ثورة دائمة أم ثورة على مراحل


الاسم الكامل للكتاب: ثورة دائمة أم ثورة على مراحل - نصوص مختارة من كتابات ماركس وانجلز ولينين وتروتسكي
الناشر : دار الشمس (1989)
نسخ الكتروني: وجدي حمدي (2000-2004)


يقدم هذا الكتيب جملة من النصوص المختارة التي تتطرق إلى المسألة التي كانت محل خلاف جذري بين تروتسكي (الثورة الدائمة) وستالين (الاشتراكية في بلد واحد) وتقدم هذا النصوص ما يعتبر جامعها (وإن لم يذكر ذلك صراحة) أنها دليل على ترجيح كفة نظرية "الثورة الدائمة" وذلك من خلال كتابات ماركس وانجلز ولينين بالاضافة لتروتسكي. فكان التركيز على أصل "الثورة الدائمة" (النص الأول) ومفهومها (النصان الثاني والخامس) وكذلك رأي لينين بخصوص أهمية امتداد الثورة لخارج الاتحاد السوفياتي وتواصلها (النصان الثالث والرابع). جاء الكتيب في 64 صفحة وكان لو انتشار واسع في أوائل التسعينات بين الأوساط الماركسية -وجدي حمدي-



"إن الثورة الدائمة، بالمعنى الذي أعطاه ماركس لهذا المفهوم، تعني ثورة ترفض أن تساوم مع أي شكل من أشكال السيطرة الطبقية ولا تقف عند المرحلة الديموقراطية بل تتجاوزها إلى الاجراءات الاشتراكية وإلى الحرب ضد الرجعية الخارجية، ثورة لكل مرحلة منها جذورها في المرحلة السابقة وثورة لا تنتهي إلا بتصفية المجتمع الطبقي تصفية تامة.

"لقد تقدم الشيوعيون الكبار في منتصف القرن التاسع عشر، ماركس وأنصاره، بفكرة الثورة الدائمة لمجابهة الايديولوجية البرجوازية التي تدعي، كما نعلم، أنه بعد إقامة دولة "عقلانية" وديموقراطية يصبح بالإمكان حل جميع القضايا بالطريق السلمي للتطور والاصلاحات. ولم يعتبر ماركس ثورة 1848 البرجوازية إلا كالتمهيد المباشر للثورة البروليتارية. وقد "أخطأ" ماركس. إلا أن خطأه كامن في الواقع وليس في المنهجية. لم تتحول ثورة 1848 إلى ثورة اشتراكية. ولكنها لهذا السبب لم تؤد إلى ظفر الديموقراطية.

- ليون تروتسكي -

 

 


الفهرس


عريضة المجلس المركزي إلى عصبة الشيوعيين

أيها الاخوة ! إن العصبة، خلال سنتي 1848–1849 الثوريتين قد أثبتت وجودها من ناحيتين: فأعضاؤها في جميع الأماكن فقد اشتركوا بنشاط في الحركة، إن في الصحافة وعلى المتاريس وفي ساحات المعارك، لقد كانوا دوما طليعة الطبقة الوحيدة الثورية حق، البروليتاريا. كما أثبتت العصبة وجودها بشكل آخر، إن مفهومها للحركة، كما عرض في تعميمات المؤتمرات والمجلس المركزي عام 1847 وأيضا في البيان الشيوعي، قد ظهر على أنه وحده الصحيح، وقد تحققت الآمال المطروحة في هذه المستندات بكامله، وأصح المفهوم عن التنظيم الاجتماعي الحالي الذي لم تكن العصبة تنشره إلا سرا في السابق، أصبح في هذه الساعة موضع نقاش الجميع ويبشر به في الساحات العامة. وفي الوقت نفسه فإن الشكل القديم والمتين لتنظيم العصبة قد تراخى كثيرا. والعديد من الأعضاء الذين انخرطوا مباشرة في الحركة الثورية تصوروا أن عهد الجمعيات السرية قد ولّى وأن العمل العلني وحده كاف. وقد ترك عدد معين من الحلقات ومن العميات صِلاته بالمجلس المركزي تتراخى وتضعف شيئا فشيئا. وبينما كان الحزب الديمقراطي، حزب البرجوازية الصغيرة، ينظم نفسه أكثر فأكثر في ألماني، كان الحزب العمالي يفقد رابطه الوحيد الصلب. وكان بالكاد يحتفظ في أحسن الأحوال بتنظيمه في بعض المناطق من أجل أهداف محلية، ولهذا السبب وقع في مجرى الحركة العام تحت سيطرة الديمقراطيين البرجوازيين الصغار وقيادتهم بشكل تام. يجب وضع حد لهذه الحالة وإعادة استقلال العمال. لقد فهم المجلس المركزي هذه الضرورة. ولهذا السبب أرسل منذ شتاء 1848–1849 مبعوثا يدعى جوزيف مول إلى ألمانيا لإعادة تنظيم العصبة هناك. ولكن بعثة مول بقيت دون مفعول ثابت: فمن جهة لم يكن بعد للعمال الألمان التجارب الكافية، ومن جهة أخرى فإن نشاط مول قد أوقفته انتفاضة أيار الماضي. حمل مول بنفسه البندقية وانخرط في جيش "باد–بلاتينا" وسقط في 19 تموز في معركة "مورغ". لقد فقدت العصبة بشخصه أحد أقدم أعضائه، وأكثرهم نشاطا وأمانة، لذي كان قد عمل في كل المؤتمرات وكل المجالس المركزية وقد قام في السابق بتنفيذ عدة مهمات بنجاح كبير. وبعد هزيمة الأحزاب الثورية في ألمانيا وفرنسا في تموز 1849، التقى جميع أعضاء المجلس المركزي تقريب، في لندن، وانضمت إليهم قوى ثورية جديدة، واستمروا بحماس جديد في إعادة تنظيم العصبة.

إن إعادة التنظيم لا يمكن أن تتم إلا بإيفاد مبعوث، ويعتبر المجلس المركزي من الأهمية بمكان أن يذهب المبعوث في هذا الوقت بالذات، حيث تلوح ملامح ثورة جديدة مما يقتضي من الحزب العمالي بأن يظهر على أقصي ما يكون من التنظيم، والتضامن، والاستقلال إذا كان لا يريد أن يقع من جديد تحت إمرة واستغلال البرجوازية كما حصل عام 1848.

أيها الاخوة ! لقد سبق أن قلنا لكم سنة 1848 أن البرجوازيين الليبراليين الألمان سيصلون إلى الحكم، وأنهم سيوجهون فورا نفوذهم الجديد ضد العمال. لقد رأيتم كيف تحقق ذلك. فبعد اضطرابات آذار 1848 استولى البرجوازيون فعلا على السلطة، واستُعملوا ليعيدوا فورا العمال حلفاءهم بالأمس إلى وضعهم الماضي كمضطهدين. فإذا لم تتمكن البرجوازية من بلوغ هذا الهدف إلا بالتحالف مع الحزب الإقطاعي الذي كانت ثورة آذار قد أبعدته، وحتى بالانتهاء إلى التخلي مجددا عن السلطة لصالح هذا الحزب الإقطاعي المطلق، فإنها على الأقل حصلت على ضمانات تضع، على الأمد البعيد وبفضل الارتباكات المالية للحكومة، كل السلطة بين أيديها وتضمن لها كل مصالحه، في حال استطاعت الحركة الثورية من الآن، وهذا مستحيل، إفساح المجال لتطور يسمى بالسلمي. وفي هذه الحال لن تحتاج البرجوازية لتمكين سلطته، أن تصبح مكروهة، باتخاذها إجراءات تعسفية موجهة ضد الشعب، لأن كل هذه الإجراءات التعسفية تكون الثورة المضادة التي سبق للإقطاعية اتخاذها. لكن التطور لن يسلك هذا الطريق السلمي. فالثورة التي ستعجله هي بالعكس على الأبواب، سواء كان سببها تحرك البروليتاريا الفرنسية المستقل أم اجتياح الحلف المقدس لبابل الحديثة (باريس).

والدور الذي لعبه البرجوازيون الليبراليون الألمان عام 1848 تجاه الشعب، هذا الدور الذي اتسم بالخيانة الكاملة، سيلعبه في الثورة المقبلة البرجوازيون الصغار الديمقراطيون، الذين يحتلون حاليا في المعارضة المكان نفسه الذي احتله البرجوازيون اللبراليون قبل 1848. ويتألف هذا الحزب، الحزب الديمقراطي، الأخطر بكثير بالسبة للعمال من الحزب اللبرالي القديم، من ثلاثة عناصر:

1– الأقسام الأكثر تقدما من البرجوازية الكبيرة التي تضع لنفسها هدفا هو الإسقاط الفوري والكامل للإقطاعية وللحكم المطلق. هذا الاتجاه يمثله رجال برلين الذين كانوا يدعون في الماضي إلى الوحدة ورفض الضرائب.

2– البرجوازيون الصغار الديمقراطيون والدستوريون الذين كان أكثر ما سعوا إليه خلال الحركة الأخيرة إنشاء دولة كونفدرالية، ونوعا ما ديمقراطية، كما كان يريد تحقيقها ممثلوهم: يسار برلمان فرانكفورت، ولاحقا برلمان شتوتغارت، وكما كانوا يسعون إليه بأنفسهم في حملتهم من أجل دستور الإمبراطورية.

3– البرجوازيون الصغار الجمهوريون وحلمهم جمهورية فدرالية ألمانية على غرار الكونفدرالية الهلفيتية، ويحملون اليوم اسم "الحمر" و"الاشتراكيين–الديمقراطيين"، لأنهم يدغدغون مخيلتهم بالحلم اللذيذ بإزالة اضطهاد الرأسمال الكبير للرأسمال الصغير، واضطهاد البرجوازي الكبير للبرجوازي الصغير. وممثلو هذا النجاح هم أعضاء المؤتمرات واللجان الديمقراطية، وقياديو الجمعيات الديمقراطية، ومحررو الصحف الديمقراطية.

بعد هزيمتها أصبحت هذه الفئات جميعا تنعت نفسها بالجمهورية والحمراء، تماما كما يسمى البرجوازيون الصغار في فرنسا الاشتراكية. ففي بلدان معينة كورتمبرغ وبافيار الخ، حيث لم يزالوا يجدون الفرصة لملاحقة أهدافهم بالطريق الدستوري، يغتنمون هذه المناسبة ليبقوا على جملهم القديمة ويبرهنوا بالأعمال على أنهم لم يتغيروا في شيء. ومن البديهي أن هذا التغيير في الاسم لا يبدل إطلاقا موقف هذا الحزب تجاه العمال، بل يبرهن فقط على أنه مضطر حاليا إلى الاعتماد على البروليتاريا لمجابهة البرجوازية المتحالفة مع الاستبداد.

إن الحزب البرجوازي الصغير الديمقراطي قوي جدا في ألمانيا. فهو لا يضم الأكثرية العظمى من سكان المدن البرجوازيين وصغار التجار والصناعيين وأرباب العمل فحسب، بل يضم أيضا في صفوفه الفلاحين والبروليتاريا والريفيين، ما دامت بروليتاريا الريف لم تجد بعد سندها في بروليتاريا المدن، المستقلة.

إن موقف الحزب العمالي الثوري تجاه الديمقراطية البرجوازية الصغيرة هو التالي: يمشي معها ضد الفئة التي تبغي إسقاطه، ويحاربها في كل النقاط التي تريد استعمالها لتثبت نفسها بشكل متين.

إن البرجوازيين – الصغار الديمقراطيين، البعيدون جدا عن إرادة قلب المجتمع بأكمله لمصلحة البروليتاريين الثوريين، يهدفون إلى تغيير الوضع الاجتماعي بشكل يجعل المجتمع الموجود محتملا وملائما بقدر المستطاع بالنسبة لهم. فهم يطالبون قبل كل شيء بتخفيض المدفوعات العامة بالحد من البيروقراطية، وبفرض الضرائب خصوصا على الملاكين العقاريين والبرجوازيين. ويطالبون فوق ذلك بإلغاء الضغط الذي يمارسه الرأسمال الكبير على الرأسمال الصغير وذلك بخلق مؤسسات عامة وقوانين ضد الرب، مما يتيح لهم وللفلاحين الحصول بشروط جيدة على قروض من الدولة بدل الحصول عليها من الرأسماليين. وهم يطالبون أخيرا بالإلغاء الكامل للنظام الإقطاعي لإدخال نظام الملكية البرجوازي في كل أمكنة الريف. ولتحقيق كل هذ، يحتاجون إلى دستور سياسي، ديمقراطي وجمهوري يؤمن لهم ولحلفائهم الفلاحين الأكثرية، وإلى تنظيم ديمقراطي للعاميات يضع بين أيديهم الرقابة المباشرة على الملكية العامة وعلى العديد من المهمات التي ينفذها حاليا البيروقراطيون.

أما فيما يتعلق بقوة الرأسمال ونموه السريع، فستوضع كذلك العراقيل، أما بتحديد حق الوراثة ة أما بتخويل أكبر قسط ممكن من الأعمال للدولة. وبما يختص بالعمال، فالواضح قبل كل شيء أنهم سيبقون أجراء كما فيما قبل. والشيء الوحيد الذي يتمناه البرجوازيون الصغار الديمقراطيون للعمال هو أجور أفضل وحياة أكثر طمأنينة، ويأملون الوصول إلى ذلك عن طريق تشغيل الدولة الجزئي للعمال بفضل إجراءات خيرية. وخلاصة القول أنهم يأملون دغدغة العمال بصدقات نوعا ما مموهة، وتحطيم قوتهم الثورية بجعل وضعهم يحتل مؤقتا. إن المطالب الملخصة هنا ليست ممثلة في آن معا بكل أجنحة الديمقراطية البرجوازية الصغيرة، وقليلون جدا هم أولئك الذين تشكل بالنسبة إليهم أهدافا محددة، بمجموعها. فبقدر ما يبتعد إلى الأمام بعض الأفراد وبعض الفئات، بقدر ما يتبنون قسما كبيرا من هذه المطالب، والأشخاص القليلون الذين يرون في ما تقدم برنامجهم الخاص، قد يتصورون أنهم قد حددوا هكذا أقصى ما يمكن مطالبة الثورة به. ولكن هذه المطالب لا يمكنها إطلاقا أن تكفي حزب البروليتاريا. وبينما يريد البرجوازيون الصغار الديمقراطيون إنهاء الثورة بأسرع وقت ممكن وبعد أن يحصلوا في أحسن الأحوال على تحقيق المطالب المذكورة أعلاه، فإن من مصلحتنا ومن واجبنا أن نجعل الثورة دائمة، إلى أن تُطرد من السلطة كل الطبقات المالكة شيئا م، وأن تستولي البروليتاريا على السلطة العامة، وإلى أن تحرز جمعية البروليتاري، ليس فقط في بلد واحد بل في كل بلدان العالم الرئيسية، التقدم الكافي لإلغاء المزاحمة بين البروليتاريا في هذه البلدان، وتركيز قوى الإنتاج الحاسمة على الأقل بين أيديهم. بالنسبة إلين، لا يمكن للمسألة أن تكون في تغيير الملكية الخاصة، بل فقط في إبادتها. لا يمكنها أن تكون في حجب الخصومات الطبقية، بل في إزالة الطبقات. لا في تحسين المجتمع القائم، بل في تأسيس مجتمع جديد. وليس موضع الشك بالنسبة لأحد أن يكون للديمقراطية البرجوازية الصغيرة خلال التطور اللاحق للثورة ولفترة م، النفوذ الغالب في ألمانيا. فالقضية إذن هي في معرفة ماذا يكون موقف البروليتاريا تجاهها وخاصة موقف لعصبة:

1– طالما دام الوضع الحالي حيث الديمقراطيون البرجوازيون الصغار هم أيضا مضطهدون.

