أليكساندرا كولنتاي

تاريخ حركة العاملات الاشتراكية في أوروبا:
أساليب عملها وأشكالها التنظيمية


مقدمة

:

هذا الكراس ليس جديدا. إنه إعادة طبع لمقالات نُشرت قبل الحرب. غير أن المسألة التنظيمية المطروحة على مؤتمر النساء العاملات تضع على جدول أعمال نشاطنا الحزبي نقطة تتعلق بالتحريض بين جماهير النساء العاملات لاجتذابهن إلى صفوف الحزب، وحشد قوى جديدة للإسهام في بناء روسيا الشيوعية.

إننا نشكو نقصا فادحا في المواد التي تساعد رفيقاتنا الحزبيات المعنيات على تأسيس لجنة التحريض والدعاية بين العاملات، وتمدهم بالمعلومات اللازمة حول تاريخ الحركة الاشتراكية للمرأة العاملة، وحول الوسائل التنظيمية التي اعتمدتها منظمات البروليتاريا النسائية في البلدان الأخرى والإنجازات التي حققتها. من هنا، فإن افتقارنا إلى الأدبيات الحزبية حول هذا الموضوع يدفعني إلى إعادة نشر مقالاتي السابقة، على استعجال، دون أن تتسنى لي إعادة صياغتها. ولو أتيحت لي فرصة الكتابة الآن حول الوقائع ذاته، لكنت قيمتها على نحو مختلف. فالحرب والثورة العالمية قد أدخلتا تعديلات أساسية على كافة الحركات العمالية الشيوعية، من حيث طبيعتها وشكلها. فالنموذج الألماني في العمل الحزبي، المعد فقط لفترة النشاط البرلماني السلمي، لم يعد نموذجا نقتدي به. فالنضال الثوري طرح قضايا ووسائل نضال جديدة. والحرب والثورة زعزعتا ما كان يبدو على أنه أرسخ أركان حياتنا. كما وأن وضع المرأة قد تغير بشكل ملموس.

قبل الحرب كانت عملية انخراط النساء في الاقتصاد الوطني تجري بوتيرة أبطأ بكثير من وتيرة السنوات الأربع والنصف الأخيرة التي شهدت تطورا اقتصاديا محموما ونموا سريعا للعمل النسائي في مجمل القطاعات الصناعية. والأسرة القديمة كانت هي أيضا تبدو راسخة لا تتزعزع. وقد اضطر الحزب إلى النضال ضد هذا النسق في الحياة، وضد التقاليد المرتبطة به، في كل مرة أراد فيها اجتذاب المرأة العاملة إلى معمعة الصراع الطبقي. فلم ينظر إلى تلاشي العمل المنزلي وإلى تعميم التعليم الرسمي للأطفال بوصفهما من القضايا الناضجة الحية في حياتنا اليومية، وإنما ننظر إلى هذا وذاك كـ« اتجاه تاريخي »، كعملية سوف تستغرق وقتا طويلا. والحقيقة أن النساء العاملات أشد إحساسا بمصالحهن في المجالين الاقتصادي – انعدام المساواة بين أجور الرجال وأجور النساء – والسياسي – حرمان النساء من حق الاقتراع واعتبارهن مواطنات من الدرجة الثانية.

إن لا مساواة المرأة، في المجالين الاقتصادي والسياسي، وعبوديتها للأسرة وللعمل المنزلي، قد ولدتا عازلا نفسانيا بين العمال والعاملات، فكانتا التربة التي نمت عليها التنظيمات الخاصة بالعاملات في موازاة الأحزاب الاشتراكية العمالية العامة في مختلف الأقطار، على شكل جمعيات أو اتحادات أو نواد للعاملات. ولكن بالقدر الذي تكثف فيه نشاط الأحزاب الاشتراكية الدعاوي بين العاملات، تسارعت عملية اضمحلال هذه التنظيمات العمالية النسائية.

غير أن التغير الجذري الذي طرأ على كافة نواحي حياة الطبقة العاملة النسائية، البيتية منها والعائلية، وتحقيق مساواتها القانونية مع الرجل، هما العاملان الكفيلان بتكنيس ما تبقى من حواجز بين المرأة العاملة وبين إطلاق كامل قواها للمساهمة بحرية في الصراع الطبقي.

