مقدمة فريدريك انجلس لطبعة عام 1891

صدر هذا البحث أولا في سلسلة من الافتتاحيات نشرتها جريدة "Neue Rheinische Zeitung" في 1849 ابتداء من 4 أبريل (نيسان). وعماده المحاضرات التي ألقاها ماركس عام 1847، في رابطة العمال الألمان ببروكسل. ولم تتم هذه السلسلة. ذلك أن التعهد الذي ينطوي عليه تعبير "البقية تتبع" الواردة في نهاية المقال المنشور في العدد 269 من الجريدة لم يتحقق نظرا للأحداث التي تسارعت في ذلك الحين – الغزو الروسي في المجر، الانتفاضات في مدن درسدن وايزيرلون والبرفلد، وفي مقاطعتي البالاتينا وبادن –، والتي أدت إلى إلغاء الجريدة نفسها (19 مايو–أيار 1849). ولم نجد قط مخطوطة البقية في أوراق ماركس بعد وفاته.

لقد صدر "العمل المأجور والرأسمال" في كراس واحدة عدة مرات وصدر للمرة الأخيرة في عام 1884 في غوتينغين–زوريخ في "المطبعة التعاونية السويسرية". وفي جميع الطبعات الصادرة حتى الآن، طبع النص الأصلي بكل ضبط ودقة. ولكن هذه الطبعة الجديدة عبارة عن كراس للدعاية ومن المنوي نشر ما لا يقل عن 10000 نسخة منها. ولذلك تساءلت فيما إذا كان ماركس يوافق على إعادة طبع النص الأصلي دون أي تعديل والحال هذه.

في العقد الخامس لم يكن ماركس قد انتهى من وضع انتقاده للاقتصاد السياسي. ولم ينجز هذا العمل إلا في أواخر العقد السادس. ولذا فإن كتاباته التي صدرت قبل الكراس الأول من مؤلفه "مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي" (1859) تختلف في بعض النقاط عما كتبه بعد عام 1859. فهي تحتوي تعابير وجملا كاملة تبدو، بالنسبة للمؤلفات اللاحقة، غير موفقة وحتى خاطئة. مع أنه بديهي تماما أن وجهة النظر السابقة هذه، التي هي درجة من درجات تطور المؤلف فكري، إنما يجب أن تنعكس أيضا في الطبعات العادية المعدة لجمهور القراء العاديين وأن للمؤلف وللجمهور على السواء حقا ثابتا لا مراء فيه في إعادة طبع هذه الكتابات السابقة دون أي تعديل. وفي هذه الحال لن يخطر ببالي أبدا أن أبدّل فيها كلمة واحدة.

ولكن الوضع يختلف حين تكون الطبعة الجديدة معدة للدعاية بين العمال، بوجه الحصر تقريبا. فمن المؤكد في مثل هذا الوضع أن ماركس كان عدل النص السابق الذي يعود إلى عام 1849 وفقا لوجهة نظره الجديدة، وإني على ثقة بأني أعمل بروح ماركس تماما إذ ألجأ في هذه الطبعة إلى بعض التعديلات والإضافات التي لا بد منها لأجل بلوغ هذا الهدف في كل النقاط الجوهرية. ولذا أقول للقارئ سلفا: هاهو الكراس، لا كما دبجه ماركس في عام 1849، بل تقريبا كما كان من المحتمل أن يكتبه في عام 1891. هذا مع العلم أن النص الحقيقي قد صدرت منه أعداد كبيرة من النسخ إلى حد أنها تتيح الانتظار إلى أن أتمكن من إعادة طبعه فيما بعد دون أي تعديل في طبعة للمؤلفات الكاملة.

إن التعديلات التي أجريتها إنما تدور كلها حول نقطة واحدة. فما يبيعه العامل للرأسمالي لقاء الأجرة، إنما هو عمله حسب النص الأصلي، أما حسب النص الحالي فهو يبيع قوة عمله. ولا بد أن أوضح أسباب هذا التعديل. لا بد لي أن أقدم الإيضاحات للعمال لكي يروا أن المسألة ليست مجرد مسألة تعابير وكلمات، إنما هي، على العكس، نقطة من أهم النقاط في الاقتصاد السياسي بكليته. ولا بد لي أن أقدم هذه الإيضاحات للبرجوازيين لكي يقتنعوا بأن العمال الذين لم يحصلوا على أي تعليم والذين يمكن إفهامهم بسهولة أصعب الأبحاث الاقتصادية، هم أسمى بما حد له من أصحابنا "المثقفين" المتغطرسين الذين تظل مثل هذه المسائل المعقدة لغزا مغلقا على عقولهم طوال حياتهم.