2– خلال النضال الثوري المقبل الذي سيعطيهم الغلبة.

3– بعد هذا النضال، طالما ستستمر غلبة الديمقراطيون البرجوازيون الصغار هذه على الطبقات المسقطة وعلى البروليتاريا.

 

1– في هذا الوقت، حيث البرجوازيون – الصغار الديمقراطيون مضطهدون في كل مكان، فإنهم يعظون بشكل عام البروليتاريا بالوحدة والمصالحة. ويمدون لها اليد ويجهدون في تشكيل حزب معارض كبير، يضم كل فروقات الحزب الديمقراطي. وبعبارة أخرى، يجهدون في تجنيد العمال في تنظيم حزبي تغلب فيه الأفكار العامة للاشتراكية–الديمقراطية التي تشكل ستارا لمصالحهم الخاصة، وحيث يُمنع إبراز مطالب البروليتاريا المحددة، لعدم الإخلال بالوفاق. إن وحدة كهذه ستتحول لمصلحة البرجوازيين الصغار الديمقراطيين وحدهم وضد مصلحة البروليتاريا كليا. وستخسر البروليتاريا كامل وضعها المستقل الذي كلفها مجهودا كبير، وتسقط إلى مستوى مجرد ملحق بالديمقراطية البرجوازية الرسمية. يجب إذن رفض هذه الوحدة بشكل قاطع. بدل الانحطاط مرة إضافية إلى دور حذاء يستعمله الديمقراطيون البرجوازيون، على العمال عامة، ولا سيما العصبة، العمل إلى جانب الديمقراطيين الرسميين لتشكيل تنظيم مستقل، سري وعلني، للحزب العمالي، ولجعل كل عامية مركزا ونواة لتجمعات عمالية حيث تناقش مواقف البروليتاريا ومصالحها بمعزل عن النفوذ البرجوازي. أما مدى أخذ الديمقراطيين البرجوازيين بجدية تحالفا يكون فيه للبروليتاريين قوتهم وحقوقهم ذاته، فهذا ما يبرهنه لنا مثلا ديمقراطيو "بريسلو" في لسان حالهم الـ"نوي اودرزايتونغ" حيث يهاجمون بالشكل الأكثر سخطا العمال الذين يلقبونهم بالاشتراكيين المتجمعين في تنظيمات مستقلة. إذا كان الأمر يتعلق بمحاربة خصم مشترك فليس هنالك حاجة لأية وحدة خاصة. فمتى وجدت ضرورة مكافحة خصم كهذ، تتطابق مصالح الحزبين مؤقتا: وفي المستقبل وكما حصل حتى اليوم ستتحقق هذه الوحدة المتوقعة فقط للحظة من تلقاء نفسها. من البديهي أن العمال سينتصرون في النزاعات الدامية القادمة، كما في الماضي، بشجاعتهم، وتصميمهم، وتضحيتهم. وكما في الماضي سيظهر البرجوازيون الصغار في أكثرهم في هذا الصراع مترددين، حائرين، وغير نشطين. ولكن ما أن يحرز النصر حتى يحتكروه لأنفسهم، ويدعون العمال لالتزام الهدوء والعودة إلى منازلهم وأعمالهم، ويتجنبون التجاوزات المزعومة، ويحرمون البروليتاريا من ثمار النصر. ليس باستطاعة العمال منع ديمقراطيين برجوازيين صغار من التصرف بهذا الشكل. ولكن بمقدورهم أن يجعلوا صعود الديمقراطيين هذا بوجه البروليتاريا المسلحة أكثر صعوبة، وأن يملوا عليهم شروطا تجعل سيطرة الديمقراطيين البرجوازيين تنطوي من أصولها على بذور موتها وتجعل حلول سيطرة البروليتاريا اللاحقة مكانها أسهل بدرجة كبيرة. المهم بشكل خاص هو أن يعمل العمال ما أمكن خلال النزاع وبعد انتهاء الصدام مباشرة ضد التهدئة التي يبشر بها البرجوازيون، وأن يجبروا الديمقراطيين على تنفيذ شعاراتهم الإرهابية الحالية. يجب أن تتجه جهودهم ضد قمع التحريض الثوري المباشر، بعد تحقيق النصر مباشرة. إن عليهم بالعكس أن يحافظوا عليه أطول مدة ممكنة. وبدل التصدي للتجاوزات المزعومة، لأمثلة الانتقام الجماهيري ضد أشخاص مكروهين وضد أبنية عامة لا ترتبط بها إلا ذكريات شنيعة، يتوجب لا التغاضي عن ذلك فقط، بل الإمساك بقيادتها بنفسنا. وعلى العمال خلال الصراع وبعده أن يرفعوا في كل مناسبة مطالبهم الخاصة إلى جانب مطالب الديمقراطيين البرجوازيين. وعليهم ما أن يستعد البرجوازيون الديمقراطيون لاستلام الحكومة، المطالبة بحزم بضمانات للعمال والحصول عليها عند الضرورة إثر نضال واسع. وباختصار، يجب إجبار الحكام الجدد على إعطاء كل التنازلات وكل الوعود الممكنة. هذه هي أضمن وسيلة لتوريطهم. على العمال محاولة التخفيف ما أمكن من نشوة النصر والفرحة العظيمة بالوضع الجديد، وهي نتيجة كل نصر يحقق في الشارع، بتحليل الحالة بكل هدوء وأعصاب باردة، وبإظهار ريبة غير مبطنة تجاه الحكومة الجديدة. يجب عليهم في الوقت نفسه تشكيل حكوماتهم العمالية الثورية الخاصة إلى جانب الحكومات الرسمية الجديدة، إما بشكل بلديات ومجالس بلدية، وفي أشكال نواد ولجان عمالية، بطريقة لا تجعل الحكام الديمقراطيين البرجوازيين يخسرون فقط مساندة العمال بل يشعرون ومنذ البداية بأنهم مراقبون ومهددون من قبل سلطات يمشي وراءها جمهور العمال كله. وبكلمة واحدة: مباشرة بعد إحراز النصر، لا يجب لحذر البروليتاريا أن يتجه ضد الحزب الرجعي المهزوم بل ضد حلفائها القدامى، ضد الحزب الذي يريد الاستفادة وحده من النصر المشترك.

2– ولكن للتمكن من اتخاذ موقف حازم ومتهدد من هذا الحزب الذي سيبدأ بخيانة العمال منذ الساعة الأولى للنصر، على هؤلاء أن يكونوا مسلحين ومنظمين. يجب القيام فورا بما هو ضروري لتسليح كل البروليتاريا بالبنادق والغدارات والمدافع ولتأمين الذخائر. ويجب الوقوف من جهة أخرى ضد إعادة إنشاء الحرس الوطني القديم الموجه ضد العمال. وحيث يتعذر على العمال منع ذلك فليحاولوا أن يتنظموا في حرس بروليتاري مستقل ذاتيا له قواده وهيئته أركانه العامة المنتخبون من قبلهم والذين لا يتلقون الأوامر من السلطة العامة بل من المجالس البلدية الثورية التي يشكلها العمال. أما حيث يكون العمال مجندين في خدمة الدولة، فعليهم التصرف بشكل يؤمن لهم التسلح والتنظيم في فرقة خاصة قوادها من اختيارهم. وفي فصيلة من الحرس البروليتاري. ويجب، مهما كانت الحجة، عدم التخلي عن السلاح والذخيرة ومنع كل محاولة لنزع السلاح، بالقوة عند الضرورة. إن إبطال نفوذ الديمقراطيين البرجوازيين لدى البروليتاري، وإنجاز تنظيم العمال بشكل مستقل وتسليحهم فور، ومواجهة السيطرة، التي لا بد منها حالي، للديمقراطية البرجوازية بأقصى ما يمكن من الشروط المزعجة والمورطة، هذه هي النقاط الأساسية التي على البروليتاريا وبالتالي على العصبة أن تضعها دائما أمام أعينها خلال الانتفاضة المرتـقبة، وبعدها.

3– ما إن تثبت الحكومات الجديدة نوعا من ركائز حكمه، حتى تبدأ فورا صراعها ضد العمال. ولكي يتمكن هؤلاء في هذه الحالة من مجابهة البرجوازيين الصغار الديمقراطيين بقوة، يجب قبل كل شيء أن يكونوا منظمين وممركزين في نواد مستقلة ذاتيا. إن المجلس المركزي سينتقل، بعد سقوط الحكومات الحالية، بأسرع ما يمكن إلى ألماني، وسيطلب عقد مؤتمر يحيل إليه الاقتراحات اللازمة لمركزه النوادي العمالية تحت قيادة يكون مقرها المركز الرئيسي للحركة. إن من أهم النقاط الضرورية لتقويم وتوسيع صفوف الحزب العمالي، الإسراع بتنظيم اتحاد للنوادي العمالية ولو في مقاطعة واحدة. إن النتيجة الفورية لسقوط الحكومات الحالية، ستكون انتخاب مجلس تمثيلي وطني. وعلى البروليتاريا أن تتصرف، وفقا لسياق الأفكار هذ، كما يلي:

1) عليها أن تسهر على ألا يُفصل لأي عدد من العمال مهما كان السبب كشكاوي السلطات المحلية واللجان الحكومية.

2) عليها العمل على أن يتقدم في كل جنب إلى جنب مع المرشحين الديمقراطيين البرجوازيين، مرشحون عماليون يجري اختيارهم بقدر المستطاع من أعضاء العصبة، ويجب تأمين انتخابهم بكل الوسائل الممكنة. وحتى في الأماكن حيث لا يوجد أي أفق بالنجاح، على العمال أن يقدموا مرشحيهم بغية المحافظة على استقلالهم، وحساب قوتهم ونشر موقفهم الثوري ووجهات نظر حزبهم علنا. عليهم ألا يُخدعوا في هذا التكتيك بجمل الديمقراطيين الجاهزة كالقول مثلا بأن تصرفهم هذا سيقسم الحزب الديمقراطي ويعطي الرجعية فرصة الانتصار. إن كل هذه العبارات لا تبغي في التحليل الأخير، إلا هدفا واحدا: خداع البروليتاريا. إن التقدم الذي سيحرزه الحزب البروليتاري بلا شك بموقف مستقل كهذ، أهم بما لا يقاس من السيئات التي يمكن أن تنتج عن وجود بعض الرجعيين في المجلس التمثيلي الشعبي. إذا اتخذت الديمقراطية منذ البداية موقفا مصمما وإرهابيا تجاه الرجعية، فإن نفوذ هذه في الانتخابات سيكون معدوما مسبقا.

إن النقطة الأولى التي سيقع عليها النزاع بين الديمقراطيين البرجوازيين والعمال ستكون مسألة القضاء على النظام الإقطاعي. وكما حصل إبان الثورة الفرنسية الأولى، سيطالب البرجوازيون الصغار بإعادة الأراضي الإقطاعية إلى الفلاحين كملكية حرة. وبتعبير آخر سيبغون الإبقاء على البروليتاريا الريفية وتكوين طبقة فلاحية برجوازية صغيرة، تسلك مجرى الإفقار والديْن نفسه الذي ما زال الفلاح الفرنسي حتى الآن يتخبط فيه.

يجب على العمال، لمصلحة البروليتاريا الريفية ولمصلحتهم الخاصة، أن يعارضوا هذا المخطط. عليهم أن يصروا على إبقاء الملكية المصادرة ملكا للدولة، وتحويلها إلى مستعمرات عمالية تستغلها البروليتاريا الريفية المتجمعة في تعاونيات، مع كل حسنات الزراعة الكبيرة، مما يكسب فورا مبدأ الملكية الجماعية قاعدة قوية وسط الظروف المتزعزعة للملكية البرجوازية. وكما يقيم الديمقراطيون تحالفا مع المزارعين، على العمال أن يتحالفوا مع البروليتاريا الريفية. وسيحاول الديمقراطيون فوق ذلك إما الإعداد مباشرة للجمهورية الفدرالية وإما على الأقل، إذا لم يكن بوسعهم تجنب الجمهورية الواحدة التي لا تتجزأ سيحاولون شل الحكومة المركزية بإعطاء العاميات والمقاطعات أقصى ما يمكن من الاستغلال والحكم الذاتي. وبعكس هذا المخطط، على العمال ليس فقط استكمال إنشاء الجمهورية الألمانية الواحدة التي لا تتجز، بل أيضا محاولة تحقيق، ضمن هذه الجمهورية، المركزة القصوى للقوة بين أيدي الدولة. يجب ألا تضللهم روايات الديمقراطيين عن حرية العاميات وعن الحكومات المستقلة ذاتيا الخ. ففي بلد كألمانيا حيث ما برح ينبغي إزالة الكثير من آثار القرون الوسطى وتحطيم الكثير من الخصوصيات المحلية والإقليمية، لا يمكن بأي ظرف من الظروف التغاضي عن قيام كل قرية وكل مدينة وكل مقاطعة برفع حاجز جديد في وجه النشاط الثوري الذي لا يقدر أن ينبع بكل قوته إلا من المركز.

لا يمكن القبول بتجدد واقع الأمور الحالي الذي يفرض على الألمان خوض معارك خاصة في كل مدينة وكل مقاطعة من أجل تقدم واحد ومشترك ولا يمكن خصوصا القبول بدوام شكل معين للملكية لا يزال محجوبا وراء الملكية الخاصة الحديثة والذي سينتهي بالضرورة إلى الاندماج بها في كل مكان، أعني به شكل الملكية العامة مع كل ما يرافقه من خصومات محتمة ما بين عاميات غنية وعاميات فقيرة، وكذلك فإن قانون مواطن العامية، المليء بالمماحكات، الذي يتعايش مع قوانين مواطن الدولة، سوف يستمر على حساب العمال بواسطة تشريع للعامية معتبر ليبراليا. وكما حصل في فرنسا عام 1793، فإن تحقيق المركزة الأكثر صرامة هو اليوم في ألمانيا مهمة الحزب الثوري حقا (1).

