مسألة ملحة

قلنا في المقال السابق إن مهمتنا الملحة تمثلت في تأسيس جريدة للحزب تصدر وتوزع بانتظام وتساءلنا عن إمكان ذلك وعن شروطه. لنتفحص الآن الجوانب الرئيسية لهذه المسألة.

قد نـُواجه بادئ ذي بدء باعتراض مؤداه أن بلوغ هذا الهدف يستوجب البدء بتطوير نشاط المجموعات المحلية. إننا نرى أن هذا الرأي، الذائع فوق ذلك، خاطئ. يجب علينا وبإمكاننا القيام دون تأخير بتأسيس وإرساء جريدة للحزب وبالتالي الحزب نفسه. والشروط اللازمة لذلك مستوفاة: فالنشاط المحلي متواصل وجلي ؛ إنه بات راسخ الجذور لأن ضربات الشرطة المتواترة أكثر فاكثر لا تخل به أبدا لأمد طويل، وتحل قوى طرية محل المناضلين الذين سقطوا في المعركة. ويملك الحزب الأموال اللازمة لانشطة النشر وقد ضمن المساعدة من متعاونين أدبيين بالخارج وبروسيا على السواء. إن المقصود إذن معرفة مدى وجوب مواصلة النشاط الذي يجري على النمط « الحرفي » أو وجوب تنظيمه لأجل أن يصبح نشاط الحزب الموحد بكامله والعمل لينعكس بكامله في جريدة واحدة مشتركة.

نتناول هنا مشكل حركتنا الملحّ ونقطتها الحساسة: التنظيم. إن تحسين التنظيم والانضباط الثوري وإتقان تقنية العمل السري، كلها ضرورة قصوى. و يجب الاعتراف صراحة أننا متأخرون بهذا الصدد عن الأحزاب الثورية القديمة وأن علينا بذل قصارانا للحاق بهم وتجاوزهم. وبوجه عام يتعذر أي تقدم لحركتنا العمالية دون تنظيم أفضل وهذا شرط يسري أيضا بوجه خاص على خلق حزب نشيط مزود بهيئة مشتغلة بانتظام. هذا من جهة أما من جهة أخرى فيجب على هيئات الحزب (اقصد الجرائد والمؤسسات والمجموعات على السواء) أن تولي مزيدا من الاهتمام لمشاكل التنظيم والعمل في هذا الاتجاه لدى المجموعات المحلية.

يؤدي دوما العمل المحلي على النمط « الحرفي » إلى إفراط في العلاقات الشخصية وينمي ذهنية المجموعة(1)، والحال أننا تجاوزنا هذا الطور الذي أصبح يضيق جدا عن العمل الراهن ويفضي إلى تبذير القوى. ووحده الانصهار في حزب واحد سيتيح تطبيقا منهجيا لمبادئ تقسيم العمل واقتصاد القوى، و هو الأمر الذي لا غنى عنه لتقليص الخسائر ونصب متراس متين إلى هذا الحد أو ذاك ضد نير الحكومة الاتوقراطية وسياستها القمعية المغالية. تنتصب ضدنا، وضد زمر الاشتراكيين اللاجئين إلى السرية عبر روسيا الواسعة، الآلية الجبارة للدولة الحديثة كلية القدرة التي تنشر كامل قواها لخنق الاشتراكية والديمقراطية. إننا واثقون من أننا سنتمكن أخيرا من هزم هذه الدولة البوليسي لأن الديمقراطية والاشتراكية تحظيان بدعم كل الشرائح السليمة والصاعدة من الشعب برمته. لكن خوض نضال منظم ضد الحكومة يتطلب منا إتقان التنظيم الثوري والانضباط وتقنية العمل السري غاية الإتقان. ولابد من تخصص أعضاء الحزب ومجموعاته في مختلف مجالات نشاطه: استنساخ النصوص، وإدخال المطبوعات من الخارج إلى روسيا، والنقل عبر روسيا، والتوزيع بالمدن، وتنظيم مقرات سرية، وجمع المال، وإيصال المراسلات وكل المعلومات حول الحركة، وتنظيم الصلات، الخ . ونعلم أن هكذا تخصصا يقتضي قدرا أكبر بكثير من المكابدة والقدرة على التركيز على عمل بسيط، ومجهول، وغامض ومزيدا من البطولة الحقيقية أكثر من العمل الجاري عادة في الحلقات.

لكن الاشتراكيين الروس والطبقة العاملة الروسية أبانوا من قبل أنهم يعرفون كيف يكونوا أبطالا، وبوجه عام لا مجال للشكوى من قلة القوى . إذ نلاحظ بين العمال الشباب اندفاعة متقدة وقوية لا تقهر نحو أفكار الديمقراطية والاشتراكية، ويواصل المثقفون إقبالهم الغزير لمساعدة العمال رغم اكتظاظ السجون والمنافي. إذا جرى نشر واسع لفكرة الحاجة إلى منظمة ثورية أشد صرامة بين هؤلاء المنتسبين الجدد إلى قضية الثورة ، فلن يظل إرساء جريدة حزبية منتظمة الإصدار والتوزيع حلما.