إن الاقتصاد السياسي الكلاسيكي يستمد من النشاط العملي الصناعي هذه الفكرة الرائجة بين الصناعيين وهي أن الصناعي يشتري عمل عماله ويدفع أجره. وقد كانت هذه الفكرة تكفي الصناعي تماما لمباشرة الأعمال والمحاسبة وحساب الأسعار. فما أن نُقلت بكل سذاجة إلى ميدان الاقتصاد السياسي، حتى أحدثَت فيه بلبلة غريبة وتشوشا مدهشا.

إن الاقتصاد السياسي يواجه الواقع التالي، وهو أن أسعار جميع البضائع، ومنها سعر البضاعة التي يسميها "العمل" تتغير باستمرار؛ وأنها ترتفع وتهبط بفعل ظروف غاية في التنوع والتباين، وكثيرا ما لا تمت بأية صلة إلى إنتاج البضاعة نفسه، فيبدو أن الأسعار إنما تتحدد على وجه العموم بفعل الصدفة وحدها. ولكن، ما إن ظهر الاقتصاد السياسي بمظهر العلم، حتى ترتب عليه، بين مهماته الأولى، أن يجد القانون الذي يختفي وراء هذه الصدفة التي تشرف ظاهريا على أسعار البضائع، والذي يسيطر في الواقع على هذه الصدفة عينها. وضمن حدود هذه الأسعار، التي تتقلب باستمرار، وترجحاتها تارة من أدنى إلى أعلى وطورا من أعلى إلى أدنى، بحَث الاقتصاد السياسي عن النقطة الوسطية الثابتة التي تدور تدور حولها هذه التقلبات وهذه الترجحات. وبكلمة موجزة، انطلق الاقتصاد السياسي من أسعار البضائع ساعيا وراء قيمة البضائع بوصفها القانون الذي يتحكم بالأسعار، وراء القيمة التي ستساعد على تفسير جميع ترجحات الأسعار والتي يمكن نسبتها كلها إلى هذه القيمة في آخر التحليل.

والحال، أن الاقتصاد السياسي الكلاسيكي قد وجد أن قيمة البضاعة إنما يحددها العمل الضروري لإنتاجها والمتجسد فيه، واكتفى بهذا التفسير. وبوسعنا نحن أيضا أن نتوقف عنده لحظة. غير أني اجتنابا لكل سوء في الفهم، لا بد لي من أن أشير إلى أن هذا التفسير لم يبق كافيا إطلاقا في أيامنا هذه. وقد كان ماركس أول من درس بتعمق قدرة العمل على خلق القيمة ووجد أن ليس كل عمل ضروري ظاهرا أو فعلا لإنتاج بضاعة معينة يضيف، في مطلق الأحوال، إلى هذه البضاعة قدرا من القيمة يتناسب مع كمية العمل المبذول. فإذا قلنا إذن اليوم بإيجاز، مع اقتصاديين أمثال ريكاردو، أن قيمة بضاعة معينة إنما يحددها العمل الضروري لإنتاجها فإنما لا تغيب عن بالنا أبدا التحفظات التي أباها ماركس بهذا الصدد. وهذا يكفي هنا. وإننا لنجد البقية عند ماركس في كتابه "مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي" (1859) وفي المجلد الأول من "رأس المال."

ولكن ما إن طبّق الاقتصاديون طريقة تحديد القيمة بالعمل، على البضاعة "العمل" حتى راحوا في تناقض إثر تناقض. فكيف تحدد قيمة "العمل" ؟ بالعمل الضروري المتجسد فيها. ثم أي قدر من العمل ينطوي عليه عمل العامل في اليوم، في الأسبوع، في الشهر، في السنة ؟ إنه ينطوي على عمل يوم، أسبوع، شهر، سنة. فإذا كان العمل هو مقياس جميع القيم، فإننا لا نستطيع التعبير عن "قيمة العمل" إلا في العمل. ولكننا لا نعرف شيئا على الإطلاق بشأن قيمة ساعة من العمل إذا عرفنا فقط أنها تعادل ساعة من العمل. وهكذا لم نقترب من الهدف قيد شعرة ولم نفعل غير أن درنا في حلقة مفرغة.