لقد رأينا كيف سيصل الديمقراطيون إلى الحكم خلال الحركة القادمة، وكيف سيضطرون لاقتراح إجراءات إلى حد ما اشتراكية. وقد نتساءل ما هي الإجراءات التي يجب أن يقترحها العمال ؟ من البديهي أنهم لا يستطيعون بعد في بداية الحركة اقتراح إجراءات مباشرة شيوعية. ولكن بإمكانهم القيام بالأمور التالية:

1– إجبار الديمقراطيين على التدخل ما أمكن في التنظيم القائم وعرقلة خط سيره المنتظم، وعلى توريط أنفسهم، بالإضافة إلى تجميع أكبر عدد ممكن من القوى المنتجة ووسائل النقل والمصانع وسكك الحديد الخ. بين أيدي الدولة.

2– أن يدفعوا باقتراحاتهم الديمقراطيين، الذين لن يكونوا على أي حال ثوريين بل إصلاحيين ليس إل، إلى أقصى الحدود، محولين إياها إلى هجمات مباشرة على الملكية الفردية. فعندما يقترح البرجوازيون الصغار شراء سكك الحديد والمصانع مثل، على العمال المطالبة بحزم بمصادرة سكك الحديد والمصانع هذه رأسا وبدون تعويض بوصفها ملكا للرجعيين. وإذا اقترح الديمقراطيون ضريبة نسبية فعلى العمال أن يطالبوا بضريبة تصاعدية. وإذا اقترح الديمقراطيون أنفسهم ضريبة تصاعدية معتدلة، فعلى العمال أن يصروا على ضريبة ترتفع نسبها بسرعة بحيث تؤدي إلى تحطيم رأس المال الكبير. إذا طالب الديمقراطيون بتسوية ديون الدولة ، فعلى العمال أن يطالبوا بإعلان إفلاسها. إن مطالب العمال يجب أن تتحد إذن وحيثما كان وفق تنازلات الديمقراطيين وإجراءاتهم.

وإذا لم يتمكن العمال الألمان من استلام السلطة وتغليب مصالحهم الطبقية دون المرور بشكل كامل بتطور ثوري طويل نسبي، فإنهم، هذه المرة، أكيدون على الأقل، أن أول فصل من هذه المأساة الثورية المداهمة سوف يطابق الانتصار المباشر لطبقتهم نفسها في فرنسا مما يؤدي إلى الإسراع بثورتهم.

إلا أنه عليهم المشاركة بأنفسهم بانتصارهم النهائي، بوعيهم لمصالحهم الطبقية وتنظيمهم بأسرع ما يمكن كحزب مستقل، وبعدم إغفالهم ولو للحظة واحدة، بالرغم من الخطابات الخبيثة التي يرددها البرجوازيون الصغار الديمقراطيون، عن تنظيم حزب البروليتاريا بشكل مستقل. إن صيحة حربهم يجب أن تكون: الثورة الدائمة !

كارل ماركس وفريدريك أنجلز
لندن – آذار 1850

 

ثلاثة مفاهيم للثورة

| نقد مفاهيم لينين | رأي لينين حول الليبرالية | الفلاحون والاشتراكية |
| المفهوم التروتسكي | نظرية الثورة الدائمة |

لم تشكل ثورة 1905 "التجربة العامة لسنة 1917" فحسب، بل كانت أيضا المختبر الذي انبثـقت عنه كل التجمعات الأساسية للفكر السياسي الروسي، وحيث ارتسمت وتـقولبت جميع اتجاهات الماركسية وتنوعاتها. وكانت مسألة الطابع التاريخي للثورة الروسية ومسالك نموها المقبلة في مركز الاختلافات والمنازعات. وصراع المفاهيم والتوقعات هذا بحد ذاته، لا علاقة مباشرة له بسيرة ستالين الذي لم يشترك بشكل مستقل في هذه المجادلات. فالمقالات الدعائية القليلة التي كتبها حول هذه المادة، خالية من أية فائدة نظرية. وقد نشر عشرات البلاشفة بأقلامهم هذه الأفكار نفسها، وذلك بطريقة أوفى بكثير. إن عرضا نقديا للمفهوم الثوري للبلشفية، كان يجب عليه، بحكم طبيعة الأشياء نفسها، أن يحتل مكانه في سيرة لينين. إلا أن للنظريات مصيرا خاصا بها.

إذا لم يكن لستالين موقف مستقل أثـناء فترة الثورة الأولى وفيما بعد حتى سنة 1923، عندما كانت المذاهب الثورية تحضر وتطبق، فإن الوضع ابتداء من منة 1924 تغير فجأة. فمنذ ذلك الحين بدأت فترة الردة البيروقراطية والمراجعة الصارمة للماضي. فإذا بحبكة الثورة تجري معكوسة. المذاهب القديمة تخضع لتـقيـيمات جديدة ولتغـييرات جديدة. ويتركز الانتباه بطريقة غير منتظرة أبدا من أول وهلة على مفهوم "الثورة الدائمة" بوصفها منبع جميع عثرات التروتسكية. ومن وقتذاك وعلى مدى عدد معين من السنين أصبح نقد هذا المفهوم يشكل المضمون الرئيسي للعمل النظري لستالين ومعاونيه. بل إننا نستطيع القول إن الستالينية كلها على الصعيد النظري تطورت من خلال نقد نظرية الثورة الدائمة كما صيغت سنة 1905. وبالتالي فإن تحليل هذه النظرية المتميزة عن نظريات المناشفة والبلاشفة، لا يستطيع إلا أن يشكل قسما من هذا الكتاب ولو كان ذلك على شكل ملحق.

*****

إن نمو روسيا مطبوع قبل كل شيء بوضعها المتأخر. إلا أن وضعا تاريخيا متأخرا لا يستتبع في تطوره نسخا بسيطا عن نمو البلدان المتقدمة مع فارة قرن وقرنين. إن وضعا كهذا يخلق بنية اجتماعية "مركـَّبة" جديدة كل الجدة حيث تتأصل آخر فتوحات التكنيك والبنية الرأسمالية في علاقات بربرية إقطاعية وما قبل الإقطاعية. فتحولها وتسودها خالقة بذلك وضعا خاصا جدا من العلاقات الطبقية المتبادلة. والشيء نفسه يجري في مجال الأفكار. إن روسيا، بسبب وضعها التاريخي المتأخر بالضبط، تجد نفسها البلد الوحيد حيث بلغت الماركسية كمذهب، والاشتراكية الديمقراطية كحزب نموا قويا حتى قبل الثورة البورجوازية. فطبيعي جدا أن تكون مسألة الارتباط ما بين النضال من أجل الديموقراطية والنضال من أجل الاشتراكية قد خضعت إلى تحليل عميق نظريا في روسيا بالضبط.

لقد رفض النارودنيون، وهم جوهريا مثاليون – ديمقراطيون اعتبار الثورة الجارية ثورة بورجوازية. فنعتوها بـ "الديمقراطية" محاولين بواسطة صيغة سياسية محايدة، أن يحجبوا مضمونها الاجتماعي لا عن الآخرين فقط بل عن أنفسهم. لكن بليخانوف، مؤسس الماركسية الروسية، في نضاله ضد النارودنية، أعلن حوالي سنة 1880 أنه ليس من سبب كي تأمل روسيا طريقا للتطور متميزا وأنها مثلها مثل الأمم "الأجنبية" الأخرى، عليها أن تمر عبر مطهر الرأسمالية وأنها باتباعها هذا المسلك بالضبط، سوف تحظى بالحرية السياسية التي لا غنى عنها لنضال البروليتاريا من أجل الاشتراكية. ولم يكن بليخانوف يفصل بين الثورة البورجوازية كمهمة والثورة الاشتراكية – التي كان يرجئها إلى مستقبل غير محدد – فحسب، بل كان ينسب إلى كل منها تركيبات للقوى، مختلفة تماما.

كان على البروليتاريا المتحالفة مع البورجوازية الليبرالية أن تحقق الحرية السياسية. وبعد مضي عدة عقود وبعد بلوغها مستوى أعلى من النمو الرأسمالي، تستطيع البروليتاريا في نضال مباشر ضد البورجوازية، أن تقود بشكل ناجح الثورة الاشتراكية.

أما لينين من جهته، فكان يكتب في نهاية عام 1904:

"يظهر دائما للمثقف الروسي أن تحديد ثورتنا على أنها ثورة بورجوازية يعني إزالة لونها وتذليلها والحط من قدرها... بالنسبة للبروليتاريا ليس النضال من أجل الحرية السياسية ومن أجل الجمهورية الديمقراطية ضمن المجتمع البرجوازي أكثر من مرحلة ضرورية في نضالها من أجل المجتمع الاشتراكي ".

وكتب سنة 1905:

"إن الماركسيين لمقتنعون تماما بالطابع البورجوازي للثورة الروسية. فماذا يعني هذا ؟ إن هذا يعني أن تلك التحولات الديمقراطية... التي أصبحت لا غنى لروسيا عنها، لا تدل بنفسها على محاولة لدك الرأسمالية، لدك الثورة البورجوازية، بل إنها، على عكس ذلك، تفتح الطريق للمرة الأولى وبشكل مشروع، أمام نمو رحب وسريع للرأسمالية على النمط الأوروبي لا الأسيوي. ولأول مرة سوف تجعل هذه التحولات من الممكن سيطرة البورجوازية بوصفها طبقة..."

وكان يشدد على "إننا لا نستطيع القفز فوق الإطار الديمقراطي البورجوازي للثورة الروسية، غير أننا نستطيع توسيع هذا الإطار بنسب هائلة". أي أننا نستطيع أن نخلق ضمن المجتمع البورجوازي ظروفا أكثر ملاءمة بكثير للنضال المقبل للبروليتاريا. في هذه الحدود، كان لينين يتبع بليخانوف. فكان الطابع البورجوازي للثورة يشكل نقطة انطلاق جناحي الاشتراكية-الديمقراطية الروسية.

فمن الطبيعي جدا، في ظروف كهذه، ألا يتعدى كوبا (1) (ستالين)، في دعايته، تلك الصيغ الرائجة التي كانت تخص البلاشفة والمناشفة على حد سواء.

فكان يكتب في كانون الثاني سنة 1905: "إن ما يجب أن نناضل من أجله الآن هو الجمعية التأسيسية المنتخبة على أساس الاقتراع العام المتساوي والمباشر والسري. وهذه الجمعية وحدها ستأتينا بالجمهورية الديمقراطية التي نحن بأمس الحاجة إليها في نضالنا من اجل الاشتراكية." الجمهورية البورجوازية كميدان لصراع طبقي ذي نفس طويل من أجل الهدف الاشتراكي، هوذا أفق المستقبل.

في سنة 1907، أي بعد نقاشات لا تحصى في صحافة بطرسبرج وفي الخارج، وبعد اختبار جدي لمتوقعات النظرية في تجارب الثورة الأولى، كتب ستالين:

"كون ثورتنا بورجوازيه، وأنه يجب عليها أن تـُتمم هدم النظام الإقطاعي لا النظام الرأسمالي، وأنها تستطيع أن تتوج فقط بالجمهورية الديمقراطية، تلك النقاط من الظاهر أن الجميع في حزبنا متفقون عليها".

لم يكن ستالين يذكر بماذا تبدأ الثورة، بل كان يتكلم بما تؤدي إليه وحدد ذلك سلفا وبشكل قاطع تماما بالجمهورية الديمقراطية فقط. وقد نبحث دون جدوى في كل كتاباته حتى عن إشارة إلى أي توقع لثورة اشتراكية ما علاقة مع إسقاط الديمقراطية. هكذا كان موقف ستالين حتى في بداية ثورة شباط 1917، إلى حين وصول لينين إلى بتروغراد.

*****

بالنسبة لبليخانوف واكيسلرود وزعماء المنشفية عامة، كان تحديد الثورة الاجتماعي، كثورة بورجوازية، مشروعا من الناحية السياسية لأنه كان يمنع سلفا استفزاز البرجوازية بشبح الاشتراكية و"دفعها" بالتالي إلى معسكر الرجعية. فكان اكيسلرود زعيم تكتيك المنشفية يصرح في مؤتمر الوحدة: "إن العلاقات الاجتماعية في روسيا قد نضجت من أجل الثورة البورجوازية لا غير، فأمام الفقدان المطلق للحقوق السياسية في بلادنا. لا يسعنا بأي شكل التحدث عن صراع مباشر بين البروليتاريا والطبقات الأخرى من أجل السلطة السياسية... إن البروليتاريا تناضل لكي تحصل على ظروف نمو بورجوازي. والظروف التاريخية الموضوعية تجمل من نصيب البروليتاريا التعاون بلا تسامح مع البورجوازية في نضالها ضد العدو المشترك" فكان مضمون الثورة الروسية يحدد هكذا سلفا بهذه التحولات المتلائمة مع مصالح البورجوازية الليبرالية وتطلعاتها.

وعند هذه النقطة بالضبط يبدأ الاختلاف الأساسي بين الجناحين. فلقد كانت البلشفية ترفض الاعتراف إطلاقا بأن البورجوازية الروسية قادرة على قيادة ثورتها حتى النهاية. وكان لينين يعتبر بقوة وبحلابة أكثر من بليخانوف بما لا يقاس، أن المسألة الزراعية هي المشكلة المركزية في الانقلاب الديمقراطي في روسيا. فكان يودد أن النقطة الأساسية في الثورة الروسية هي المسألة الزراعية (مسألة الأرض). ويجب على استنتاجات تتعلق بالهزيمة وبالنصر أن تعتمد... على تقدير حالة الجماهير في النضال من اجل الأرض". كان لينين يعتبر، مع بليخانوف، أن طبقة الفلاحين هي طبقة بورجوازية صغيرة. وأن برنامج الفلاحين الزراعي هو برنامج تقدم بورجوازي. فنجده يشدد في مؤتمر الوحدة على "أن التأميم هو تدبير بورجوازي: أنه سيدفع نمو الرأسمالية، ويزيد من حدة الصراع الطبقي، ويقوي التعبئة من أجل الأرض، ويسبب تدفق الرساميل إلى الزراعة، ويخفض سعر الحبوب". غير أن البورجوازية الروسية قد بقيت، بالرغم من الطابع البورجوازي الذي لا جدال فيه للثورة الزراعية، معادية لمصادرة الأملاك الكبيرة وكانت تؤيد لهذا السبب بالضبط تسوية مع الملكية على أساس دستور حسب النموذج البروسي. فإزاء موقف بليخانوف المنادي بتحالف بين البروليتاريا والبورجوازية، رد لينين بفكرة تحالف بين البروليتاريا والفلاحين. وأعلن أن مهمة التآزر الثوري بين هاتين الطبقتين، هي إقامة "دكتاتورية ديمقراطية" كوسيلة وحيدة لتطهير روسيا جذريا من جميع بقايا الإقطاعية، ولخلق نظام فلاحين أحرار ولفتح الطريق أمام نمو الرأسمالية طبقا للنموذج الأمريكي لا البروسي.