فلنتناول إحدى شروط نجاح هذه الخطة: مد الجريدة بانتظام بالمراسلات و المواد من كل المصادر. ألا يبرهن التاريخ أنه في كل مراحل تنامي نشاط حركتنا الثورية تبينت قابلية تحقيق هذا الهدف حتى فيما يتعلق بالجرائد الصادرة بالخارج ؟ إذا اعتبر الاشتراكيون-الديمقراطيون المناضلون في مختلف الجهات جريدة الحزب جريدتهم، واعتبروا أن واجبهم الأول متمثل في الصلة الدائمة بها وفي جعلها منبرا لمناقشة ما يشغلهم من مسائل ولعكس كامل حركتهم، فمن الممكن تماما جعل الجريدة على علم بالحركة بشرط مراعاة قواعد العمل السري، تلك القواعد التي ليس لها أي طابع سحري. وهاكم وجه آخر للمسألة: إيصال الجرائد بانتظام إلى كل جهات روسيا أمر أشق وأشق مما كان بأشكال الحركة الثورية الروسية القديمة، حين كانت غير موجهة بنفس القدر إلى الجماهير الشعبية. لكن وجهة الصحافة الاشتراكية-الديمقراطية تسهل توزيعها. فالأماكن الرئيسية التي يجب أن تصلها الجريدة بانتظام وبعدد كبير من النسخ هي المراكز الصناعية والمدن و البلدات التي توجد بها معامل والأحياء الصناعية بالمدن الكبرى، الخ. إنها مراكز يقطنها بالكامل تقريبا عمال، والعامل فيها سيد الوضع فعلا و لديه مئات وسائل خدع الشرطة والعلاقات بالمراكز الصناعية المجاورة نشيطة للغاية. لم تكن الشرطة الألمانية، في حقبة القوانين الاستثنائية ضد الاشتراكيين (من 1878 إلى 1890)(2) تقوم بعملها على نحو أقل اتقانا، لا بل ربما كان تعمل على نحو أفضل من الشرطة الروسية، ومع ذلك تمكن العمال الروس، بفضل روح التنظيم والانضباط لديهم، من ايصال جريدتهم الأسبوعية السرية القادمة من الخارج إلى بيوت كافة المشتركين، لدرجة ان الوزراء أنفسهم انذهلوا من سير عمل البريد الاشتراكي-الديمقراطي (البريد الأحمر). طبعا نحن لا نحلم بنجاح من ذلك القبيل لكن بوسعنا تماما، إذا بذلنا قصارانا، جعل جريدتنا تصدر 12 مرة في السنة بالأقل وتصل بانتظام إلى مراكز الحركة الرئيسية والى كل الأوساط العمالية المتأثرة بالاشتراكية.

نعود إلى مشكلة التخصص لنشير إلى ان ضعفه يعود جزئيا إلى غلبة العمل « الحرفي » كما إلى كون جرائدنا الاشتراكية الديمقراطية تعودت ألا تولي المشاكل التنظيمية سوى اهتماما ضئيلا جدا.

إن خلق جريدة مركزية للحزب من شأنه ، دون غيره، ان يعطي لكل « مناضل جزئي » من مناضلي القضية الثورية شعور السير « في الصفوف » ووعي ان عمله ضروري بشكل مباشر للحزب، وانه إحدى حلقات السلسلة التي ستخنق ألد أعداء البروليتاريا الروسية والشعب الروسي. وان التطبيق الصارم لهذا التخصص سيتيح، دون غيره، اقتصاد قوانا: لن يكون كل نشاط ثوري موضوع تنفيذ من قبل مجموعة اقل عددا وحسب بل سيتأتى القيام على صعيد علني ببعض أوجه النشاط الحالي. لقد سبق، منذ أمد طوي، أن نصحت الجريدة الاشتراكية-الديمقراطية الألمانية « إلى الأمام » الاشتراكيين الروس بإضفاء الشرعية على نشاطهم وتنظيمه في إطار شرعي. ان هكذا نصيحة مفاجئة للوهلة الأولى لكنها في الواقع جديرة بالتفحص الجدي.

بسهولة يتذكر كافة المناضلين تقريبا، ممن عملوا في حلقة محلية بمدينة ما، كيف ان جملة من مشاغلهم المختلفة كانت بحد ذاتها شرعية (جمع معلومات حول أوضاع العمال، ودراسة التوثيق الشرعي حول جملة أمور، والاطلاع على مطبوعات وكتب أجنبية وتقديم كشوف عنها، وربط بعض العلاقات، ومساعدة العمال على تحصيل تعليم عام وعلى معرفة قانون الشغل، إلخ.).

