الفصل السادس
اقتسام العالم بين الدول الكبرى

 

يعطي الجغرافي أ. سوبان في مؤلفه « اتساع أراضي مستعمرات أوروبا »(1) النتيجة المختصرة التالية لهذا السير في نهاية القرن التاسع عشر:

النسبة المئوية للأراضي العائدة للدول الأوروبية صاحبة المستعمرات (بما فيها الولايات المتحدة):

  سنة 1876 سنة 1900 الزيادة
في افريقيا 10.8% 90.4% +79.6%
في بولينيزيا 56.8% 98.9% +42.1%
في آسيا 51.5% 56.6% +5.1%
في أوستراليا 110.0% 100.0% -
في أمريكا 27.5% 27.2% -0.3%

ويخلص سوبان إلى النتيجة التالية: « فالسمة المميزة لهذه المرحلة هي إذن اقتسام افريقيا وبولينيزيا ». وبما أنه لا توجد في آسيا وفي أمريكا اراض غير مشغولة، أي غير عائدة لدولة من الدول، ينبغي علينا أن نوسع استنتاج سوبان وأن نقول أن السمة المميزة للمرحلة المذكورة هي الإقتسام النهائي للأرض، لا بمعنى استحالة إعادة التقاسم، – فإعادة التقاسم هي بالعكس أمر ممكن ومحتوم – بل بمعنى أن السياسة الاستعمارية التي تمارسها الدول الرأسمالية قد انجزت الإستيلاء على الأراضي غير المشغولة في كوكبنا. ولأول مرة بدا العالم مقتسما بشكل لا يمكن معه في المستقبل إلاّ إعادة التقاسم، أي انتقال الأراضي من « مالك » لآخر، لا إنتقالها من حالة أراض لا مالك لها إلى ذات « مالك ».

فنحن نجتاز، إذن، عهدا خاصا من سياسة استعمارية عالمية مرتبطة أوثق ارتباط بـ« احدث درجة في تطور الرأسمالية »، بالرأسمال المالي. ولذا من الضروري أن نتناول قبل كل شيء الوقائع بالتفصيل لكي نتبين بما أمكن من الدقة ما يميز هذا العهد عن العهود السابقة وكذلك وضع الأمور الراهن. ويتبادر إلى الذهن هنا بادئ ذي بدء سؤالان عمليان: هل يلاحظ اشتداد السياسة الاستعمارية وتفاقم الصراع من أجل المستعمرات في عهد الرأسمال المالي بالضبط، وكيف اقتسم العالم من هذه الناحية في الوقت الراهن.

يحاول الكاتب الأمريكي موريس في كتابه عن تاريخ الاستيلاء على المستعمرات(2) تعميم المعلومات عن مساحة مستعمرات إنجلترا وفرنسا وألمانيا في مختلف مراحل القرن التاسع عشر. وها هي، باختصار، النتائج التي توصل إليها:

مساحة المستعمرات

سنوات إنجلترا فرنسا ألمانيا
المساحة (بملايين الأميال المربعة) السكان (بالملايين) المساحة (بملايين الأميال المربعة) السكان (بالملايين) المساحة (بملايين الأميال المربعة) السكان (بالملايين)
1815-1830  ؟ 126.4 0.02 0.5 - -
1860 2.5 145.1 0.2 3.4 - -
1880 7.7 267.9 0.7 7.5 - -
1899 9.3 309.0 3.7 56.4 1.0 14.7

إن مرحلة اشتداد الاستيلاء على المستعمرات اشتدادا هائلا هي بالنسبة لإنجلترا سنوات 1860-1880 واشتداد ملحوظا جدا في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر, ومرحلة الاشتداد الهائل بالنسبة لفرنسا وألمانيا هي العقدين الأخيرين بالضبط. وقد رأينا فيما تقدم أن رأسمالية ما قبل عهد الاحتكار، رأسمالية سيادة المزاحمة الحرة قد بلغت أوج تطورها في مرحلة سنوات 1860-1880. وها نحن نرى الآن أنه بعد هذه المرحلة بالضبط تبتدئ « النهضة » الكبرى في الاستيلاء على المستعمرات ويحتدم للغاية وطيس الصراع من أجل اقتسام أراضي العالم. ولا مجال للشك إذن في أن انتقال الرأسمالية إلى درجة الرأسمالية الاحتكارية، إلى الرأسمال المالي، مرتبط باحتدام الصراع من أجل اقتسام العالم.