كان لينين يكتب أن انتصار الثورة لا يمكن أن يكرس إلا دكتاتورية، لأن انجاز التحويلات التي تحتاج إليها البروليتاريا والفلاحون بصورة ماسة وفورية سوف يسبب مقاومة يائسة من قبل مالكي الأراضي والرأسماليين الكبار، والقيصرية. فسيكون من المستحيل بلا دكتاتورية، تحطيم هذه المقاومة ودحر المحاولات المضادة للثورة. غير أن هذه الدكتاتورية لن تكون طبعا دكتاتورية اشتراكية وإنما دكتاتورية ديمقراطية. فلن يكون بمقدورها (دون المرور بسلسلة كاملة من المراحل الانتقالية للتطور الثوري) أن تمس أسس الرأسمالية ولن يمكنها في أحسن الأحوال، إلا القيام بإعادة تقسيم جديد وجذري للملكية العقارية لمصلحة الفلاحين، وإدخال نظام ديمقراطي صلب وكلي يذهب حتى إقامة الجمهورية واستئصال جميع السمات الآسيوية والإقطاعية ليس فقط من حياة القرية اليومية بل كذلك من المصنع، وتدشين تحسينات جدية لوضع الشغيلة وذلك برفع مستوى معيشتهم، ثم، وفوق كل شيء القيادة الناجحة للاشتعال الثوري في أوروبا.

 

نقد مفاهيم لينين

كان مفهوم لينين يشكل خطوة عظيمة إلى الأمام بقدر ما كان يطالب لا بالإصلاحات الدستورية وإنما بالإصلاح الزراعي بوصفه المهمة الرئيسية للثورة وكونه يشير إلى التركيب الواقعي الوحيد للقوى الاجتماعية القادرة على انجازه. إلا أن نقطة الضعف في مفهوم لينين كانت التناقض الداخلي الذي تحمله في جوفها فكرة "دكتاتورية العمال والفلاحين الديمقراطية". وقد كان لينين بنفسه يحصر الحدود الأساسية لتلك "الدكتاتورية" عندما كان يصفها صراحة بأنها "برجوازية". وكان يعني بذلك أن البروليتاريا، لحماية تحالفها مع الفلاحين، سوف تضطر خلال الثورة المقبلة أن تتخلى عن دكتاتوريتها هي. وبالتالي فان الوضع سيفترض قيام دكتاتورية الفلاحين حتى وإن كانت ستنجز بمشاركة العمال.

هذا بالضبط ما كان يقوله لينين في بعض الحالات. ففي مؤتمر ستوكهولم مثلا وبسياق دحضه لحجج بليخانوف الذي وقف ضد "طوباوية" استلام السلطة كان يصرح:

"أي برنامج نحن بصدد نقاشه ؟ البرنامج الزراعي. من سيتحمل مسؤولية استلام السلطة بمقتضى هذا البرنامج ؟ الفلاحون الثوريون".

فهل يخلط لينين بين سلطة البروليتاريا وأولئك الفلاحين ؟ إنه يجيب بالنفي استنادا إلى شعاراته نفسها. فلينين يفصل تماما بين سلطة البروليتاريا الاشتراكية، وسلطة الفلاحين الديمقراطية البرجوازية. ونجده يقول أيضا بتعجب: "ولكن هل من الممكن أن تكون هنالك ثورة فلاحية من دون استلام الفلاحين الثوريين للسلطة". ففي صيغة المجادلة هذه، يُظهر لينين بوضوح خاص ضعف موقفه.

إن الفلاحين موزعون على مساحة بلاد شاسعة تشكل المدن نقاط تلاقيها وهم بأنفسهم غير قادرين على صياغة مصالحهم الخاصة لأن مصالحهم تتخذ شكلا مختلفا في كل مقاطعة. والرابط الاقتصادي بين المقاطعات تخلقه السوق والسكك الحديدية لكن كلتيهما بأيدي المدن. وبمحاولتهم التحرر من انحصار القرية وتعميم مصالحهم الخاصة، لا مفر من أن يقع الفلاحون تحت تبعية المدن، وأخيرا، فالفلاحون غير متجانسين في علاقاتهم الاجتماعية. ففئة الكولاك تحاول بالطبع جرهم إلى تحالف مع بورجوازية المدن بينما تتوجه فئات الفلاحين الفقراء نحو شغيلة المدن.في هذه الظروف يعجز الفلاحون كطبقة تماما عن الظفر بالسلطة.

صحيح أنه في الصين القديمة، حمل ثوريون الفلاحين إلى السلطة، وبمزيد من الدقة، وهبوا السلطة إلى الرؤساء العسكريين للانتفاضات الفلاحية، لكن هذا أدى في كل مرة إلى تقسيم جديد للأرض، وإلى إقامة سلالة "فلاحية' جديدة، عند هذه النقطة كان التاريخ يعيد الكرّة من البدء: فكان التمركز الجديد للأرض والأرستقراطية الجديدة ونظام المراباة الجديد تسبب انتفاضة جديدة. وطالما تحتفظ الثورة بطابعها الفلاحي الصرف، فالمجتمع غير قادر على الخروج من هذه الحلقة المفرغة الخالية من أي منفذ.

هذا هو أساس تاريخ آسيا القديم بما فيه التاريخ الروسي القديم. أما في أوروبا، فمنذ بدء انحطاط القرون الوسطى، كانت كل انتفاضة فلاحية مظفرة تحمل إلى السلطة لا حكومة فلاحية، وإنما حزبا يساريا مدينيا. فكانت الانتفاضة الفلاحية تـُعد منتصرة بالقدر الذي كانت تنجح فيه بالضبط في تقوية موقف القسم الثوري من سكان المدن. وفي روسيا البورجوازية، في القرن العشرين، لا يسعنا حتى طرح استلام السلطة من قبل الفلاحين الثوريين.

 

رأي لينين حول الليبرالية

لقد كان الموقف إزاء البورجوازية الليبرالية، كما ذكر أعلاه، محك التمييز ما بين الثوريين والانتهازيين في صفوف الاشتراكية الديمقراطية.

ماذا سيكون طابع الحكومة المؤقتة الثورية المقبلة ؟ ما هي المهام التي قد تواجهها ؟ وفي أي ترتيب ؟

لم يكن ممكنا طرح هذه الأسئلة البالغة الأهمية بشكل صحيح إلا على أساس الطابع الأساسي لسياسة البروليتاريا، وطابع هذه السياسة كان بدوره محددا قبل كل شيء بالموقف تجاه البورجوازية الليبرالية.

أما بليخانوف فقد كان بشكل جلي يغمض عينيه بعناد أمام الاستنتاج الأساسي للتاريخ السياسي للقرن التاسع عشر: كلما اندفعت البروليتاريا كقوة مستقلة، لجأت البرجوازية إلى معسكر الثورة المضادة. وكلما أبدت الجماهير مزيدا من الجرأة في نضالها، كلما ازدادت سرعة التدهور الرجعي لليبرالية. ما من أحد توصل حتى الآن إلى اختراع طريقة يمكنها شل نتائج قانون الصراع الطبقي.

وكان بليخانوف يكرر في سنوات الثورة الأولى، "علينا السعي لكسب مساندة الأحزاب غير البروليتارية وليس إبعادها بأعمال خالية من الحنكة".

فكان فيلسوف الماركسية يبين بوعوظ مملة من هذا الطراز، أن دينامية المجتمع الحية بعيدة المنال بالنسبة إليه.

إن "قلة الحنكة" تستطيع أن تنفر مثقفا سريع التأثر كشخص. أما الطبقات والأحزاب فالمصالح الاجتماعية هي التي تنفرها.

وكان لينين يرد على بليخانوف: "نستطيع القول بكل تأكد أن الليبراليين ومالكي الأراضي سيغفرون لك ملايين "التقليل من الحنكة" ولكنهم لن يغفروا لك محاولة واحدة للاستيلاء على الأرض".

وليس فقط مالكو الأرض. فقمم البورجوازية مرتبطة بالمالكين عبر وحدة مصالح التملك وبشكل أكثر دقة عبر نظام المصارف. وقمم البورجوازية الصغيرة والمثقفين خاضعة ماديا ومعنويا للمالكين الكبار والمتوسطين. فهي تخاف حركة الجماهير المستقلة.

إلا أنه من أجل إسقاط القيصرية توجب الأخذ بيد عشرات الملايين من المظلومين في هجوم ثوري بطولي، مليء بالتضحية، لا يتوقف أمام شيء. إن الجماهير يمكن جعلها تنهض من أجل الانتفاضة تحت راية مصالحها الخاصة وحدها، وبالتالي بروح من المعاداة غير قابلة للمصالحة، تجاه الطبقات المستغلة، ابتداء بمالكي الأرض. "فنفور" البرجوازية المعارضة من العمال والفلاحين الثوريين هو إذن قانون ملازم للثورة نفسها لا يمكن بالتالي تجنبه بأساليب الدبلوماسية و"الحنكة".

كل شهر جديد يمر كان يؤكد صحة التقدير اللينيني لليبرالية. فبعكس آمال المناشفة، كان الكاديت غير مستعدين لتسلم مكانهم على رأس الثورة "البورجوازية" فحسب ولكنهم كانوا على العكس يكتشفون أكثر فأكثر مهمتهم التاريخية في النضال ضدها.

بعد سحق انتفاضة كانون الأول، سعى الليبراليون الذين كانوا يحتلون طليعة المسرح السياسي في مجلس الدوما القليل الدوام، سعوا بكل قوتهم لتبرير أنفسهم أمام الملكية ولتبرئة أنفسهم من قلة الحزم في تصرفهم المضاد للثورة أثناء خريف سنة 1905، بينما كان الخطر يهدد أكثر دعائم "الثقافة" قدسية.

وقد أثبت زعيم الليبراليين ميليوكوف، الذي كان يدير المباحثات السرية مع قصر الشتاء، أثبت بكل صحة في الصحافة، أنه في نهاية عام 1905، لم يكن باستطاعة الكاديت حتى الظهور أمام الجماهير: فكتب: "إن أولئك الذين يلومون الآن الحزب (الكاديت) لأنه لم يحتج وقتئذ بتنظيم اجتماعات ضد أوهام التروتسكية... أولائك بكل بساطة لا يفهمون وهم لا يتذكرون الجو الذي كان يسود وقتئذ في اللقاءات الديمقراطية العلنية أثناء الاجتماعات".

لقد كان الزعيم الليبرالي يعني بقوله "أوهام التروتسكية"، السياسة المستقلة للبروليتاريا التي اجتذبت نحو السوفيتات مشاعر أشد شرائح المدن سفولا، والجنود والفلاحين وجميع المستغلين والتي لهذا السبب كانت تثير نفور "المجتمع المثقف".

وقد جرى تطور المناشفة على خطوط متوازية فكان عليهم أكثر فأكثر تبرير أنفسهم أمام الليبراليين من كونهم قد شكلوا كتلة مع تروتسكي عام 1905. وكانت تفسيرات مارتوف ودعاية المناشفة الموهوبة تتلخص بالتالي بأنه كان من الضروري القيام بتنازلات إلى "الأوهام الثورية" للجماهير.

إن التجمعات السياسية قد تشكلت في تفليس انطلاقا من المبادئ ذاتها التي على أساسها تشكلت في بطرسبرج. وقد كتب ظوردانيا، زعيم مناشفة القوقاز: "إن تحطيم الرجعية من أجل الحصول على الدستور وتدعيمه مرتهن بالتوحيد الواعي لقوى البروليتاريا والبورجوازية وبجهودها نحو هدف واحد... صحيح أن الفلاحين سوف يُجرون في الحركة التي سيعطونها طابعا ابتدائيا، ولكن الدور الحاسم ستلعبه مع ذلك هاتان الطبقتان، فيما "ستأتي" الحركة الزراعية بالحب إلى طاحونتها".

كان لينين يهزأ من مخاوف ظوردانيا من أن أتباع سياسة لا تقبل المصالحة تجاه البورجوازية سيحكم على العمال بالعجز: "إن ظوردانيا يناقش مسألة انعزال محتمل للبروليتاريا أثناء انقلاب ديمقراطي وينسى... الفلاحين".

من بين جميع حلفاء البروليتاريا المحتملين، إنه لا يعرف إلا مالكي الأراضي الليبراليين ولا يغازل غيرهم. ولا يعرف الفلاحين ! وذلك في القوقاز ! غير أن تفنيدات لينين مع كونها صحيحة مبدئيا، تبسط المسألة حول نقطة معينة. فظوردانيا لم "ينس" الفلاحين وهو، كما يسمح تلميح لينين نفسه بفهمه، لم يكن في استطاعته أن ينساهم في القوقاز حيث كان الفلاحون آنذاك ينتفضون بفوران الإعصار، تحت راية المناشفة. وإنما كان ظوردانيا يعتبر الفلاحين "كمدك" تاريخي أكثر منهم كحليف سياسي، "كمدك" يمكن بل ويجب أن يستعمل من قبل البورجوازية المتحالفة مع البروليتاريا. فهو لم يكن يؤمن بأن الفلاحين يمكنهم أن يصبحوا قوة قائدة للثورة وحتى مستقلة فيها ولم يكن على خطأ في ذلك، ولكنه لم يكن يؤمن كذلك بأن باستطاعة البروليتاريا أن تقود الانتفاضة الزراعية إلى النصر – وهنا كان يكمن خطؤه المميت. فالنظرة المنشفية القائلة بتحالف البروليتاريا والبورجوازية تعني في الحقيقة إخضاع العمال والفلاحين لليبراليين. والطوباوية الرجعية لهذا البرنامج يحددها كون تفكك الطبقات المتقدم يشل سلفا البورجوازية بوصفها عاملا ثوريا. بالنسبة لهذه القضية الأساسية، كان البلاشفة محقين على طول الخط: بعد تحالف مع البورجوازية الليبرالية، سيضطر الاشتراكيون-الديمقراطيون، لا محالة، إلى معارضة حركة العمال والفلاحين الثورية. في سنة 1905، لم يكن للمناشفة الشجاعة الكافية لاستخراج كل النتائج اللازمة من نظريتهم حول الثورة "البرجوازية". وفي سنة 1917، دفعوا أفكارهم هذه حتى نتيجتها المنطقية وهشموا بذلك أنوفهم.

