1- ما معني حرية الأمم في تقرير مصيرها ؟

من الطبيعي أن يبرز هذا السؤال في مبدأ الأمر حين نحاول النظر فيما يسمى حرية تقرير المصير من وجهة نظر الماركسية. فماذا يعني ذلك ؟ هل نستقصي الجواب من التعاريف القانونية المستقاة من شتي أنواع "المفاهيم العامة" للقانون أو ينبغي البحث عنه في دراسة الحركات القومية دراسة تاريخية اقتصادية ؟

لا غرابة في أن السادة سيمكوفسكي وليبمان ويوركفيتش وإضرابهم لم يفطنوا حتي إلى إلقاء هذا السؤال وهم يتملصون من ذلك عن طريق التهكم على "غموض" البرنامج الماركسي، ويبدو أن هؤلاء السادة على ما هم عليه من بساطة يجهلون تمام الجهل أن مسألة حرية الأمم في تقرير مصيرها لم يعالجها البرنامج الروسي الموضوع في سنة 1903 وحسب، بل عالجها أيضا قرار مؤتمر لندن الأممي المنعقد في سنة 1896 (وسنعود إلى هذا القرار بالتفصيل في الموضع المناسب) ولكن ما هو أشد غرابة، أن روزا لوكسمبورج التي طالما ادعت أن تلك الفقرة من برنامجنا تتسم بطابع التجريد والميتافيزيائية، قد أرتكبت هي نفسها خطيئة التجريد والميتافيزيائية هذه، فإن روزا لوكسمبورج ذاتها تتيه دائما في بحث عموميات حرية تقرير المصير (إلى حد التفلسف الفكه المسلي حول مسألة كيف يمكن التحقق من إرادة أمة من الأمم) دون أن تطرح على نفسها اطلاقا هذا السؤال بصورة واضحة ودقيقة: هل يتلخص كنه القضية في التعاريف القانونية، أو في تجارب الحركات القومية في العالم بأسره ؟

إن مجرد صياغة هذا السؤال بصورة دقيقة واضحة – وهو سؤال لا يستطيع الماركسي التغاضي عنه – يطيح فورا بتسعة أعشار حجج روزا لوكسمبورج، فالحركات القومية لم تبرز اليوم في روسيا للمرة الأولي وهي ليست وقفا على هذه البلاد دون سواها، ففي العالم كله كان عهد انتصار الرأسمالية الحاسم على الاقطاع مقترنا بالحركات القومية. ذلك لأن الانتصار الكامل للأنتاج السلعي يتطلب استيلاء البرجوازية على السوق الداخلية وتوحيد الأراضي التي يتكلم سكانها لغة واحدة، وإزالة كل حاجز من شأنه أن يعيق تطور تلك اللغة ورسوخها في الأدب، ذلكم هو الأساس الاقتصادي للحركات القومية. إن اللغة هي أكثر وسائل اتصال الناس بعضهم ببعض أهمية، كما أن وحدة اللغة وحرية تطورها هما من أهم الشروط لقيام مبادلات تجارية حرة شاملة حقا تتوافق والرأسمالية الحديثة، ولتكتل الناس تكتلا حرا واسعا داخل طبقاتها المتعددة، وأخيرا لاقامة علاقة وثيقة بين السوق وبين كل رب عمل كبير أو صغير وبين كل بائع ومشتر. ولذلك، فالسعي إلى إقامة دول قومية تستجيب على الوجه الأكمل لمتطلبات الرأسمالية الحديثة هذه هو أمر مصاحب لكل حركة قومية. وتدفع إلى هذا الهدف أعمق العوامل الاقتصادية. ومن هنا يبدوا أن الدولة القومية، بالنسبة لكل أوروبا الغربية، بل للعالم المتمدين كله، هي أمر نموذجي وطبيعي في المرحلة الرأسمالية.

