تسعون سنة من البيان الشيوعي


كتب في: 30 أكتوبر 1937
صدر في:جنوب أفريقيا (باللغة الأفريكانية Afrikaans) كمقدمة للطبعة الأول من "البيان الشيوعي" لتلك اللغة.
نشر لأول مرة: بالانجليزية في فبراير 1938
الناشر: "الأممية الجديدة" (The New International) بنيويورك
التحويل الرقمي
: ‎ جريدة المناضل-ة (مارس 2005)


نكاد لا نصدق أن عشر سنوات تفصلنا عن الذكرى المئوية للبيان الشيوعي ! يفاجئ هذا البيان، أكثر بيانات الأدب العالمي عبقرية، بطراوته لحد الآن. تبدو أقسامه الرئيسية وكأنها كتبت أمس. حقاَ أحسن الكاتبان الشابان ( كان عمر ماركس 29 سنة وانجلز 27) النظر إلى المستقبل على نحو لم ينظر به أحد قبلهما وربما حتى بعدهما.

كان ماركس وانجلز قد أشارا، منذ مقدمة الطبعة الإنجليزية سنة 1872، إلى أن أقساما ثانوية من البيان باتت شائخة ولم يعتبرا من حقهما تعديل النص الأصلي لأن البيان أصبح، خلال 25 سنة المنصرمة، وثيقة تاريخية. ومنذئذ مضت خمسة وستون سنة. وغاصت بعض الأقسام المعزولة من البيان بشكل أعمق في الماضي. سنبذل قصارانا لنعرض في هذه المقدمة أفكار البيان التي حافظت كليا على قوتها حتى اللحظة، و كذا تلك المحتاجة إلى تعديلات جدية أو إضافات.

1. قاوم التصور المادي للتاريخ، الذي اكتشفه ماركس قـُبيل نشر البيان وطبقه فيه بمهارة تامة، مقاومة كلية امتحان الأحداث و ضربات النقد المعادي: وهو يشكل اليوم أحد أثمن أدوات الفكر البشري، بينما فقدت باقي تفسيرات السيرورة التاريخية كافة كل قيمة علمية. وبكل يقين يمكن القول إنه دون تملك التصور المادي للتاريخ، يتعذر على المرء حاليا أن يكون مناضلا ثوريا، لا بل حتى إنسانا ذي ثقافة سياسية.

2. يبدأ الفصل الأول من البيان الشيوعي بالجملة التالية: « ليس تاريخ كل مجتمع إلى يومنا هذا سوى تاريخ صراع الطبقات ».

هذه الأطروحة نفسها، التي تمثل أهم خلاصات التصور المادي للتاريخ، ما لبثت أن أصبحت موضوعا لصراع الطبقات. فقد تعرضت النظرية التي تستبدل "المصلحة المشتركة" و"الوحدة الوطنية" و"حقائق الأخلاق الأبدية" بصراع المصالح المادية بما هي القوة المحركة، لهجمات شرسة على نحو خاص من طرف المنافقين الرجعيين والعقائديين الليبراليين و الديمقراطيين المثاليين. وانضم إليهم لاحقا، من داخل الحركة العمالية نفسها هذه المرة، من كانوا يُدعون بالتحريفيين أي أنصار مراجعة الماركسية وفق روح تعاون الطبقات والتوفيق بينها. وأخيرا اقتفي أثرهم في عصرنا الورثة الحقيرون في الأممية الثالثة ("الستالينيون"): لقد نتجت سياسة ما يسمى "الجبهات الشعبية" كليا عن إنكار قوانين الصراع الطبقي. هذا مع أن حقبة الإمبريالية تمثل النصر التاريخي للبيان بدفعها كل التناقضات الاجتماعية حتى نهايتها القصوى.

