الفصل الرابع
النضال لأجل مردود العمل


الخطة والمال

لقد حاولنا أن نمتحن النظام السوفياتي من زاوية الدولة، ويمكن أن نفعل الشيء ذاته من زاوية تداول النقد. فلقضيتي الدولة والمال مظاهر متعددة مشتركة لأنه يمكن حصرهما في النهاية بقضية القضايا أي مسالة مردود العمل. إن ضغط الدولة والضغط المالي يعودان إلى الإرث المنحدر من المجتمع المقسم إلى طبقات، ذلك المجتمع الذي لا يستطيع تحديد العلاقات بين الأفراد إلا بواسطة أصنام دينية أو علمانية وبوضع تلك الأصنام تحت حماية الدولة التي تضع سكّينا ضخمة بين أسنانها. أما في المجتمع الشيوعي فتكون الدولة والمال قد اختفيا. ينبغي أن يبدأ زوالهما التدريجي في النظام الاشتراكي. ولا يمكن التحدث عن انتصار حقيق للاشتراكية إلا في اللحظة التاريخية التي تصبح فيها الدولة نصف دولة، ويفقد المال قدرته السحرية. أي عندما تتخلص الاشتراكية من الأصنام الرأسمالية وتبدأ بإرساء علاقات أوضح وأكثر حرية وكرامة بين الناس.

إن مطالب "إلغاء المال" و"إلغاء العمل المأجور" أو "زوال" الدولة والأسرة التي تميز الحركة الفوضوية ليست نافعة إلا كنموذج للفكر الميكانيكي. إن "إلغاء" المال لا يتم بجرة قلم، والأمر كذلك بالنسبة للدولة والأسرة. إن على كل منها أن يستنفذ مهمته التاريخية ثم يفقد معناه ويزول . إن صنمية المال لن تتلقى الضربة إلا إذا تزايدت الثروة الاجتماعية بشكل يحرر الأفراد من بخلهم في ما يخص دقائق العمل الإضافية ومن قلقهم المخجل حيال كمية طعامهم. وعندما يفقد المال قدرته على منح السعادة، أو تلويث الإنسان، فإنه يتحول إلى وسيلة حسابية صالحة للإحصاء والخطة، ثم نستغني بعد ذلك عن هذه الوريقات. فلنترك هذه المهمة لأحفادنا الذين سيكونون أكثر ذكاء منا.

إن تأميم وسائل الإنتاج والتسليف، وسيطرة المجمعات أو الدولة على التجارة الداخلية، واحتكار التجارة الخارجية، وجماعية الزراعة، وقوانين الإرث، تمنع تكديس المال وتعيق عملية تحويله إلى رأسمال خاص (ربوي وتجاري وصناعي). إن الثورة البروليتارية لم تلغ وظيفة المال الاستغلالية هذه منذ بداية انتصارها، ولكنها نقلتها تحت شكل آخر إلى الدولة التي غدت تاجرا وصاحب بنك وصناعيا شاملا. فضلا عن ذلك، تم الاحتفاظ بالوظائف الأكثر بدائية التي يتولاها المال، من حيث هو مقياس للقيمة ووسيلة تداول ودفع، وهي تكتسب ميدان عمل أوسع من ذلك الذي كان أمامها أيام النظام الرأسمالي. لقد بيَّن التخطيط الإداري قوته وكشف في الوقت نفسه حدود هذه القوة.

إن مخططا اقتصاديا مسبقا في دولة متخلفة تعدادها 170 مليونا تشكو من تناقضات عميقة بين الريف والمدينة لا يشكل عقيدة ثابتة لا تتبدل، ولكنه عبارة عن فرضية عمل ينبغي التثبت من مدى صحتها وتعديلها أثناء التنفيذ. ويمكننا هنا أن نضع قانونا بهذا الصدد: كلما كان التوجيه الإداري "صارما" كلما أصبحت الحالة أشد مضايقة بالنسبة للقيادة الاقتصادية. إن علينا أن نستخدم رافعتين لتنظيم المخطط وتكييفه: رافعة سياسية ناجمة عن الاشتراك الحقيقي للجماهير ذات المصلحة الفعلية في الإدارة، ولا يتم هذا بدون ديمقراطية سوفياتية: ورافعة مالية تنبثق من التثبت الفعلي من صحة الحسابات المسبقة بواسطة معادل عام، الأمر الذي يبدو مستحيلا دون نظام مالي ثابت. بدل أن يكون انتهى دور المال في الاقتصاد السوفياتي، ينبغي أن يتم تطويره تطويرا عميقا. ولا تتطلب المرحلة الانتقالية بين الرأسمالية والاشتراكية، منظورا إليها بمجملها، الحد من حركة التجارة بل زيادتها إلى أقصى مدى. إن فروع الصناعة جميعها تتطور وتنمو، وتنشا فروع جديدة باستمرار. وعلى جميع هذه الفروع أن تحدد أوضاعها من حيث الكم والنوع. كما أن تصفية الاقتصاد الريفي الذي ينتج للاستهلاك المحلي، وتصفية الأسرة المغلقة، تعنيان إدخال كل طاقة العمل، (التي كانت تستهلك سابقا داخل حدود المزرعة أو بين جدران البيت) في التداول الاجتماعي، ومذذاك في التداول النقدي. لأول مرة في التاريخ يصبح ممكنا تبادل كل المنتجات والخدمات بعضهما مقابل البعض الأخر.