ولذا حاول الاقتصاد السياسي الكلاسيكي استخدام طريقة أخرى. فهو يقول: إن قيمة بضاعة معينة إنما تعادل نفقات إنتاجها. ولكن، ما هي نفقات إنتاج العمل ؟ للجواب عن هذا السؤال، يضطر الاقتصاديون إلى مجافاة المنطق بعض الشيء. ولمّا كان من غير الممكن، مع الأسف، تحديد نفقات إنتاج العمل بالذات، فهم يحاولون إذ ذاك أن يعرفوا ما هي نفقات إنتاج العامل. وهذه النفقات إنما يمكن تحديدها. فهي تتغير حسب الزمن والظرف، ولكنها في أوضاع اجتماعية معينة، ومكان معين، وفرع معين من الإنتاج، معطاة، معروفة على الأقل، ضمن حدود ضيقة إلى حد ما. ونحن نعيش اليوم في ظل سيادة الإنتاج الرأسمالي حيث طبقة كبيرة من السكان، تنمو وتتكاثر يوما بعد يوم، لا تستطيع أن تعيش إلا إذا عملت لقاء أجر من أجل مالكي وسائل الإنتاج – من أدوات وآلات ومواد أولية ووسائل عيش. وعلى أساس هذا الأسلوب في الإنتاج، تتقوّم نفقات إنتاج العامل في مجمل وسائل عيشه – أو في مجمل أثمانها نقد – التي هي ضرورية، بصورة وسطية، لمده بقدرته على العمل، لإبقاء هذه القدرة حية، للاستعاضة عنه بعامل جديد إذا ما أقصاه المرض أو العمر أو الموت عن الإنتاج، أي لتمكين الطبقة العاملة من التناسل والتكاثر بالمقادير الضرورية. ولنفترض أن وسائل العيش هذه إنما يبلغ ثمنها نقدا بصورة وسطية 3 ماركات في اليوم.

فإن العامل يتقاضى إذن من الرأسمالي الذي يشغله أجرة قدرها 3 ماركات في اليوم. ولقاء هذه الأجرة، يشغله الرأسمالي، لنقل، 12 ساعة في اليوم. وفي هذه الحال يفكر الرأسمالي على النحو التالي تقريبا:

لنفترض أن العامل – وهو محكم مثل – إنما يترتب عليه أن يصنع قطعة آلة وينتهي منها في يوم واحد. ولنفترض أن المادة الأولية – الحديد والنحاس والأصفر بشكلهما الضروري المحضر سلف – تكلف 20 ماركا؛ وأن استهلاك الفحم في الآلة البخارية واستهلاك هذه الآلة البخارية نفسه، والمخرطة وسائر الأدوات التي يشتغل بها العامل، يبلغ، في يوم واحد، وبالنسبة لما يصرفه العامل، ما قيمته مارك واحد. لقد افترضنا أن أجرة العامل 3 ماركات في اليوم. وهكذا تبلغ تكاليف قطعة الآلة 24 ماركا بالإجمال. ولكن الرأسمالي يحسب أن يحصل من زبائنه على ثمن وسطي قدره 27 ماركا أي بزيادة 3 ماركات عن النفقات التي قدمها.

