أتقول: نهاية الشغل ؟


بقلم: ميشال درانكور
عن: مشكلات اقتصادية Problèmes économiques عدد 2.656 – 2.566 بتاريخ 29 – 22 أبريل 1998 (ميشال درانكور، " نهاية الشغل "، Futuribles، يناير 1994 ـ مقتطفات)
ترجمة: عبد الكريم شوطا


كل السياسات المتصورة من أجل محاربة البطالة محكوم عليها إلى حد ما بالفشل لكونها لا تأخذ بعين الاعتبار ما هو جوهري؛ ألا وهو تطور الشغل من حيث محتواه وطبيعته. وهذا لا يعني أنه يتوجب ترك الحبل على الغارب للأمور كي تتبع مسارها، وإنما يعني أنه يجب تصور سياسة تدمج التطورات التقنية التي تخض وترج أنماط الشغل والتنظيم لدينا.

حتى ولو كان كل واحد منا يعرف جيدا في أعماقه أن التشغيل التام أصبح منذ اليوم عبارة عن يوتوبيا، فإن كل الخطابات والتحركات الرسمية توهم بأن من الممكن أيضا تصوره، بيد أن التشغيل التام لا يعدو أن يكون إلا استثناء تاريخيا.

في المجتمعات الستاتيكية ما قبل الصناعية انخرط الناس في الحراث (الحرث) مع همٍّ أساسي هو "كسب القوت"، إلا أن كتلة الإنتاج لم تتطور أبدا؛ فالوسيلة المؤكدة أكثر من غيرها للاغتناء تمثلت في الاستيلاء على ما يملكه الآخرون، ومن هناك انحدرت الغزوات والحروب التي تحدد هدفها في الغنائم والنظريات الميركنتيلية التي مكنت من ظهور الأنانية الوطنية وعززتها.

في هذه المجتمعات كان الحرث ضعيف الإنتاجية، ويمكن أن يتكون لدينا إحساس بأن كثيرا من الرجال والنساء والأطفال كانوا مشغولين وذلك لانشغالهم بإنتاجات ذات تأثير ضعيف أو بنشاطات غير مجدية بتاتا، ولا زلنا نلاحظ ذلك في أجزاء العالم التي لا زالت متخلفة والتي تتقدم بها أشكال التطور الطبي بسرعة أكبر من أشكال تقدم التنظيم مضاعفة بذلك الفقراء الصعاليك والتعساء الذين لا يمارسون أي عمل والذين يتكدسون في المدن القصديرية على أمل أن يجدوا عملا هامشيا.

في ما مضى وبداخل أقطارنا لم تكن طبقة النبلاء بجانب وفوق حشود الفلاحين تقوم بأي عمل ما عدا كونها في خدمة الملك بخصوص حاجات الحرب وأحيانا في خدمة الفنون والآداب من أجل الإرضاء التام للكتاب والمؤلفين الموسيقيين الذين تحدد دورهم أولا وقبل كل شيء في الترفيه عن الأسياد.

 

التايلورية: تشغيل تام

لقد غيرت الآلة البخارية والمحاسبة (اللذين قادا معا نحو المجتمع الصناعي وليس الآلة البخارية وحدها فقط كما يقال غالبا) المجتمع وأصبح بذلك ديناميكيا؛ فالغنى الناتج يتطور ولا يتوقف عن التعاظم على الرغم من بعض حوادث الطريق الدورية.

لقد كانت المعامل في لحظة أولى في حاجة إلى الكثير من الأيدي العاملة، المتمم الطبيعي لمهمة السكك الحديدية كانت هي العربات المجرورة بالخيول، ولقد توجب الكثير من العمال من أجل إفراغ حاويات القطارات من السلع، وهكذا دواليك. كل النشيطين غير المشتغلين بالبوادي تم اجتذابهم من طرف المدينة وآلاتها. لقد كانت هناك بطالة بفعل التزايد الديمغرافي الناجم عن تقدم الرعاية الصحية، لكن التطور المتقطع للآلات تطلب في الفضاءات الممكننة بشكل أقل كتلا متزايدة أكثر فأكثر من البشر. بهذا استطاعت مجتمعاتنا الغربية في فترات الظرفية العليا إنجاز التشغيل التام وسحبته بالأساس على السكان الذكور العاملين ذوي ما بين 14 و65 سنة، في الوقت الذي كان فيه معدل أمل الحياة غالبا أدنى من 60 سنة.