ومن جهة ثانية فإن أي تصور لبناء اشتراكي ناجح يتطلب منا أن ندمج داخل المخطط المصلحة الشخصية المباشرة وأنانية المنتج والمستهلك، وهي عوامل لا تتجلى بشكل مفيد إلا إذا كانت تستحوذ على هذه الوسيلة المألوفة والأكيدة والمرنة التي يمثلها المال. إن زيادة مردود العمل وتحسين نوعية الإنتاج مستحيلان دون وحدة قياسية تدخل بحرية في جميع مسام الاقتصاد كالوحدة النقدية الثابتة. ومن هنا يظهر أن العملة الحقيقية الوحيدة في الاقتصاد الانتقالي، كما في النظام الرأسمالي هي العملة المعتمدة على الذهب. وكل عملة أخرى عملة بديلة. صحيح أن الدولة السوفياتية تمتلك بين أيديها السلع وأجهزة الإصدار المالي، ومع هذا فإن ذلك لا يبدل من الأمر شيئا، لأن العمليات الإدارية المتعلقة بالأسعار المحددة للبضائع لا تخلق وحدة نقدية ثابتة، ولا تحل مكانها في التجارة الداخلية أو الخارجية.

إن نظام الاتحاد السوفياتي المالي المحروم من قاعدته الذهبية نظام منغلق مثل أنظمة العديد من الدول الرأسمالية. والروبل عملة غير معترف بها في التجارة العالمية. وإذا كان الاتحاد السوفياتي قادرا أكثر من ألمانيا وايطاليا على تحمل مساوئ هذا النظام، فهذا عائد جزئيا إلى تركيز التجارة الخارجية بيد الدولة، وغزارة الثروات الطبيعية في البلاد على وجه الخصوص. تلك الثروات هي وحدها التي تسمح له بألا يختنق وسط كماشة الاكتفاء الذاتي. ولكن المهمة التاريخية لا تكمن في عدم الاختناق فحسب، بل في خلق اقتصاد قوي، وعقلاني يؤمِّن أفضل استخدام للوقت وبالتالي أعلى مستوى ثقافي، وذلك في مواجهة المنجزات الكبرى للسوق العالمية.

إن الاقتصاد السوفياتي هو بالضبط ذلك الذي فيما يجتاز ثورات تقنية دائمة، وتجارب ضخمة، يحتاج أكثر ما يحتاج إلى تدقيق متواصل بواسطة معيار ثابت للقيمة . مما لا شك فيه من الناحية النظرية أنه لو كان لدى الاتحاد السوفياتي روبل ذهبي لأصبحت نتيجة الخطط الخمسية أفضل بكثير مما هي عليه اليوم، ولكننا لا نستطيع أن نحكم على ما هو غير موجود. كما لا يجب أن نجعل من الفقر فضيلة فذلك يقودنا إلى خسائر وأخطاء اقتصادية جديدة.

 

التضخم المالي الاشتراكي

في حين نجد أن تاريخ النظام النقدي السوفياتي هو تاريخ الصعوبات الاقتصادية، والنجاحات والفشل، نجد في الوقت ذاته أنه تاريخ تعرجات الفكر البيروقراطي أيضا.

وقد ارتبطت إعادة العمل بالروبل في 1922 – 1924 التي تلازمت مع الانتقال إلى سياسة "النيب" ارتباطا وثيقا بانتعاش "قواعد الحق البرجوازي" في حقل توزيع المواد الاستهلاكية. لقد كان "التشرفونييتز" موضة اهتمام الحكومة عندما كانت متجهة نحو المزارع. ثم فـُتحت سدود التضخم المالي خلال المرحلة الأول من الخطة الخمسية. فبلغ مجموع النقد المتداول في بداية عام 1925 مبلغ 0,7 مليار روبل، وارتفع في بداية عام 1928 إلى 1,7 مليار وهذا ما يعادل النقد الورقي المتبادل أيام الإمبراطورية قبل الحرب، ولكن بدون قاعدة ذهبية طبعا. ثم قفز خط التضخم المالي من سنة إلى أخرى قفزات محمومة: 2 – 2,8– 4,3 – 5,5 – 8,4 مليار ! ولقد تم التوصل إلى الرقم الأخير 8,4 مليار روبل في بداية عام 1933. وهنا بدأت سنوات التفكير والتراجع 6,69 – 7,7 – 7,9 مليار روبل في عام 1935.

وفي تشرين الثاني / نوفمبر 1935 هبطت قيمة روبل 1924 الذي يعادل رسميا 13 فرنكا إلى 3 فرنكات، مسجلة انخفاضا في السعر يزيد عن 4 مرات، وهذا ما يعادل قيمة الفرنك الفرنسي بعد الحرب. إن التسعيرتين، القديمة والجديدة، اصطلاحيتان قبل كل شيء ولا تصل القيمة الشرائية للروبل، مقارنة بالأسعار العالمية، إلى أكثر من 1,5 فرنك على الأرجح. ويدل هبوط القيمة على الانزلاق الحاد الذي انزلقته العملة السوفياتية حتى عام 1934.

