي بعنوان "دروس من السوفييت الأول" (1906) بيّنت توقعات تطور الثورة اللاحق (أو بالأحرى توقعات الثورة الجديدة كما تبين فيما بعد) على الشكل الآتي:

"التاريخ لا يعيد نفسه – فلن يضطر السوفييت الجديد إلى اجتياز أحداث الأيام الخمسين (نوفمبر إلى ديسمبر 1905)، عوضا عن ذلك بإمكانه أن يستعيد برنامج عمله كله من هذه الفترة. وهذا البرنامج في غاية الوضوح: التعاون الثوري مع الجيش والفلاحين والفئات الدنيا من البرجوازية الصغيرة في المدن. إلغاء الحكم الفردي. تقويض تنظيمه المادي بواسطة إعادة التنظيم من جهة، وبواسطة تذويب الجيش حالا وتحطيم الآلة البرقراطية والبوليسية من جهة أخرى. تحديد يوم العمل بثماني ساعات. تسليح الشعب عامة والبروليتاريا خاصة. تحويل مجالس السوفييت إلى منظمات للإدارة الذاتية الثورية في المدن. إنشاء مجالس سوفييت لمندوبي الفلاحين (اللجان الفلاحية) بوصفها المنظمات المولجة بتحقق الثورة الزراعية في الريف. تنظيم الانتخابات للجمعية التأسيسية، والنضال الانتخابي على أساس برنامج عمل محدد يطرحه ممثلو الشعب".
(تروتسكي: المؤلفات الكاملة: المجلد 2 – الجزء الثاني – ص 206 – الطبعة الروسية).

هل يبدو هذا القول وكأنه قفز عن القضية الزراعية، أو أنه تجاهل للمسألة الفلاحية بشكل عام ؟ هل يبدو من هذا القول أني كنت متعاميا عن المهام الديموقراطية للثورة ؟ كلا إنه لا يبدو كذلك. ولكن كيف تبدو الصورة السياسية التي يرسمها راديك ؟ إنها لا تبدو كأي شيء.

يحاول راديك بواسطة الإبهام والتضخيم أن يضع حدا فاصلا بين موقفي عام 1905 الذي يشوهه وبين موقف المنشفيك، دون أن يدري أنه هو نفسه يردد ثلاثة أرباع نقد المنشفيك؛ فيقول أنه بالرغم من أن تروتسكي اتبع نفس الوسائل التي يتبعها المنشفيك إلا أن هدفه كان مغايرا لهدفهم. بهذه الصيغة الذاتية يسيء راديك إلى الطريقة التي يعالج فيها المسألة. حتى "لاسال" كان يعلم أن الهدف يعتمد على الوسيلة ويتحدد بها في التحليل الأخير. وقد ذهب إلى حد كتابة مسرحية حول هذا الموضوع بعنوان "فرانز فون سنكينجين". ولكن، ما هو القاسم المشترك بين وسائلي ووسائل المنشفيك ؟ موقف كلانا من الفلاحين. وكبرهان على ذلك، يستشهد راديك بثلاث أسطر سجالية من مقالة لينين عام 1916 الآنفة الذكر، مشيرا بشكل عابر إلى أن لينين، بالرغم من أنه يذكر تروتسكي بالاسم، فقد كان في الواقع يوجه مساجلته ضد بوخارين وضد راديك ذاته. وإلى جانب هذه الأسطر من لينين التي سبق ورأينا كيف يدحضها محتوى مقالة لينين كله، يتناول راديك تروتسكي نفسه. في معرض فضحي لتهافت مفهوم المنشفيك، طرحت في مقالة لي عام 1916 السؤال التالي: إذا لم تكن البرجوازية الليبرالية هي التي ستقود الثورة، فمن سيقودها ؟ على كل، أنتم أيها المنشفيك، لا تؤمنون بأي حال من الأحوال بدور الفلاحين السياسي المستقل. هنا يقبض عليّ راديك بالجرم المشهود: إن تروتسكي "يتفق" مع المنشفيك حول دور الفلاحين. كان المنشفيك، يرفضون فكرة "إبعاد" البرجوازية الليبرالية بغية إقامة تحالف مشبوه، لا يمكن الإعتماد عليه مع الفلاحين. تلك كانت "وسيلة" المنشفيك، في حين كانت وسيلتي تعتمد على استبعاد البرجوازية الليبرالية والنضال من أجل قيادة الفلاحين الثوريين. وحول هذه المسألة الأساسية كنت على اتفاق تام مع لينين. فعندما قلت للمنشفيك في معرض صراعي ضدهم: "لستم، بأي حال من الأحوال، على استعداد للاعتراف بدور الفلاحين القيادي"، فلم يكن ذلك اتفاقا مع وسيلة المنشفيك، كما يحاول راديك أن يوحي، وإنما كان طرحا جليا لبديل: إما دكتاتورية الأثرياء الليبراليين وإما دكتاتورية البروليتاريا.

