مذهب ماركس الاقتصادي

يقول ماركس في مقدمة كتابه "رأس المال": "إن الهدف النهائي لهذا الكتاب هو أن يكشف عن القانون الاقتصادي لحركة المجتمع الحديث" أي المجتمع الرأسمالي البرجوازي. فدراسة علاقات الإنتاج في هذا المجتمع المحدد تاريخيا من حيث ولادة هذه العلاقات وتطورها وزوالها ذلك هو مضمون مذهب ماركس الاقتصادي. إن الشيء السائد في المجتمع الرأسمالي هو إنتاج البضائع. ولهذا يبدأ تحليل ماركس بتحليل البضاعة.

القيمة

البضاعة هي بالدرجة الأولى شيء يسد حاجة من حاجات الإنسان. وهي بالدرحة الثانية شيء يمكن مبادلته بشيء آخر. إن منفعة شيء ما تعطيه قيمة استعمالية. أما القيمة التبادلية – أو القيمة باختصار – فهي، أول، العلاقة، النسبة، في مبادلة عدد من القيم الاستعمالية من نوع ما بعدد من القيم الاستعمالية من نوع آخر. إن التجربة اليومية تبين لنا أن الملايين والمليارات من مثل هذه المبادلات تقيم دون انقطاع علا قات من التعادل بين القيم الاستعمالية الأكثر تنوعا والأكثر تباينا. فما هو العنصر المشترك بين هذه الأشياء المختلفة التي يعادل بعضها ببعض باستمرار في نظام من العلاقات الاجتماعية ؟ إن العنصر المشترك بينها هو كونها نتاجات عمل. فعندما يتبادل الناس منتجاتهم يعادلون بين أنواع العمل الأكثر تباينا. إن إنتاج البضائع هو نظام من العلاقات الاجتماعية يخلق فيه شتى المنتجين منتجات متنوعة (التقسيم الاجتماعي للعمل) ويعادلون بينها عند التبادل. وبالتالي إن العنصر المشترك بين جميع البضائع ليس هو العمل في فرع معين من الإنتاج وليس هو عملا من نوع خاص، بل هو العمل الإنساني المجرد، العمل الإنساني بوجه عام. ففي مجتمع معين تؤلف كل قوة العمل الممثلة في مجموع قيم كل البضائع قوة عمل إنساني واحدة موحدة. والدليل على ذلك المليارات من أمثلة التبادل. وهكذا فكل بضاعة مأخوذة بمفردها لا تمثل سوى جزء ما من وقت العمل الضروري اجتماعيا. إن كمية القيمة تحدد بقيمة العمل الضروري اجتماعيا أو بوقت العمل الضروري اجتماعيا لإنتاج بضاعة معينة. أي قيمة استعمالية معينة. "إن المنتجين حين يعتبرون منتجاتهم المختلفة متساوية عند تبادلها يقرون بذلك أن أعمالهم المختلفة متساوية وهم لا يدركون ذلك ولكنهم يفعلونه". لقد قال اقتصادي قديم: إن القيمة هي العلاقة بين شخصين. وكان عليه أن يضيف بكل بساطة إلى قوله هذا: علاقة مغلفة بغلاف مادي. ذلك أنه لا يمكن فهم القيمة إلا بالاستناد إلى مجمل علاقات الإنتاج الاجتماعية لتشكيلة تاريخية معينة أي العلاقات التي تظهر عند التبادل هذه الظاهرة الجماهيرية التي تتكرر مليارات المرات. "إن البضائع بوصفها قيما ليست إلا كميات محدودة من وقت العمل المتجمد" ("مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي"). وبعد تحليل مفصل للصفة المزدوجة للعمل المجسد في البضائع ينتقل ماركس إلى تحليل أشكال القيمة والعملة (النقد). والمهمة الرئيسية التي يضعها نصب عينيه إذ ذاك هي أن يبحث عن منشأ الشكل النقدي للقيمة وأن يدرس التفاعل التاريخي لتطور التبادل ابتداء من أعمال التبادل الفردية والعرضية ("شكل بسيط منفرد وطارئ للقيمة": كمية معينة من بضاعة ما تبادل مقابل كمية معينة من بضاعة أخرى) حتى الشكل العام للقيمة عندما يبادل عدد من البضائع المختلفة ببضاعة واحدة معينة، حتى الشكل النقدي للقيمة حيث يصبح الذهب بمثابة تلك البضاعة المعينة، بمثابة المعادل العام. إن النقد بوصفه النتاج الأعلى لتطور التبادل وإنتاج البضائع يطمس، يخفي، الصفة الاجتماعية للعمل الفردي أي العلاقة الاجتماعية بين المنتجين المنفردين الذين يرتبطون ببعضهم البعض بواسطة السوق. ويخضع ماركس لتحليل مفصل إلى أقصى حد شتى وظائف النقد. ومن المهم الملاحظة هنا أيضا (كما في جميع الفصول الأولى من كتاب "رأس المال") إن الشكل المجرد للعرض الذي يبدو أحيانا استدلاليا فقط يعرض في الواقع مصادر وافرة الغنى حول تاريخ تطور التبادل وإنتاج البضائع. "إن النقد يفترض مستوى معينا من التبادل البضاعي. إن شتى أشكال النقد، بوصفه معادلا بسيط، ووسيلة للتداول، ووسيلة للدفع، وكنزا مخزون، ونقدا عالميا – تدل بالمقارنة بين تفوق وظيفة على أخرى على مراحل مختلفة جدا من الإنتاج الاجتماعي" ("رأس المال"، المجلد الاول).