3. شرح ماركس في كتاب الرأسمال بشكل ناجز(1867) التركيب الداخلي للرأسمالية بما هي طور محدد من التطور الاقتصادي للمجتمع. لكن منذ البيان الشيوعي كانت الخطوط الأساسية لتحليله المقبل مرسومة بإزميل حازم: مكافأة العمل بالقدر اللازم للإنتاج، وتملك فائض القيمة، والتنافس بما هو قانون أساسي للعلاقات الاجتماعية، وخراب الطبقة الوسطى أي البرجوازية الصغيرة بالمدن والفلاحين، وتركز الثروات بأيدي قطب لا يفتأ يتضاءل من المالكين، وتنامي البروليتاريا عدداً في قطب آخر، وتهيئة الشروط المادية والسياسية للنظام الاشتراكي.

4. تعرضت أطروحة البيان، حول ميل الرأسمالية إلى خفض مستوى حياة العمال وحتى إفقارهم، لهجوم عنيف. فقد انتصب الكهنة و الأساتذة والوزراء والصحافيون والمنظرون الاشتراكيون-الديمقراطيون و القادة النقابيون، ضد نظرية "الإفقار" التدريجي. وعلى نسق واحد اكتشفوا تنامي رفاه العمال، حاسبين أن الأرستقراطية العمالية هي البروليتاريا، أو معتبرين ميلا عابرا بمثابة ميل عام. وفي نفس الوقت أدى تطور أقوى الرأسماليات، رأسمالية آمريكما الشمالية، إلى تحويل ملايين العمال إلى فقراء تجري إعالتهم بإحسان الدولة أو البلدية أو الخواص.

5. بتعارض مع البيان، الذي كان يصف الأزمات التجارية-الصناعية بما هي جملة كوارث متنامية، كان التحريفيون يجزمون أن تطور التروسات قوميا ودوليا يضمن التحكم بالسوق ويفضي تدريجيا إلى السيطرة على الأزمات. صحيح أن نهاية القرن الماضي وبداية الحالي تميزتا بتطور مندفع لدرجة بدت الأزمات وكأنها فترات ركود عرضية، لكن تلك الحقبة مضت بلا رجعة. في هذه المسألة أيضا كانت الحقيقة، في آخر التحليل، إلى جانب البيان.

6. « ليست الحكومة الحديثة سوى لجنة تدير الشؤون العامة للطبقة البرجوازية بأسرها ». في الواقع تنطوي هذه الصيغة المركزة، التي بدت للقادة الاشتراكيين-الديمقراطيين مفارقة صحفية، على النظرية العلمية الوحيدة حول الدولة. ليست الديمقراطية التي خلقتها البرجوازية قوقعة جوفاء يمكن، كما اعتقد برينشتاين و كاوتسكي، ملؤها بما يُراد من مضمون طبقي. لا يمكن للديمقراطية البرجوازية أن تخدم غير البرجوازية. وليست حكومة "الجبهة الشعبية"، سواء بقيادة بلوم أو شوطون (لارغو) أو كاباليرو أو نغرين، سوى "لجنة تدير الشؤون العامة للطبقة البرجوازية بأسرها"، وحين تخفق هذه اللجنة في التخلص من المأزق تطردها البرجوازية بضربة قدم.

7. « كل صراع طبقي هو صراع سياسي » ، « تـُشكل البروليتاريا في طبقة ثم في حزب سياسي ». طالما تهرب النقابيون من جهة، و النقابيون الفوضويون من جهة أخرى، من فهم هذه القوانين التاريخية، و ما فتؤوا اليوم يحاولون التنصل منها. لقد تلقى المبدأ النقابي "الخالص" ضربة رهيبة حاليا في ملجئه الرئيسي، الولايات المتحدة الأمريكية. و مُنيت الحركة النقابية الفوضوية بهزيمة لا ترميم لها في آخر قلاعها، إسبانيا . حتى في هذه المسألة كان البيان على حق.