إن نفس الحجة الأكيدة التي واجهت بها المنشفيك عام 1916، والتي يحاول راديك الآن استعمالها بخبث ضدي، وقد سبق لي وعرضتها قبل ذلك بتسع سنوات في مؤتمر لندن عام 1907 في معرض دفاعي عن أطروحات البلاشفة حول الموقف من الأحزاب غير البروليتارية. سوف استشهد هنا بالجزء الأساسي من خطابي في لندن الذي نشر، في السنوات الأولى للثورة، في المجموعات والكتب المدرسية كنموذج على الموقف البلشفي من الطبقات والأحزاب خلال الثورة. هذا ما قلته في ذلك الخطاب الذي يحوي صياغة جلية لنظرية الثورة الدائمة:

"إن أفكار الرفاق المنشفيك تبدو بالنسبة إليهم في غاية التعقيد. لقد سمعتهم يرددون اتهامات تقول إن مفهومي لمجرى الثورة الروسية مبسط أكثر من اللازم. ولكن، بالرغم من هلاميتهم المفرطة، التي هي شكل من أشكال التعقيد، وربما بسبب هذه الهلامية نجد أن آراء المنشفيك موضوعة في قالب بسيط يسهل حتى على المستر مليكوف فهمها.
فقد كتب الملهم النظري لحزب "الكاديت" في ملحق لكتابه الأخير "ما هي نتائج انتخابات مجلس الدوما الثاني ؟" ما يلي: "أما بالنسبة للمجموعات اليسارية، بالمعنى الضيق لهذه العبارة، أي المجموعات الاشتراكية والثورية، فالاتفاق معها سيكون أكثر صعوبة. ولكن حتى في هذا المضمار، إذا لم تتوفر أسباب إيجابية واضحة تسهل الاتفاق فيما بيننا، هناك على الأقل أسباب سلبية وجيهة تدعوا لذلك. إن هدفهم هو نقدنا وتجريحنا، لهذا السبب وحده علينا أن نكون موجودين وأن نتحرك. وكلنا يعلم أن اشتراكيي روسيا والعالم يعتبرون الثورة القائمةالان ثورة برجوازية لا ثورة اشتراكية. إنها ثورة تحققها الديمقراطية-البرجوازية… إن تخطي هذه الثورة أمر لا يدخل في تخطيط أي اشتراكي في العالم، وإذا كانت الأمة قد انتخبتهم إلى مجلس الدوما بهذه الأعداد الضخمة، فبالتأكيد ليس لكي يحققوا الثورة الاشتراكية الآن أو لكي يقوموا هم بالإصلاحات "البرجوازية" التحضيرية… والأجدر بهم أن يتركوا لعب دور البرلمانيين لنا وأن لا يورطوا أنفسهم في لعب هذا الدور".
إن مليكوف، كما اتضح، يدخل بنا إلى صلب الموضوع. إن النص المنشور أعلاه يحوي أهم العناصر التي يتكون منها موقف المنشفيك تجاه الثورة وتجاه العلاقة بين الديموقراطية البرجوازية والديموقراطية الاشتراكية.
"الثورة القائمة الآن هي ثورة برجوازية وليست ثورة اشتراكية" هذه هي النقطة الأولى والأكثر أهمية. إن الثورة البرجوازية "يجب أن تحققها الديموقراطية البرجوازية"، تلك هي النقطة الثانية. ليس بمقدور الديموقراطية الاشتراكية أن تقوم بالإصلاحات البرجوازية نفسها، إن دورها يقتصر على المعارضة،على "النقد والتجريح". تلك هي النقطة الثالثة. وأخيرا، النقطة الرابعة: لكي نضمن للاشتراكيين البقاء في المعارضة علينا (نحن الديموقراطية-البرجوازية) أن نكون موجودين وأن نتحرك".
ولكن ماذا لم نكن "نحن" موجودين ؟ ماذا لو لو لم يكن ثمة ديموقراطية برجوازية قادرة على قيادة الثورة البرجوازية ؟ إذن توجّب علينا اختراعها. وتلك بالتحديد هي النتيجة التي يخلص إليها المنشفيك إنهم ينسجون من صنع خيالهم ديمقراطية برجوازية مع توابعها وتاريخها.
بوصفنا ماديين، يتوجب علينا بادئ بدء أن نطرح قضية الأسس الطبقية للديموقراطية البرجوازية: على أية فئات أو هيئات بإمكانها أن تعتمد ؟