إن الحرب قد ولدت قطيعة جذرية في وضع المرأة الاجتماعي. ويبقى على الثورة أن تدفع هذه القطيعة إلى نهايته، وتكمل ما بدأته الحرب. فالحرب حملت المرضعات المحترفات إلى جبهة القتال، مما اضطر تسعين في المئة من النساء إلى الاعتناء بأطفالهن بأنفسهن. فبرزت مشكلة صعبة: ما العمل بأطفال ملايين النساء اللواتي يقضين القسم الأكبر من يومهن في صنع الإمدادات العسكرية من قنابل يدوية ومتفجرات وذخيرة ؟ هكذا طرحت المسألة، ليس بوصفها مسألة نظرية ولا بوصفها مشروعا يتحقق في المستقبل البعيد، وإنما بما هي إجراء عملي محض: ضمان الدولة للأمومة والطفولة. فقد اضطرت الحكومات الطبقية الرأسمالية إلى الاهتمام بمصير « جنود الغد »، الأمر الذي دفعها رغما عنها، إلى تحميل الدولة مسؤولية رعاية الأطفال.

كذلك فإن ذهاب الخطيب والزوج إلى جبهة القتال، وخوف المرأة على مصير من تحب، كانا السبب الطبيعي لتزايد عدد الأطفال المولودين خارج إطار الزواج. هنا أيضا اضطرت الدولة البرجوازية-الرأسمالية، تحت ضغط الحرب، إلى أن تسدد لنفسها ضربة جديدة، وأن تتعدى على أقدس مؤسساتها – الزواج الشرعي. وحرصا منها على رفاه الجنود، اضطرت إلى أن تساوي، في القانون، بين الأمهات والأطفال الشرعيين وغير الشرعيين. وهذا ما دفع ألمانيا وفرنسا وانجلترا إلى اتخاذ هذا الإجراء الثوري.

والواقع أن الحرب لم تزعزع أركان الزواج الكنسي الذي لا ينفصم وحسب، وإنما تعدت أيضا على ركن آخر من أركان الأسرة – العمل المنزلي. فارتفاع الأسعار، واضطرار النساء إلى الوقوف في صفوف طويلة مرهقة للحصول على المواد الغذائية المقننة، دفعا النساء إلى الاستغناء عن الوحدة المنزلية الفردية، وتفضيل التسهيلات الجماعية.

وجاءت الثورة العمالية الكبرى لتحرر المرأة من عبوديتها الاجتماعية، كما كانت معروفة آنذاك. فشاركت العاملات والفلاحات في النضال التحرري العظيم على قدم المساواة مع الرجال. وانهار تقسيم العمل السابق الذي كان يكبل النساء عندما تزعزع ركنا المجتمع القديم: الملكية الفردية والسلطة الطبقية. إن أوار انتفاضة البروليتاريا العالمية قد انتزع المرأة من بين أواني المطبخ، ليدفع بها إلى المتاريس حيث تخاض معركة الحرية. فلم تعد المرأة تشعر بالاطمئنان في منزلها، بين الحاجيات العائلية المألوفة، والأواني المنزلية وأسرّة الأطفال، بينما الرصاص يزأر في الخارج. وأنصتت بتعجب إلى النداء الذي أطلقه العمال المناضلون: « إلى السلاح، أيها الرفاق ! يا كل من يقدس الحرية. يا من فطر على كره قيود العبودية والحرمان من الحقوق المدنية ! إلى السلاح، يا عمال ! إلى السلاح، يا عاملات ! ».

إن الثورة قد عودت العاملات على الحركات الجماهيرية الكبيرة، على النضال من أجل تحقيق الشيوعية. وحققت الثورة في روسيا المساواة الكاملة للمرأة في الحقوق السياسية والمواطنية. ونفذت مطالب العاملات في كافة الأقطار: العمل المتساوي للأجر المتساوي. ووفرت للنساء فرص الانعتاق من عبودية الأسرة. وتخلصت الثورة من الأشكال السابقة للتنظيمات العمالية التي فرضتها فترة الحكم البرلماني السلمي. فالذي بات يفصلنا الآن عن عهد الأممية الثانية ليس أربع سنوات وحسب، وإنما زحلة جيولوجية كاملة في مجال العلاقات الاقتصادية والاجتماعية.