 

القيمة الزائدة

في درجة ما من تطور إنتاج البضائع يتحول النقد إلى رأس مال. لقد كانت صيغة تداول البضائع: ب (بضاعة) – ن (نقد) – ب (بضاعة)، أي بيع بضاعة في سبيل شراء غيرها. أما صيغة رأس المال العامة فهي بالعكس: ن – ب – ن – أي شراء في سبيل بيع (مع ربح). إن هذه الزيادة في القيمة الاولى للنقد الذي وضع قيد التداول هي ما يسميه ماركس "القيمة الزائدة". و"زيادة" المال هذه في التداول الرأسمالي واقع معروف لدى الجميع. إن هذه "الزيادة" بعينها هي التي تحول المال إلى رأسمال بوصفه علاقة إنتاج اجتماعية خاصة محددة تاريخيا. ولا يمكن للقيمة الزائدة أن تنجم عن تداول البضائع لأن هذا التداول لا يعرف سوى تبادل أشياء متعادلة، ولا يمكن لها أيضا أن تنجم عن ارتفاع الأسعار لأن الخسائر والأرباح لدى كل من الشارين والبائعين تتوازن، والحال أن الأمر يتعلق بظاهرة اجتماعية وسطية ومعممة لا بظاهرة إفرادية. فمن أجل الحصول على القيمة الزائدة "يجب أن يتمكن صاحب المال من اكتشاف بضاعة في السوق، لها قيمة استعمالية، تتمتع بميزة خاصة هي أن تكون مصدرا للقيمة"، أي بضاعة تكون عملية استهلاكها في الوقت نفسه عملية تخلق قيمة. وبالفعل هذه البضاعة موجودة: إنها قوة العمل الإنساني. إن استهلاكها هو العمل والعمل يخلق القيمة. إن صاحب المال يشتري قوة العمل بقيمتها التي يحدده، كما يحدد قيمة كل بضاعة أخرى، وقت العمل الضروري اجتماعيا لإنتاج البضاعة (أي نفقات إعالة العامل وعائلته). وحين يشتري صاحب المال قوة العمل يصبح من حقه أن يستهلكها أي أن يجعلها تعمل طوال النهار ولنقل 12 ساعة. ولكن العامل حين يشتغل 6 ساعات (أي وقت العمل "الضروري") يعطي إنتاجا يغطي نفقات إعالته وفي الساعات الست الاخرى (أي وقت العمل "الزائد") يعطي إنتاجا "زائدا" لا يدفع الرأسمالي أجرة عنه أي يعطي القيمة الزائدة. وبالتالي فمن وجهة نظر عملية الإنتاج يجب أن نميز قسمين في الرأسمال: الرأسمال الثابت الذي ينفق على وسائل الإنتاج (آلات، وأدوات عمل، ومواد أولية، الخ.) وتنتقل قيمته كما هي (دفعة واحدة أو دفعات) إلى المنتوج التام الصنع، والرأسمال المتغير (المتحرك) الذي ينفق على قوة العمل. وقيمة هذا الرأسمال لا تظل ثابتة بل تنمو في عملية الإنتاج، إذ تخلق القيمة الزائدة. وعليه فمن أجل التعبير عن درجة استثمار الرأسمال لقوة العمل يجب مقارنة القيمة الزائدة لا بالرأسمال كله بل بالرأسمال المتغير. إن معدل القيمة الزائدة الاسم الذي أطلقه ماركس على هذه العلاقة سيكون في مثلنا 636 أو 100 بالمائة.