البرجوازية الكبيرة ليست قوة ثورية، هذا أمر نتفق عليه جميعا. فحتى إبان الثورة الفرنسية العظمى، التي كانت ثورة برجوازية بالمعنى الواسع لهذه العبارة، لعب بعض صناعيي مدينة "ليون" دورا معاديا للثورة. ولكن يقال لنا أن البرجوازية المتوسطة وبشكل خاص البرجوازية الصغيرة تشكلان القوة القائدة للثورة البرجوازية. ولكن ماذا تمثل هذه البرجوازية الصغيرة ؟
لقد اعتمد اليعاقبة على العناصر الديموقراطية في المدن التي انبثقت من التعاونيات الحرفية. وكان الصناع الصغار والمياومون وسكان المدن المرتبطون بهم يكونون جيش المعدمين الثوريين (Les sans culottes) القوة الدافعة لحزب "الجبليين" القائد. إن هذه الجموع الكثيفة من سكان المدن، التي اجتازت التاريخ الطويل لحقبة التعاونيات الحرفية، هي التي حملت جميع أعباء الثورة. وكانت النتيجة الموضوعية لهذه الثورة خلق الظروف "الطبيعية" الاستغلال الرأسمالي. ومهما يكن من أمر، فالتركيبات الاجتماعية للعملية التاريخية هي التي ولدت هذه النتيجة: أن يكون "السوقة" أي ديموقراطية الشارع – المعدمون (Les sans culottes) – هم الدين مهّدوا الطريق أمام سيطرة البرجوازية. فقد طهرت دكتاتوريتهم الإرهابية المجتمع البرجوازي من حثالته القديمة، فجاءت البرجوازية إلى الحكم بعد أن توخت دكتاتورية ديموقراطيي البرجوازية.
إني أسأل الآن، وليس للمرة الأولى ويا للأسف، أية طبقة اجتماعية سترفع ديموقراطيي البرجوازية الثورية إلى سدة الحكم، وتمكنهم عن الاضطلاع بمهامها الجبارة إذا ظلت البروليتاريا في المعارضة ؟ ذلك هو السؤال الرئيسي، وأني أطرحه مجددا على المنشفيك.
لا شك في أنه يوجد في بلدنا جماهير غفيرة من الفلاحين الثوريين. غير أن الرفاق المنشفيك يعلمون، بقدر ما أعلم، أن الفلاحين، بغض النظر عن مدى ثوريتهم، عاجزون عن أن يلعبوا دورا سياسيا مستقلا وهم بالتالي عاجزون عن لعب دور قيادي. ومما لا شك فيه أن الفلاحين سيثبتون أنهم قوّة ضخمة في خدمة الثورة، ولكن الماركسي لا يؤمن عادة أنه بإمكان حزب فلاحي أن يقود الثورة البرجوازية وأن يبادر في تحرير قوى الإنتاج في الأمة من العقبات القديمة الموضوعية في طريقها. إن المدينة هي الكائن المسيطر في المجتمع الحديث، والمدينة فقط هي التي تستطيع أن تلعب دور المسيطر في الثورة البرجوازية.
والآن، أين هي العناصر الديموقراطية في مدن روسيا القادرة على قيادة الأمة ؟ إن الرفيق مارتينوف ينقب عنها منذ مدة وفي يده مجهر. فاكتشف أساتذة في ساراتوف، ومحامين في بطرسبرغ وعلماء إحصاء في موسكو. وكغيره ممن يشاركونه الرأي، رفض مارتينوف أن يلاحظ شيئا واحدا وهو أن البروليتاريا الصناعية قد احتلت نفس الموقع في الثورة الروسية كالتي احتلها الديموقراطيون المعدمون (Les sans culottes) من الحرفيين وشبه-البروليتاريا في نهاية القرن الثامن عشر. أيها الرفاق، إني الفت انتباهكم إلى هذه الحقيقة الأساسية.
إن الصناعة الواسعة في بلدنا لم تنبثق بشكل عضوي من نظام الحرف. وتاريخ مدننا الاقتصادي لا يذكر شيئا عن وجود مرحلة حرفية. فقد ولدت الصناعة الرأسمالية في بلدنا تحت ضغط سريع ومباشر من رأس المال الأوروبي، الذي استولى على أرض بكر وبدائية دون أن تقف في وجهه التقاليد الحرفية. لقد دخل رأس المال الأجنبي إلى بلدنا عبر قنوات القروض التي تطلبها الدولة وعبر أنابيب المبادرة الفردية. فجمع حوله جيش البروليتاريا الصناعية وحال دون نشوء الحرف وتطورها. ونتيجة لهذه العملية ظهرت فيما بيننا، إبان الثورة البرجوازية، بروليتاريا صناعية ذات مستوى مرتفع من التطور الاجتماعي تشكل القوة الرئيسية في المدن. هذه هي الحقيقة. ولا يمكن مناقشتها ويجب اتخاذها أساسا لاستنتاجاتنا التكتيكية الثورية.