لقد وعد ستالين في ذروة نزعته الاقتصادية المغامرة بان يرسل السياسة الاقتصادية الجديدة، أي علاقات السوق، إلى "الشيطان". وتكلمت الصحافة، مثلما تكلمت في عام 1918، على إحلال "التوزيع الاشتراكي المباشر" وبطاقات التموين إحلالا نهائيا مكان البيع والشراء. تم إنكار التضخم المالي بصورة جازمة. وجرى اعتباره ظاهرة غريبة عن النظام السوفياتي. وفي كانون الثاني / يناير 1933 قال ستالين ما يلي: "إن ثبات العملة السوفياتية تؤمِّـنه كمية البضائع الكبيرة التي تملكها الدولة وتطرحها في السوق بأسعار محدودة". ولم يُحلل هذا القول المأثور أو يعلق عليه رغم غموضه، ومع هذا فقد أصبح هذا القول القانون الرئيسي للنظرية النقدية السوفياتية، أي لنفي التضخم. ولم تعد "التشرفونييتز" معادلا عاما بل غدت ظلا عاما لكمية "ضخمة" من البضائع، وهو ما سمح لها بأن تمتد وتتضاءل ككل ظل. وإذا كان لهذه العقيدة المعزّية من معنى، فهو التالي: لقد فقدت النقود السوفياتية صفتها كنقود، ولم تعد مقياسا للقيمة، فـ "الأسعار الثابتة" تحددها الحكومة. ولم تعد "التشرنوفييتز" سوى العلامة الاصطلاحية للاقتصاد المخطط، أو بطاقة توزيع عامة. باختصار لقد انتصرت الاشتراكية "نهائيا ودون عودة".

وظهرت الأفكار الأكثر طوباوية لشيوعية الحرب على قاعدة اقتصادية جديدة أرقي بقليل ولكنها غير كافية لزوال المال. وكانت الأوساط الحاكمة تعتقد أن التضخم المالي أمر لا يخشى خطره في اقتصاد مخطط، وهذا يعني أن ثقب الماء لا يشكل خطرا على المركب ما دام لدينا بوصلة. والحقيقة أن التضخم المالي إذ يؤدي إلى تضخم التسليف يُحل قيما كاذبة مكان القيم الحقيقة ويفترس الاقتصاد المخطط من الداخل.

وقد أدى التضخم المالي إلى فرض عبء ضريبي ثقيل جدا على عاتق الجماهير الكادحة، بينما بقيت منافعه بالنسبة للاشتراكية غير أكيدة إطلاقا.

لقد تابع الجهاز الإنتاجي نموه المتسارع، ولكن التأثير الاقتصادي للمشاريع الضخمة الحديثة تم تقديره وفقا لمعايير إحصائية لا وفقا لمعايير الاقتصاد. إن البيروقراطية، إذ تتحكم بالروبل، أي تزوده اعتباطا بقدرات شرائية متنوعة وسط شتى شرائح السكان، حرمت نفسها من وسيلة لا غنى عنها لقياس أوجه نجاحها وفشلها بشكل موضوعي. وقد أدى غياب المحاسبة الدقيقة، المقنـَّع على الورق بتركيبات "الروبل الاصطلاحي"، إلى ضياع الحافز الفردي وإنتاج أسوأ البضائع مع مردود عمل ضعيف.

وأخذ الخلل خطيرا منذ المرحلة الأولى للخطة الخمسية. ففي تموز / يوليو 1931 وضع ستالين شروطه الستة المعروفة، الهادفة إلى تخفيض سعر التكلفة. هذه "الشروط" (أجر متلائم مع مردود العمل الفردي، حساب سعر التكلفة... الخ) لم تحتو أي جديد: ذلك أن "قواعد الحق البرجوازي" تعود إلى بداية السياسة الاقتصادية الجديدة، وقد جرى تطويرها في المؤتمر الثاني عشر للحزب في بداية عام 1923. إن ستالين لم يتعثر بها إلا في عام 1931، تحت ضغط الفعالية المتضائلة للاستثمارات الصناعية. لم يظهر في الصحافة السوفياتية خلال السنتين اللاحقتين مقال واحد لم يتحدث عن قدرة هذه "الشروط" على إنقاذ الموقف. والحال أنه لما كان التضخم متواصلا، لم يكن بالإمكان معالجة الأمراض التي يولدها، كما لم تعط التدابير القمعية المتخذة ضد المخربين أية نتيجة.

يبدو اليوم غير قابل للتصديق تقريبا أن تكون البيروقراطية التي شهرت الحرب على "الغفلية" و"نزعة المساواة" في العمل، أي على العمل المتوسط لقاء اجر "متوسط" ومتساو للجميع، قد أرسلت "إلى الشيطان" في الوقت ذاته النيب (السياسة الاقتصادية الجديدة) ، أو تقدير السلع بصورة نقدية بما فيها قوة العمل. لقد كانت تثبت "القواعد البرجوازية" بيد فيما تدمر الأداة المفيدة الوحيدة باليد الأخرى. وقد أدى استبدال التجارة "بالمخازن المغلقة"، وفوضى الأسعار، إلى اختفاء كل صلة بين العمل الفردي والأجر الفردي، وانعدمت الحوافز الفردية عند العمال.