8. لا يمكن للبروليتاريا أن تظفر بالسلطة في إطار القوانين التي تسنها البرجوازية. « ينادي الشيوعيون علانية بأن لا سبيل لنيل أهدافهم إلا عبر تدمير النظام القائم تدميرا عنيفا. » حاول الإصلاحي تفسير أطروحة البيان هذه بعدم نضج الحركة آنذاك وبنقص تطور الديمقراطية. ويبرز مآل "الديمقراطية" الإيطالية والألمانية وجملة أخريات أن ما ينقصه النضج هو الأفكار الإصلاحية بالذات.

9. يستلزم القيام بالتحويل الاشتراكي للمجتمع تركيز الطبقة العاملة بين يديها للسلطة القادرة على تحطيم كل العقبات السياسية على طريق النظام الجديد. « البروليتاريا المنظمة في طبقة حاكمة » هي الديكتاتورية. وهي في نفس الوقت الديمقراطية البروليتارية. و يتوقف نطاقها وعمقها على الشروط التاريخية الملموسة. وبقدر تزايد عدد الدول المنخرطة في الثورة الاشتراكية بقدر ما ستكون أشكال الديكتاتورية حرة ومرنة وبقدر ما ستتسع الديمقراطية العمالية وتتعمق.

10. يستتبع التطور العالمي للرأسمالية الطابع العالمي للثورة البروليتارية. ويمثل عمل البروليتاريا المشترك، بالأقل في البلدان المتحضرة، إحدى أولى شروط تحررها. وقد ربط التطور اللاحق للرأسمالية كافة أقسام كوكبنا، المتحضرة منها وغير المتحضرة ، بعضها ببعض ربطا وثيقا لدرجة جعلت مشكل الثورة الاشتراكية يكتسي طابعا عالميا بشكل شامل ونهائي. وقد حاولت البيروقراطية السوفييتية تصفية البيان في هذه المسألة الأساسية. وكان الانحطاط البونابارتي للدولة السوفييتية الإبانة القاتلة لأكذوبة نظرية الاشتراكية في بلد واحد.

11. « وما أن تختفي، في مجرى التطور، الفوارق بين الطبقات، وما أن يتجمع الإنتاج كله بين أيدي الأفراد المتشاركين، حتى تفقد السلطة العامة طابعها السياسي ». بعبارة أخرى تضمحل الدولة. و يبقى المجتمع وقد تحرر من قميصه الجبري. هذه هي الاشتراكية. ويبرهن العكس، أي النمو الهائل لإكراه الدولة في الاتحاد السوفييتي، على ابتعاد المجتمع عن الاشتراكية.

12. « العمال لا وطن لهم ». غالبا ما رأى السفهاء في هذه الجملة مزحة مفيدة للتحريض. وقد كانت في الواقع تمد البروليتاريا بالتوجيه العقلاني الوحيد حول مشكلة "الوطن" الرأسمالي. و لم يؤد إلغاء الأممية الثانية لذلك التوجيه إلى تدمير أوربا خلال أربع سنوات وحسب، بل أيضا إلى ركود الثقافة العالمية الراهن. ويظل البيان اليوم، مع اقتراب الحرب الجديدة، أصلح مرشد في مسألة "الوطن" الرأسمالي.

===========

هكذا نرى أن كتيب المؤلفين الشابين ما زال يزودنا بتوجيهات متعذر استبدالها في مسائل النضال التحرري الأساسية والأكثر إلحاحا. فأي كتاب آخر يقبل، ولو من بعيد، القياس بالبيان الشيوعي ؟ لكن هذا لا يعني بأي وجه أن البيان، بعد تسعين سنة من تطور غير مسبوق لقوى الإنتاج ومن نضالات اجتماعية عظيمة، غني عن تصحيحات وإضافات. لا قاسم مشترك بين الفكر الثوري وبين عبادة الأوثان. فالبرامج والتنبؤات تـُصحح على ضوء التجربة، ذلك المحك الأسمى للفكر البشري. وكما تدل التجربة التاريخية نفسها يتعذر إدخال تصحيحات وإضافات ناجحة دون اعتماد المنهج الذي قام عليه البيان. وسنحاول إبراز ذلك مستعينين بأهم الأمثلة