إذا كان الرفاق المنشفيك يؤمنون بأن الثورة ستنتصر، أو إذا كانوا يعترفون بأن الانتصار محتمل، إذن لا يجوز لهم أن يشككوا في أن المطالب التاريخي الوحيد بالسلطة الثورية في بلدنا هي البروليتاريا. فمثلما قادت العناصر الديموقراطية من البرجوازية الصغيرة في المدن الأمة الثائرة، إبان الثورة الفرنسية العظمى، كذلك يجب على البروليتاريا، الطاقة الديموقراطية الثورية الوحيدة في مدننا، أن تكسب تأييد الجماهير الفلاحية وأن تستولي على الحكم؛ بدون هذا تفقد الثورة كل أمل لها بالانتصار.
إن قيام حكومة ترتكز بشكل مباشر على البروليتاريا ومن خلالها على الفلاحين الثوريين لا يعني أنها قد أصبحت دكتاتورية اشتراكية. لن أعالج في هذا الصدد التوقعات الأخرى المطروحة أمام الحكومة البروليتارية. من المحتمل أن يكون مصير البروليتاريا هو الفشل، كما فشلت ديمقراطية اليعاقبة، لكي تفسح المجال أمام حكم البرجوازية. لكني أريد أن أقول ما يلي فقط: إذا كانت الحركة الثورية في بلدنا ستنتصر بوصفها حركة عمالية، كما تنبأ بليخانوف، إذن فانتصار الثورة ممكن فقط عندما يكون انتصار البروليتاريا الثوري؛ وفيما عدا ذلك فأي انتصار آخر مستحيل كل الاستحالة.
إني أصرّ على هذا الاستنتاج بعناد. إن الذين يسلِّمون بأن التناقضات الاجتماعية بين البروليتاريا والفلاحين ستمنع الطبقة الأولى من قيادة الطبقة الثانية، وبأن البروليتاريا لا تملك بمفردها القوة الكافية لإحراز النصر؛ إن الذين يسلمون بهذا يجب أن يخلصوا بالضرورة إلى ان ثورتنا لا نصيب لها من النجاح. في هذه الحالة، لابد من أن تكون النتيجة الطبيعية للثورة هي الاتفاق بين البرجوازية الليبرالية وسلطات العهد القديم. إن هذا استثناء لا يمكن إنكار احتمال حدوثه. غير أنه من الواضح أن هذا الاستثناء يوازي انهزام الثورة ويتحدد في ضوء صنعها الداخلي. إن جوهر تحليل المنشفيك، وبخاصة تقييمهم للبروليتاريا ولعلاقاتها الممكنة مع الفلاحين يقودهم حتما إلى طريق التشاؤم الثوري.
إلاّ أنهم يحيدون دوما عن هذا الطريق ويولدون تفاؤلا ثوريا مبنيا الديموقراطية البرجوازية.
على هذا الأساس يبنون موقفهم من حزب الكاديت. فهذا الحزب يجسد بالنسبة إليهم الديموقراطية البرجوازية، والديموقراطية البرجوازية هي المطالب الطبيعي بالسلطة الثورية…
على أي أساس يبنون اعتقادهم أن الكاديت ما زال حزبا يستطيع أن يقف على رجليه ؟ ترى على حقائق التطور السياسي ؟ كلا، إنكم تبنونها على منهاج خاص بكم. لكي "تتحقق الثورة حتى نهايتها" تحتاجون إلى ديموقراطيي برجوازية المدن، فتبحثون عنهم بشغف، غير أنكم لا تجدون أحدا سوى الكاديت. فيتولد لديكم تفاؤل عجيب تجاههم، فتبدءون بتحضيرهم ليلعبوا دورا خلاقا، هذا الدور الذي لا يريدون ولا يستطيعون وسوف لن يلعبوه. إني لم أتلقَّ جوابا على سؤالي الأساسي الذي طرحته مرارا. إن سياستكم تفتقر إلى الأهداف الكبيرة.
في هذا الصدد يجب على المؤتمرين أن يتذكرو الكلمات التي صغتم بها موقفكم من الأحزاب البرجوازية: "حسب ما تقتضي الأحوال". إنكم لا تريدون للبروليتاريا أن تخوض نضالا دؤوبا للتأثير على جماهير الشعب، ولا أن تحدد خططها التكتيكية على ضوء فكرة واحدة موجهة لتوحيد جميع الكادحين والمضطهدين لتكون حاملة لوائهم وقائدتهم".
(محاضرة ومقررات المؤتمر الخامس للحزب. الصفحة 180-185).