يشير هوبسون في مؤلفه عن الإمبريالية إلى مرحلة سنوات1883-1900 باعتبارها مرحلة اشتداد « توسع » الدول الأوروبية الرئيسية. وبموجب حساباته، تملكت إنجلترا خلال هذا الوقت 3.7 ملايين ميل مربع يسكنها 57 مليون نسمة؛ وفرنسا 3.6 ملايين ميل مربع يسكنها 36.5 مليون نسمة؛ وألمانيا 1 مليون ميل مربع يسكنها14.8 مليون نسمة، وبلجيكا 900 ألف ميل مربع يسكنها 30 مليون نسمة؛ والبرتغال 800 ألف ميل مربع يسكنها 9 ملايين نسمة. إن ركض جميع الدول الرأسمالية وراء المستعمرات في أواخر القرن التاسع عشر ولاسيما منذ سنوات العقد التاسع هو واقع يعرفه الجميع في تاريخ الديبلوماسية والسياسة الخارجية.

في أوج ازدهار المزاحمة الحرة في إنجلترا، وفي مرحلة سنوات 1840-1860، كان قادتها السياسيون البرجوازيون ضد السياسة الاستعمارية وكانوا يعتبرون المستعمرات وانفصالها التام عن إنجلترا أمرا محتوما ومفيدا. ففي مقالة عن « الامبريالية الإنجليزية الحديثة »(3) ظهرت في سنة 1898 يشير م. بير إلى أن رجلا من رجال الدولة الإنجليزية يميل عموما أشد الميل إلى الإمبريالية وهو ديسرائيلي قد قال في سنة 1852 أن « المستعمرات هي أحجار طاحون في رقبتنا ». في أواخر القرن التاسع عشر كان سيسيل رودس وجوزيف تشمبرلين بطلي الساعة في إنجلترا وكانت يبشران بالإمبريالية على المكشوف ويمارسان السياسة الإمبريالية بمنتهى القحة !

وجدير بالذكر أن قادة البرجوازية الإنجليزية السياسيين هؤلاء كانوا في ذلك الحين يرون بوضوح العلاقات بين جذور الإمبريالية الحديثة الاقتصادية الصرف إن أمكن القول والاجتماعية السياسية. فقد كان تشمبرلين يروج بالامبريالية باعتبارها « سياسة أصيلة، حكيمة، مقتصدة » مشيرا بصورة خاصة إلى المزاحمة التي تصادفها إنجلترا الآن في السوق العالمية من جانب ألمانيا وأمريكا وبلجيكا. الخلاص في الإحتكار – هكذا كان يقول الرأسماليون وهم يؤسسون الكارتيلات والسينديكات والتروستات. الخلاص في الإحتكار – كان يردد زعماء البرجوازية السياسيون مسرعين إلى الاستيلاء على أنحاء العالم التي لم تقتسم بعد. وقد روى الصحفي ستيد أن صديقه الحميم سيسل رودس قد حدثه في سنة 1895 عن نظراته الإمبريالية بقوله: « كنت أمس في الايست أند (حي العمال في لندن) وحضرت اجتماعا من اجتماعات العمال العاطلين، وقد سمعت هناك خطابات فظيعة كانت من أولها إلى آخرها صرخات: الخبز ! الخبز ! وأثناء عودتي إلى البيت كنت أفكر بما رأيت واقتنعت أوضح من السابق بأهمية الإمبريالية… إن الفكرة التي أصبو إليها هي حل المسألة الاجتماعية، أعني: لكيما ننقذ أربعين مليونا من سكان المملكة المتحدة من حرب أهلية فتاكة ينبغي علينا نحن الساسة طلاب المستعمرات أن نستولي على أراض جديدة لنرسل إليها فائض السكان ولنقتني ميادين جديدة لتصريف البضائع التي تنتجها المصانع والمناجم. فالإمبراطورية، وقد قلت ذلك مرارا وتكرارا، هي مسألة البطون. فإذا كنتم لا تريدون الحرب الأهلية ينبغي عليكم أن تصبحوا امبرياليين »(4).