1. يعلمنا ماركس أن ما من نظام اجتماعي يتوارى قبل استنفاذ إمكاناته الخلاقة. ُيشهر البيان بالرأسمالية بسبب عرقلتها لتطور قوى الإنتاج. لكن تلك العرقلة لم تكن، في عصره وكذا خلال العقود التالية، سوى عرقلة نسبية: لو أمكن في النصف الثاني من القرن التاسع عشر تنظيم الاقتصاد على أسس اشتراكية، لكان نموه أسرع بوتيرة لا تـُقارن. هذه الأطروحة، غير المنازع في صحتها النظرية، لا تغير شيئا من كون قوى الإنتاج واصلت نموها، على نطاق عالمي، دون توقف إلى غاية الحرب العالمية. وفقط خلال العشرين سنة الأخيرة، رغم أحدث اكتشافات العلم والتقنية، بدأت حقبة ركود مباشر وحتى انحدار الاقتصاد العالمي. بدأت البشرية تعيش من الرأسمال المراكم وتهدد الحرب القادمة بتدمير أسس الحضارة نفسها لأمد طويل. كان كاتبا البيان يتوقعان تحطم الرأسمال زمانا طويلا قبل تحوله من نظام ذي طابع رجعي نسبي إلى نظام رجعي بالمطلق. ولم يتجل هذا التحول سوى في أنظار الجيل الحالي، وجعل عصرنا عصر حروب وثورات وفاشية.

2. ترتب خطأ ماركس وانجلز، بصدد الآجال التاريخية، عن بخس قدر الإمكانات اللاحقة الملازمة للرأسمالية من جهة، وعن مبالغة تقدير نضج البروليتاريا من جهة أخرى. لم تتحول ثورة 1848 إلى ثورة اشتراكية، كما توقع البيان، لكنها أتاحت لاحقا لألمانيا إمكان ازدهار باهر. وأبرزت كومونة باريس كيف يتعذر على البروليتاريا انتزاع السلطة من البرجوازية دون قيادة حزب ثوري محنك. والحال أن الحقبة المديدة التالية من تطور الرأسمالية لم تؤد إلى تربية طليعة ثورية، بل بالعكس إلى الانحطاط البرجوازي للبيروقراطية العمالية التي غدت بدورها كابحا أساسيا للثورة البروليتارية. لم يكن بوسع كاتبي البيان نفسيهما توقع هذا "الديالكتيك".

3. الرأسمالية في نظر البيان هي المنافسة الحرة. فعند حديثه عن تنامي تركز الرأسمال، لم يستنتج بعد البيان الخلاصة الضرورية بصدد الاحتكار الذي غدا شكل الرأسمال السائد في عصرنا وأهم مقدمات الاقتصاد الاشتراكي. لم يلاحظ ماركس إلا لاحقا في كـتاب الرأسمال ميل المنافسة الحرة إلى التحول إلى احتكار. أما التوصيف العلمي لرأسمالية الاحتكار فقد قدمه لينين في مؤلفه حول الإمبريالية.