هذا الخطاب الذي يلخص بوضوح وإيجاز جميع مقالاتي وخطبي ومواقفي خلال عامي 1905-1906 قد حظي بالتأييد الكامل من قبل البلاشفة مثلما حظي بتأييد روزا لوكسمبورغ وتيسيزكو (على أساس هذا الخطاب نشأت فيما بيننا علاقات وثيقة أدت إلى مشاركتي في تحرير الصحيفة البولونية التي كانا يصدرانها). إن لينين، الذي لم يغفر لي موقفي التوفيقي تجاه المنشفيك، وكان على حق في ذلك، تكلم عن خطابي بلهجة تحفظ مقصودة. وهذا ما قاله:

"أريد فقط أن أشير إلى أن تروتسكي في كتيبه "دفاعا عن الحزب" قد أعلن عن تضامنه العلني مع كاوتسكي الذي كتب عن وحدة المصالح الاقتصادية بين البروليتاريا والفلاحين في الثورة الروسية الحالية. وقد اعترف تروتسكي بإمكان نشوء جبهة يسارية ضد البرجوازية الليبرالية وطالب بالإسراع في إنشائها. هذه الوقائع تكفي للاستنتاج بأن تروتسكي آخذ في الإقتراب من مفهومنا. إذا ما استثنينا مسألة "الثورة المستمرة" يمكن القول أننا متضامنون حول النقاط الأساسية لمسألة العلاقة بالأحزاب البرجوازية".
(لينين: المؤلفات الكاملة: الجزء 8 – ص 400 – الطبعة الروسية).

لم يحاول لينين في خطابه هذا أن يقدم تقييما عاما لنظرية الثورة الدائمة، لأني لم أبلور في خطابي التوقعات اللاحقة لدكتاتورية البروليتاريا. ويبدو أنه لم يقرأ بالتأكيد كتابي الأساسي حول هذه المسألة، وإلاّ لما كان تكلم عن "اقترابي" من مفاهيم البلاشفة وكأنه حدث جديد، لأن خطابي في لندن لم يكن سوى تكرار موجز لمؤلفاتي في عامي 1905 و1906. لقد تكلم لينين بتحفظ شديد لأني كنت آنذاك خارج الجناح البلشفي. وبالرغم من ذلك، وبدقة أكثر: بسبب ذلك، تترك كلماته مجالا للتأويل. لقد أكد لينين على "أننا متضامنون حول النقاط الأساسية للمسألة المتعلقة بالموقف من الفلاحين والبرجوازية الليبرالية. إن هذا التضامن ليس تضامنا مع أهدافي، على حد قول راديك الفظيع، ولكنه بالتحديد تضامن مع وسائلي. أما فيما يتعلق بتوقع نضوج الثورة الديموقراطية إلى ثورة اشتراكية، فصحيح أن لينين يورد هذا التحفظ: "إذا ما استثنينا مسألة (الثورة المستمرة)". ما هو معنى هذا التحفظ ؟ من الواضح أن لينين لا يربط مطلقا بين الثورة الدائمة وبين تجاهل دور الفلاحين أو القفز عن الثورة الزراعية، مثلما يفعل "رجال الصف الثاني" الجهلة والفاقدون للأمانة الفكرية. إن فكرة لينين هي على الشكل الآتي: إني لن أتعرض لمسألة إلى مدى ستصل الثورة عندنا وما إذا كانت البروليتاريا ستصل إلى الحكم في بلدنا قبل وصولها إليه في أوروبا، وما هو نصيب تحقيق الإشتراكية من النجاح؛ ومهما يكن من أمر "فإننا متضامنون" حول المسألة الأساسية المتعلقة بموقف البروليتاريا من الفلاحين ومن البرجوازية الليبرالية.

لقد شهدنا في مكان سابق كيف كانت ردة فعل صحيفة البلاشفة "الحياة الجديدة" لنظرية الثورة الدائمة عند ولادتها أي في عام 1905. فلنقرأ الآن ماذا يقول ناشرو "مؤلفات لينين الكاملة" عن هذه النظرية بعد عام 1917. ففي ملاحظات الملحق ة بالمجلد 14، الجزء الثاني، ص 481، ورد ما يلي:

حتى قبيل ثورة 1905 تقدم (تروتسكي) بنظرية أصيلة يجدر الانتباه إليها الآن بشكل خاص هي نظرية الثورة الدائمة يؤكد فيها أن ثورة عام 1905 البرجوازية سوف تنتقل مباشرة إلى ثورة اشتراكية فتكون بذلك الحلقة الأولى في سلسلة من الثورات على الصعيد الوطني".

إني أسلم القول بأن هذا ليس بأي حال من الأحوال اعترافا بصحة ما كتبته عن الثورة الدائمة. غير أنه اعتراف بعدم صحة ما يكتبه راديك عنها. "إن الثورة البرجوازية ستنتقل مباشرة إلى ثورة اشتراكية" – هذه هي نظرية نضوج الثورة إلى ثورة اشتراكية وليست نظرية "القفز عن المرحلة الديموقراطية إلى الإشتراكية"، والخطة التكتيكية المنبثقة عنها هي خطة واقعية وليست خطة انتحارية. وما هو معنى "النظرية…التي يجدر الانتباه لها الآن بشكل خاص هي نظرية الثورة الدائمة" ؟ إنه يعني أن ثورة أكتوبر قد ألقت ضوءا جديدا على تلك الأوجه من الثورة الدائمة التي كانت مظلمة في السابق بالنسبة للكثيرين أو أنها بدت "غير متوقعة" بالنسبة لهم. لقد صدر الجزء الثاني من المجلد 14 من مؤلفات لينين الكاملة بينما كان مؤلفها ما يزال على قيد الحياة. وقد قرأ هذه الملاحظة الألوف بل عشرات الألوف من الأعضاء الحزبيين. ولم يعلن أي منهم أنها غير صحيحة عام 1924. وقد فطن راديك إليها عام 1928 فقط.