هذا ما قاله في سنة 1895 سيسيل رودس المليونير وملك المال والمسؤول الرئيسي عن الحرب الإنجليزية-البويرية؛ ولكن دفاعه عن الإمبريالية، وإن كان فظا وقحا، لا يختلف في الجوهر عن « نظرية » السادة ماسلوف، زوديكوم، بوتريسوف، دافيد، ومؤسس الماركسية الروسية ومن على شاكلتهم. فقد كان سيسيل روديس اشتراكيا-شوفينيا أشرف قليلا…

ولكيما نعطي صورة أقرب إلى الدقة ما أمكن عن تقاسم أراضي العالم وعن التغيرات التي حدثت في هذا الحقل خلال العشرات الأخيرة من السنين نستفيد من المعلومات التي أعطاها سوبان في مؤلفه المذكور حول مستعمرات جميع دول العالم. يأخذ سوبان سنتي 1876 و1900؛ ونحن نأخذ سنة 1876، إذ أنها نقطة أحسن اختيارها، لأن تطور رأسمالية أوروبا الغربية في عهد ما قبل الاحتكار يمكن أن يعتبر قد إنتهى بالإجمال وبوجه عام حول هذا التاريخ –ونأخذ سنة 1914 مستعيضين عن أرقام سوبان بأرقام أحدث مأخوذة عن « الجداول الجغرافية والاحصائية » لهوبنز. يكتفي سوبان بالمستعمرات؛ ونحن نعتقد أن من المفيد – لتكتمل في مخيلتنا صورة تقاسم العالم – أن نضيف معلومات مختصرة عن البلدان غير المستعمرة وعن أشباه مستعمرات التي نعتبر ضمنها بلاد فارس والصين وتركيا: فالأولى قد غدت مستعمرة بصورة تامة تقريبا، أمّا الثانية والثالثة فتتدحرجان إلى هذه النهاية.

ويكون الحاصل ما يلي (راجعوا ص 515).

يبين لنا هذا الجدول بجلاء كيف « انتهى » تقاسم العالم على تخوم القرنين التاسع عشر والعشرين. فقد تضخمت مستعمرات الدول الست الكبرى لحد هائل بعد سنة 1876: أكثر من النصف، من 40 إلى 65 مليون كيلومتر مربع. والزيادة تبلغ 25 مليون كيلومتر مربع، أي بزيادة النصف عن مساحة البلدان مالكة المستعمرات (16.5 مليون). وفي سنة 1876 لم يكن لدى ثلاث دول أي مستعمرة، أمّا الرابعة، فرنسا، فلم يكن لديها مستعمرات تقريبا. وفي سنة 1914 كان لهذه الدول الأربع مستعمرات تبلغ مساحتها 14.1 مليون كيلومتر مربع، أي مساحة تزيد عن مساحة أوروبا بنسبة تقارب النصف ويبلغ عدد سكانها نحو 100 مليون نسمة. إن التفاوت في توسيع المستعمرات كبير جدا. فإذا قارنا مثلا فرنسا وألمانيا واليابان التي لا تختلف كثيرا من حيث المساحة وعدد السكان وجدنا أن الأولى في هذه البلدان قد اقتنت من المستعمرات (من حيث المساحة) نحو ثلاثة أضعاف ما اقتنته الثانية والثالثة مجتمعتين. ولكن من حيث مقادير الرأسمال المالي قد تكون فرنسا في بداية المرحلة المذكورة أغنى بعدة أضعاف أيضا من واليابان مجتمعتين . وعدا الظروف الاقتصادية الصرف وعلى أساسها، تؤثر على اتساع مساحات المستعمرات الظروف الجغرافية وغيرها. ورغم سعة الخطوة التي خطتها خلال العقود الأخيرة من السنين تسوية العالم والتقريب بين ظروف الاقتصاد والمعيشة في مختلف البلدان تحت ضغط الصناعة الضخمة والتبادل والرأسمال المالي، ما زال الفرق على كل حال كبير، نلاحظ بين الدول الست المذكورة، من جهة، بلدانا رأسمالية فتية تقدمت بسرعة خارقة (أمريكا، ألمانيا، اليابان)؛ ومن جهة أخرى، بلدي التطور الرأسمالي القديم اللذين كانا تقدمهما في الوقت الأخير أبطأ جدا من تقدم البلدان الآنفة الذكر (فرنسا وإنجلترا)؛ ومن الجهة الثالثة، البلد الأكثر تأخرا من الناحية الاقتصادية (روسيا) الذي احيطت فيه الامبريالبية الرأسمالية الحديثة، إن أمكن القول، بشبكة كثيفة جدا من علاقات عهد ما قبل الرأسمالية