إن المقدمة التاريخية لظهور رأسمال هي في الدرجة الاولى تراكم كمية معينة من المال في أيدي عدد من الأفراد في حين بلغ إنتاج البضائع درجة ارتفاع نسبي، وهي، في الدرجة الثانية، وجود عمال "أحرار" من وجهتين: من وجهة أنهم أحرار من كل تضييق ومن كل تقيد في بيع قوة عملهم، وأحرار لأنهم لا يملكون أرضا ولا وسائل إنتاج بوجه عام، أي وجود عمال أحرار وغير مقيدين، أي وجود عمال "بروليتاريين" لا يستطعيون العيش بغير قوة عملهم.

إن ازدياد القيمة الزائدة أمر ممكن بفضل وسيلتين أساسيتين: تمديد يوم العمل ("قيمة زائدة مطلقة") والتقليص في يوم العمل الضروري ("قيمة زائدة نسبية"). وعندما يحلل ماركس الوسيلة الأولى يرسم لوحة رائعة لنضال الطبقة العاملة في سبيل تقليص يوم العمل ولتدخل سلطة الدولة في سبيل تمديده (من القرن الرابع عشر إلى القرن السابع عشر) وفي سبيل تقليصه (تشريع المصانع في القرن التاسع عشر). ومنذ نشر كتاب "رأس المال" قدم تاريخ الحركة العمالية في جميع البلدان المتمدنة في العالم عددا لا يحصى من الوقائع الجديدة التي تبرهن على صدق هذه اللوحة.

إن ماركس عند تحليله القيمة الزائدة النسبية يدرس المراحل التاريخية الأساسية الثلاث لزيادة إنتاجية العمل من قبل الرأسمالية: 1. التعاون البسيط، 2. تقسيم العمل والمانيفاكتورة، 3. الآلات والصناعة الكبرى. إن العمق الذي يكشف به ماركس الخطوط الأساسية النموذجية لتطور الرأسمالية يظهر فيما يظهر من كون دراسة الصناعة المسماة الصناعة "الحرفية" في روسيا تقدم أدلة وافرة جدا توضح وتبرز المرحلتين الأولتين من هذه المراحل الثلاث. أما عمل الصناعة الميكانيكية الضخمة الثوري الذي وصفه ماركس في 1867 فقد ظهر خلال نصف القرن المنصرم منذ ذلك الحين في عدة بلدان "جديدة" (روسيا واليابان وغيرهما).

وبعد فإن الأمر الهام والجديد إلى أقصى حد عند ماركس هو تحليل تراكم الرأسمال أي تحول قسم من القيمة الزائدة إلى رأسمال واستعماله لا لسد حاجات الرأسمالي الشخصية أو لارضاء نزواته بل للإنتاج من جديد. لقد أشار ماركس إلى خطأ الاقتصاد السياسي الكلاسيكي السابق كله (ابتداء من آدم سميث) الذي يعتبر أن كل القيمة الزائدة التي تتحول إلى رأسمال تذهب إلى الرأسمال المتغير بينما هي في الحقيقة تنقسم إلى وسائل إنتاج ورأسمال متغير. وفي عملية تطور الرأسمالية وتحولها إلى الاشتراكية يرتدي ازدياد حصة الرأسمال الثابت بمزيد من السرعة (من أصل مجمل رأس المال) بالقياس إلى حصة الرأسمال، المتغير أهمية أولية.