من هذا المنظار، أعتبر أن الزمن قد تخطى عددا من المقالات المنشورة في هذا الكرّاس. لكن المسألة الرئيسية لم يتخطاها الزمن. لا بل إنها لا تزال بالغة الحيوية والإلحاح. وهي تشكل الخيط الذي يشد مقالاتي بعضها إلى بعض: ضرورة العمل الخاص في صفوف البروليتاريا النسائية، المتمتع بحد من الاستقلال الذاتي داخل الحزب، وتأسيس الأجهزة الحزبية الضرورية للإضطلاع بهذا العمل من لجان ومكاتب نسائية.

ومهما بلغ عمق التغييرات التي جاءت بها الحرب والثورة إلى حياة بلدنا واقتصادياته، ومهما تكن ضخامة الخطوات التي قطعتها روسيا السوفييتية في سيرها على طريق الشيوعية، فالإرث الرأسمالي لم تجر تصفيته نهائيا بعد. فإن الظروف المعيشية، ونسق حياة الأسرة العمالية، ومجمل التقاليد التي تكبل المرأة، وعبودية العمل المنزلي – كل هذه لم تتلاش بعد. وبالقدر الذي تستمر فيه المعوقات التي منعت نساء الطبقة العاملة، قبل الحرب، من المساهمة النشيطة في حركة تحرر البروليتاريا، وبالقدر الذي لا يزال الحزب مضطرا إلى الأخذ بالاعتبار تخلف المرأة السياسي، وعبودية المرأة العاملة لأسرته، فإن ضرورة العمل المكثف في صفوف البروليتاريا النسائية، بمساعدة الأجهزة الحزبية المتخصصة، لا تزال ضرورة ملحة كما كانت من قبل.

وما من شك في أن إنشاء لجنة للتحريض والدعاية بين العاملات، في العاصمة والأطراف، كفيل بالإسراع في تنفيذ هذه المهمة. في الماضي، كانت فكرة العمل المتخصص داخل الحزب، التي أدعو إليها منذ عام 1906، تلقى المعارضة حتى بين رفاقي الحزبيين. أما الآن، وبعد القرار الذي اتخذه مؤتمر النساء العاملات لعموم روسيا، والذي أقرّه الحزب، لم يعد أمامنا إلا وضع هذا الأمر موضع التنفيذ. إن حزبنا يمنع قيام حركة نسائية مستقلة أو تأسيس الاتحادات والجمعيات الخاصة بالنساء. لكنه لم يتنكر، في وقت من الأوقات، لفعالية تقسيم العمل داخل الحزب وقيام أجهزة حزبية متخصصة من شأنها مضاعفة أعداده أو تعميق نفوذه بين الجماهير.

إن روسيا السوفييتية تحتاج الآن لقوى جديدة من أجل المهمة المزدوجة: النضال ضد العدو وبناء المجتمع الشيوعي. وإن مهمة اللجنة الحزبية للتحريض والدعاية بين العاملات هي بالضبط مهمة اصطفاء وتربية هذه القوى من بين صفوف الملايين من النساء العاملات.

وإني لأرجو أن يفيد هذا الكراس في تقديم بعض الإرشاد والتوجيه للذين ينوون تكريس جهودهم للعمل في صفوف البروليتاريا النسائية. كما أرجو أن يمدهم باليقين من أنهم، في اضطلاعهم بهذا العمل الذي لا يدر أحيانا غير التعب والشقاء، يخدمون ليس فكرة « تخصص » النساء أو العمل النسائي بمعناه الضيق، وإنما مجمل مهمة بناء حزب عمالي عالمي موحد ومنيع، يبني عالما مشعا جديدا – عالم الشيوعية الأممية.

أ. كولونتاي
موسكو، الأول من ديسمبر 1918


أرشيف أليكساندرا كولنتاي