مستعمرات الدول الكبرى: (بملايين الكيلومترات المربعة وملايين السكان)

  المستعمرات المتروبولات المجموع
  سنة 1876 سنة 1914 سنة 1914 سنة 1914
  مليون كيلومتر مليون نسمة مليون كيلومتر مليون نسمة مليون كيلومتر مليون نسمة مليون كيلومتر مليون نسمة
إنجلترا 22.5 251.9 33.5 393.5 0.3 46.5 33.8 440.0
روسيا 17.0 15.9 17.4 33.2 5.4 136.2 22.8 169.4
فرنسا 0.9 6.0 10.6 55.5 0.5 39.6 11.1 95.1
ألمانيا - - 2.9 12.3 0.5 64.9 3.4 77.2
الولايات المتحدة - - 0.3 9.7 9.4 97.0 9.7 106.7
اليابان - - 0.3 19.2 0.4 53.0 0.7 72.2
المجموع لـ 6 دول الكبرى 40.4 273.8 65.0 523.4 16.5 437.2 81.5 960.6
مستعمرات الدول الأخرى (بلجيكا، هولندا وغيرهما) 9.9 45.3
أشباه المستعمرات (بلاد فارس، الصين، تركيا) 14.5 361.2
البلدان الأخرى 28.0 289.9
مجموع الأرض 133.9 1657.0

وإلى جاني مستعمرات الدول الكبرى قد وضعنا المستعمرات غير الواسعة العائدة للدول الصغيرة. وهذه المستعمرات هي، إن أمكن القول الهدف المباشر « لتقاسم جديد » للمستعمرات ممكن ومحتمل. وعلى الأغلب ما كانت هذه الدول الصغيرة لتحتفظ بمستعمراتها لو لم توجد بين الدول الكبرى تناقضات مصالح واحتكارات الخ.، تعيق اتفاقها على تقاسم الغنيمة. أمّا فيما يخص الدول « شبه المستعمرة » فهي مثل الأشكال الانتقالية التي تصادف في جميع ميادين الطبيعة والمجتمع فالرأسمال المالي هو قوة كبرى ويمكننا أن نقول فاصلة في جميع العلاقات الاقتصادية والدولية بحيث أن باستطاعتها أن تخضع لنفسها وهي تخضع في الواقع حتى الدول التي تتمتع باستقلالها السياسي الناجز؛ وسنرى الآن المثل على ذلك. ولكن من البديهي أن ما يعطي الرأسمال المالي الوضع « الأفضل » والنفع الأكبر هو ذلك الخضوع الذي يتبع فقدان البلدان والشعوب المستعبدة لاستقلالها السياسي. والبلدان شبه البلدان والشعوب المستعبدة لاستقلالها السياسي. والبلدان شبه المستعمرة هي نموذجية باعتبارها « بين بين » في هذا المضمار. ومن المفهوم أن الصراع من أجل هذه البلدان شبه التابعة كان لابدّ أن يحتدم بصورة خاصة في عهد الرأسمال المالي ما دامت بقية العالم قد اقتسمت.