ولم تثر مسيرة التشغيل التام من هذا النوع الانشراح؛ فمن زولا إلى شارلي شابلن اعتبرت بالأحرى مسألة غير قابلة للاحتمال، ولم يتم اشتهاؤها وتمنيها إلا بعد أزمة الثلاثينيات واقتراب الحرب. بعد سنة 1945، بالإضافة إلى أن مشقة العمل كانت تنخفض بالتدريج فإنها صوحبت بارتفاع دائم في الأجور والحماية الاجتماعية. وتعود الإرادة السياسية لإنجاز التشغيل التام الدائم لهذه الحقبة التاريخية، وقد بدت مع التراجع الذي عرفه عالم التشغيل كما لو كانت الحد الأمثل أو ذروة ما يمكن تحقيقه، ولا يجب أن ننسى مع ذلك أنها لم تكن بدون عيوب وبدون سلبيات اجتماعية.

عندما يعوض الإنسان الآلة فإنه يختزل بالضرورة من بعض الجوانب إلى حالة مجرد عضلات، وقد كان للتايلورية، حاملة التقدم، جانب سلبي يتمثل في تكثيف وتضخيم ظروف الحياة ونزع الطابع الشخصي عن العمل.

وقد كان التشغيل التام أيضا نتيجة الإعداد للحرب العالمية ومسارها سواء عندما كانت ساخنة في ما بين 1939 و1945 أو باردة في ما بعد. بيير باسكالون أستاذ اقتصاد ونائب برلماني وأحد الاقتصاديين القلائل الذين تجرأوا على أن يطرحوا في كتاب هل يمكن أن نخرج من الأزمة ؟ (1) سؤال الحرب: « تبدو الحرب في مواجهة أزمة لا تقبل الحل كما لو أنها تحل مشاكل عديدة جدا… حتى لا نقول إنها مغرية. » ويضيف أنه من حسن الحظ أنها منذ الآن أقل احتمالية على المستوى العالمي، ولاحظ أنه إذا كانت قد قادت في الماضي نحو التشغيل التام، فإن الأزمة العامة وأزمة التشغيل كانت قد هيئتها ومهدت لها الطـريق.

 

الإعلاميات: تغير في طبيعة العمل

لا يمكننا أن نتمنى العودة مجددا للحرب، كما لا يمكننا أيضا أن نعول على ثغرات الآلة في المجال الصناعي لإعادة إطلاق التشغيل التام. إن الشغل هو في طريقه بالفعل ليعرف تحولات لم يكن لها مثيل في التاريخ، ما عدا ربما المثال الذي تلا اكتشاف النار.

مع أشكال الأتمتة "تصنع الآلة كل ما هو آلي" بالتدريج إذا ما استعرنا تعبير جاستون ببرجي. وقد أعلن ضابط شاب عاد إلى الحياة المدنية منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهو جون ديبولد، عن ميلاد الأتمتة(2)، وقد قطع العالم من أقصاه إلى أقصاه ليعلن عن ذلك "الحدث الأكبر". إننا لم نكن إلا قلة في الفترة التي استمعنا فيها لهذا الإعلان وليس مؤكدا اليوم أن غالبية الناس قد تلقوا الرسالة.

مع الإعلاميات، ليس مجموع العمل الميكانيكي هو وحده الذي يترابط بدون أي تدخل إنساني حقيقي ولا مراقبة أيضا، وإنما إعداد العمل ذاته، مراقبته، تنظيمه، توقعه وتسييره، كلها أمور يلحقها التغيير. إن يابانيي "أومرون Omron" التي تشكل في اليابان ما شكلته الميكانيكا الإرسالية La Télémécanique المنصهرة منذ الآن في شركة شنيدر schneider بفرنسا، ابتكروا النموذج "سيليك silic"؛ ويتعلق الأمر بتهيىء وإعداد المجتمع "الأمثل".

م يعد أحد يجرؤ بفرنسا على استخدام هذه اللغة ذات النزوع العلمي، إلا أن الفكرة ليست خاطئة. لقد انتقلنا من المجتمع البدائي (مليون سنة) إلى المجتمع الجماعي (120.000 سنة)(3) وإلى المجتمع الزراعي (700 سنة قبل المسيح )، ثم جاءت مجتمعات الحرف التي يحدد ميلادها في مطلع القرن VII، وظهر المجتمع الصناعي سنة 1765 (الآلة البخارية) والمجتمع الممكنن (حوالي سنة 1870) ومجتمع الإعلام (1970). والفكرة تعلن عن مجتمع التفاؤل سنة 2005، وفي سنة 2025 عن المجتمع "المستقل ذاتيا"، في سنة 2033 المجتمع "الطبيعي". إن المسافة المغطاة في البداية ما بين العام 700 والعام 2005 من طرف العمل اليدوي – قاعدة الإنتاج – تمت تغطيتها تدريجيا من طرف عمل الآلة.