بقيت التعليمات الأكثر صرامة المتعلقة بالحسابات الاقتصادية، ونوعية المنتجات، وأسعار التكلفة، ومردود العملة في الفضاء. ولكن هذا لم يمنع المسؤولين من تفسير الفشل بعدم التنفيذ المتعمد لشروط ستالين الستة، وأصبح التعرض ولو من بعيد لموضوع التضخم المالي جريمة نكراء. كانت السلطات تبدي حسن النية ذاته عن طريق اتهام معلمي المدارس بإهمال قواعد علم الصحة مع حرمانهم في الوقت نفسه من إمكانية التذكير بنقص الصابون.

لقد كان مصير "التشرفونييتز" في طليعة المسائل التي بحثت خلال الصراع بين أجنحة الحزب البلشفي، ففي عام 1927 طالبت المعارضة بـ "تثبيت الوحدة النقدية تثبيتا مطلقا". وبقي هذا المطلب مطروحا خلال السنوات التالية. وفي عام 1932 كتبت صحيفة المعارضة في الخارج عن ضرورة "إيقاف التضخم المالي بيد من حديد، وتأمين وحدة نقدية ثابتة" حتى ولو كان ذلك على حساب تخفيض جريء لتثميرات رؤوس الأموال...". بدا كما لو أن "جماعة التصنيع الكبير" تبادلوا الأدوار مع دعاة "سرعة السلحفاة". وردت المعارضة على التبجح بإرسال السوق "إلى الشيطان" ناصحة لجنة الخطة بأن تضع نصب أعينها أن "التضخم المالي هو سفلس الاقتصاد المخطط".

أما في الزراعة فلم تكن نتائج التضخم المالي أقل خطرا. فعندما كانت السياسة تجاه الفلاحين تحابي الكولاك ساد اعتقاد بأن تحول الزراعة الاشتراكي على قواعد السياسة الاقتصادية الجديدة سيتم خلال عشرات السنين، بواسطة التعاونيات التي كان عليها أن تستوعب ميادين التخزين، والبيع، والتسليف، واحدة بعد الأخرى لتحقق في النهاية اشتراكية الإنتاج طبقا لما كان يسمى آنذاك "مخطط لينين التعاوني". ولقد أخذ التنفيذ بعد ذلك كما نعلم طريقا آخر مختلفا كل الاختلاف ومتعارضا مع هذا المخطط، وهو طريق المصادرة بالقوة، والجماعية الكاملة. ولم يعد هنالك أثر لموضوع التشريك التدريجي لمختلف الوظائف الاقتصادية كلما سمحت الموارد المادية والثقافية بذلك. وبرزت الجماعية كما لو كانت تود تحقيق الشيوعية في الزراعة فورا. وكان من نتائج ذلك إبادة أكثر من نصف المواشي واستشراء اللامبالاة التامة بين الكولخوزيين إزاء الملكية الاشتراكية أو إزاء مردود عملهم الفردي. ونفذت الحكومة بعد ذلك تراجعا غير منتظم، وتملك الفلاحون من جديد دجاجا وخنازير وخرفانا وأبقارا، كما تلقوا قطع ارض قرب مساكنهم وبدأ فيلم الجماعية يدور بالاتجاه المعاكس.

ويعتبر إحياء هذه المشاريع الخاصة تنازلا من الحكومة أمام رغبات الفلاحين الفردية، ولكن الكولخوزات بقيت، لهذا يبدو تراجع الدولة للوهلة الأولى ثانويا، وهو في الحقيقة تراجع غير خطير. وإذا ما استثنينا ارستقراطيي الكولخوزات (1) لوجدنا أن الحاجة الضرورية للفلاح مغطاة اليوم بشكل عام بواسطة عمله "لحسابه" أكثر مما بواسطة عمله المشترك في الكولخوز. وقد يبلغ مكسبه من أرضه الخاصة، لاسيما إذا ما نفذ زراعة فنية، أو زرع المواد أو ربى الماشية، ضعفي أو ثلاثة أضعاف أجره من المشروع الجماعي. وتكشف هذه الحقيقة التي تؤيدها الصحافة السوفياتية التبديد البشع لقوة عمل عشرات الملايين من الرجال والنساء في زراعات قميئة، ومردود العمل الضعيف جدا في الكولخوزات.

ولرفع مستوى الزراعة الجماعية الكبيرة كان من الضروري مخاطبة الفلاح بلغة يفهمها، أي هجر أسلوب الضرائب العينية والعودة إلى التجارة وفتح السوق من جديد. وهذا يعني أن نطلب من الشيطان إعادة السياسة الاقتصادية الجديدة التي أرسلت قبل الأوان. وهكذا أصبح الانتقال إلى قاعدة نقدية ثابتة نسبيا شرطا ضروريا لتطور الزراعة اللاحق.

 