لقد وجدت سياسة الاستيلاء على المستعمرات ووجدت الإمبريالية قبل أن تبلغ الرأسمالية مرحلتها الحديثة وحتى قبل الرأسمالية. فروما القائمة على نظام العبودية كانت تمارس سياسة الاستيلاء على المستعمران وتحقق الإمبريالية. ولكن البحث « بصورة عامة » في الإمبريالية، مع نسيان أو استصغار شأن الفرق الجذري بين النظم الاجتماعية الاقتصادية يؤول حتما إلى هذر فارغ أو إلى تبجح من نوع المقارنة بين « روما العظمى وبريطانيا العظمى »(5)، فحتى السياسة الاستعمارية التي مارستها الرأسمالية في مراحلها السابقة تختلف اختلافا جوهريا عن سياسة الرأسمال المالي الاستعمارية.

إن الخاصية الأساسية في الرأسمالية الحديثة هي سيطرة الاتحادات الاحتكارية التي يؤسسها كبار أصحاب الأعمال. وهذه الإحتكارات هي أوطد ما تكون حين تتفرد بوضع يدها على جميع مصادر الخامات؛ وقد رأينا بأي اندفاع توجه اتحادات الرأسماليين العالمية جهودها لكي تنتزع من الخصم كل إمكانية للمزاحمة ولكي تشتري مثلا مطمورات الحديد أو حقول النفط وهلم جرا. وحيازة المستعمرات هي وحدها ما يعطي الاحتكارات الضمانة التامة للنجاح ضد كل طوارئ الصراع مع المنافس –حتى في حالة ما إذا رغب المنافس في الدفاع عن نفسه باستصدار قانون عن إقامة احتكار الدولة. فكلما تقدمت الرأسمالية في تطورها، وكلما بدا بصورة أوضح نقص الخامات وكلما استعرت المزاحمة واشتد الركض وراء مصادر الخامات في العالم كله، احتدام الصراع من أجل حيازة المستعمرات.

وقد كتب شيلدر: « بالإمكان أن نجرؤ على تأكيد قد يبدو للبعض غريبا، وهو أن نمو السكان المدنيين والصناعيين قد يصطدم في مستقبل قريب لحد ما بعقبة نقص خامات الصناعة لحد أكبر جدا من نقص المواد الغذائية ». وهكذا يشتد مثلا نقص الخشب الذي ترتفع أسعاره دون انقطاع والجلد والخامات اللازمة لصناعة النسيج. « تحاول اتحادات الصناعيين إيجاد توازن بين الزراعة والصناعة في نطاق الاقتصاد العالمي كله. وعلى سبيل المثال يمكن ذكر الاتحاد العالمي لجمعيات صناعة خيوط القطن الذي وجد من سنة 1904 في جملة من الدول الصناعية الكبرى والاتحاد الأوروبي لجمعيات صناعة خيوط الكتان المؤسس على نفس الطراز في سنة 1901 »(6).

يحاول الإصلاحيون البرجوازيون وبينهم بوجه خاص الكاوتسكيون الحاليون أن يقللوا طبعا من أهمية هذا النوع من الوقائع بقولهم أن « بالإمكان » الحصول على الخامات في السوق الحرة بدون السياسة الاستعمارية « ذات التكاليف الكبيرة والخطيرة » وأن « باإمكان » زيادة عرض الخامات زيادة كبيرة « بمجرد » تحسين ظروف الزراعة بوجهه عام. ولكن هذه الأقاويل تغدو دفاعا عن الإمبريالية وتجميلا لوجهها لأنها قائمة على نسيان الخاصية الرئيسية في الرأسمالية الحديثة: الاحتكار. تغيب السوق الحرة شيئا فشيئا في طيات الماضي، فالسينديكات والتروستات الاحتكارية تبترها من يوم لآخر؛ أمّا « مجرد » تحسين ظروف الزراعة فينحصر في تحسين حالة الجماهير ورفع الاجور وتقليل الارباح . ولكن هل توجد في غير مخيلات الاصلاحيين دوي الكلمات المعسولة تروستات يمكنها ان تهتم بحالة الجماهير بدلا من الاستيلاء على المستعمرات ؟