إذا جرى إسناد هذه الوظائف الخاصة إلى فئة محددة من الأشخاص، فسنخفض أعداد الجيش الثوري النشيط المعرضة لـ« النيران » دون أي خفض كان لـ« قدراتها القتالية ») ونزيد من الأعداد الاحتياطية الذي ستسد الثغرات التي خلفها « القتلى » و« الجرحى ». ولن يتأتى ذلك إلا عندما يرى الأعضاء النشيطون والاحتياطيون على السواء نشاطهم ينعكس في جريدة الحزب المركزية ويحسون أنهم على صلة بها. وطبعا ستظل الاجتماعات المحلية للعمال والمجموعات ضرورية مهما بلغ مستوى التخصص. لكن من جهة سينخفض على نحو جلي عدد الاجتماعات الثورية الكبرى (الخطيرة بوجه خاص من وجهة نظر القمع البوليسي والتي غالبا ما تكون نتيجتها غير متناسبة مع ما تنطوي عليه من خطر) ومن جهة أخرى إذا جعلنا بعض وظائف العمل الثوري وظائف خاصة فسنتمكن بسهولة أكبر من تمويه تلك الاجتماعات بشكل شرعي، و تنظيمها في شكل اجتماعات ترفيه واجتماعات جمعيات مرخصة قانونيا، إلخ. لقد كان العمال الفرنسيون في ظل نابليون والعمال الألمان في ظل القوانين الاستثنائية ضد الاشتراكيين يعرفون كيف يبدعون كل أنواع الذرائع لتمويه اجتماعاتهم السياسية والاشتراكية. وسيعرف الروس كيف يأتون بالمثل.

فقط بتحسين التنظيم وتأسيس جريدة مركزية للحزب يمكن توسيع وتعميق الدعاوة والتحريض الاشتراكيين الديمقراطيين. والحال أننا بحاجة ماسة إلى ذلك. إن العمل المحلي يكاد يؤدي دوما إلى مبالغة الخصوصيات المحلية و إلى ………(3) وهو أمر مستحيل في جريدة مركزية تكون في نفس الوقت جريدة ديمقراطية طليعية. آنذاك فقط يصبح طموحنا إلى جعل الاشتراكية-الديمقراطية مكافحا طليعيا من أجل الديمقراطية واقعا و آنذاك فقط يمكننا أيضا وضع تكتيك سياسي محدد. لقد رفضت الاشتراكية الديمقراطية عقيدة « كتلة رجعية واحدة » الخاطئة(4). وترى أن إحدى أهم مهام السياسة هي استعمال دعم الطبقات التقدمية ضد الطبقات الرجعية. عندما تكون المنظمات والجرائد ذات طابع محلي لا تـُحقق هذه المهمة، إذ يجري الاقتصار على العلاقات ببعض « الليبراليين » للحصول على « خدمات مختلفة ». إن جريدة مركزية للحزب، تطبق بمنهجية مبادئ النضال السياسي و ترفع عاليا راية الديمقراطية، كفيلة دون غيرها بجذب كل العناصر الديمقراطية الكفاحية والإفادة من مجموع القوى التقدمية بروسيا في النضال لأجل الحرية السياسية. آنذاك فقط يمكننا تحويل حقد العمال المخنوق ضد الشرطة والسلطات إلى حقد واع ضد الحكومة الاتوقراطية وإلى عزم قوي على شن نضال ضار لأجل حقوق الطبقة العاملة والشعب الروسي برمته. و سيكون حزب ثوري مؤسس على هكذا قاعدة ومنظم بصرامة قوة سياسية بالغة الأهمية في روسيا الحديثة. سننشر في الأعداد المقبلة مشروع برنامج الحزب الاشتراكي-الديمقراطي الروسي وسنقوم بفحص أوسع لمختلف مسائل التنظيم.


(1) المقصود ذهنية جماعة محلية وليس ذهنية حزب عامل على صعيد وطني (م).
 

(2) القانون الاستثنائي ضد الاشتراكيين صدر بألمانيا سنة 1878 وقضى بمنع جميع منظمات الحزب الاشتراكي-الديمقراطي والمنظمات العمالية الجماهيرية والصحافة العمالية وكانت المطبوعات الاشتراكية عرضة للحجز و الاشتراكيون الديمقراطيون عرضة للطرد. وقد ألغي ذلك القانون سنة 1890 بفضل ضغط الحركة العمالية الجماهيرية.
 

(3) هذا القسم من المخطوط مفقود.
 

(4) إنها أطروحة اللاساليين الشهيرة التي مؤداها أن باقي الطبقات تشكل، بالنسبة للطبقة العاملة، كتلة رجعية واحدة. جاءت تلك الأطروحة في برنامج صادق عليه الاشتراكيون-الديمقراطيون الألمان سنة 1875 في غوتا عند توحيد الحزب الاشتراكيين: حزب الازناخيين وحزب اللاساليين.  كشف ماركس طابع هذه الأطروحة غير الثوري في "نقد برنامج غوتا".