وقد كان ستالين أبَّان السنوات الأولى للثورة، إلى جانب لينين فيما يختص بقضية الموقف إزاء الليبراليين. ويجب القول أن أكثرية مناشفة القاعدة كانوا في تلك الفترة أقرب للينين منهم لبليخانوف في المسائل المتعلقة بالبورجوازية المعارضة. وكان موقف الازدراء تجاه الليبراليين جزءا من التقاليد الأدبية للراديكالية المثقفة. ولكن لا جدوى من سعينا لإيجاد مساهمة مستقلة لكوبا (ستالين) حول هذه المسألة، وتحليلا للعلاقات الاجتماعية في القوقاز وحججا جديدة وحتى طريقة جديدة للتعبير عن القديمة، فإن ظوردانيا، قائد مناشفة القوقاز، كان مستقلا عن بليخانوف أكثر بكثير مما كان ستالين مستقلا عن لينين. كون كوبا يكتب بعد التاسع من كانون الثاني: "ليس من المجدي أن يحاول السادة الليبراليون إنقاذ عرش القيصر المتأرجح. ليس من المجدي أن يمدوا للقيصر يد المعونة !... فالجماهير الشعبية التي نهضت، تستعد للثورة، لا للمصالحة مع القيصر... نعم أيها السادة، إن جهودكم غير مجدية. فالثورة الروسية لا بد منها، وهي لا بد منها كما أن طلوع الشمس لا بد منه. فهل تستطيعون منع الشمس من الشروق ؟ هنا يكمن السؤال !" وهكذا دواليك، كان كوبا عاجزا عن بلوغ مستوى أعلى. وقد كتب بعد سنتين ونصف من ذلك، مقلدا لينين حرفيا تقريبا: "إن البورجوازية الليبرالية الروسية مضادة للثورة، فهي لا تستطيع أن تكون قوتها المحركة، فكيف بها قائدها. إنها عدوة الثورة اللدودة، ويجب خوض نضال لا هوادة فيه ضدها". إلا أن ستالين سوف يخضع، حول هذه المسألة الأساسية بالضبط، لتحوّل كامل في غضون السنوات العشر اللاحقة وسوف يواجه ثورة شباط 1917، كمؤيد لتكتل مع البورجوازية الليبرالية وبالتالي كبطل للمطالبة بوحدة المناشفة والبلاشفة في حزب واحد. لكن وصول لينين من الخارج قد وضع وحده حدا لسياسة ستالين المستقلة التي كان لينين يصفها بمسخرة للماركسية.

 

الفلاحون والاشتراكية

لم يكن النارودنيون يعتبرون العمال والفلاحين أكثر من "شغيلة" و"مستغَلين"، لهم المصلحة ذاتها في الاشتراكية. وكان الماركسيون يعتبرون أن الفلاح بورجوازي صغير ليس بإمكانه أن يصبح اشتراكيا إلا بالقدر الذي يتخلى فيه ماديا وفكريا عن كونه فلاحا. فرأي النارودنيون، بالعاطفية الخاصة بهم، في هذا التحديد الاجتماعي، حطا معنويا من قدر الفلاحين.

على هذا الخط دار لمدة جيلين الصراع الرئيسي بين التيارات الثورية الروسية. وإنه لمن الضروري لفهم الاختلافات المستقبلية بين الستالينية والتروتسكية، التشديد مرة أخرى على أن لينين، انسجاما مع كل العرف الماركسي، لم يعتبر الفلاحين لحظة واحدة كحليف اشتراكي للبروليتاريا. بل كان على العكس من ذلك يستنتج استحالة الثورة الاشتراكية في روسيا بالضبط من الغلبة الضخمة للفلاحين. وهذا المفهوم نجده في كل مقالاته التي لها علاقة مباشرة وغير مباشرة بالمسألة الزراعية. فكان يكتب في أيلول 1905: "نحن ندعم الحركة الفلاحية بقدر ما هي حركة ديمقراطية ثورية. ونحن على استعداد (الآن، فورا) للدخول في صراع معها بقدر ما ستبدو رجعية، معادية للبروليتاريا. إن جوهر الماركسية كله يكمن في هذه المهمة المزدوجة..." كان لينين يرى الحليف الاشتراكي في بروليتاريا الغرب وجزئيا في العناصر شبه البروليتارية في القرية الروسية، لكن أبدا في الفلاحين كفلاحين. فكان يردد بالإلحاح الخاص به: "نحن نساند من البداية حتى النهاية وبكل الوسائل، حتى بالاستيلاء على الأرض، الفلاح بشكل عام ضد المالك العقاري، وبعد ذلك (بل ليس بعد ذلك، إنما في الوقت نفسه) نساند البروليتاريا ضد الفلاح بشكل عام.

وقد كتب في آذار 1906:

"إن الفلاحين سينتصرون خلال الثورة الديمقراطية البرجوازية، منفذين بذلك تماما اندفاعهم الثوري بوصفهم فلاحين. وستنتصر البروليتاريا خلال الثورة الديمقراطية البرجوازية، ولكنها لن تفعل بذلك سوى إثبات اندفاعها الحقيقي الاشتراكي الثوري". وكان يردد في أيار من السنة نفسها: "إن حركة الفلاحين هي حركة طبقة مختلفة، إنها ليست نضالا ضد أسس الرأسمالية، بل نضال لتكنيس كل بقايا النظام الإقطاعي".

يمكن إيجاد وجهة النظر هذه عند لينين من مقالة لأخرى، سنة بعد سنة ومجلد بعد مجلد. قد يتغير التعبير والأمثلة، ولكن الفكرة الأساسية تبقى هي هي. ولم يكن ممكنا أن يكون الأمر غير ذلك. إذ لو رأي لينين في الفلاحين حليفا اشتراكيا، لما كان له أدنى سبب للإلحاح على الطابع البرجوازي للثورة، ولحصر "ديكتاتورية البروليتاريا والفلاحين" في الحدود الضيقة لمهام ديمقراطية صرف. وفي الأحوال التي كان لينين يتهم فيها كاتب هذه السطور "بالتقليل من أهمية" الفلاحين، لم يكن يشير قط إلى رفضي الاعتراف بنزعات الفلاحين الاشتراكية، بل على العكس من ذلك، إلى اعتقادي بأنه – حسب وجهة نظر لينين – من غير الملائم الاعتراف باستقلال الفلاحين الديمقراطي البورجوازي وبقدرتهم على خلق سلطتهم الخاصة والحؤول بهذا دون إقامة ديكتاتورية البروليتاريا الاشتراكية.

إن إعادة التقييم في هذه المسألة لم تطرح على بساط البحث من جديد إلا خلال سنوات الردة الترميدورية، التي تطابقت بدايتها على وجه التقريب من مرض ووفاة لينين. فمنذ ذلك الحين أعلن أن تحالف العمال والفلاحين الروس يشكل بحد ذاته ضمانة كافية ضد أخطار عودة البرجوازية وكفالة ثابتة لتحقيق الاشتراكية ضمن حدود الاتحاد السوفياتي. فبإبداله نظرية الثورة العالمية بنظرية الاشتراكية في بلد واحد، بدأ ستالين يمتنع عن تسمية التقييم الماركسي لدور الفلاحين إلا بتعبير "التروتسكية"، وذلك ليس فقط بالنسبة للحاضر، إنما بالنسبة للماضي برمته.

وإنه لمن الممكن بالطبع طرح السؤال إن كانت النظرة الماركسية الكلاسيكية عن دور الفلاحين خاطئة. لكن هذا الموضوع يجعلنا نتخطى بعيدا حدود الدراسة الحاضرة. فليكفنا أن نتبين هنا أن الماركسية لم تعط لتقديرها للفلاحين كطبقة غير اشتراكية، صفة مطلقة وثابتة. كان ماركس نفسه يقول أن الفلاح ليس عنده أوهام خرافية وحسب، وإنما القدرة على التفكير المنطقي أيضا. لقد فتح نظام ديكتاتورية البروليتاريا إمكانيات واسعة جدا للتأثير على الفلاحين ولإعادة تثقيفهم. والتاريخ لم يفرغ حدود هذه الإمكانيات بعد.

غير أنه قد أصبح الآن من الواضح أن الدور المتعاظم للقسر من قبل الدولة في الاتحاد السوفياتي لم ينف بل أكد بصورة جوهرية الموقف تجاه الفلاحين الذي كان يميز الماركسيين الروس عن النارودنيين. إلا أنه من المؤكد، مهما يمكن للحالة أن تكون حاليا بعد عشرين عاما من النظام الجديد، أنه حتى ثورة أكتوبر وحتى سنة 1924 بشكل أصح، لم ير أحد من المعسكر الماركسي – ولينين أقل من غيره – في الفلاحين عاملا اشتراكيا في التطور. كان لينين يردد أن عودة العهد الرأسمالي شيء لا مفر منه دون مساعدة الثورة الاشتراكية في الغرب. إنه لم يكن على خطأ: فالبيروقراطية الستالينية ليست إلا المرحلة الأولى من عودة البرجوازية.

 

المفهوم التروتسكي

لقد حللنا فيما سبق منطلقات جناحين من الأجنحة الأساسية للاشتراكية الديمقراطية الروسية. لكن منذ فجر الثورة الأولى، كان موقف ثالث قد صيغ. ونحن مجبرون على عرضه هنا بكل التوسع اللازم، ليس فقط لأنه قد تم إثباته خلال أحداث سنة 1917، بل خاصة لأن هذا المفهوم، بعد سبعة أعوام من ثورة أكتوبر، وبعد أن قلب رأسا على عقب، بدأ يلعب دورا غير متوقع إطلاقا في التطور السياسي لستالين وللبيروقراطية الروسية في مجموعها.

في بداية 1905، نشر كراس لتروتسكي في جنيف. كان هذا الكراس يحوي تحليلا للوضع السياسي كما كان عليه في شتاء سنة 1904. وكان الكاتب يخلص إلى الاستنتاج أن حملة الليبراليين المستقلة، من العرائض والمآدب، قد نفدت كل إمكانياتها، وأن الانتليجنسيا الراديكالية، التي وضعت فيهم كل آمالها، قد وصلت معهم إلى طريق مسدود، وأن الحركة الفلاحية كانت تخلق ظروفا مؤاتية للانتصار غير أنها كانت غير قادرة على تحقيقه، وأنه ليس من الممكن الوصول إلى حل قاطع إلا بانتفاضة البروليتاريا المسلحة وأن المرحلة الآتية في هذا الطريق ستكون الإضراب العام.

كان عنوان الكراس "قبل 9 ك2" لأنه كان قد كُتب قبل الأحد الأحمر في بطرسبرج. وأن موجة الإضرابات القوية التي تدفقت بعد هذا التاريخ، بالمصادمات المسلحة الأولية التي رافقتها، كانت إثباتا لا يُنكر للتكهن الستراتيجي للكراس.

كانت مقدمة عملي قد كتبها بارفوس. وهو مهاجر روسي نجح في أن يصبح، في ذلك الوقت، كاتبا ألمانيا مرموقا. كان بارفوس شخصية موهوبة بقدرة خلاقة استثنائية، بإمكانها التأثر بأفكار الغير كما بقدرتها أغناء الغير بأفكارها. لكن كان ينقصه التوازن الداخلي وحب للعمل كاف حتى يقدم للحركة العمالية مشاركة تليق بمواهبه كمفكر وككاتب. وقد أثر على تطوري الشخصي تأثيرا أكيدا، وبشكل خاص فيما يختص بالفهم الاجتماعي – الثوري لعصرنا. كان بارفوس قد دافع بشغف، قبل لقائنا الأول بعدة سنوات، عن فكرة إضراب عام في ألمانيا. ولكن الاشتراكية – الديمقراطية كانت، والبلد يمر بأزمة صناعية متواصلة، قد تكيفت مع نظام الهوهنزولرن. فلم تكن الدعاية الثورية الآتية من أجنبي تلاقي سوى اللامبالاة الهازئة. وعندما اطلع بارفوس، بعد أحداث بطرسبرج الدامية بيومين، على كرّاسي الذي كان آنذاك مخطوطا، استهوته بقوة فكرة الدور الاستثنائي الذي كان مقدرا لبروليتاريا روسيا المتأخرة أن تلعبه.

امتلأت تلك الأيام القلائل التي أمضيناها معا في ميونيخ بمحادثات أفادتنا نحن الاثنين لتوضيح أشياء عديدة وقاربتنا شخصيا الواحد من الآخر. وقد دخلت مقدمة كرّاسي التي كتبها بارفوس حينذاك في تاريخ الثورة الروسية. ففي بضع صفحات، ألقي الضوء على الخصوصيات التاريخية لروسيا المتأخرة، والتي وإن كانت معروفة من قبل، لم يستخرج منها أحد الاستنتاجات اللازمة.

كتب بارفوس:

"كانت الراديكالية السياسية في أوروبا الغربية – وهذا واقع معروف جيدا – مبنية أصلا على البرجوازية الصغيرة، أي على الحرفيين وبشكل عام على ذلك القسم من البرجوازية الذي قد وصل إليه التطور الصناعي ولكن الذي كانت الطبقة الرأسمالية تزيحه في الوقت نفسه".

"خلال الحقبة قبل الرأسمالية في روسيا، تطورت المدن أكثر بكثير على الطرازات الصينية منها على الطرازات الأوروبية. فكانت مراكز موظفين ذات صفة إدارية صرف، ليس لها أدنى فحوى سياسي، وكانت من حيث العلاقات الاقتصادية مراكز معاملات وأسواقا بالنسبة لما يحيطها من ملاكي أراضي وفلاحين. وكان تطورها ما يزال لا يذكر حين أوقفته الصيرورة الرأسمالية التي بدأت تخلق مدنا كبرى على صورتها، أي مدنا صناعية ومراكز للتجارة العالمية"...

"وقد كان لنفس السبب الذي عرقل تطور البرجوازية الصغيرة الأثر في تنمية الوعي الطبقي للبروليتاريا في روسيا، وذلك السبب هو التطور الضعيف لشكل الإنتاج الحرفي. فكان أن جُمِّعت البروليتاريا بشكل فوري في المصانع"...

"إن الجماهير الفلاحية ستُجر في الحركة بنسب دائمة التعاظم. لكنها غير قادرة على أكثر من زيادة الفوضى في البلد وإضعاف الحكومة بذلك، فلا تستطيع تشكيل جيش ثوري متلاحم بشكل صلب. فمع تطور الثورة، سيقع إذن على عاتق البروليتاريا جزء متعاظم دوما من العمل السياسي، وفي الوقت نفسه، سيتوسع وعيها السياسي، وستنمو طاقتها السياسية"...

"ستجد الاشتراكية – الديمقراطية نفسها أمام البقاء خارج الحركة العمالية. وسيعتبر الشغيلة هذه المعضلة التالية: أما تحمل مسؤولية الحكومة المؤقتة والحكومة حكومتهم، بمعزل عن الطريقة التي ستتصرف بها الاشتراكية – الديمقراطية... إن الانقلاب الثوري لا يمكن أن يكون في روسيا إلا من صنع البروليتاريا. وسيكون حكم الحكومة الثورية المؤقتة في روسيا حكم ديمقراطية عمالية. فإذا ترأست الاشتراكية – الديمقراطية حركة البروليتاريا الروسية الثورية، فستكون هذه الحكومة حكومة اشتراكية – ديمقراطية..."

"لن يكون بإمكان الحكومة المؤقتة الاشتراكية – الديمقراطية القيام بانقلاب اشتراكي في روسيا، ولكن عملية تصفية الأتوقراطية وإقامة جمهورية ديمقراطية ستقدم لها بحد ذاتها ميدانا مؤاتيا للعمل السياسي".