إن تراكم الرأسمال بتعجيله في إحلال الآلة محل العمال وبخلقه الثراء في قطب، والبؤس في قطب آخر، يخلق أيضا ما يسمى "باحتياطي جيش العمال" أو "الفائض النسبي من العمال" أو "فيض السكان الرأسمالي" الذي يرتدي أشكالا متنوعة إلى أقصى حدود التنوع، ويمكن الرأسمال من أن يوسع الإنتاج بسرعة بالغة. إن هذه الإمكانية إذا نسقت مع التسليف وتراكم الرأسمال بشكل وسائل الإنتاج تعطينا فيما تعطيه مفتاحا لفهم أزمات فيض الإنتاج التي كانت في البدئ تحصل على نحو دوري في البلدان الرأسمالية مرة في كل عشر سنوات تقريبا ومن ثم في فترات أقل تقاربا وأقل ثباتا. ويجب التمييز بين تراكم الرأسمال على أساس الرأسمالية والتراكم المسمى بالتراكم "البدائي" الذي يتصف بفصل الشغيل فصلا عنيفا عن وسائل الإنتاج ويطرد الفلاحين من أراضيهم وبسرقة الأراضي المشاعية وبنظام المستعمرات وبالديون العامة وبرسوم الحماية الخ... إن "التراكم البدائي" يخلق البروليتاري "الحر" في قطب، وفي قطب آخر القابض على المال، الرأسمالي.

ويصف ماركس "الاتجاه التاريخي للتراكم الرأسمالي" بهذه العبارات المشهورة: "إن انتزاع ملكية المنتجين المباشرين يتم بأشد النزعات إلى الهدم والتدمير بعدا عن الشفقة وبدافع من أحط المشاعر وأحقرها وأشدها تفاهة وحقدا. فالملكية الخاصة المكتسبة بعمل المالك" (عمل الفلاح والحرفي) "والقائمة إذا جاز التعبير على اندماج الشغيل الفردي المستقل مع أدوات ووسائل عمله تزيحها الملكية الخاصة الرأسمالية التي ترتكز على استثمار قوة عمل الغير الذي لا يتمتع بغير حرية شكلية ... أما من يتعلق الأمر الآن بانتزاع ملكيته فلم يعد المقصود العامل الذي يدير استثمارة مستقلة بنفسه بل الرأسمالي الذي يستثمر العديد من العمال. إن انتزاع الملكية هذا يتم بفعل القوانين الملازمة للإنتاج الرأسمالي نفسه عن طريق تمركز الرساميل. إن رأسماليا واحدا يقضي على الكثيرين من أمثاله. وإلى جانب هذا التمركز أي انتزاع بعض الرأسماليين ملكية عدد كبير من أمثالهم يتطور الشكل التعاوني لسير العمل على مقياس يتسع أكثر فأكثر كما يتطور تطبيق العلم على التكنيك تطبيقا فطنا ومتعقلا واستثمار الأرض استثمارا منهجيا وتحويل وسائل العمل إلى وسائل للعمل لا يمكن استعمالها إلا استعمالا مشتركا وتوفير جميع وسائل الإنتاج باستعمالها كوسائل إنتاج لعمل اجتماعي منسق ودخول جميع الشعوب في شبكة السوق العالمية وتتطور إلى جانب كل ذلك الصفة العالمية للنظام الرأسمالي. وبقدر ما يتناقص باستمرار عدد دهاقنة الرأسمال الذين يغتصبون ويحتكرون جميع منافع عملية التحول هذه بقدر ما يشتد ويستشري البؤس والظلم والاستعباد والانحطاط والاستثمار وبقدر ما يزداد أيضا تمرد الطبقة العاملة التي تتثقف وتتحد وتنتظم بفعل آلية عملية الإنتاج الرأسمالي نفسها. وهكذا يصبح احتكار الرأسمال قيد لأسلوب الإنتاج الذي نشا معه وبه. إن تمركز وسائل الإنتاج وجعل العمل الاجتماعيا ينتهيان إلى حد أنهما لا يعودان يتطابقان مع إطارهما الرأسمالي فينفجر. إن الساعة الأخيرة للملكية الخاصة الرأسمالية تدق. إن مغتصبي الملكية تنزع منهم ملكيتهم" ("رأس المال"، المجلد الأول).