فإذا أردنا، بعد هذا، أن نفهم معني حرية الأمم في تقرير مصيرها دون أن نتلاعب بالتعريفات القانونية، ودون أن "نخترع" تعريفات مجردة، بامتحان شروط الحركات القومية التاريخية والاقتصادية، فلابد أن نصل إلى النتيجة التالية: إن المقصود بحرية الأمم في تقرير مصيرها، هو الانفصال السياسي لهذه الأمم من الهياكل القومية الغريبة، وتشكيلها لدولة قومية مستقلة. وسنري فيما بعد، الأسباب الأخري التي توقعنا في الخطأ إذا فهمنا من حق حرية تقرير مصير أمة من الأمم شيئا آخر غير حق الوجود كدولة قائمة بذاتها. أما الآن فعلينا أن نعالج: كيف جهدت روزا لوكسمبورج في أن "تتملص" من مجابهة النتيجة الحتمية القائلة بأن الأسباب الاقتصادية العميقة تحدد الاندفاع نحو إنشاء دولة قومية. تعرف روزا لكسمبورج معرفة تامة الكراسة التي وضعها كاوتسكي بعنوان "القومية والأممية" ملحق "نوي تسايت" Neuezeitـ(1) العدد الأول 1907-1908، الترجمة الروسية في مجلة "ناووتشناياميل" ريفا 1908 (2)، وتعرف أن كاوتسكي، بعد أن حلل مسألة الدولة القومية في الفقرة الرابعة من هذه الكراسة تحليلا دقيقا، توصل بالنتيجة إلى القول بأن أوتو باور « يقلل من قوة الأندفاع إلى إنشاء الدولة القومية » (الصفحة 23 من الكراسة المذكورة) وقد أوردت روزا لوكسمبورج نفسها كلمات كاوتسكي التالية: « إن الدولة القومية هي شكل الدولة الذي ينسجم أكمل انسجام مع الظروف العصرية » (أي الظروف الرأسمالية المتمدنة، والشروط الاقتصادية المتقدمة، بوصفها شيئا متميزا عن الظروف السابقة على الرأسمالية، في العصور الوسطي .. الخ.) وهي الشكل الذي يتهيأ لها فيه تأدية مهامها على أحسن وجه (أي مهام إفساح المجال أمام الرأسمالية لتتطور إلى أبعد حدود الحرية والشمول والسرعة) وعلينا أن نضيف إلى ما تقدم ملاحظة ختامية، أوفر دقة، أوردها كاوتسكي، وهي أن الدول التي يكون تركيبها القومي بعيدا عن التجانس (أي التي تعرف بدول القوميات المتعددة خلافا للدول القومية)، هي دائما تلك الدول التي يظل تشكيلها الداخلي لسبب ما شاذ أو ضعيف التطور (متأخرا). وغني عن البيان ان كاوتسكي يستعمل هنا لفظة "شاذ" للدلالة فقط على عدم التلاؤم مع ما ينسجم ومتطلبات الرأسمالية النامية.

والسؤال الآن هو: كيف عالجت روزا لوكسمبورج هذه الاستنتاجات التاريخية الاقتصادة التي توصل إليها كاوتسكي ؟ هل تعتبرها صحيحة أم مغلوطة ؟ ومَن مِن كاوتسكي واوتو باور على حق: الأول بنظريته التاريخية الاقتصادية، أم الثاني بنظريته القائمة على أساس سيكولوجي ؟ وأية رابطة تجمع بين "انتهازية" باور "القومية" التي لا مراء فيها، ودفاعه عن الاستقلال الذاتي القومي، وولعه بالتعصب القومي (تضخم العوامل القومية هنا وهناك كما وضعها كاوتسكي): « ومبالغته الشديدة في تقدير شأن العوامل القومية وتناسيه العوامل الأممية تناسيا تاما » (كاوتسكي). نقول أية رابطة تجمع بين هذا كله وبين تقليل باور من شأن الاندفاع نحو انشاء دولة قومية ؟

إن روزا لوكسمبورج حتي لم تتطرح هذا السؤال. ولم تلاحظ هذه الصلة كما أنها لم تضع في اعتبارها مجموع أفكار باور النظرية، ولم تقارن مطلقا بين النظرية التاريخية الاقتصادية والنظرية السيكولوجية في المسألة القومية بل حصرت نفسها في حدود الملاحظات التالية، في نقدها لكاوتسكي:

إن هذه الدولة القومية "المثلى" ليست سوي شيء مجرد يسهل عرضه نظريا والدفاع عنه نظريا، ولكنه غير مطابق للواقع. (Przeglad Socialdemokratycizny 1908، العدد 6، ص 499).