في سنة 1974 نجد الإنسان جالسا أمام حاسوب ضمن شبكة اتصال. وفي سنة 2005 نجده جالسا فوق أريكة وهو يفكر. إن منظور المستقبل هو منظور تناغم في ما بين الإنسان والآلة، ولأن الآلة أضحت أكثر فأكثر ذكاء فإن لدى الإنسان الوقت لاستخلاص واستخراج أفضل ما لديه.

ومرة أخرى فالرسم تبسيطي، لكنه مؤسس. ما يقلق هو أننا لا زلنا نفكر كثيرا في طريقة خلق مناصب للشغل مرتبطة بالآلة، لكننا لا نفكر كثيرا في طريقة خلقها في مجتمع نصيبُ الوقت الحر فيه أكثر أهمية من وقت العمل.

إن حسابا بسيطا سيقود نحو المعاينة التالية: عندما كان يعمل الناس 40 ساعة أسبوعيا، أي 1816 ساعة عمل سنويا (بالنظر للعطل)، فإنهم تمتعوا خارج أوقات النوم والأكل… الخ بـ3294 ساعة حرة كل سنة. مع 39 ساعة عمل ستكون هذه الأرقام على التوالي 1770 ساعة و3340 ساعة. مع 35 ساعة، 1589 و3521، ومع 30 ساعة، 1362 و3798.

إذن منذ الآن فإن زمن "اللاشغل" هو أكثر أهمية في حياة الناس من وقت العمل، والتطور سيضاعف هذه الحركة، وإرادة خلق أو اقتسام "الشغل" الكلاسيكي في ظل هذه الشروط تشبه إلى حد بعيد الاهتمام بأطراف حقل قيد الزرع مع نسيان وسطه. (…)

 

أية تحولات  ؟

لكن المؤكد أنه إذا كان الجزء الأعظم من الثروة هو نتاج مقاولات تزداد فعاليتها يوما عن يوم وبواسطة عدد محدود من الأشخاص، فإن سياسة التحولات ستكون أكثر فأكثر أهمية، وستكون أيضا أكثر أهمية من أن تمديد أمل الحياة يتطلب تحويلا متناميا بطريقة أو بأخرى لجزء من موارد النشطاء نحو النشطاء القدامى (حتى لأولئك الذين كانوا كذلك لمدة أقل طولا أو خلال مراحل وفترات زمنية محددة). وبالمناسبة، كيف سنتناول كل المشاكل إذا ما نجح الأطباء في جعلنا نعيش حتى سن 120 أو 150 سنة ؟

وبدون انتظار تحقق هذا الأمل يجمل بنا أن نيسر تداول الثروة وإمكان الوصول إلى موارد كل الأشخاص أجراء كانـوا أم لا. ولقد تصور الباحثون وجزء من الباطرونا المسيحية مدخولا للعيش بالنسبة لجميع الناس. إن هذا التوجه يتميز بالكرم والأريحية، لكنه غير مرقم؛ فإعطاء 2000 فرنك شهريا لـ 40 مليونا من الأشخاص سيتطلب مقدارا أعلى بمقدار الثلث تقريبا من الناتج الحالي للضريبة على القيمة المضافة، فكيف يمكن استخلاص مقدار كهذا بدون الوقوع في نزعة توجيه الاقتصاد ؟

إن التوزيع المالي المباشر لن يكون مع ذلك إلا أحد أوجه إعادة توزيع الإنتاجية، وسيتم عبر نشاطات الخدمات المقدمة للأشخاص، وهو حاليا يغطي وفي نفس الآن التأمينات ومساعدات "الجوار de proximité" أو القرب؛ الأولى هي من طبيعة "صناعية" والثانية ليست كذلك أو هي كذلك نسبيا. ولكي يتطور هذا النوع من الخدمات فهو مطالب بدوره بالخضوع لقواعد الإنتاجية، وكل الخدمات المقدر أنها خدمات تزداد ضرورتها أكثر فأكثر ستتضاعف وستعرف تطورات أكثر بطئا يقينا من فبركة وصنع الآلات الكهربائية أو غيرها، لكن إنتاجيتها ستتطور. إنها ستخلق إمكانيات هامة لنشاطات متعددة، بل حتى الشغل لعدد هام من الأشخاص. لكن مشكل الوقت المتوفر أكثر فأكثر والذي ستستفيد منه غالبية الأشخاص لن يختفي ولا يمكن إلا أن يتعاظم ويتوسـع.