ولكن ما دام راديك لا يقتر في حديثه على النظرية بل يتعداها إلى الخطة التكتيكية، فأهم حجة توجد ضده هي طبيعة اشتراكي العملي في ثورتي 1905 و1917. إن عملي في سوفييت بطرسبرغ عام 1905 ينسجم مع تبلور ذلك القسم من الرأي الذي يتعلق بطبيعة الثورة التي شن عليها رجال الصف الثاني هجومهم كله. فكيف يمكن ألا يكون لهذه الآراء التي يعتبرونها مغلوطة أي انعكاس على نشاطي السياسي بأي شكل الذي كنت أمارسه على مرأى من الجميع والذي كانت الصحف تكتب عنه يوميا ؟ ولكن إذا اعتبرنا أن نظرية مغلوطة كهذه قد انعكست على سياستي، إذن، لماذا لازم المسيطرون الحاليون على الحزب والحكم جانب الصمت في ذلك الحين ؟ وما قد يكون أهم من ذلك: لماذا دافع لينين في ذلك الحين بحماس بالغ عن الخط الذي كان يسلكه سوفييت بطرسبرغ سواء خلال ذروة انتصار الثورة أم بعد انهزامها ؟

إن الأسئلة ذاتها، ولكن بشكل أكثر حدة، يمكن طرحها بشأن ثورة عام 1917. في عدة مقالات كتبتها في نيويورك، قيمت ثورة فبراير من وجهة نظر نظرية الثورة الدائمة. لقد أعيد طبع جميع هذه المقالات الآن. وكانت الاستنتاجات التكتيكية التي خلصت إليها على انسجام تام مع الاستنتاجات التي خلص إليها لينين في الوقت ذاته في جنيف، وكانت بالتالي على تضاد مع استنتاجات كامنييف وستالين و"رجال الصف الثاني" الآخرين. وعندما وصلت بتروغراد، لم يسألني أحد إذا كنت قد تخليت عن "أخطائي" في الثورة الدائمة. وفي الواقع لم يكن هنالك أحد ليسأل: فقد كان ستالين منكفئا على ذاته بارتباك ينتقل من زاوية لأخرى تجيش في نفسه رغبة واحدة هي أن ينسى الحزب بأسرع وقت ممكن السياسة التي كان يدعو إليها إلى حين وصول لينين. ولم يكن ياروسلافسكي قد احتل بعد منصب الموجه "للجنة المراقبة"، فقد كان يتعاون مع المنشفيك ومع اوردجونيكيدج وآخرون على إصدار وريقة شبه ليبرالية تافهة في "ياكوتسك". أما كامنييف فقد اتهم لينين بالتروتسكية وقال لي عندما قابلني: "بإمكانك الآن أن تسخر منا ما شئت ذلك". عشية ثورة أكتوبر كتبت في الصحيفة الرسمية للحزب البلشفي عن توقع الثورة الدائمة. ولم يخطر ببال أحد أن يتصدى لي. كان تضامني مع لينين قد غدا تضامنا كاملا بلا قيد أو شرط. فماذا يريد راديك والنقاد الآخرون أن يقولو ؟ هل يريدون أن يقولوا إني فشلت فشلا تاما في فهم النظرية التي كنت ادعوا إليها، وأني تصرفت في أخطر مرحلة من التاريخ بشكل مغاير لهذه النظرية وكنت على حق في ذلك ؟ أليس من الأسهل أن نسلم بأن نقادي قد فشلوا في فهم الثورة الدائمة مثلما فشلوا في فهم قضايا أخرى غيرها ؟ فاذا سلمنا بأن هؤلاء النقاد الذين جاؤوا في مؤخرة الركب مؤهلين لتحليل أفكارهم وأفكار غيرهم، كيف نفسر إذن الموقف المخجل الذي اتخذه جميعهم في ثورة 1917 أو موقفهم من الثورة الصينية الذي وصمهم بوصمة عار أبدية ؟

وعلى كل حال، فقد يتذكر القارئ فجأة: ولكن ماذا بشأن شعارك التكتيكي البالغ الأهمية؛ "لا قيصرية بل حكومة عمالية ؟"

إن بعض الأوساط تعتبر أن هذه الحجة حجة حاسمة. إن الحديث عن شعار تروتسكي الشنيع "لا قيصرية !" يتخلل كتابات جميع نقاد الثورة الدائمة؛ فالبعض يعتبره الحجة الهامة والحاسمة والنهائية، أما بالنسبة للبعض الآخر فإنه مرفأ أمين تستريح عنده العقول المرهقة.
هذا النقد يصل إلى أعمق أعماقه طبعا عند "سيد" الجهل والغدر عندما يقول في مؤلفه الذي لا يضاهى "قضايا اللينينية" ما يلي:

"لن نتوقف طويل عند موقف الرفيق تروتسكي في عام 1905 عندما نسي "ببساطة" كل ما يتعلق بالفلاحين كقوة ثورية وطرح شعار "لا قيصرية بل حكومة عمالية" أي شعار الثورة بمعزل عن الفلاحين"
(ستالين: قضايا اللينينية – ص174 – 175 – الطبعة الروسية).