4. كانا كاتبا البيان، وهما يضعان نصب أعينهم بوجه خاص مثال "الثورة الصناعية" الإنجليزية، يتصوران على نحو خطي مفرط سيرورة تصفية الطبقات الوسطى في شكل بلترة شاملة للحرف وللتجارة الصغيرة والفلاحين. وفي الواقع ما زالت القوى الأولية للمنافسة دون استكمال هذا العمل التقدمي و البربري معا. لقد دمر الرأسمال الملكية الصغيرة بأسرع مما بلترها. علاوة على أن السياسة الواعية للدولة البرجوازية تستهدف منذ أمد بعيد الإبقاء بشكل مصطنع على الفئات البرجوازية الصغيرة. إن تطور التقنية وترشيد الإنتاج الكبير إذ يولدان بطالة مزمنة، يكبحان بالمقابل بلترة البرجوازية الصغيرة. وفي نفس الوقت نمى تطور الرأسمالية بشكل خارق جيش التقنيين والادخاريين ومستخدمي التجارة أي بكلمة واحدة ما يُدعى "الطبقة الوسطى الجديدة". والنتيجة أن الطبقات الوسطى، التي توقع البيان بكل جزم زوالها، تشكل زهاء نصف السكان حتى في بلد صناعي كألمانيا. لكن الحفاظ المصطنع على الطبقات الوسطى البالية منذ أمد بعيد لا يلطف بأي وجه التناقضات الاجتماعية، بل يجعلها على العكس مرضية بوجه خاص. إنه، إذ ينضاف إلى جيش العاطلين الدائم، يمثل التعبير الأكثر إيذاء عن تعفن الرأسمالية.

5. يحتوي البيان، الذي جرى تصوره لأجل حقبة ثورية، عشر مطالب (في نهاية فصله الثاني) تطابق مرحلة الانتقال المباشر من الرأسمالية إلى الاشتراكية. وقد بين ماركس وانجلز في مقدمتهما سنة 1872 أن تلك المطالب شاخت جزئيا ولم تعد لها على أي حال سوى دلالة ثانوية. واستحوذ الاصلاحيون على هذا التقييم قصد تأويله تأويلا مؤداه أن الشعارات الثورية الانتقالية تـُخلي المكان نهائيا لـ"برنامج الحد الأدنى" لدى الاشتراكية- الديمقراطية، هذا الذي لا يخرج، كما نعلم، عن إطار الديمقراطية البرجوازية.

و في الواقع أوضح كاتبا البيان بدقة تامة التصحيح الرئيسي الواجب إدخاله على برنامجهما الانتقالي، عنينا « إن الطبقة العاملة لا يمكنها ان تكتفي بمجرد الاستيلاء على جهاز الدولة القائم وتسييره لتحقيق أهدافها الخاصة ». بعبارة أخرى كان موضوع التصحيح هو تقديس الديمقراطية البرجوازية. عارض ماركس الدولة الرأسمالية بدولة من طراز الكومونة. وقد اكتسى هذا الطراز لاحقا شكله الأكثر دقة، شكل السوفييتات. ويتعذر اليوم كل برنامج ثوري دون سوفييتات ودون رقابة عمالية. أما البقية الباقية برمتها، أي مطالب البيان العشرة، التي كانت في عصر النشاط البرلماني الهادئ تبدو قديمة، فإنها اكتست لحد الآن كامل أهميتها. و بالمقابل فإن الذي شاخ بلا أمل هو برنامج "الحد الأدنى" الاشتراكي-الديمقراطي.

6. بغية تسويغ أمل « ألا تكون الثورة البرجوازية الألمانية سوى مقدمة للثورة البروليتارية »، يستند البيان إلى شروط الحضارة الأوربية الأكثر تقدما قياسا على إنجلترا القرن 16 وفرنسا القرن 17 وتطور البروليتاريا الأرقى بكثير. لا ينحصر بطلان هذا التوقع في خطأ الآجال. فبعد بضعة اشهر أبرزت ثورة 1848 بوجه الدقة أن أيا من الطبقات البرجوازية غير قادرة، في وضع تطور أكثر تقدما، على السير بالثورة حتى النهاية: فالبرجوازية الكبرى والمتوسطة شديدة الارتباط بالملاكين العقاريين ومشلولة بالخوف من الجماهير، والبرجوازية الصغيرة فائقة التشتت وتابعة جدا بواسطة قادتها للبرجوازية الكبيرة. و كما أبان التطور اللاحق في أوربا وآسيا، لم يعد بالإمكان تحقق الثورة البرجوازية بشكل معزول. يستحيل تطهير المجتمع من سقط متاع الإقطاعية دون قدرة البروليتاريا المتحررة من تأثير الأحزاب البرجوازية على قيادة الفلاحين وإقامة ديكتاتوريتها الثورية. ومن خلال هذا يمكن أن تنصهر فيها الثورة الاشتراكية فيما بعد. وهكذا تصبح الثورة الوطنية حلقة من الثورة العالمية. ويكتسي تحويل الأسس الاقتصادية وكافة علاقات المجتمع طابعا دائما