وللدلالة على صحة هذا التصريح الجازم وتأييده تورد روزا لوكسمبورج سلسلة حجج تزعم فيها أن تطور الدول الرأسمالية العظمي والامبريالية يجعلان من حق تقرير مصير الشعوب الصغيرة شيئا وهميا. ثم تصيح: « هل يمكن لأحد الحديث عن "حرية" سكان الجبل الأسود والبلغاريين والرومانيين والصرب واليونانيين: وحتي السويسريين إلى حد ما، في تقرير مصيرهم. وكلهم مستقلون صوريا، مادام استقلالهم ذاته نتيجة للنضال السياسي، وللعبة الدبلوماسية" للجوقة الأوروبية ؟ ! » (ص 500) إن الدولة التي تتلائم مع الظروف تلاؤما أكمل « ليست هي الدولة القومية، كما يتصور كاوتسكي، بل هي الدولة المفترسة » وتورد بضع عشرات الأرقام عن ضخامة المستعمرات التابعة لانجلترا وفرنسا وغيرها. ويستغرب القارئ فعلا، حين تقع عينه على مثل هذه الحجج، قدرة الكاتبة على عدم فهم كيفيات الأشياء وأسبابها. إن جهود روزا لوكسمبورج لتلقين كاوتسكي درسا قاسيا حول تبعية الدول الصغيرة اقتصاديا للدول الكبيرة، وكيف أن الصراع بين الدول البرجوازية متواصل لسحق الأمم الأخري بضراوة، وأن ثمة إمبريالية ومستعمرات، كل هذا ليس سوي أمر مضحك، ومحاولة صبيانية للتظاهر بالذكاء، لأن هذه الأمور كلها لا تمت بصلة إلى الموضوع. إن التبعية الاقتصادية الكاملة لسلطان الرأسمال المالي الامبريالي في البلدان البرجوازية "الغنية" ليست شيئا مقصورا على الدول الصغري فقط بل إنها أيضا تشمل أقطارا كروسيا ولم تكن دويلات البلقان وحدها مستعمرة لأوروبا من الوجهة الاقتصادية، بل إن أمريكا ذاتها كانت كذلك في القرن التاسع عشر. على حد ما ذكره كارل ماركس في "الرأسمال"(3). كل هذا يعرفه بالطبع كاوتسكي جيدا، شأن كل ماركسي، ولكن هذا كله لا علاقة له، قط، بمسألة الحركات القومية والدولة القومية.