ثم إن ما هو جديد وذو أهمية كبرى إنما هو تحليل ماركس في المجلد الثاني من "رأس المال" لتجديد إنتاج الرأسمال الاجتماعي بمجموعه. وهنا أيضا لا يأخذ ماركس بعين الاعتبار ظاهرة عامة ولا جزءا من الاقتصاد الاجتماعي بل الاقتصاد الاجتماعي بكليته. إن ماركس عند اصلاحه خطأ الكلاسيكيين المشار اليهم آنفا يقسم مجموع الإنتاج الاجتماعي إلى قسمين كبيرين: أول، إنتاج وسائل الإنتاج وثاني، إنتاج سلع الاستهلاك. ثم، بالاستناد إلى أرقام يأخذها على سبيل المثال يدرس درسا دقيقا تداول الرأسمال الاجتماعي بمجموعه سواء في تجديد الإنتاج البسيط أم في التراكم. وفي المجلد الثالث من "رأس المال" تجد مسألة المعدل الوسطي للربح حلا لها بالاستناد إلى قانون القيمة. ولقد تحقق تقدم كبير في العلم الاقتصادي نظرا إلى أن ماركس يبني تحليله على ظواهر اقتصادية كثيرة على مجموع الاقتصاد الاجتماعي لا على ظواهر منعزلة أو على مظهر المزاحمة الخارجي السطحي الذي غالبا ما يقف عنده الاقتصاد السياسي المبتذل أو ما يسمونه 'نظرية الحد الاقصى من النفع' الحديثة.[1] إن ماركس يحلل في الدرحة الأولى مصدر القيمة الزائدة ليدرس بعد ذلك انقسامها إلى ربح وفائدة وريع عقاري. اما الربح فهو نسبة القيمة الزائدة إلى مجموع الرأسمال الموظف في مشروع ما. والرأسمال "ذو التركيب العضوي العالي"(اي عندما يتجاوز الرأسمال الثابت الرأسمال المتغير بنسب اعلى من المعدل الاجتماعي الوسطي) يعطي معدلا من الربح ادنى من المعدل الوسطي. والرأسمال "ذو التركيب العضوي المنخفض" يعطي معدلا من الربح اعلى من المعدل الوسطي. ان تزاحم الراساميل وانتقالها الحر من فرع إلى اخر يحملان في الحالتين معدل الربح إلى المعدل الوسطي. ان مجموع قيم جميع البضائع في مجتمع معين يوازي مجموع اثمان البضائع ولكن في كل مشروع بمفرده وبفعل المزاحمة تباع البضائع لا بحسب قيمتها بل بسعر الإنتاج ( أو السعر الإنتاجي) الذي يعادل الرأسمال المصروف مضافا اليه الربح الوسطي.

وهكذا فان انحراف السعر عن القيمة والتوزيع المتساوي للربح – هذا الواقع الذي لا يقبل الجدل والمعروف لدى الجميع – يوضحه ماركس تمام الأيضاح بالاستناد إلى قانون القيمة اذ ان مجموع قيم جميع البضائع يعادل مجموع اسعارها. ولكن الطريق من القيمة (الاجتماعية) إلى الاسعار (الافرادية) ليس بسيطا ومباشرا بل طريق معقد جدا. فمن الطبيعي تماما في مجتمع يكون فيه منتجو البضائع متفرقين وغير مرتبطين فيمن بينهم الا بواسطة السوق ان لا يسري مفعول القوانين الا بصورة وسطية اجتماعية عامة مع ازالة الانحرافات الافرادية من هذه الجهة وتلك.