رد اعتبار الروبل

نحن نعرف أن البومة العاقلة لا تطير إلا تحت جنح الظلام. ونظرية المال في النظام "الاشتراكي" لا تأخذ كل معناها إلا في ظلمة أوهام التضخم المالي. لقد استطاع بعض الأساتذة المطيعين أن يبنوا على أقوال ستالين نظرية كاملة يتم تحديد السعر السوفياتي بموجبها من قبل الخطة أو عن طريق توجيهات وذلك بعكس سعر السوق. لم يكن ذلك مقولة اقتصادية بل مقولة إدارية معدة لتخدم بصورة أفضل توزيع الدخل القومي لمصلحة الاشتراكية. ولقد نسي هؤلاء الأساتذة أن يشرحوا لنا كيف يمكن "توجيه" الأسعار دون معرفة سعر التكلفة الحقيقي، وكيف يمكن حساب هذا السعر إذا كانت كل الأسعار تعبر عن إرادة بيروقراطية بدلا من التعبير عن كمية العمل الضروري اجتماعيا لإنتاج السلع ؟ والحقيقة أن الحكومة كانت تملك من أجل توزيع جديد للدخل القومي روافع بقوة الضرائب والموازنة ونظام التسليف. ففي ميزانية المصروفات لعام 1936 خصص أكثر من 37,6 مليار روبل لمختلف فروع الاقتصاد، علاوة على مليارات أخرى تذهب في اتجاهها بصورة غير مباشرة. كما أن ميكانيكيي الميزانية والتسليف كافون لتوزيع الدخل القومي توزيعا مخططا. أما الأسعار فإنها تخدم قضية الاشتراكية بشكل أفضل بقدر ما تعبر عن العلاقات الاقتصادية الحالية بشكل أصدق.

ولقد أثبتت التجربة ذلك. ولم يأخذ السعر "الاتجاهي" في الحياة الشكل المؤثر الذي وصفه العلماء في كتبهم. لقد كان هنالك أسعار مختلفة لسلعة واحدة فعشعشت بين فروقها بكل سهولة جميع أنواع المضاربات والمحسوبية والتطفل والمساوئ الأخرى التي ارتدت شكل القاعدة لا الاستثناء. أما التشرفونييتز التي كان عليها أن تصبح الظل الملازم للأسعار الثابتة فلم تعد سوى ظل نفسها.

وأصبح من الضروري تغيير الاتجاه بصورة مفاجئة هذه المرة بسبب النجاح الاقتصادي. وبدأ عام 1935 بإلغاء بطاقة الخبز، ثم ألغيت بطاقات المواد الأخرى في تشرين الأول / أوكتوبر. ثم اختفت بطاقات التموين بالحاجيات الضرورية في كانون الثاني / يناير 1936. وعادت العلاقات الاقتصادية للدولة مع العمال الصناعيين والزراعيين إلى لغة النقود. وغدا الروبل وسيلة الشعب للتأثير على الخطة الاقتصادية، بدءا بنوعية المواد الاستهلاكية وكميتها. ولم يكن أمام الاقتصاد السوفياتي أي سبيل عقلاني آخر ممكن.

وأعلن رئيس لجنة الخطة في كانون الأول / ديسمبر 1935 ما يلي:"يجب إعادة النظر في النظام الحالي للعلاقات المتبادلة بين البنوك والاقتصاد. كما أن على البنوك تطبيق نظام المراقبة بواسطة الروبل". وهكذا ماتت خرافات الخطة الإدارية وأوهام السعر الإداري. وإذا كان اقتراب الاشتراكية يعني في عالم المال اقتراب الروبل من بطاقة التوزيع فإن إصلاحات عام 1935 ينبغي اعتبارها إذاك ابتعادا عن الاشتراكية، إلا أن هذا التقدير خاطئ كليا. إن طرد الروبل للبطاقة ليس سوى التخلي عن وهم الاعتراف الصريح بضرورة خلق القواعد الأساسية للاشتراكية بواسطة العودة إلى أساليب التوزيع البرجوازية.

وفي كانون الثاني / يناير 1935 أعلن مفوض الشعب للمالية في اجتماع اللجنة التنفيذية المركزية للسوفياتات: "إن الروبل السوفياتي ثابت أكثر من أية عملة في العالم". وليس هذا القول مجرد ثرثرة فارغة، فميزانية الاتحاد السوفياتي تدل على أن زيادة مستوى الدخل أكثر من زيادة الاستهلاك كما أن ميزان التجارة الخارجية كان ايجابيا، ولقد تجاوز احتياطي الذهب في مصرف الدولة اليوم مليار روبل؛ وازداد استخراج الذهب من المناجم بسرعة، فالاتحاد السوفياتي يحاول الوصول بهذه الصناعة إلى المركز الأول في العالم عام 1936. وزادت حركة البضائع بشكل ملحوظ منذ إعادة السوق، وتوقف التضخم المالي تقريبا منذ عام 1934. إن العناصر اللازمة لثبات الروبل موجودة، ولكن وضع تصريح مفوض الشعب للشؤون المالية موضع التنفيذ يستلزم إفراطا في التفاؤل. وإذا كانت قوة الروبل اليوناني نتاجا للتقدم الاقتصادي العام، فإن الإنتاج بسعر تكلفة زائد يمثل بالنسبة إليه عقب أخيل. ولن يكون الروبل أثبت وحدة نقدية في العالم إلا إذا تجاوز مردود العمل السوفياتي المستوى العالمي لمردود العمل، أي عندما يتحتم على الروبل أن يزول.

ولا يزال الروبل عاجزا ادعاء التكافؤ من وجهة النظر التقنية، فمع احتياطي ذهبي يبلغ المليار تتداول البلاد ثمانية مليارات من الروبلات الورقية، فالتغطية لا تزيد إذن عن 12,5 بالمئة. وذهب بنك الدولة الآن احتياطي لحالة الحرب أكثر منه قاعدة للنظام النقدي. لا شك أن العودة إلى القياس الذهبي، من أجل إعطاء الخطط الاقتصادية المزيد من الدقة وتبسيط العلاقات مع الخارج، ليست مستبعدة نظريا في مرحلة من التطور أكثر تقدما. يمكن للنظام النقدي أن يستعيد مرة أخرى ألق الذهب الصافي، وذلك قبل أن يسلم أنفاسه. إلا أن هذه المشكلة لا تنطرح في كل الأحوال على جدول أعمال الغد القريب.