إن الفهم الواضح للعلاقة العضوية بين الثورة الديمقراطية وديكتاتورية البروليتاريا، وبالتالي الثورة الاشتراكية العالمية، يمثل للأحزاب الثورية بالبلدان المتأخرة في آسيا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا مسألة حياة أو موت.

7. لم يشر البيان، وهو يبرز كيف يجر إعصار الرأسمالية البلدان المتأخرة والبربرية، إلى نضال الشعوب المستعمرة و شبه المستعمرة من أجل استقلالها.

فبقدر ما كان ماركس وانجلز يعتقدان أن الثورة الاشتراكية، "في البلدان المتحضرة بالأقل"، كانت شأن السنوات المقبلة، كانت مسألة المستعمرات بنظرهما قد حُلت، لا كثمرة لحركة مستقلة للشعوب المضطهدة بل كنتيجة لانتصار البروليتاريا في حواضر الرأسمالية. وهذا ما جعل البيان لم يتناول، ولو تناولا أوليا، مسائل الاستراتيجية الثورية في البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة. لكن هذه المسائل تستدعي حلولا خاصة. فجلي مثلا أن "الوطن القومي" إذ أصبح أسوأ كابح تاريخي في البلدان الرأسمالية المتطورة، فإنه يظل عاملا تقدميا نسبيا في البلدان المتأخرة المضطرة إلى النضال من أجل وجودها واستقلالها. يقول البيان: « يدعم الشيوعيون في كل مكان كل حركة ثورية تناضل ضد النظام الاجتماعي و السياسي القائم ». وتشكل حركة نضال الأجناس الملونة ضد المضطهدين الإمبرياليين إحدى أقوى الحركات وأهمها ضد النظام القائم، لذا يلزم دعمها التام، دون تردد، من قبل بروليتاريا العرق الأبيض. ويعود فضل تطوير إستراتيجية ثورية للشعوب المضطهدة إلى لينين بوجه خاص.

8. قسْم البيان الأكثر قدما، لا من حيث المنهج بل الموضوع، هو نقد الأدب "الاشتراكي" للنصف الأول من القرن التاسع عشر، وتحديد موقف الشيوعيين إزاء مختلف أحزاب المعارضة. لقد كنست ثورة 1848، أو ما أعقبها من ثورة مضادة، كل التيارات والأحزاب المذكورة في البيان بكيفية جذرية لدرجة أن التاريخ لم يعد يذكرها حتى. لكن لعل هذا القسم من البيان هو أيضا اقرب إلينا اليوم مما هو إلى الجيل السابق. فقد أمكن في عهد ازدهار الأممية الثانية، لما بدت الماركسية سائدة دون منازع ،اعتبار أفكار الاشتراكية السابقة لماركس متجاوزة نهائيا. لم يعد الأمر كذلك اليوم. فانحطاط الاشتراكية-الديمقراطية والأممية الشيوعية يولد مع كل خطوة انتكاسات إيديولوجية بشعة. يعود فكر الشيخوخة إلى الصبا تقريبا، فسعيا وراء صيغ خلاص يُعيد أنبياء عصر الانحدار اكتشاف عقائد دفنتها الاشتراكية العلمية منذ أمد بعيد. أما مسألة أحزاب المعارضة فقد ألحقت بها العقود المنصرمة أعمق التغييرات: لم تـُستبدل الأحزاب القديمة بأخرى جديدة وحسب، بل تغير حتى طابع هذه الأحزاب وعلاقاتها المتبادلة تغيرا جذريا في شروط عصر الإمبريالية. لذا يتعين استكمال البيان بالوثائق الرئيسية للمؤتمرات الأربع الأولى للأممية الشيوعية وبالأدب الأساسي للبلشفية وبقرارات كونفرانسات الأممية الرابعة.