وقد التقيت ببارفوس مرة أخرى، في حمى أحداث خريف 1905 الثورية، وكان لقاؤنا في بطرسبرج. ومع احتفاظنا باستقلال تنظيمي تجاه الجناحين، نشرنا معا جريدة جماهيرية عمالية، "روسكايا سلوفو"، ونشرنا بالتعاون مع المناشفة جريدة سياسية كبرى، "ناتشالو". لقد قـُرنت نظرية الثورة الدائمة عادة باسميْ "بارفوس تروتسكي". غير أن هذا ليس صحيحا إلا بشكل جزئي. فالحقبة التي بلغ فيها بارفوس الوجه الثوري تقع في أواخر القرن الماضي، عندما كان على رأس النضال ضد "التحرفية"، أي ضد التحريف الانتهازي لنظرية ماركس. غير أن فشل المحاولات لدفع الاشتراكية – الديمقراطية الألمانية في طريق سياسة أكثر حزما قد نخر تفاؤله. فبدأ بارفوس يتصرف، أمام أفق الثورة الاشتراكية في الغرب، بتحفط متزايد. وكان يعتبر، في ذلك الوقت، أن "الحكومة المؤقتة الاشتراكية – الديمقراطية لن يكون بإمكانها القيام بانقلاب اشتراكي في روسيا". فكانت توقعاته تشير إذن، لا إلى تحول الثورة الديمقراطية إلى ثورة اشتراكية، وإنما فقط إلى إقامة نظام ديمقراطية عمالية من النوع الأسترالي، حيث كان قد قام للمرة الأولى، على أساس نظام اقتصاد زراعي، حكم عمالي لا يتجاوز أطر نظام برجوازي.

أما أنا فلم أكن أشاطره آراءه بالنسبة لهذا الاستنتاج. فالديمقراطية الأسترالية، التي كانت قد تطورت بشكل عضوي على الأرض العذراء لقارة جديدة، أخذت بشكل فوري طابعا محافظا وألحقت بنفسها طبقة بروليتارية شابة غير أنها ذات امتيازات. بينما الديمقراطية الروسية لا يمكنها، على عكس ذلك، أن تزدهر إلا إثر انقلاب ثوري عظيم لن تسمح ديناميته للحكومة العمالية في أي حال من الأحوال بالبقاء ضمن أطر الديمقراطية البرجوازية. وقد أفضت خلافاتنا التي بدأت بعد ثورة سنة 1905 بقليل إلى قطيعة تامة بيننا في بداية الحرب عندما وقف بارفوس، الذي كان الجانب المتشكك فيه قد قتل الجانب الثوري بشكل كامل، إلى جانب الإمبريالية الألمانية، وأصبح فيما بعد المستشار والملهم لايبرت، أول رئيس للجمهورية الألمانية.

 

نظرية الثورة الدائمة

لقد عدت أكثر من مرة إلى هذا الموضوع بادئا مع كراس "قبل 9 كانون الثاني" موسعا نظرية الثورة الدائمة ومبينا صحتها. ونظرا للأهمية التي أخذتها هذه النظرية فيما بعد في التطور الإيديولوجي لبطل هذه السيرة (2)، فإنه من الضروري عرضها هنا بشكل مقتطفات دقيقة من مؤلفاتي في سنتي 1905 – 1906.

"إن مركز سكان مدينة حديثة، على الأقل في المدن التي لها أهمية اقتصادية وسياسية، مؤلف من طبقة الشغيلة المأجورين المتميزة بشكل جوهري. وهذه الطبقة التي كانت بشكل أساسي غير معروفة خلال الثورة الفرنسية الكبرى، عليها هي بالضبط أن تلعب الدور الحاسم في ثورتنا... يمكن للبروليتاريا في بلد أكثر تأخرا من الناحية الاقتصادية أن تستلم السلطة قبلها في بلد رأسمالي متقدم. وإرادة سن نوع من التبعية الأوتوماتيكية من قبل الديكتاتورية البروليتارية إزاء القوى التقنية وموارد بلد ما، لا تعدو كونها أفكارا مسبقة مشتقة من مادية "اقتصادية" مبسطة إلى أقصى حد. إن نظرة كهذه لا شيء مشترك لها مع الماركسية. إذ أنه رغم كون قوى الإنتاج الصناعية متطورة في الولايات المتحدة أكثر بعشر مرات منها عندنا، فدور البروليتاريا الروسية السياسي، وتأثيرها على سياسية البلد وإمكانية تأثيرها المستقبلية على السياسة العالمية أكبر بما لا يقاس من دور البروليتاريا الأمريكية وأهميتها"...

"إن الثورة الروسية ستخلق، حسب رأينا، الظروف التي يمكن للسلطة معها (ومع انتصار الثورة يجب عليها) المرور إلى أيدي البروليتاريا قبل أن تتأتى الفرصة لسياسيي الليبرالية البرجوازية لإظهار براعتهم كاملة كرجال دولة... إن البرجوازية الروسية تتنازل بالتدريج للبروليتاريا عن كل المواقف الثورية. وسيكون عليها كذلك أن تتنازل عن قيادة الفلاحين الثورية. إن البروليتاريا الحائزة على السلطة ستظهر للفلاحين كطبقة محررة... وستسعى البروليتاريا، المستندة إلى الفلاحين، بكل ما في حوزتها من وسائل لرفع المستوى الثقافي للقرية ولتطوير وعي الفلاحين السياسي... لكن أليس معقولا أن يُغرق الفلاحون أنفسهم البروليتاريا ويحتلوا مكانها ؟ إن هذا لمستحيل. وتجربة التاريخ بأكملها تحتج على افتراض كهذا. فهي تظهر أن الفلاحين كفئة عاجزون تماما عن لعب أي دور سياسي مستقل... وبحسب ما سبق، فالطريقة التي ننظر بها إلى "ديكتاتورية البروليتاريا والفلاحين" واضحة. إن جوهر المسألة ليس في معرفة ما إذا كنا نعتبرها مقبولة من حيث المبدأ، ما إذا كنا نجد هذا الشكل من التعاون مرغوبا فيه وغير مرغوب. فنحن نعتبرها غير ممكنة التحقيق – بمعنى مباشر وفوري على الأقل".

إن هذا المقطع كاف حتى هنا ليثبت كم هو خاطئ الزعم الذي تم ترديده فيما بعد حتى الشبع، إن المفهوم المقدم هنا "يقفز فوق الثورة البرجوازية". لقد كتبت في ذلك الوقت: "إن النضال من أجل التجديد الديمقراطي لروسيا قد وصل إلى أقصى تطوره بقيادة قوى تتحرك على أساس الرأسمالية. وهو موجه مباشرة وقبل كل شيء ضد العوائق الإقطاعية التي تسد طريق تطور المجتمع الرأسمالي".

غير أن السؤال كان: أية قوى وأية وسائل بمقدورها بالضبط إزاحة هذه العوائق ؟ بإمكاننا الإجابة على كل مسائل الثورة بتأكيدنا أن ثورتنا برجوازية في غاياتها الموضوعية، ومن ثم في نتائجها المحققة، وبإمكاننا هكذا إغلاق أعيننا أمام كون القوة الفاعلة الأساسية في هذه الثورة البرجوازية هي البروليتاريا، وأن البروليتاريا ستحملها إلى الحكم صيرورة الثورة كلها... يمكنكم أن تتلهوا بالأوهام القائلة أن الظروف في روسيا ليست ناضجة بعد من أجل اقتصاد اشتراكي – ويمكنكم بالتالي أن تغفلوا عن الأخذ بعين الاعتبار كون البروليتاريا، بعد استلامها السلطة، ستضطر بشكل محقق من جراء منطق الوضع بحد ذاته إلى إدخال اقتصاد دولة.

سيزيل ممثلو البروليتاريا بدخولهم في الحكومة، لا كرهائن عاجزة، وإنما كقوة قائدة، التمييز بين البرنامج الأدنى والبرنامج الأقصى، أي أنهم سيضعون الجماعية في مرتبة مهام الساعة. والنقطة التي ستوقف عندها البروليتاريا في هذا الاتجاه لن تكون رهنا إلا بميزان القوى، وليس أبدا بنوايا حزب البروليتاريا الأولية...

"غير أنه ليس من السابق لأوانه طرح السؤال: هل ستتحطم ديكتاتورية البروليتاريا هذه بلا محالة على إطار الثورة البرجوازية ؟ وأنها قد لا يكون بمستطاعها، على أسس عالمية تاريخية معينة، أن ترى آفاق الانتصار، الذي سيتحقق بتحطيم هذا الإطار الضيق، تفتح أمامها ؟ هنالك شيء يمكن إعلانه بالتأكيد: من دون المساعدة المباشرة من قبل البروليتاريا الأوروبية، فإن الطبقة العاملة الروسية لن تستطيع الحفاظ على زمام السلطة، ولا تحويل تجمعها المؤقت إلى دكتاتورية اشتراكية طويلة النفس..." غير أنه لا ينتج أبدا من هذا تكهن متشائم. " إن التحرر السياسي للطبقة العاملة الروسية يرفعها إلى مصاف القائد المطلق القدرة، ويجعلها البادئة بالتصفية العالمية للرأسمالية، التصفية التي خلق لها التاريخ كل الظروف الموضوعية الضرورية..."

وبالنسبة للمدى الذي ستظهر فيه الاشتراكية-الديمقراطية العالمية أنها قادرة على ملء مهامها الثورية، كتبت سنة 1906:

"إن الأحزاب الاشتراكية الأوروبية – بدءا بأقواها، الحزب الألماني – مصابة كلها بالنزعة المحافظة. وبقدر ما تلتحق بالاشتراكية جماهير متزايدة وبقدر ما يتزايد تنظيم هذه الجماهير وانضباطها، تنمو نزعة المحافظة هذه بالقدر نفسه.

لهذا السبب يمكن للاشتراكية–الديمقراطية كتنظيم يجسد التجربة السياسية، أن تصبح في وقت معين عائقا مباشرا في طريق النزاع المفتوح بين العمال والرجعية البرجوازية..." غير أني في خلاصة تحليلي كنت أصل إلى التأكيد بأن "الثورة في شرق أوروبا ستمنح بروليتاريا الغرب مثالية ثورية، وستخلق فيها الرغبة بتكلم "الروسية" مع عدوها..."

*****

فلنوجز: ولدت النارودنية متتبعة آثار أنصار السلافية، من أوهام تتعلق بالطرق الفريدة تماما لتطور روسيا، ومارست نشاطها على هامش الرأسمالية والجمهورية البرجوازية. وسخَّرت ماركسية بليخانوف جهودها لإثبات التطابق من حيث المبدأ بين الطرق التاريخية لروسيا وللغرب. فتجاهل البرنامج المتفرع عن ذلك، الخصوصيات الموجودة حقيقة وغير الصوفية إطلاقا لبنية روسيا الاجتماعية ولتطورها الثوري. ويمكن تلخيص موقف المناشفة إزاء الثورة، بعد تجريده من الإضافات العرضية والانحرافات الفردية، بالتالي: إن انتصار الثورة البرجوازية الروسية ممكن تصوره فقط تحت قيادة البرجوازية الليبرالية، وعليه أن يضع مقاليد الحكم بين أيديها. حينذاك سيسمح النظام الديمقراطي للبروليتاريا الروسية باللحاق بإخوانها الغربيين الأكبر سنا على طريق النضال من أجل الاشتراكية، مع حظ بالنجاح أكبر بما لا يقاس من ذي قبل.

ويمكن عرض نظرة لينين بإيجاز كما يلي: إن البرجوازية الروسية المتأخرة غير قادرة على الوصول بثورتها حتى نهايتها. فانتصار الثورة التام بواسطة "ديكتاتورية العمال والفلاحين الديمقراطية" سيطهر البلد من بقايا القرون الوسطى، وسيعطي لتطور الرأسمالية الروسية وتيرة الرأسمالية الأمريكية، وسيقوي بروليتاريا المدن والأرياف، وسيفتح إمكانيات واسعة للنضال من أجل الاشتراكية. ومن ناحية أخرى، فانتصار الثورة الروسية سيعطي دفعة قوية لثورة الغرب الاشتراكية، وهذه الأخيرة لن تحمي روسيا من أخطار عودة العهد البائد فحسب، وإنما ستمكن البروليتاريا الروسية أيضا من التوصل إلى استلام السلطة في مهلة تاريخية قصيرة نسبيا.

ويمكن تلخيص نظرة الثورة الدائمة بالشكل التالي: من غير الممكن تصور انتصار الثورة الديمقراطية التام في روسيا إلا بشكل ديكتاتورية بروليتارية مرتكزة على الفلاحين. وديكتاتورية البروليتاريا التي ستضع لا محالة في مرتبة مهام الساعة مهام اشتراكية وليس فقط مهام ديمقراطية، ستعطي بالوقت نفسه دفعة قوية للثورة الاشتراكية العالمية. إن انتصار البروليتاريا في الغرب وحده سيضمن روسيا ضد ردة برجوازية، وسيعطيها إمكانية المضي بالبناء الاشتراكي بشكل سليم.

إن هذه الجمل الموجزة تظهر بالوضوح نفسه تجانس المفهومين الأخيرين في تناقضهما الذي لا يقبل التوفيق مع النظرة الليبرالية – المنشفية – والفرق الجوهري تماما بينهما حول الطابع الاجتماعي للثورة ومهام "الديكتاتورية" التي ستولد منها. والاعتراض الذي ردده مرارا نظريو موسكو الحاليون بأن برنامج ديكتاتورية البروليتاريا كان "سابقا لأوانه" في سنة 1905، لا أساس له أبدا... إن برنامج ديكتاتورية العمال والفلاحين الديمقراطية ظهر أيضا بمعنى تجريبي "سابقا لأوانه". فميزان القوى غير المؤاتي في عهد الثورة الأولى كان يجعل من المستحيل، لا ديكتاتورية البروليتاريا بحد ذاتها، وإنما بشكل عام انتصار الثورة نفسه. ومع ذلك فكل التيارات الثورية كانت صادرة عن أمل انتصار تام. وبدون أمل كهذا، يكون النضال الثوري من المستحيلات. والفروقات كانت تتعلق بالآفاق العامة للثورة وبالاستراتيجية المتأتية عنها. فنظرة المناشفة كانت خاطئة ككل، وكانت توجه البروليتاريا في طريق مختلف تماما. ونظرة البلاشفة كانت غير كاملة: فهي تشير بشكل صحيح إلى وجهة النضال العامة، لكنها تعين مراحله بشكل غير صحيح. ولم يظهر النقص في نظرة البلاشفة منذ سنة 1905 لا لشيء إلا لأن الثورة نفسها لم تعرف تطورا أوسع. إلا أنه في بداية سنة 1917، أجبر لينين، في صراع مباشر مع أقدم كوادر في الحزب، على تغيير النظرة.