إن من المتعذر طرح موضوع التعادل بين النقد المتداول والتغطية الذهبية في المستقبل القريب، ولكن بمقدار ما تجتهد الحكومة، فيما تكوّن احتياطيا ذهبيا، في زيادة نسبة التغطية، حتى ولو كان ذلك نظريا، وبمقدار ما يجري الحد من عمليات الإصدار لأسباب موضوعية مستقلة عن إرادة البيروقراطية، يمكن أن يتوصل الروبل السوفياتي إلى ثبات نسبي. وهكذا ستجني البلاد فوائد جمة. إن النظام النقدي إذ يتخلى عن التضخم بحزم من الآن وصاعدا، سوف يساهم بالتأكيد في تضميد العديد من الجروح العميقة الناجمة فيما يخص الجهاز الاقتصادي عن النزعة الذاتية البيروقراطية في السنوات السابقة، حتى ولو حرم هذا النظام من منافع التعادل مع الذهب.

 

الحركة الاستاخانوفية

يقول ماركس: "إن توفير الوقت هو الاقتصاد كله"، أي صراع الإنسان ضد الطبيعة في كل مراحل الحضارة. فإذا أعادنا التاريخ إلى قاعدته الأساسية وجدنا أنه تتابع لعمليات توفير وقت العمل. ولا تبرر الاشتراكية نفسها بإلغاء الاستغلال فقط، إن عليها أن توفر وقت المجتمع أكثر مما يفعل النظام الرأسمالي. فإن لم يتوفر هذا الشرط أصبح إلغاء الاستغلال مجرد حلقة درامية لا مستقبل لها. لقد أثبتت أول تجربة تاريخية الإمكانيات الكبيرة الكامنة في الأساليب الاشتراكية، ولكن الاقتصاد السوفياتي لم يتعلم بعد كيف يستفيد من الوقت الذي يعتبر أثمن مادة أولية في الحضارة. وإلى الآن لم يعط استيراد التقنية التي تعد الوسيلة الرئيسية لتوفير الوقت، لم يعط في الاتحاد السوفياتي النتائج التي تعطيها التقنية هذه في البلاد الرأسمالية. فالاشتراكية لم تنتصر بعد في هذا المجال الحضاري الحاسم. لقد برهنت أنها قادرة على الانتصار وأن عليها أن تنتصر ولكنها لم تصل حتى الآن إلى ذلك، وكل التأكيدات المعاكسة عبارة عن ثمرة من ثمار الجهل أو الشعوذة.

ففي كانون الثاني / يناير 1936 أعلن مولوتوف (المتحرر أحيانا من الشكليات الجامدة أكثر من غيره من القادة السوفيات) ، أمام المجلس التنفيذي: "إن معدل مستوى مردود العمل عندنا منخفض بشكل كبير عما هو عليه في أمريكا وأوروبا". وكان عليه أن يحدد بدقة فرق المستويات وأن يذكر أن مستوانا اقل بـ 3 مرات وأحيانا عشر مرات من مستوى أوروبا وأمريكا، الأمر الذي يجعل سعر التكلفة عندنا أكبر بكثير. ولقد اعترف مولوتوف في الخطاب ذاته: "لا يزال مستوى ثقافة عمالنا أقل من مستوى ثقافة عمال عدة بلدان رأسمالية". وكان عليه أن يضيف أن أحوالهم المادية أسوأ أيضا. إن كلامه الواضح واعترافه العرضي يمحوان بكل شدة التبجحات التي صدرت عن عدد كبير من الشخصيات الرسمية وأحاديث "الأصدقاء" الأجانب التي تتصف بالنفاق والمداهنة !

إن النضال من اجل زيادة مردود العمل، مقرونا بهمّ الدفاع، يشكل المحتوى الجوهري لنشاط الحكومة السوفياتية. ولقد أخذ هذا الصراع خلال مختلف مراحل تطور الاتحاد السوفياتي أشكالا مختلفة. وكانت طرائق "فيالق الصدمة" المستخدمة خلال تنفيذ الخطة الخمسية الأولى وفي بداية الخطة الخمسية الثانية تعتمد على التحريض، والمثل الفردي، والضغط الإداري، وكل أنواع التشجيع والامتيازات المقدمة للمجموعات. واصطدمت محاولات تنظيم العمل بالقطعة على أساس "الشروط الستة" الموضوعة عام 1931 بعملة وهمية وبتنوع الأسعار. وجاء نظام التوزيع الحكومي للمنتجات ليحل محل التفاضل المرن للأجور ""مكافآت" تدل على الاعتباطية البيروقراطية. وأدخل السعي وراء الامتيازات إلى صفوف عمال الصدمة عددا كبيرا من الشاطرين المتمتعين بأنواع من الحماية. ووجد النظام نفسه في النهاية متناقضا مع أهدافه. ثم سمح إلغاء بطاقات التموين، وبداية ثبات الروبل، وتوحيد الأسعار باستخدام نموذج العمل بالقطعة أو بالالتزام. وقد جاءت حركة استاخانوف على هذا الأساس لتحل مكان فيالق الصدمة.