سبق التذكير آنفا بأن أي نظام اجتماعي لا يتوارى، بنظر ماركس، إلا بعد استنفاذ إمكاناته. بيد أن النظام الاجتماعي، حتى وإن تقادم، لا يخلي المكان لنظام جديد دون مقاومة. يستلزم تعاقب الأنظمة الاجتماعية أشد الصراعات الطبقية شراسة أي الثورة. إن عجزت البروليتاريا، لهذا السبب أو ذاك، عن إطاحة النظام البرجوازي الذي يواصل الحياة دون قوته و مزاياه، فلا يبقى للرأسمال المالي، في صراعه لأجل الحفاظ على سيطرته المهزوزة، غير تحويل البرجوازية الصغيرة، التي دفعها إلى اليأس وثبط همتها، إلى جيش مذابح بيد الفاشية. يشتبك الانحطاط البرجوازي للاشتراكية الديمقراطية والانحطاط الفاشي للبرجوازية الصغيرة تشابك السبب والنتيجة.

بوقاحة أكثر جموحا تقوم الأممية الثالثة اليوم في البلدان كافة بعملها المتمثل في خدع العمال وتثبيط هممهم. إن مرتزقة موسكو عديمي الذمة، إذ يضربون طليعة البروليتاريا، لا يفتحون الطريق للفاشية وحسب، بل ينجزون أيضا قسما من عملها. تؤول أزمة الفكرة البشري المديدة في الواقع إلى أزمة القيادة الثورية.

بصفتها وريث التقاليد المجيدة التي يشكل البيان أثمن حلقاتها، تـُربي الأممية الرابعة بتربية أطر جديدة لحل المهام القديمة. إن النظرية هي الواقع وقد جرى تعميمه. وتعبر الإرادة المتحمسة لإعادة صهر بنية الواقع الاجتماعي عن نفسها في موقف صادق من النظرية الثورية. إن إقدام رفاقنا في الأفكار، بجنوب القارة السمراء، على أول نقل للبيان إلى لغة الأفارقة البور يمثل تأكيدا جليا لواقع أن الفكر الماركسي ليس حيا اليوم سوى تحت راية الأممية الرابعة. إن المستقبل ملك لها. وفي الذكرى المئوية للبيان الشيوعي ستكون الأممية الرابعة القوة الثورية الحاسمة على كوكبنا.



ادوارد برينشتاين (1850-1932) كان محررا لجريدة الاشتراكي الديمقراطي في المنفى في عهد القوانين المعادية للاشتراكيين ومنفذ وصية انجلز. وضع الأسس النظرية لنزعته "التحريفية" منذ 1899 وانضم خلال الحرب إلى الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني المستقل.
 

كارل كاوتسكي (1854-1938) نمساوي الأصل، زعيم الاشتراكيين الديمقراطيين الألمان، هاجر في عهد القوانين المعادية للاشتراكيين وكان المدافع الرئيسي عن الماركسية بوجه "التحريفية". كان بمثابة بابا الاشتراكية وكذا منظر "الوسط". انضم مثل برينشتاين إلى الحزب الاشتراكي-الديمقراطي الألماني المستقل في 1917 لكنه سرعان ما عاد، بفعل عدائه الشديد للبلشفية، إلى الحزب الاشتراكي الديمقراطي.
 

البور: اسم أسلاف المعمرين الهولنديين في جنوب أفريقيا.