بالرغم من وضعي الذي يكاد يكون عاجزا في وجه هذا النقد الكاسح الذي لا يريد أن "يمكث طويلا"، سأحاول الاستنجاد ببعض الظروف المخففة. هاك بعضا منها فأرجو الاستماع إليها.

حتى لو كانت إحدى المقالات التي كتبتها عام 1905 تحوي شعارا معزولا مبهما أو غير ملائم قد يفسح المجال أمام التأويل، لا يجب النظر إليه الآن بعد ثلاثة وعشرين عاما بمفرده بل يجب أن يوضع ضمن إطاره إلى جانب كتاباتي الأخرى حول الموضوع نفسه، ويجب وضعه في إطاره إلى جانب مشاركتي السياسية في الأحداث، وهذا ما هو أهم من أي شيء آخر. فلا يجوز أن يعطى القراء فقط عنوان كتاب يجهلونه (بقدر ما يجهله النقاد أنفسهم" وأن يضفي على هذا العنوان معنى يتناقض تماما مع كل كتاباتي وتصرفاتي.

لن أكون هادرا للوقت، أيا نقادي، إذا قلت لكم إني لم أكتب ولم أقل ولم أقترح شعارا كهذا الشعار "لا قيصرية بل حكومة عمالية !" في أي مكان أو أي زمان. ففي أساس الحجة الرئيسية التي يواجهها لي هؤلاء الذين يقاضونني يكمن خطأ فادح في المعلومات، إلى جانب أشياء أخرى. إن حقيقة الأمر هي أن بارفوس قد كتب ونشر في الخارج بيانا بعنوان "لا قيصرية بل حكومة عمالية" في صيف عام 1905. كنت يومذاك أعيش متخفيا في بطرسبرغ، ولم يكن لي أية علاقة، من بعيد أو من قريب، بهذا البيان فكرا أو عملا. وقد علمت بوجوده فيما بعد من خلال المقالات السجالية التي دارت حوله. ولم تسنح لي الفرصة ولا الظرف الملائم لأعبر عن رأيي فيه. أما فيما يتعلق بالبيان ذاته فإني لم أره ولم أقرأه قط (وهذا هو حال جميع نقادي أيضا). هذه هي الحقيقة في هذه القضية الفظيعة. إني آسف لحرماني أمثال ثالمان وسيمار من هذه الحجة التي يسهل استعمالها والإقناع بها. ولكن الحقائق أقوى من مشاعري الإنسانية.

وليس هذا كل ما في الأمر. فالصدفة قد جمعت الأحداث إلى بعضها بحيث إني كتبت منشورا وزع سرا في بطرسبرغ بعنوان "لا القيصر ولا الزيمتزي(2)، بل الشعب !" في نفس الوقت الذي نشر فيه بارفوس بيانه الذي أجهله: "لا قيصرية بل حكومة عمالية". إن عنوان "لا القيصر ولا الزيمتزي، بل الشعب !" الذي يرد مرارا في نص المنشور بوصفه شعارا يشمل العمال والفلاحين لهو خير حجة مكتوبة بلهجة شعبية تدحض الادعاءات اللاحقة حول قفزي عن المرحلة الديموقراطية للثورة. إن المنشور يوجد في "مؤلفات تروتسكي الكاملة" (المجلد 2، الجزء الأول، ص256). إلى جانب ذلك توجد النداءات التي كتبتها والتي طبعتها اللجنة المركزية لحزب البلاشفة الموجهة لهؤلاء الفلاحين الذين "نسيتهم ببساطة" على حد تعبير ستالين الذكي(3).