لا يقصر الرأسمال المالي اهتمامه على مصادر الخامات المكتشفة وحدها، بل يهتم كذلك بمصادر الخامات المحتملة، لأن التكنيك يتقدم في أيامنا بسرعة لا يتصورها العقل؛ والأراضي غير الصالحة اليوم قد تغدو صالحة غدا إذا أوجدت لذلك طرائق جديدة (ولهذا الغرض يستطيع بنك من البنوك الكبرى تجهير بعثة خاصة من المهندسين والخبراء الزراعيين الخ.) وإذا أنفق رأسمال كبير. والشيء نفسه فيما يخص التنقيب عن الثروات المعدنية والأساليب الجديدة لتحضير هذه الخامات أو تلك والاستفادة منها الخ.، وهلم جرا. ومن هنا لا مفر للرأسمال المالي من أن ينزع إلى توسيع أراضيه الاقتصادية وحتى أراضيه بوجه عام. وعلى غرار التروستات التي تقدر أملاكها برأسمال منفوخ ضعفين أو ثلاث أضعاف، حاسبة الأرباح « المحتملة » في المستقبل (لا الأرباح الراهنة)، حاسبة نتائج الاحتكار المقبلة، يطمح الرأسمال المالي بوجه عام إلى الإستيلاء على أكثر ما يمكن من الأراضي مهما كانت وحيثما كانت وبأية وسيلة كانت، آخذة بعين الإعتبار مصادر الخامات المحتملة وخوفا من التأخر في الصراع المسعور من أجل قطعة من العالم غير المقتسم أو من أجل إعادة تقاسم القطع التي تم تقسيمها.

يبذل الرأسماليون الإنجليز قصارى جهدهم لتطوير انتاج القطن في مستعمرتـهم مصر ففي سنة 1904 زرع القطن في 0.6 مليون هكتار من مجموع 2.3 مليون هكتار من الأراضي المزروعة، أي أكثر من الربع. ويسير الرأسماليون الروس على نفس النمط في مستعمرتـهم تركستان. ذلك لأن هذه الطريق تسهل لهم التغلب على مزاحميهم الأجانب، تسهل لهم الوصول إلى احتكار مصادر الخامات وإنشاء تروست للنسيج أكثر توفيرا وربحا ذي إنتاج « مركب » يركز في يد واحدة جميع مراحل إنتاج ومعالجة القطن.

إن مصالح تصدير الرأسمال تدفع كذلك إلى الاستيلاء على المستعمرات، لأن من الأسهل في أسواق المستعمرات (وأحيانا لا يمكن إلاّ فيها) إزاحة المزاحم بالطرق الاحتكارية وتأمين الطلب وتوطيد « العلاقات » اللازمة وهلم جرا.

إن البناء الفوقي غير الاقتصادي القائم على أساس الرأسمال المالي، سياسة وإيديولوجية هذا الأخير –كل هذا يشدد السعي إلى الاستيلاء على المستعمرات. وقد صدق هيلفردينغ إذ قال: « إن الرأسمال المالي لا يريد الحرية، بل السيطرة ». وقد قال كاتب برجوازي فرنسي، وكأنه يطور ويكمل أفكار سيسيل رودس المذكورة أعلاه(7)، أنه ينبغي أن تضاف الأسباب الاجتماعية إلى الأسباب الاقتصادية التي تنشأ عنها السياسة الاستعمارية الراهنة: « ونتيجة لاشتداد تعقد الحياة والصعوبات التي لا تضغط على جماهير العمال وحسب، بل وعلى الطبقات الوسطى، يتراكم في جميع بلدان المدنية القديمة « الضجر والنقمات والأحقاد مهددة الأمن العام؛ وطاقة خارجة عن مجراها الطبقي العادي ينبغي استخدامها، ينبغي تشغيلها في الخارج لكيلا يحدث انفجار في الداخل »(8).