إن ازدياد إنتاجية العمل يعني نموا أسرع في الرأسمال الثابت بالقياس الى الرأسمال المتغير. ولكن لما كانت القيمة الزائدة لا ترتبط الا بالرأسمال المتغير اصبح من المفهوم ان يميل معدل الربح (اي نسبة القيمة الزائدة إلى مجموع الرأسمال لا إلى القسم المتغير منه فقط) إلى الهبوط. ان ماركس يحلل تحليلا دقيقا جدا هذا الميل كما يحلل الظروف التي تخفيه أو تعاكسه. ودون ان نتوقف عند الفصول العظيمة الاهمية في المجلد الثالث المكرسة لرأسمال الربا والرأسمال التجاري والرأسمال النقدي ننتقل إلى الجزء الاكثر اهمية الا وهو نظرية الريع العقاري. لما كانت مساحة الارض محدودة ويشغلها تماما في البلدان الرأسمالية ملاكون فرديون اصبح ثمن إنتاج المنتجات الزراعية لا يتحدد بواسطة نفقات الإنتاج على ارض وسطية بل على ارض من النوع الاسوا ولا بواسطة الشروط الوسطية لنقل المنتجات الى السوق بل تبعا للشروط الاقل ملاءمة. ان الفرق بين هذا الثمن وثمن الإنتاج على الارض اجود نوعا (او في شروط احسن) يعطي الريعي الفرقي (المتفاوت). ان ماركس بالاستناد إلى تحليل مفصل لهذا الريع يبين فيه ان هذا الريع ينجم عن التفاوت ( الفرق) في جودة الاراضي وعن تفاوت (فرق) الرساميل الموظفة في الزراعة قد اوضح وضوحا تاما (انظر أيضا "نظريات القيمة الزائدة" حيث يستحق انتقاد رودبرتوس اهتماما خاصا) خطا ريكاردو الذي يزعم ان الريع الفرقي لا يحصل الا بالانتقال الدائم من اراض اكثر جودة إلى اراض اقل جودة. فالامر على خلاف ذلك: فان تغيرات معاكسة قد تحدث أيضا. فالاراضي من فئة معينة تتحول إلى اراض من فئة اخرى (بفعل ارتفاع مستوى الزراعة ونمو المدن الخ.). والقانون الشهير"قانون تناقص خصب التربة" يبدو بمثابة خطا عميق يرمي إلى القاء عيوب الرأسمالية و حدودها الضيقة وتناقضاتها على كاهل الطبيعة. ثم ان تساوي الربح في جميع فروع الصناعة والاقتصاد الوطني بوجه عام يفترض حرية تامة في المزاحمة وحرية نقل الرأسمال من فرع إلى اخر. ولكن الملكية الخاصة للارض تخلق احتكارا وعقبة في وجه حرية النقل هذه. ان منتجات الزراعة التي تتميز بتركيب منخفض في رأسمالها والتي تعطي بالتالي معدلا اعلى للربح الفردي لا تدخل بفعل هذا الاحتكار في عملية تساوي معدل الربح الحرة تماما. فالمالك الذي يحتكر الارض يتمكن من ابقاء السعر في معدل اعلى من الوسط وهذا السعر الاحتكاري يخلق