ولكن هذه أيضا ليست كل ما في الأمر. منذ زمن ليس ببعيد، كتب أحد قادة ومفكري الثورة الصينية، السيد "رافيس" المحترم، عن الشعار الشنيع ذاته الذي طرحه تروتسكي في عام 1917 على صفحات المجلة الفكرية الناطقة باسم اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في الإتحاد السوفييتي. لم يتكلم رافيس عن عام 1905 بل عن عام 1917 ! على كل حال، فإن رافيس المنشفيكي معذور بعض الشيء، فحتى عام 1920 كان ما يزال وزيرا في حكومة بتليورا، فكيف له وهو يرزح تحت ثقل مسؤوليات الصراع ضد البلاشفة أن يراقب ماذا يجري في معسكر ثورة أكتوبر ! ولكن كيف تسمح لجنة تحرير المجلة الناطقة باسم اللجنة المركزية بنشر مثل هذا الهراء ؟ إن هذا لأمر عجيب. إنها حماقة جديدة ليس إلاّ…

وقد يعترض قارئ تثقف على حثالة هذه السنوات الأخيرة: "ولكن كيف يمكن أن يحصل ذلك ؟ ألم يعلمونا في مئات وآلاف الكتب والمقالات… ؟"

"أجل، أيها الأصدقاء، هذا ما علموكم إياه؛ ولهذا السبب عليكم أن تتعلموا من جديد. تلك هي النفقات الباهظة التي تفرضها علينا حقبة الردّة. ذلك هو السبيل الوحيد. فالتاريخ لا يسير في خط مستقيم. وهو قد تعثر حاليا في متاهات ستالين."


(1) ثالمان هو أحد قادة الحزب الشيوعي الألماني. (المترجم)
 

(2) الزيمتزي هم أعضاء أجهزة الحكم الذاتي المحلية المسمات "زيمتسوفا" التي انشئت في أواخر الحكم القيصري وكانت ذات صلاحية محدودة يسيطر عليها الأشراف الليبراليون (المترجم الإنكليزي)
 

(3) كتب تروتسكي هذه النداءات بعد عودته إلى روسيا في فبراير 1905 وكان كراسين، أحد القادة البلاشفة، هو الذي تولّى نشرها بإمضاء اللجنة المركزية. لضيق المجال، سنكتفي بنشر مقطع من نداء رائع وجهه تروتسكي إلى الفلاحين يقص فيه عليهم قصة "يوم الأحد الدموي". في 23 ديسمبر [بل يناير] عام 1905 سار عمال بطرسبرغ في تظاهرة سلمية كبيرة إلى "القصر الشتوي" ليعرضوا على القيصر مظالمهم وكان على رأسهم راهب يدعى الأب غابون. فرفض القيصر استقبال وفد من العمال وأمر جنود حامية القصر بإطلاق النار على المتظاهرين. فكانت مجزرة قتل فيها المئات من الأبرياء. هذا ما يقوله تروتسكي في ندائه المنشور في صحيفة البلاشفة "الشرارة" العدد 6 في 3 مارس 1905:
"ماذا فعل القيصر ؟ كيف ردّ على كادحي سان بطرسبرغ ؟
اسمعوا، اسمعو، أيها الفلاحون…
هكذا تكلم القيصر مع شعبه.
استنفر جميع وحدات الجيش في بطرسبرغ… هكذا كان القيصر يتهيأ للحديث مع أتباعه…
وسار مئتا ألف عامل باتجاه القصر.
كانوا يرتدون أجمل ثياب يوم الأحد، شيبا وشبّانا، وجاءت الزوجات مع أزواجهن. وكان الآباء والأمهات يقودون أطفالهم بأيديهم. هكذا ذهب الشعب إلى قيصره.
اسمعوا، اسمعو، أيها الفلاحون…
ولتنحفر كل كلمة في قلوبكم.
وملأ الجنود جميع الشوارع والساحات التي كان سيمرّ منها العمال المسالمون…
واستجدى العمال: "دعونا ندخل إلى القصر !"
وركع الكهول.
واستجدت النساء والأطفال…استجدوا:
"دعونا ندخل إلى القصر !"وثم حدث ما حدث !
انطلقت البنادق بدوي كقصف الرعد، واصطبغ الثلج بدم العمال الأحمر.
أخبروا الجميع، جماعات وفرادا، كيف كان قيصر روسي يردّد باعتزاز: "في بلدي أنا رجل القصر الأول والإقطاعي الأول."
لقد حوّل القياصرة الروس الفلاحين إلى طبقة من الأرقاء وأهدوهم إلى خدامهم المخلصين مثلما تهدى الكلاب.
أيها الفلاحون، قولو في جلساتكم للجنود، أبناء الشعب الذين يعيشون على مال الشعب، أنهم لن يجسروا على أن يطلقوا النار على الشعب."
بهذه الكلمات البسيطة المنغمة على إيقاع أغنية شعبية سلافية يسيطر تروتسكي على مخيلة الفلاح الفقير، ويشرح له أهداف حزبه وأساليبه. وفي الختام يفسر عبارة "الثورة" الغريبة عن اللغة الروسية على هذا الشكل:
"أيها الفلاحون، فلتندفع هذه النار في روسيا كلها في آن واحد. فلن تتمكن أية قوة من إخمادها. إن هذا الحريق الذي يشمل الوطن بأسره هو الثورة."
(عن كتاب "النبي المسلح" لإسحاق دويتشر ص 122-123). (المترجم)