ليس لتكهن سياسي أن يتوق إلى الدقة نفسها لتكهن فلكي. فهو يكون مرضيا إذا أعطي تعيينا صحيحا لخط التطور العام وإذا كان يمكن من التوجيه نحو التحول الملموس للأحداث المعرّض خطها لا محال إلى الانحراف يمينا ويسارا. وبهذا المعنى فإنه من غير الممكن عدم الاعتراف بأن نظرية الثورة الدائمة قد مرت بنجاح بامتحان التاريخ. في السنين الأولى من النظام السوفياتي، لم يكن أحد يعارض ذلك. لكن حين انفجرت الردة البيرقراطية ضد أكتوبر في القمم الهادئة والمتحجرة من المجتمع السوفييتي، وُجِّه فعلها منذ البداية ضد هذه النظرية التي تعكس بشكل أكمل من أي غيرها، أول ثورة بروليتارية في التاريخ، وتـُظهر في الوقت نفسه بوضوح طابعها الجزئي وغير الكامل والمحدود. وهكذا ولدت بالمقابل نظرية الاشتراكية في بلد واحد، ركيزة الستالينية الأساسية.

ليون تروتسكي – آب 1940
فصل من سيرة ستالين التي لم ينته تروتسكي من صياغتها
 

رسائل من بعيد

الرسالة الخامسة
مهام التنظيم البروليتاري الثوري للدولة

صيغت المهام الحالية للبروليتاريا الثورية في روسيا، في الرسائل السابقة، كما يلي:

(1) معرفة كيفية التصدي بالشكل الأضمن للمرحلة التالية من الثورة والثورة الثانية، التي

(2) يجب أن تنقل سلطة الدولة من أيدي حكومة الملاكين العقاريين الكبار والرأسماليين (أمثال غوتشكوف ولفوف وميليوكوف وكرنسكي) إلى أيدي حكومة العمال والفلاحين الفقراء.

(3) على هذه الحكومة أن تـتـنظم على شكل سوفييتات (مجالس) النواب العمال والفلاحين، أي بتعبير آخر

(4) عليها أن تهدم، أن تلغي كليا جهاز الدولة القديم الخاص بجميع البلدان البرجوازية – الجيش، الشرطة، جسم الموظفين، باستبداله

(5) بتنظيم للشعب المسلح لن يكون له طابع جماهيري فحسب، بل يشمل الشعب بأجمعه.

(6) إن حكومة كهذه فقط، "كهذه" من حيث طبيعتها الطبقية ("الديموقراطية الثورية للعمال والفلاحين") وأجهزتها الإدارية ("الميليشيا البروليتارية")، هي قادرة على حل مشكلة الساعة الأساسية بفعالية، تلك المشكلة الصعبة للغاية والملحة جدا، التي تشتمل على إحراز السلم، لا سلم امبريالي، ولا صفقة معقودة بين أقطاب امبريالية من اجل تقاسم الغنيمة التي نهبها الرأسماليون وحكوماتهم، بل سلم دائم وديموقراطي حقا، لا يمكن تحقيقه دون أن تنفجر الثورة البروليتارية في عدة بلدان.

(7) ليس انتصار البروليتاريا ممكنا، في روسيا، في المستقبل الأقرب، إلا إذا سمحت خطوتها الأولى بان تؤمن للعمال مساندة الأكثرية الساحقة من الفلاحين المناضلين في سبيل مصادرة كل الملكية العقارية الكبيرة (وتأميم الأرض كلها، إذا أقررنا بان برنامج الـ "104" الزراعي بقي، من حيث جوهره، برنامج الفلاحين).

(8) وبالارتباط بهذه الثورة الفلاحية وعلى أساسها تصبح ممكنة وضرورية المبادرات اللاحقة للبروليتاريا، المتحالفة مع العناصر الفقرة من الفلاحين، بهدف الرقابة على الإنتاج وتوزع المنتجات الأكثر أهمية، وإدخال "نظام العمل الإجباري"، الخ. هذه الإجراءات يفرضها، بضرورة مطلقة، الوضع الناتج عن الحرب والذي لن تعمل مرحلة ما بعد الحرب إلا على مفاقمته من نواح عديدة. إذا نظرنا إليها في مجملها وتطورها، نرى أن هذه الإجراءات تشكل انتقالا نحو الاشتراكية، التي لن تقام في روسيا مباشرة، دفعة واحدة، دون إجراءات انتقالية، إلا أن تحقيقها ممكن تماما ويفرض نفسه بإلحاح اثر تدابير كهذه.

(9) إنها لمهمة ذات ضرورة ملحة أن تشكل، بشكل خاص وبلا تأخير، سوفييتات للنواب للعمال في الأرياف، أي سوفييتات للعمال المأجورين الزراعيين، متميزة عن سوفييتات باقي النواب الفلاحين.

هذا هو، باختصار، البرنامج الذي وضعناه، آخذين بعين الاعتبار القوى الطبقية في الثورة الروسية والعالمية، وأيضا تجربة 1871 و1905.

لينين 26 آذار 1917
 

لمناسبة الذكرى الرابعة لثورة أكتوبر

تقترب الذكرى الرابعة للخامس والعشرين من أكتوبر (7 نوفمبر – تشرين الثاني).

بقدر ما يبتعد عنا هذا اليوم العظيم، بقدر ما يزداد دور الثورة البروليتارية في روسيا اتضاحا وبقدر ما نتأمل بمزيد من التعمق أيضا تجربة نشاطنا العملية، مأخوذة بمجملها.

ومن الممكن عرض هذا الدور وهذه التجربة بلمحات في غاية الإيجاز – هي بالطبع أبعد من أن تكون كاملة ودقيقة – على النحو التالي.

إن مهمة الثورة في روسيا، المباشرة والقريبة، كانت مهمة ديموقراطية برجوازية قوامها القضاء على بقايا القرون الوسطى، وإزالتها إلى الأبد، وتنظيف روسيا من هذه البربرية، من هذا العار، مما كان يعيق إلى ما لا حد له كل ثقافة وكل تقدم في بلادنا.

ومن حقنا أن نفتخر لكوننا قمنا بهذا التنظيف بأكثر بكثير من الحزم والسرعة والجرأة، بأكثر بكثير من النجاح والشمول والعمق، – من حيث التأثير في جماهير الشعب، في أعماقه، – مما فعلت الثورة الفرنسية الكبرى منذ أكثر من 125 سنة.

لقد قال الفوضويون والديموقراطيون البرجوازيون الصغار (أي المناشفة والاشتراكيون الثوريون، بوصفهم الممثلين الروس لهذا النموذج الاجتماعي العالمي) ولا يزالون يرددون كثرة كثيرة من الآراء المشوشة بصدد العلاقة بين الثورة الديموقراطية البرجوازية والثورة الاشتراكية (أي البروليتارية). وحول هذه النقطة، تأكدت كليا، خلال أربع سنوات، صحة مفهومنا للماركسية، صحة استعمالنا لتجربة الثورات الماضية. ولقد سرنا، كما لا أحد، بالثورة الديموقراطية البرجوازية إلى النهاية. وبكل إدراك، وبخطى ثابتة، ودون أي انحراف، نسير إلى أمام، نحو الثورة الاشتراكية، عارفين أنها غير منفصلة عن الثورة الديموقراطية البرجوازية بسور صيني، عارفين أن النضال وحده هو الذي سيقرر مقدار التقدم الذي سنتمكن من تحقيقه (في نهاية الأمر)، مقدار القسم الذي سننفذه من مهمتنا اللامتناهية الكبر، مقدار الجزء الذي سنوطده من انتصاراتنا. ومن يعش ير. ولكننا نرى منذ اليوم أن عملا جليلا – بالنسبة لبلد خرب، منهوك، متأخر – قد أنجز فيما يتعلق بالتحويل الاشتراكي للمجتمع.

ولكن لننه عرضنا حول مضمون ثورتنا الديموقراطي البرجوازي، يجب على الماركسيين أن يفهموا ما يعنيه هذا. وعلى سبيل التوضيح، لنأخذ بضعة أمثلة عملية.

إن مضمون الثورة الديموقراطي البرجوازي، هو تصفية العلاقات الاجتماعية (النظم، المؤسسات) في البلد من خصائص القرون الوسطى، من القنانة، من الإقطاعية.

أيا كانت أهم الظاهرات، البقايا، الرواسب من القنانة في روسيا عشية 1917 ؟ الملكية، الفئات المغلقة الحاكمة، التملك العقاري والتمتع بالأرض، وضع المرأة، الدين، اضطهاد القوميات. خذوا أيا من "إسطبلات أوجياس" هذه المتروكة، ونقول هذا للمناسبة، إلى حد ملحوظ، غير منظفة بصورة تامة من قبل جميع الدول المتقدمة حين قامت بثورتها الديمقراطية البرجوازية، منذ 125 سنة و250 سنة وأكثر (1649 في انجلترا)،– خذوا أيا من إسطبلات أوجياس هذه، تروا أننا نظفناها كليا. ففي نحو عشرة أسابيع، لا أكثر، منذ 25 تشرين الأول – أكتوبر (7 تشرين الثاني – نوفمبر) 1917 حتى حل الجمعية التأسيسية (5 كانون الثاني – يناير 1918)، فعلنا في هذا المضمار ما يزيد ألف مرة عما فعل الديمقراطيون والليبراليون البرجوازيون (الكاديت) والديمقراطيون البرجوازيون الصغار (المناشفة والاشتراكيون – الثوريون) في ثمانية أشهر من حكمهم.

إن هؤلاء الجبناء، هؤلاء الثرثارين، هؤلاء النرجسيين المشفوفين بأنفسهم، هؤلاء أشباه هملت من قياس مصغر، كانوا يلوحون بسيف من كارتون، – ولم يقضوا حتى على الملكية ! لقد أفرغوا الزبالة الملكية كما لم يفعل أحد في أي وقت مضى. ولم نترك حجرا على حجر، وقرميدة على قرميدة، من هذه العمارة التي دامت قرونا وقرونا، عمارة نظام الفئات المغلقة (إن أكثر البلدان تقدما، كانجلترا وفرنسا وألمانيا، لم تتخلص بعد حتى الآن من بقايا هذا النظام !). إن أعمق جذور هذا النظام، أي بقايا الإقطاعية والقنانة في تملك الأرض، إنما استأصلناها كليا. "يمكن الجدال" (ففي الخارج ما يكفي من الأدباء الكاديت، والمناشفة، والاشتراكيين – الثوريين للدخول في هذا الجدال) حول معرفة ما سينجم "في آخر المطاف" من الإصلاحات الزراعية التي تقوم بها ثورة أكتوبر الكبرى. إننا لسنا اليوم على استعداد لتضييع وقتنا على هذا الجدال، لأننا بالنضال نحل هذا الجدال وكل طائفة الجدالات التي تتوقف عليه. ولكنه لا يمكن الجدال ضد واقع أن الديمقراطيين البرجوازيين الصغار "قد تفاهموا"، طوال ثمانية أشهر، مع الملاكين العقاريين حفظة تقاليد القنانة، بينا كنسنا نحن كليا خلال بضعة أسابيع هؤلاء الملاكين العقاريين وجميع تقاليدهم على السواء من على وجه الأرض الروسية.

خذوا الدين، وغياب الحقوق للمرأة ، واضطهاد القوميات غير الروسية وعدم مساواتها في الحقوق. وكلها قضايا تتعلق بالثورة الديموقراطية البرجوازية. إن تافهي الديموقراطية البرجوازية الصغيرة قد ثرثروا حول هذه الموضوعة طوال ثمانية أشهر. وليس ثمة بلد واحد، بني أرقى البلدان في العالم، حلت فيه هذه المسائل إلى النهاية في الاتجاه الديمقراطي البرجوازي. أما عندنا فقد حلها إلى النهاية تشريع ثورة أكتوبر. لقد حاربنا الدين ونحاربه حقا، ومنحنا جميع القوميات غير الروسية جمهوريات ومقاطعات مستقلة ذاتيا خاصة بها. ولم تعد روسيا تعرف هذه السفالة، هذه الشناعة، هذه الدناءة، ونعني بها انعدام الحقوق وعدم المساواة في الحقوق بالنسبة للمرأة، هذه البقية المنفرة المتبقية عن الإقطاع والقرون الوسطى، والمرممة في جميع بلدان الكرة الأرضية، دون أي استثناء، من جانب البرجوازية الجشعة والبرجوازية الصغيرة البليدة والمذعورة.

هذا هو مضمون الثورة الديموقراطية البرجوازية. منذ مائة وخمسين سنة ومائتي وخمسين سنة، وعد زعماء هذه الثورة (وهذه الثورات ، إذا تناول الكلام كل نوع قومي عن نموذج مشترك) التقدميون الشعوب بتحرير الإنسانية من امتيازات القرون الوسطى، وعدم مساواة المرأة ، والصلاحيات الممنوحة من جانب الدولة لهذا الدين وذاك (أو "لفكرة الدين" ، "النزعة الدينية" بوجه عام)، وعدم المساواة بين القوميات. وعدوا، ولم يفوا بهذا الوعد. ولم يكن في مقدورهم أن يفوا به، لأنه حال بينهم وبني الوفاء به "احترام"... "الملكية الخاصة الكلية القداسة". إن ثورتنا البروليتارية لم تكن هذا "الاحترام" الملعون لهذه البقايا من القرون الوسطى، الملعون ثلاث مرات، ولهذه "الملكية الخاصة الكلية القداسة".

ولكنه، توطيدا لمكتسبات الثورة البرجوازية الديموقراطية في صالح شعوب روسيا، كان يتعين علينا أن نمضي إلى أبعد. وهذا ما فعلناه. فقد حللنا قضايا الثورة البرجوازية الديموقراطية عرضا، خلال السير، بوصفها "نتاجا ثانويا" لعملنا الرئيسي والحقيقي، لعملنا الثوري، البروليتاري، الاشتراكي. فالإصلاحات، كما قلنا دائما، نتاج ثانوي للنضال الطبقي الثوري. والإصلاحات الديموقراطية البرجوازية، كما قلنا وأثبتنا بأفعالنا – نتاج ثانوي للثورة البروليتارية، أي الاشتراكية. ونقول بالمناسبة أن جميع إضراب كاوتسكي وهلفردينغ ومارتوف وتشيرنوف وهيلكويت ولونغه وماكدونالد وتوراتي وسائر أبطال الماركسية "الثانية والنصف" لم يستطيعوا إدراك هذه العلاقة بين الثورة الديموقراطية البرجوازية والثورة البروليتارية الاشتراكية. إن الأولى تتحول إلى الثانية. والثانية تحل، عرضا، قضايا الأولى. والثانية توطد عمل الأولى. والنضال، النضال وحده، هو الذي يقرر إلى أي حد تنجح الثانية في تجاوز الأولى. (...)