لقد استعاضت روزا لوكسمبورج في قضية حرية الأمم في تقرير مصيرها السياسي في المجتمع البرجوازي، أي قضية استقلالها الاقتصادي ولا شك أن في هذا من الذكاء، ما يشبه تماما موقف شخص يسعي، عند مناقشة أحد المطالب في برنامج من البرامج حول سلطان البرلمان – أي مجلس ممثلي الشعب في الدولة البرجوازية – إلى تبيان اقتناعه – الصائب كل الصواب – بأن الرأسمال الكبير يسود في البلد البرجوازي، مهما كان نظامه. ليس من شك في أن الجزء الأكبر من آسيا، وهي القارة المأهولة بالسكان أكثر من غيرها، واقع في إحدى حالتين: إما مستعمرات "للدول العظمى" وإما دول ممعنة في التبعية وخاصة للاضطهاد القومي. ولكن هل يزعزع هذا الظرف المعروف من الجميع، الحقيقة التي لا مراء فيها وهي أنه في آسيا ذاتها لم تنشأ شروط تطور الإنتاج السلعي الأكمل، ولا شروط نمو الرأسمالية الأكثر حرية واتساعا وسرعة، إلا في اليابان، أي فقط في دولة قومية مستقلة ؟ إن هذه الدولة هي دولة برجوازية، ولذا أخذت هي باضطهاد أمم أخرى، واستعباد مستعمرات لها. ونحن لا نستطيع الحديث عما إذا كانت آسيا ستنجح على غرار أوروبا، أم لا ولكن يبقي شيء لا يختلف فيه إثنان، وهو أن الرأسمالية بايقاظها القارة الاسيوية قد أثارت في جميع بقاع آسيا، أيضا حركات قومية تسعي حثيثا إلى إنشاء دول قومية، وأن هذه الدول هي التي تضمن للرأسمالية أحسن الظروف التي يتطلبها تطورها. إن مثال آسيا هو في صالح كاوتسكي، ضد روزا لوكسمبورج. إن مثال الدول البلقانية هو ضدها أيضا. فكل منا يري اليوم أن أحسن الظروف التي يقتضيها تطور الرأسمالية آخذه في التوافر في البلقان وذلك كلما ازداد نشوء دول قومية مستقلة في شبه الجزيرة هذا. وهكذا يتضح أن المثل الذي تضربه البشرية المتمدينة والمتقدمة جمعاء، ومثل البلقان ومثل آسيا تبرهن تماما على صحة قضية كاوتسكي – رغم روزا لوكسمبورج – تلك القضية القائلة بأن الدول القومية هي القاعدة والمعيار للنظام الرأسمالي، وبأن الدول التي لا تجانس في تركيبها القومي لا تمثل سوي التأخر، أو الاستثناء. ولا شك في أنه من زاوية العلاقات القومية، فإن الدولة القومية، تخلق أفضل الشروط لتطور الرأسمالية. ولا يعني هذا أن مثل هذه الدولة القائمة على أساس العلاقات الورجوازية، تستطيع أن تقضي على استغلال الأمم واضطهادها. إنه يعني فقط، أن الماركسيين لا يستطيعون إهمال العوامل "الاقتصادية" القوية التي تولد الدافع إلى انشاء الدول القومية. كما يعني أن "حرية الأمم في تقرير مصيرها" لا يمكن أن يكون لها في برنامج الماركسيين، من الوجهة التاريخية الاقتصادية، سوي معني واحد هو حرية تقرير المصير السياسي، والاستقلال كدولة، وإنشاء دولة قومية. أما الشروط التي نشترط بها من الوجهة الماركسية أي من وجهة نظر الطبقة البروليتارية تأييد المطلب البرجوازي الديموقراطي القائل "بدولة قومية" فسنفصل القول فيها بعد، أما الآن فسوف نقتصر على تعريف مفهوم "حركة تقرير المصير" وليس فقط في أن روزا لوكسمبورج تعرف ماذا يعني هذا المفهوم "الدولة القومية" في حين أن أنصارها الانتهازيين من جماعة ليبمان وسيموفسكي ويوركيفيتش يجهلون حتى هذا الأمر !


(1) دي نويه تسايت Die Neue Zeit المجلة النظرية للحزب الاشتراكي الديمقراطي الالماني. صدرت في شتوتجارت من 1883 حتي 1923. كان يشرف على تحريرها ك. كاوتسكي حتي أكتوبر 1917 ثم خلفه في هذا هـ. كاناو. وقد نشرت هذه المجلة بعض كتابات لمؤسسي الماركسية لاول مرة، ومن هذه الكتابات " نقد برنامج جوته " لماركس و " الاتجاه النقدي لمنشور البرنامج الاشتراكي الديمقراطي عام 1891 " لانجلز. وكثيرا ماكان انجلز يشير بأصبع الاتهام إلى محرري مجلة دي نويه تسايت وينتقد انحرافاتهم عن الماركسية. ونذكر من بين القادة المبرزين للحركة العمالية الأممية الألمانية الذين أسهموا بالكتابة في هذه المجلة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين " أ. بيبيل، و. ليبكنخت، ر. لوكسمبرج، ف. مهرنج , وكلارا تسيتكين، و حـ. ف. بليخانوف، و ب. لافارج. وفي بداية التسعينات، أي بعد وفاة انجلز، دأبت المجلة على نشر مقالات للمراجعين ومنها سلسلة مقالات كتبها أ. برنشتين تحت عنوان " مشاكل الاشتراكية " وكانت مقالاته هذه بداية معركة خاضها المراجعون ضد الماركسية. وخلال الحرب العالمية الأولي اتخذت المجلة لنفسها موقفا ثابتا في مساندة الشوفينيين الاجتماعيين.
 

(2) Nauchnaya Mysl أو الفكر العلمي – مجلة الاتجاه المنشفيكي صدرت في ريجا عام 1908.
 

(3) أنظر كارل ماركس – رأس المال – مجلد 1 طبعة موسكو 1959 ص 765.