وما إن اخذ الروبل أهمية أكثر واقعية حتى بدا العمال أكثر اهتماما بآلاتهم وصاروا يهتمون باستخدام وقتهم أفضل. أصبحت حركة استاخانوف عبارة عن تكثيف العمل لا بل إطالة يومه: حيث أن الاستاخانوفيين ينظمون ورشاتهم وآلاتهم ويجهزون المواد الأولية اللازمة، ويعطي رؤساء الورش تعليماتهم لفرق العمل خارج أوقات العمل. وهكذا لم يبق من يوم العمل سبع ساعات سوى الاسم أغلب الأحيان.

لم يخترع الإداريون السوفيات بالحقيقة سر العمل بالقطعة، هذا النظام المتصف بمنتهى الاستغلال دونما إجبار ظاهر، والذي اعتبره ماركس "وسيلة متلائمة كل التلاؤم مع عالم الإنتاج الرأسمالي". ولقد تلقى العمال هذه البدعة بحذر لا بل بعداء واضح، وكان انتظار موقف آخر منهم أمرا غير طبيعي. إننا لا نستطيع إنكار مساهمة اشتراكيين متحمسين حقيقيين في حركة استاخانوف، ولكن يصعب علينا أن نقول كم تغلـَّب هؤلاء الاشتراكيين على الوصوليين والمشعوذين. إن جمهور العمال يقدّر أجور العمل الجديدة حين يكون الدفع أسخي وهو مضطر عادة لملاحظة تضاؤل قيمة الأجر.

مع أن عودة الحكومة السوفياتية إلى العمل بالقطعة بعد "انتصار الاشتراكية النهائي بلا ردة" يمكن أن تبدو للوهلة الأولى كتراجع، إلا أن علينا أن نكرر هنا ما قيل عن رد الاعتبار للروبل: إن الأمر لا يتعلق بالتخلي عن الاشتراكية ولكنه يتعلق بهجر الأوهام الزائفة. إن شكل الأجور أكثر توافقا مع الموارد الحقيقة للبلاد: "لا يمكن أن يعلو الحق أبدا على النظام الاقتصادي...".

ولكن الأوساط الحاكمة في الاتحاد السوفياتي لم تعد قادرة على التخلص من التمويه الاجتماعي. ولقد أعلن رئيس لجنة الخطة مجلاروك أثناء دورة المجلس التنفيذي عام 1936 ما يلي: "لقد أصبح الروبل عبارة عن الوسيلة الوحيدة الحقيقية لتحقيق المبدأ الاشتراكي ( !) لأجر العمل"، وإذا كان كل شيء في النظام الملكي القديم ملكيا حتى المراحيض العامة فلا يجب أن نستنتج أن كل شيء أصبح اشتراكيا بالقوة لمجرد وجوده داخل الدولة العمالية. إن الروبل هو "الوسيلة الوحيدة والحقيقية" لتحقيق المبدأ الرأسمالي لأجر العمل حتى ولو كان ذلك مع استخدام أشكال اشتراكية للملكية، وهذا تناقض واضح. وليبرر مجلاروك الأسطورة الجديدة للعمل "الاشتراكي" بالقطعة أضاف قائلا: "إن مبدأ الاشتراكية الأساسي كامن في أن يعمل كل فرد حسب قدرته ويأخذ أجرا حسب عمله". ولكم يستوطي هؤلاء السادة حائط النظرية ! إذ عندما يحدد الركض وراء الروبل إيقاع العمل فإن الأفراد لا يعملون حسب "قدرتهم" أي حسب حالة عضلاتهم وأعصابهم، بل يستنزفون أنفسهم. ولا يمكن اعتبار هذا الأسلوب صحيحا إلا في حالة الضرورة القصوى، أما اعتبارها "المبدأ الأساسي للاشتراكية" فدوس بالأقدام للمثل الأعلى لثقافة حديثة أسمى، بغية إلقائها في وحل الرأسمالية المعهود.

ويسير ستالين خطوة جديدة على هذا الطريق عندما يقدم حركة استاخانوف على أنها حركة تهيئ "الظروف الملائمة لانتقال الاشتراكية للشيوعية". ويرى القارئ هنا ضرورة تحديد علمي للمفاهيم المستخدمة في الاتحاد السوفياتي تحقيقا لأهداف ذات منفعة إدارية. تتطلب الاشتراكية، أي الطور الأدنى من الشيوعية، بدون شك، القيام بمراقبة حازمة للعمل والاستهلاك، إلا أنها تفترض في كل حال أساليب مراقبة أكثر إنسانية من الأساليب التي اخترعتها العبقرية الرأسمالية المستغلة. إن في الاتحاد السوفياتي جهازا بشريا متخلفا تدرب بقسوة على استخدام التقنية المستعارة من الرأسمالية، ويستخدم في السباق للوصول إلى معدلات العمل الأوروبية والأمريكية طرقا كلاسيكية للاستغلال كالأجر بالقطعة.