وما دمنا في معرض الحديث عن السياسة الاستعمارية في عهد الإمبريالية الرأسمالية ينبغي أن نشير إلى أن الرأسمال المالي والسياسة الدولية الملازمة له التي تتلخص في الصراع بين الدول الكبرى من أجل اقتسام العالم اقتصاديا وسياسيا يخلقان جملة من أشكال انتقالية من تبعية الدول. فما يميز هذا العهد ليس فقط الفريقان الأساسيات من البلدان: المالكة للمستعمرات والمستعمرات، بل كذلك مختلف أشكال البلدان التابعة، المستقلة رسميا من الناحية السياسية والواقعة عمليا في شباك التبعية المالية والديبلوماسية. وقد سبق لنا أن أشرنا إلى شكل من هذه الأشكال – البلدان شبه المستعمرة. والأرجنتين مثلا هي نموذج شكل آخر.

فقد كتب شولتزه-غيفيرنيتز في مؤلفه عن الإمبريالية البريطانية: « إن أمريكا الجنوبية ولاسيما الأرجنتين في حالة تبعية مالية للندن لدرجة ينبغي نعتها بأنها تقريبا مستعمرة تجارية بريطانية »(9). واستنادا إلى تقارير قنصل النمسا-المجر في بوينوس آيرس في سنة 1909 قدر شيلدر الرساميل التي وظفتها إنجلترا في الأرجنتين 8.75 مليار فرنك. ومن اليسير على المرء أن يتصور مدى وثوق الصلات التي يكتسبها بحكم ذلك، الرأسمال المالي الإنجليزي – و« صديقته » الحميمة، الديبلوماسية الإنجليزية – مع برجوازية الأرجنتين وأوساطها القائدة لكامل حياتها الاقتصادية والسياسية.

والبرتغال مع استقلالها السياسي تعطينا مثلا لشكل من أشكال التبعية المالية والديبلوماسية يختلف بعض الشيء. البرتغال هي دولة مستقلة ذات سيادة، ولكنها في الواقع تحت الحماية البريطانية منذ أكثر من 200 سنة، من زمن الحرب من أجل العرش الإسباني (1701-1714). فقد دافعت إنجلترا عنها وعن مستعمراتها بقصد توطيد موقعها في الصراع ضد خصميها، اسبانيا وفرنسا. وقد حصلت إنجلترا في المقابل على منافع تجارية وعلى أفضل الشروط لتصدير البضائع ولا سيما الرساميل إلى البرتغال ومستعمراتها وعلى امكانية الاستفادة من موانئ وجزر البرتغال وخطوطها التليغرافية والخ.، وهلم جرا(10). وهذا النوع من العلاقات قد وجد على الدوام بين الدول الكبرى والصغرى، ولكنه في عهد الامبريالية الرأسمالية يغدو نظاما عاما ويكون جزءا من مجموع علاقات « تقاسم العالم »، ويصبح حلقات في سلسلة عمليات الرأسمال المالي العالمي.