الريع المطلق. ان الريع الفرقي لا يمكن الغاؤه في النظام الرأسمالي وعكسا لذلك يمكن الغاء الريع المطلق بتاميم الارض مثلا عندما تصبح الارض ملكا للدولة. ان اتقال الارض هذا إلى الدولة يعني تقويض احتكار الملاكين الفرديين و يعني أيضا حرية في المزاحمة اكثر انسجاما واكتمالا في الزراعة. ولهذا كما يقول ماركس تقدم البرجوازيون الراديكاليون اكثر من مرة في التاريخ بهذا المطلب البرجوازي التقدمي القائل بتاميم الارض. هذا المطلب الذي يخيف مع ذلك اكثر البرجوازية لانه "يمس" عن قرب احتكارا اخر له في ايامنا هذه اهمية خاصة و"حساسية" خاصة وهو احتكار وسائل الإنتاج بوجه عام. (ان هذه النظرية حول الربح الوسطي للرأسمال وحول الريع العقاري المطلق قد عرضها ماركس باسلوب رائع بسيط ومختصر وواضح في رسالته إلى انجلز بتاريخ 2 آب/أغسطس سنة 1862. انظر "المراسلات"، المجلد الثالث، ص 77-81، ورسالته المؤرخة في 9 آب/أغسطس سنة ،1862 ص 86–87، المصدر نفسه). و من الاهمية بمكان أيضا الاشارة في تاريخ الريع العقاري إلى تحليل ماركس الذي يبين تحول الريع – العمل (عندما يخلق الفلاح نتاجا إضافيا بعمله في أرض الملاك) إلى ريع – إنتاج أو إلى ريع عيني (عندما يخلق الفلاح على ارضه نتاجا اضافيا يقدمه للملاك بموجب "الاكراه غير الاقتصادي") ثم إلى ريع نقدي (إذ يتحول هذا الريع العيني إلى نقد – "اوبروك" أي إتاوة في روسيا القديمة – بسبب تطور إنتاج البضائع) وأخيرا إلى ريع رأسمالي عندما يحل محل الفلاح في الزراعة رب عمل يزرع الارض باللجوء إلى العمل الماجور. ولنشر بصدد هذا التحليل "لتولد الراع العقاري الرأسمالي" إلى جملة من افكار ماركس العميقة (ذات الاهمية الخاصة بالقياس إلى البلدان المتاخرة كروسيا مثلا) حول تطور الرأسمالية في الزراعة. "مع تحول الريع العيني إلى ريع نقدي، تتكون بالضرورة، في الوقت نفسه وحتى مسبق، طبقة من المياومين الذين لا يملكون ويعملون بالاجرة. وفي الوقت الذي تتكون فيه هذه الطبقة التي لم تكن ظهرت الا ظهورا متفرقا يكون الفلاحون الميسورون الملزمون بدفع اتاوة قد اعتادوا بالطبع استثمار بعض الاجراء الزراعيين لحسابهم الخاص كما كان يحدث تماما في النظام الاقطاعي، حيث كان للفلاحين الاقنان الميسورين اقنان اخرون أيضا. ومن هنا كانت تتوافر لهم امكانية جمع الثورة شيئا فشيئا وتحويل انفسهم إلى رأسماليين مقبلين.