لينين – 14 تشرين الأول – أكتوبر 1921
 

ما هي الثورة الدائمة ؟ - المسلمات الأساسية

إن نظرية الثورة الدائمة تتطلب حاليا الانتباه الأقصى من قبل كل ماركسي، لان تطور الصراع الأيديولوجي والصراع الطبقي قد اخرج نهائيا هذه المسألة من نطاق ذكريات الخلافات القديمة بين الماركسيين والروس وطرحها كمسألة طابع الثورة العالمية بشكل عام وعلاقتها الداخلية وأساليبها.

تعني نظرية الثورة الدائمة بالنسبة للبلدان ذات التطور البرجوازي المتأخر، وخاصة البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة، أن الحل الحقيقي والكامل للمهام الديمقراطية ومهام التحرر القومي فيها لا يمكنه أن يكون إلا ديكتاتورية البروليتاري، التي تقود الأمة المضطهدة، وبشكل خاص جماهيرها الفلاحية.

لا تعين المسألة الزراعية وحده، بل أيضا المسألة القومية، دورا أوليا في الثورة الديمقراطية للفلاحين، الذين يشكلون الأكثرية الساحقة من سكان البلدان المتخلفة. ودون تحالف بين البروليتاريا والفلاحين، لا يمكن إنجاز مهام الثورة الديمقراطية ولا حتى طرحها بجدية. إنما التحالف بين هاتين الطبقتين لن يحقق بغير نضال عنيد ضد البرجوازية الليبرالية القومية.

مهما كانت المراحل الأولى العرضية من الثورة في مختلف البلدان، فإن التحالف الثوري بين البروليتاريا والفلاحين لا يمكن فهمه إلا تحت القيادة السياسية للطليعة البروليتارية المنظمة في حزب شيوعي. وهذا يعني بدوره أن انتصار الثورة الديمقراطية لا يمكن أن يتم إلا بواسطة دكتاتورية البروليتاريا التي تستند إلى تحالفها مع الفلاحين وتنجز، أول، مهام الثورة الديمقراطية.

إذا ما قيمنا شعار البلاشفة القديم "دكتاتورية العمال والفلاحين الديمقراطية" من وجهة النظر التاريخية، نجد أنه عبر تماما عن العلاقات ، المحددة أعلاه ، بين البروليتاريا والفلاحين والبرجوازية الليبرالية. وهذا ما أثبتته تجربة أكتوبر. لكن صيغة لينين القديمة لم تحدد سلفا طبيعة العلاقات السياسية المتبادلة بين البروليتاريا والفلاحين داخل الكتلة الثورية . وبعبارات أخرى ، قبلت الصيغة عمدا بعدد معين من المجهولات الجبرية كان لا بد لها من أن تفسح المجال ، من خلال التجربة التاريخية ، أمام مواد حسابية محددة . وقد أثبتت التجربة التاريخية ، في ظروف تمنع كل تفسير آخر، أن دور الفلاحين، مهما كانت أهميته الثورية، لا يمكنه أن يكون مستقلا فكيف به قياديا. إن الفلاح إما أن يتبع العامل وإما أن يتبع البرجوازي. وهذا يعني أنه لا يمكن فهم "دكتاتورية العمال والفلاحين الديمقراطية" إلا كدكتاتورية البروليتاريا تجر وراءها الجماهير الفلاحية.

إن دكتاتورية ديموقراطية للعمال والفلاحين، كنظام يتميز بمضمونه الطبقي عن دكتاتورية البروليتاري، لن تتحقق إلا في حال أمكن تشكيل حزب ثوري مستقل يعبر عن مصالح الديمقراطية الفلاحية والبرجوازية الصغيرة بشكل عام، حزب يستطيع، بمساعدة البروليتاري، أن يستولي على السلطة وأن يحدد برنامجها الثوري. إن التاريخ الحديث، وخاصة تاريخ روسيا خلال السنوات الخمس والعشرون الأخيرة، يدل على أن الحاجز المتعذر عبوره الذي يحول دون تكوين حزب فلاحي هو فقدان البرجوازية الصغيرة (الفلاحين) للاستقلال الاقتصادي والسياسي وتفاضلها الداخلي العميق الذي يسمح لشرائحها العليا أن تتحالف مع البرجوازية الكبيرة في الظروف الحاسمة وخاصة في حالتي الحرب والثورة، بينما تتحالف شرائحها الدنيا مع البروليتاري، مما يجبر شرائحها الوسيطة على الاختيار بين هاتين القوتين. بين نظام كرنسكي والسلطة البلشفية، بين الكيومنتانغ ودكتاتورية البروليتاريا لا يوجد ولا يمكن أن يوجد أي نظام وسطي، أي دكتاتورية ديموقراطية للعمال والفلاحين.

إن محاولة الأممية الشيوعية، اليوم، أن تفرض على بلدان الشرق شعار دكتاتورية العمال والفلاحين الديمقراطية، الذي تخطاه التاريخ منذ زمن طويل، لا يمكن أن يكون لها إلا معنى رجعي. وبقدر ما يستعمل هذا الشعار في وجه شعار دكتاتورية البروليتاري، فهو يساهم سياسيا في تفكيك وتذويب البروليتاريا في الجماهير البرجوازية الصغيرة، خالقا يذلك الظروف المناسبة لهيمنة البرجوازية القومية وبالتالي لإفلاس وانهيار الثورة الديموقراطية. إن إدخال هذا الشعار في برنامج الأممية الشيوعية يعني حقا خيانة الماركسية وتقاليد أكتوبر البلشفية.

إن دكتاتورية البروليتاريا التي استولت على السلطة بوصفها القوة القائدة للثورة الديمقراطية سوف تجابه حتما وسريعا مهام ترغمها على القيام بخرقات عميقة لقانون الملكية البرجوازي. إن الثورة الديمقراطية، في أثناء تطوره، تتحول مباشرة إلى ثورة اشتراكية وتصبح بذلك ثورة دائمة.

إن استيلاء البروليتاريا على السلطة لا يضع حدا للثورة بل يفتتحها فقط. ولا يمكن فهم البناء الاشتراكي إلا على أساس الصراع الطبقي على الصعيدين القومي والدولي. وهذا الصراع، نظرا للسيطرة الحاسمة للعلاقات الرأسمالية على الصعيد العالمي، سيؤدي حتما إلى انفجارات عنيفة، أي إلى حروب أهلية في الداخل وحروب ثورية في الخارج. بهذا يكمن الطابع الدائم للثورة الاشتراكية ذاته، أكان الأمر يتعلق ببلد متخلف أنجز ثورته الديمقراطية وببلد رأسمالي قديم مر عبر فترة طويلة من الديمقراطية والبرلمانية.

لا يمكن إتمام الثورة الاشتراكية ضمن الحدود القومية. إن أحد الأسباب الأساسية لازمة المجتمع البرجوازي يكمن في كون القومي المنتجة التي خلقها هذا المجتمع تميل نحو الخروج من إطار الدولة القومية. وينتج عن ذلك الحروب الإمبريالية من جهة، وطوبى الولايات المتحدة البرجوازية الأوروبية من جهة أخرى. تبدأ الثورة الاشتراكية ضمن الإطار القومي وتتطور على الصعيد الدولي ثم تستكمل على الصعيد العالمي. وهكذا تصبح الثورة الاشتراكية دائمة بالمعنى الجديد والأوسع للكلمة: إنها لا تستكمل إلا بالانتصار النهائي للمجتمع الجديد على كوكبنا بأجمعه.

إن الصورة التي رسمناها أعلاه لتطور الثورة العالمية تلغي مسألة البلدان "الناضجة" و"غير الناضجة" للاشتراكية وفقا لهذا الترتيب المدعي والجامد الذي وضعه برنامج الأممية الشيوعية الحالي. فبقدر ما خلقت الرأسمالية السوق العالمي والتقسيم العالمي للعمل والقوى المنتجة العالمية، حضّرت مجمل الاقتصاد العالمي للبناء الاشتراكي.

إن مختلف البلدان ستصل إليه بوتائر مختلفة. وفي ظروف معينة، تستطيع بلدان متخلفة أن تصل إلى دكتاتورية البروليتاريا قبل بلدان متقدمة، ولكنها ستصل بعدها إلى الاشتراكية.

إن بلدا متخلفا مستعمرا وشبه مستعمر ليست البروليتاريا فيه مهيأة التهيئة الكافية لتجميع الفلاحين حولها والاستيلاء على السلطة هو، بحكم هذا الواقع بالذات، عاجز عن إتمام الثورة الديموقراطية. أما في بلد حيث تصل البروليتاريا إلى السلطة إثر ثورة ديموقراطية فلن يكون مصير الدكتاتورية والاشتراكية اللاحق، في التحليل الأخير، رهنا بالقوى المنتجة القومية بقدر ما يُرهن بتطور الثورة الاشتراكية العالمية.

إن نظرية الاشتراكية في بلد واحد، التي نبتت على زبل الردة ضد أكتوبر، هي النظرية الوحيدة التي تناقض بشكل عميق ومنطقي نظرية الثورة الدائمة. إن محاولة رجال الصف الثاني، تحت طعنات النقد، حصر نظرية الاشتراكية في بلد واحد في روسيا الوحيدة بسبب خصائصها المميزة (الإتساع، الثروات الطبيعية) لا يحسّن الأمور بل يزيدها خطورة. إن التخلي عن موقف عالمي يؤدي بشكل حتمي إلى "الهدنة" القومية، أي إلى رؤية أفضليات وميزات خاصة تسمح لبلد أن يلعب دورا لا يمكن للبلدان الأخرى أن ترتفع إليه.

إن التقسيم العالمي للعمل، واعتماد الصناعة السوفياتية على التقنية الأجنبية واعتماد قوى الإنتاج في البلدان المتقدمة على المواد الأولية الأسيوية، الخ، تجعل من المستحيل بناء مجتمع اشتراكي مستقل، معزول، في أي بقعة كانت من العالم.

إن نظرية ستالين وبوخارين لا تعارض الثورة الديموقراطية بالثورة الاشتراكية بشكل ميكانيكي فحسب، ورغم تجارب الثورات الروسية، بل تفصل أيضا الثورة القومية عن الثورة العالمية.

فهي تضع ثورات البلدان المتخلفة أمام مهمة إقامة نظام الدكتاتورية الديموقراطية المستحيل تحقيقه والذي ترفعه في وجه دكتاتورية البروليتاريا. وهكذا تدخل هذه النظرية في السياسة أوهاما وأساطير وتشل نضال البروليتاريا من أجل السلطة في الشرق وتعميق انتصار ثورات البلدان المستعمَرة.

وفقا لنظرية رجال الصف الثاني، إن استيلاء البروليتاريا على السلطة يشكل بحد ذاته إتمام الثورة ("إلى درجة التسعة أعشار"، حسب صيغة ستالين). إنها تفتتح عصر الإصلاحات القومية. إن نظرية دمج الكولاك بالاشتراكية ونظرية "أبطال تأثير" البرجوازية العالمية لا يمكن فصلهم، بالتالي، عن نظرية الاشتراكية في بلد واحد. فهي تقف وتنهار معا. إن نظرية الاشتراكية القومية تحط الأممية الشيوعية، وتستعملها كسلاح مساعد يخدم في النضال ضد تدخل مسلح. إن السياسة الحالية للأممية الشيوعية ونظامها واختيار زعمائها تتناسب تماما مع انحطاطها وتحولها إلى فرقة مساعدة ليست مؤهلة لإنجاز المهام المقترحة عليها بشكل مستقل.

إن برنامج الأممية الشيوعية، الذي وضعه بوخارين، هو انتقالي بكامله. إنه محاولة يائسة للتوفيق ما بين نظرية الاشتراكية في بلد واحد والأممية الماركسية، في حين لا يمكن فصل هذه الأخيرة عن الطابع الدائم للثورة العالمية. إن نضال المعترضة الشيوعية اليسارية في سبيل سياسة صحيحة ونظام سليم في الأممية الشيوعية هو مرتبط بشكل لا ينفصم بالنضال في سبيل برنامج ماركسي. ومسألة البرنامج هي بدورها مرتبطة بمسألة النظريتين المتعارضتين: نظرية الثورة الدائمة ونظرية الاشتراكية في بلد واحد. إن مشكلة الثورة الدائمة قد تخطت منذ أمد طويل إطار الخلافات العرضية بين لينين وتروتسكي والتي، فضلا عن ذلك، استهلكها التاريخ استهلاكا كاملا. إن الأمر يتعلق بالنضال ما بين أفكار ماركس ولينين الأساسية، من جهة، وانتقائية الوسطيين، من جهة أخرى.

ليون تروتسكي – اسطنبول، في 30 تشرين الثاني 1929

(الفصل التاسع من كتاب "الثورة الدائمة")

حسب النسخة الموجودة لدينا في كتاب الثورة الدائمة فالفصل هو العاشر وليس التاسع.
(ملاحظة أرشيف الماركسيين على الأنترنت)

 


(1) يجب التذكير اليوم بأن هذا المقطع مبني على سوء فهم. ففي ذلك الوقت، كان من المسلم به – بفضل مزوري التاريخ البونابرتيين والليبيراليين – أن الجهاز الإداري الممركز الفرنسي قد جاءت به الثورة الكبرى واستعمله بخاصة مجلس الكونفسيون كسلاح حاسم ولا غنى لقهر الرجعية الملكية والفدرالية والعدو الخارجي. إلا أنه أمر معروف حاليا أن الإدارة الكاملة للمحافظة، والقضاء، والعامية كانت، خلال الثورة بكاملها، حتى 18 برومير، تتألف من سلطات منتخبة من قبل السكان أنفسهم، كانت، في إطار القوانين العامة للدولة، تتمتع بحرية تامة. وأن هذه الإدارة المستقلة ذاتيا على صعيد المقاطعة وعلى الصعيد المحلي، المشابهة لما يحدث في أمريكا، أصبحت بالضبط أقوى رافعة للثورة، وذلك إلى حد جعل نابليون يسرع، فورا بعد انقلابه في 18 برومير، بإبدالها بالنظام الإداري الذي ما زال معمولا به حتى أيامنا، والذي كان إذن من البداية أداة رجعية. ولكن الإدارة المحلية والمقاطعية المستقلة ذاتيا، وبنفس القدر من القلة الذي تتناقض فيه مع المركزة السياسية القومية، قلما هي بالضرورة مرتبطة بتلك الأنانية الغبية الإقليمية والقروية التي تصدمنا إلى حد كبير في سويسرا والتي كان كل جمهوريو ألمانيا الجنوبية الفدراليين يريدون جعلها القاعدة في ألمانيا في 1849 (ملاحظة انجلس لطبعة زوريخ سنة 1885).
 

(2) الذي لا يقهر. اسم مستعار لستالين، أثناء الفترة القيصرية. - ملاحظة المترجم -
 

(3) لنذكر أن هذه الدراسة كان مفروضا فيها أن تشكل فصلا من سيرة ستالين - ملاحظة المترجم -