لا العقليات، ولا التنظيم الاجتماعي، ولا التكوين ولا السكنى والتمدن متلائمة مع هذه الحقيقة المتنامية. إن دستورنا ذاته سيكون محط إعادة نظر؛ فالفقرة الخامسة من ديباجته تقرر أن: "على كل شخص واجب العمل وله حق الحصول على منصب شغل". ماذا سيحصل إذا لم يعد الشغل إلا جزءا محدودا من الحياة وإذا أصبح عدد مناصب الشغل المرتبطة بعمل كلاسيكي عددا محدودا ؟ أكيد أننا يمكن أن نتخوف من تزايد مناصب الشغل غير النافعة (في الإدارات أو حتى بداخل المقاولات)، إلا أن ذلك سيتم على حساب تنافسية المقاولات بالنظر إلى التكاليف الجاثمة على كاهلها.

يجب علينا حقا التوصل إلى فكرة أن الحياة الاجتماعية ستتمحور أكثر فأكثر حول الوقت الحر، وسيكون هو ذاته منتجا لنشاطات معينة. وسواء تعلق الأمر بالحياة السياسية، الجمعوية، السياحية، الأنشطة الثقافية، الرياضات، الترويح عن النفس أو الأعمال الإحسانية، فإننا نشهد وسنشهد أكثر فأكثر تضاعف وتكاثر المبادرات. أحد الحقول الرحبة المنتظر تنميتها سيكون بدون شك حقل التكوين، وبالفعل؛ فمن أجل "الصمود" في مجتمع لم يعد فيه الشغل كل شيء، فإنه يجمل عن بعد امتلاك تكوين قاعدي ودائم أكثر مثانة وأكثر تلاؤما مع القدرات الشخصية: ألا نشهد تحطما سيكولوجيا لليابانيين الملفوظين من طرف مقاولتهم التي انشدوا إليها بكامل كيانهم  ؟

إن الظاهرة موجودة أيضا بفرنسا؛ فاللواتي واللائى لا يتوفرون إلا على عدة "تقنية" والذين هم "مبرمجون" فقط من أجل الشغل يسقطون في المتاهة ولفراغ.

إن التكيف مع مجتمع الفعالية المتنامية للشغل ومع صعود نجم الوقت الحر – والإثنان يشكلان زوجين متلاحمين – سيكونان بذاتهما منبعا لأنشطة سيتوجب تمويلها، وسيكون ذلك أحد الصيغ الأكثر طبيعية للتحولات المستقبلية، إلا أن هاهنا أيضا سيكون تنويع الحلول – في مجال التكوين على سبيل المثال – مسألة مرغوبا فيها أكثر من التكتلية العمومية.

إن "نهاية الشغل" بالمعنى الإنجيلي للعبارة يتطلب منذ الآن خيالا توقعيا ومخططا للمستقبل تعاني من افتقاده بشكل فظيع غالبية النشاطات الرسمية والقوانين والمشاريع العمومية، وذلك ببساطة لأنها لا ترى أو لا تريد أن ترى الحقيقة. أما أولئك الذين يدركون هذه الحقيقة فلديهم دائم نزوع بفعل غياب الواقعية الاقتصادية لاقتراح التراجع عن الإنتاجية. إن العودة إلى الوراء ستكون فعلا انتحاريا؛ فسترغمنا في مجال خلق الثروة والأجور على الانحدار إلى مستوى الدول النامية .

كلما كان الشغل فعالا ومنتجا كلما توجهنا صوب نهاية عصر الشغل الكلاسيكي، وسيكون المجتمع الذي نحن فيه قبلا في طريق التطور مجتمع مسؤولية الإنسان الذي يجب أن يعرف كيف يوافق بين الحياة الاقتصادية والحياة الاجتماعية والحياة الأسرية والخاصة، في الوقت الذي تمرس فيه خلال قرون على إعطاء الأولوية إراديا أو لاإراديا للفلاحة تم للشغل في ما بعد .


(1) منشورات الادخار، 1993 .
 

(2) أنظر Tomorrow’s entreprise and its management , Preager , 1957 .
 

(3) أنظر ميشال درانكور، Mémoires de l’entreprise، باريس، روبير لافون، 1993.