وهكذا تتكون بين مالكي الارض القدماء، ممن يديرون استثمارات مستقلة، بيئة تنبت مستاجري الاراضي الرأسماليين الذين يرتبط تطورهم بالتطور العام للإنتاج الرأسمالي خارج الزراعة" ("رأس المال"، المجلد الثالث، 2، ص 332)..."ان انتزاع ملكية قسم من سكان الارياف وطردهم من الريف لا "يحرران" عمالا ووسائل للعيش والعمل لهم من اجل الرأسمال الصناعي و حسب بل يخلقان السوق الداخلية أيضا" ("رأس المال"، المجلد الاول، 2، ص 778). ان املاق وخراب سكان الارياف يسهمان بدورهما في انشاء جيش احتياطي من العمال للرأسمال . لهذا في كل بلد رأسمالي "يوجد دائما قسم من سكان الارياف يوشك على الدوام ان يتحول إلى سكان مدن أو إلى سكان يعملون في الصناعة (اي غير زراعيين). وهذا المورد لتزايد السكان النسبي لا ينضب ابدا...فالعامل الزراعي مكره على تقاضي الحد الادنى من الاجرة و يقف دائما على احدى رجليه في مستنقع الاملاق" ("رأس المال"، المجلد الاول، 2، ص 668). ان ملكية الفلاح الخاصة للاراض التي يزرعها تؤلف اساس الإنتاج الصغير تؤلف الشرط الذي يسمح لهذا الإنتاج بان يزدهر و ياخذ شكلا كلاسيكيا. ولكن هذا الإنتاج الصغير لا ينسجم الا مع الاطارات البدائية الضيقة للإنتاج والمجتمع. ففي النظام الرأسمالي "لا يتميز استثمار الفلاحين عن استثمار البروليتاريا الصناعية الا من حيث الشكل. فالمستثمر هو هو أي الرأسمال كلا بمفرده يستثمرون الفلاحين كلا بمفرده بواسطة الرهن والربا. ان طبقة الرأسماليين تستثمر طبقة الفلاحين بواسطة الضرائب" ("نضال الطبقات في فرنسا"). "ان ارض الفلاح الصغيرة لم تعد سوى ذريعة تتيح للرأسمال ان يجني من الارض ربحا وفائدة و ريعا وان يترك لمالك الارض نفسه امر الاهتمام بالطريقة التي يراها ناجحة للحصول على اجرته" ("18 برومير"). بل ان الفلاح يقدم عادة إلى المجتمع الرأسمالي أي إلى طبقة الرأسمالي قسما من اجرته ويقع على هذا النحو "في حالة المكتري الارلندي مع احتفاظه بمظهر المالك الفردي" ("نضال الطبقات في فرنسا"). فما اذن "احد الاسباب التي تؤدي إلى ان يكون سعر الحبوب في البلدان التي تسود فيها الملكية الصغيرة للارض اقل منه في البلدان ذات اسلوب الإنتاج الرأسمالي ؟" ("رأس المال"، المجلد الثالث، 2، ص 340) ذلك ان الفلاح يقدم مجانا إلى المجتمع (اي طبقة الرأسماليين) قسما من نتاجه الزائد. "ان هذا السعر المنخفض (اي سعر الحبوب وبقية المنتجات الزراعية) ينجم اذن عن فقر المنتجين ولا ينجم ابدا عن إنتاجية عملهم". ("رأس المال"، المجلد الثالث، 2، ص 340). فان الملكية الزراعية الصغيرة التي هي الشكل العادي للإنتاج الصغير تتدهور في النظام الرأسمالي وتبيد وتهلك. "ان الملكية الصغيرة للارض تحول بحكم طبيعتها دون تطور قوى العمل الإنتاجية الاجتماعية واشكال العمل الاجتماعية وتمركز الرساميل الاجتماعي وتربية المواشي على نطاق كبير و تطبيق العلم تطبيقا مطردا. ان الربا ونظام الضرائب يحتمان خراب الملكية الزراعية الصغيرة في كل مكان. فينتزع من الزراعة الرأسمال الموظف لشراء الارض. وتجزا وسائل الإنتاج إلى ما لانهاية ويتبعثر المنتجون". (إن التعاونيات أي جمعيات الفلاحين الصغار التي تقوم بأعظم دور تقدمي برجوازي يمكنها فقط ان تضعف هذا الاتجاه دون أن تمحوه ويجب ان لا ننسى أيضا ان هذه التعاونيات تعطي كثيرا للفلاحين الميسورين و لكنها تعطي قليلا جدا لجمهور الفلاحين الفقراء أو لا تعطيهم شيئا تقريبا ثم ان الامر ينتهي بهذه الجمعيات إلى ان تستثمر بنفسها العمل الماجور). "فهناك تبذير هائل للقوة الإنسانية. ان تفاقم شروط الإنتاج تفاقما مطردا وارتفاع أسعار وسائل الإنتاج هما قانونان ملازمان للملكية الصغيرة المجزاة". ("رأس المال المجلد الثالث). ففي الزراعة كما في الصناعة لا يظهر تحول الرأسمالية اسلوب الإنتاج على حساب "شهادة المنتج". "ان تبعثر العمال الزراعيين على مساحات كبرى يحطم قوة مقاومتهم في حين يزيد التجمع قوة مقاومة عمال المدن. وفي الزراعة الحديثة الرأسمالية كما في الصناعة الحديثة يتم التوصل إلى نمو قوة العمل الإنتاجية والى زيادة قابليته للحركة عن طريق تحطيم قوة العمل بالذات واستنفادها. ومن جهة اخرى كل تقد للزراعة الرأسمالية هو تقدم لا في فن نهب الشغيل فحسب بل في فن نهب الأرض أيضا... فالإنتاج الرأسمالي اذن لا يطور التكنيك وتنسيق عملية الإنتاج الاجتماعية الا باستنزافه في الوقت نفسه الينبوعين اللذين تنبثق منهما كل ثروة: الارض والشغيل" ("رأس المال"، المجلد الاول، نهاية الفصل الثالث عشر).


1. نظرية الاستعمال الجانبي هي نظرية اقتصادية برزت في سبعينات القرن التاسع عشر لتعارض نظرية ماركس عن القيمة. فحسب هذه النظرية يتم تقدير قيمة البضائع حسب منفعتها وليس حسب كمية العمل الاجتماعي المبذول لإنتاجها.