ولكن الأسلوب عتيق وقاس لدرجة لا تقبلها حتى النقابات الإصلاحية في البلاد البرجوازية. والقول بان عمال الاتحاد السوفياتي يعملون "لحساب الخاص"، قول غير دقيق ومحق إلا من وجهة النظر التاريخية، شريطة أن لا تخنقهم بيروقراطية قوية. وعلى كل حال فإن ملكية الدولة لوسائل الإنتاج لا تحيل روث الحيوانات ذهبا، ولا تحيط بهالة قدسية نظام الرق الذي ينهك القوة الإنتاجية الرئيسية: الإنسان. أما تحضير "الانتقال من الاشتراكية إلى الشيوعية"، فلا يجب أن يبدأ بالعمل بالقطعة بل بإلغاء هذا العمل لأنه إرث جاءنا من أيام الهمجية الغابرة.

إن رسم صورة كاملة لنتائج حركة استاخانوف أمر سابق لأوانه. ولكننا نستطيع أن نحدد خصائص هذه الحركة التي تسحب نفسها على النظام بمجمله. الحقيقة أن لبعض النتائج التي حصل عليها بعض العمال أهمية كبرى لأنها تدل على إمكانيات خاصة بالاشتراكية على وجه الحصر. لكن بين نجاح هذه النتائج الجزئي وامتدادها إلى الاقتصاد بأكمله طريقا طويلا. ضمن التداخل الوثيق لسيرورات الإنتاج، لا يمكن للمردود العالي وغير المنقطع للعمل أن يكون ثمرة الجهود الفردية على وجه الحصر. فزيادة المردود المتوسط مستحيلة دون إعادة تنظيم الإنتاج في المصنع، وإعادة النظر في العلاقات بين المشاريع. ورفع المعلومات التقنية لملايين العمال أصعب بكثير من دفع مئات العمال المهرة إلى العمل.

ولقد سمعنا الرؤساء أنفسهم يشتكون من ثقافة العمال السوفياتيين المحدودة، وليس هذا سوى جزء من الحقيقة. إن العامل الروسي ذكي ماهر ولديه إمكانيات كبيرة، وإن جماعة مؤلفة من مئات العمال الروس قادرة خلال بضعة أشهر، لا بل بضعة أسابيع، إن وُضعت في ظروف الإنتاج الأمريكي، أن تسير على قدم المساواة مع جماعة مماثلة من العمال الأمريكيين. إن المتاعب تأتي من التنظيم العام للعمل، والجهاز الإداري السوفياتي متخلف عموما أمام مهام الإنتاج الحديثة أكثر من العمال.

باستخدام التقنية الحديثة، يؤدي الأجر بالقطعة حتما إلى رفع المستوى المتدني كثيرا حاليا لمردود العمل. ولكن خلق الشروط الضرورية لذلك يتطلب من الإدارة، ابتداء من رؤساء الورشات ووصولا إلى المسؤولين في الكرملين، مهارة أرفع بكثير. وحركة استاخانوف لا تؤمِّن هذا الشرط إلا في أضيق الحدود. وتحاول البيروقراطية القفز من فوق الصعوبات التي لا تستطيع مجابهتها. وبما أن الأجر بالقطعة لم يحقق المعجزة المنتظرة فقد جاء الضغط الإداري ليساعده: جوائز مالية ودعاية من جهة، وعقوبات من جهة أخرى.

ورافق بداية الحركة عملية قمع كبيرة ضد الفنيين والمهندسين والعمال، المتهمين بالمقاومة والتخريب أو بقتل الاستاخانوفيين في بعض الحالات. وتدل قسوة هذه التدابير على قوة المعارضة السياسية. وربط المسؤولون هذا "التخريب" بالمعارضة السياسية، والحقيقة أن الأسباب كانت تقنية واقتصادية وثقافية، يعود قسم كبير منها إلى البيروقراطية نفسها. وتحطمت حركة "التخريب" بسرعة. وخاف المنتقدون، واعتصم العقلاء بالصمت، وتقاطرت البرقيات معلنة عن نجاحات لا مثيل لها. والحقيقة أنه عندما يتعلق الأمر بروّاد متفوقين معزولين تقوم الإدارة المحلية بناء على التعليمات بتسهيل العمل لهم بكل بساطة حتى ولو ضحت بمصلحة العمال الآخرين في المنجم والورشة. وما إن يدخل العمال في الحركة الاستاخانوفية بالمئات والآلاف حتى تسقط الإدارة في ضياع كامل. فلما كانت عاجزة عن الضبط السريع لنظام الإنتاج، تضطر إلى معاملة اليد العاملة والآلات بقسوة، كمن يحاول دفع عجلات الساعة المسننة بمسمار بغية تسريع حركتها. إن نتائج "الأيام" وعشرات الأيام الاستاخانوفية هي إدخال الفوضى الكاملة في حياة كثير من المشاريع. وهذا ما يفسر لنا الظاهرة الغريبة للوهلة الأولى المتمثلة في انخفاض المردود العام للمشروع مع ازدياد عدد الاستاخانوفيين.

لقد انتهت الفترة "الحماسية" لهذه الحركة وعاد النشاط اليومي من جديد. إن علينا أن نتعلم من ذلك، وعلى من يعلـِّمون غيرهم أن يتعلموا هم على وجه الخصوص الكثير من الأشياء، إلا أنهم أقل الناس رغبة في العلم. والورشة التي تؤخر وتشل الورش الأخرى في الاقتصاد السوفياتي هي البيروقراطية.


(1) ارستقراطيي الكولخوزات: يقصد بهم المدراء والفنيين والكتبة... الخ وكل من لا يعملون بالأرض في الكولخوزات ويستفيدون مع ذلك من خيراتها. (المعرب)