ولكي ننتهي من مسألة تقاسم العالم ينبغي علينا أن نشير كذلك إلى ما يلي. إن الأدب الأمريكي والأدب الإنجليزي لم يكونا الوحيدين اللذين طرحا هذه المسألة بكل صراحة ووضوح بعد الحرب الاسبانية الأمريكية والحرب الإنجليزية البويرية في نهاية القرن التاسع عشر. والأدب الألماني الذي كان يراقب « الإمبريالية البريطانية » بكل « غيرة » لم يكن كذلك الوحيد الذي بحث هذا الواقع بصورة مستمرة. فقد طرحت هذه المسألة كذلك في الأدب البرجوازي الفرنسي بشكل جلي واسع بمقدار ما يمكن تصور ذلك من وجهة النظر البرجوازية. فلنستشهد بالمؤرخ دريو الذي كتب في مؤلفه: « القضايا السياسية والاجتماعية في نهاية القرن التاسع عشر » في فصل « الدول الكبرى وتقاسم العالم »: « في غضون السنوات الأخيرة احتلت دول أوروبا وأمريكا الشمالية جميع البقاع الشاغرة في العالم باستثناء الصين. وقد جرت على هذا الصعيد عدة منزاعات وتبدلات لمناطق النفوذ هي نذير انفجارات أفظع في المستقبل القريب. إذ أنه تنبغي السرعة: فالأمم التي لم تؤمن نفسها من هذه الناحية مهددة بعدم الحصول أبدا على حصتها وبعدم الاشتراك في استثمار الكرة الأرضية، هذا الاستثمار الهائل الذي سيكون واقعا من الوقائع الأساسية في القرن المقبل (أي العشرين). ولهذا السبب استولت على أوروبا وأمريكا جميعهما في الوقت الأخير حمى توسيع المستعمرات، حمى الإمبريالية« ، التي هي أبرز السمات المميزة لأواخر القرن التاسع عشر » ويستطرد المؤلف: « في هذا التقاسم للعالم، في هذا الركض المسعور وراء الكنوز وكبريات أسواق الأرض لا يوجد أي تناسب على الإطلاق بين القوة النسبية للإمبراطوريات المؤسسة في هذا القرن، التاسع عشر، وبين المكان الذي تحتله في أوروبا الأمم التي أسستها. فالدول المهيمنة في أوروبا والمتصرفة بمصائرها ليست مهيمنة في العالم بالقدر نفسه. ولما كانت سعة المستعمرات، والأمل بالحصول على ثروات لا تزال مجهولة، سيجدان دون شك تأثيرهما منعكسا على قوة الدول الأوروبية النسبية، فإن مسألة المستعمرات – « الإمبريالية » إن شئتم – التي قد غيرت الظروف السياسية في أوروبا نفسها ستغيرها بحكم ذلك أكثر فأكثر »(11).


(1) A. Supan. « Die territoriale Entwicklung der europäischen Kolonien ». 1906. ، ص 254 (أ. سوبان. « اتساع أراضي مستعمرات أوروبا » الناشر)
 

(2) Henry C. Morris. « The History of Colonization ». N.Y., 1900 vol. II, pp, 88; I, 419; II, 304 (هنري ك. موريس. « تاريخ الاستيلاء على المستعمرات ». نيويورك، سنة 1900، المجلد2، ص 88؛ 1، 419؛ 1، 304. الناشر).
 

(3) « Die Neue Zeit », XVI, I, 1898, S. 302.
 

(4) « Die Neue Zeit », XVI, I, 1898, S. 304.
 

(5) C. P. Lucas. « Greater Rpme and Greater Britain ». Oxf., 1912. (ك. ب. لوكاس. « روما العظمى وبريطانيا العظمى » أوكسفورد، سنة 1912. الناشر). أو Earl of Cromer. « Ancient and moderne Imperialism ».L. 1910. (الكونت كرومير. « الإمبريالية القديمة والحديثة ». لندن، سنة 1910 الناشر).
 

(6) Schilder، المؤلف المذكور، ص ص 38-42.
 

(7) راجعوا هذا الكتاب، ص 512. الناشر
 

(8) Wahl. « La France aux colonies » (فال. « فرنسا في المستعمرات ». الناشر)، نقلا عن Henry Russier. « Le Partage de l’Océanie ». P., 165 (هنري روسيه. « تقاسم أوقيانيا ». باريس، سنة 1905، ص 165. الناشر)
 

(9) Schulze-Gaevernitz. « Britischer Imperialismus und englischer Freihandel zu Beginn des 20-ten Jahrhunderts » Lpz. 1906. ، ص 318 (شولتزه-غيفيرنيتز. « الامبريالية البريطانية والتجارة الإنجليزية الحرة في أوائل القرن العشرين ». ليبزيغ، سنة 1916. الناشر). والشيء نفسه Sartorius v. Waltershausen. « Das volkswirtschaftliche System der Kapitlanlage im Auslande ». Berlin, 1907. S. 46 (سارتوريس فون فالترسهاوزن. « النظام الاقتصادي لتوظيف الرأسمال في الخارج ». برلين، سنة 1907، ص 46. الناشر).
 

(10) شيلدر، المؤلف المذكور، مجلد 1، ص ص 160-161.
 

(11) J-E Driault. « Prodlèmes politiques et sociaux ». P., 1900 ، ص299 (ج.-ي. دريو. « القضايا السياسية والاجتماعية ». باريس. الناشر)