فمن أين جاءت هذه الماركات الثلاثة التي يضعها الرأسمالي في جيبه ؟ إن الاقتصاد السياسي الكلاسيكي يؤكد أن البضائع تباع بصورة وسطية حسب قيمته، أي بأسعار تناسب كميات العمل الضرورية التي تنطوي عليها هذه البضائع. فكأن متوسط ثمن قطعة الآلة التي اتخذناه مثالا – أي 27 مارك – يساوي قيمته، يساوي العمل المتجسد فيها. ولكن 21 ماركا من أصل هذه الماركات الـ27، كانت قيمة موجودة قبل أن يبدأ صاحبنا المحكم العمل، منها 20 ماركا تنطوي عليها المادة الأولية، ومارك واحد ينطوي عليه الفحم المحروق أثناء العمل أو الآلات والأدوات التي استخدمت لهذا الغرض ونقصت صلاحيتها للعمل بما يوازي هذا المبلغ. تبقى 6 ماركات أُضيفت إلى قيمة المادة الأولية. ولكن هذه الماركات الـ6، كما يقرّ به اقتصاديونا بالذات، لا يمكنها أن تنجم إلا من العمل الذي يضيفه عاملنا إلى المادة الأولية. وهكذا فإن عمله مدة 12 ساعة قد خلق قيمة جديدة قدرها 6 ماركات؛ وبالتالي فإن قيمة عمله مدة 12 ساعة تعادل 6 ماركات. وعلى هذا النحو نكون قد توصلنا آخر المطاف إلى اكتشاف "قيمة العمل."

"قف !" – يهتف بنا محكمنا – "6 ماركات ؟" ولكني لم أقبض إلا 3 ماركات ! إن الرأسمالي يحلف الأيمان المغلَّظة أن قيمة عملي مدة 12 ساعة لا تساوي إلا 3 ماركات وإذا طالبت بـ6، فإنه يسخر مني. فما معنى هذا ؟"

وإذا كنا بلغنا سابقا بقيمة العمل إلى حلقة مفرغة، فها نحن الآن نتيه تماما في خضم تناقض لا مخرج منه. لقد فتشنا عن قيمة العمل ووجدنا أكثر مما كان ينبغي لنا. فإن قيمة 12 ساعة عمل هي 3 ماركات بالنسبة للعامل، و6 ماركات بالنسبة للرأسمالي الذي يدفع منها للعامل أجرة 3 ماركات ويضع في جيبه الماركات الثلاثة الباقية. وهكذا يكون للعمل بالتالي لا قيمة واحدة، بل قيمتان اثنان ومتباينتان كل التباين أيضا !

ويزداد التناقض خراقة، ما إن نعيد القيم المعبَّر عنها نقدا إلى وقت العمل. ففي ساعات العمل الـ12 نشأت قيمة جديدة قدرها 6 ماركات، أي 3 ماركات في 6 ساعات، وهو المبلغ الذي تلقاه العامل لقاء 12 ساعة عمل. وهكذا فإن العامل يتلقى لقاء 12 ساعة عمل ما يعادل منتوج 6 ساعات عمل. إذن، إما أن يكون للعمل قيمتان إحداهما ضعف الأخرى، وإما أنّ 12 تساوي 6 ! وفي الحالين كليهم، نصل إلى محال، إلى خرق.

ومهما بذلنا من الجهود، فإننا لن نخرج أبدا من هذا التناقض طالما أننا نتحدث عن شراء وبيع العمل وقيمة العمل. وهذا ما حدث بالضبط لأصحابنا الاقتصاديين. فإن الشعبة الأخيرة من الاقتصاد السياسي الكلاسيكي، ونعني بها مذهب ريكاردو، قد انهارت لعجزه، بالدرجة الأولى، من حل هذا التناقض. فقد وقع الاقتصاد السياسي الكلاسيكي في مأزق. وكان كارل ماركس هو الذي وجد السبيل للخروج من هذا المأزق.

إن ما اعتبره الاقتصاديون نفقات إنتاج "العمل"، إنما كان، لا نفقات إنتاج العمل، بل نفقات إنتاج العامل الحيّ نفسه. وما يبيعه العامل للرأسمالي ليس عمله. يقول ماركس: "وما أن يبدأ العامل عمله حق، حتى يكف عمله على أن يكون ملكه، ولذا لا يعود بوسعه أن يبيعه". فأكثر ما يستطيع أن يبيعه هو عمله المقبل، أي أن يقطع على نفسه عهدا بتحقيق عمل معين في أجل معين. ولكنه، والحال هذه، لا يبيع عمله (الذي سيقوم به في المستقبل) إنما يضع تحت تصرف الرأسمالي لمدة معينة (في حالة الأجرة اليومية) أو للقيام بعمل معين (في حالة الأجرة بالقطعة) قوة عمله مقابل أجر معين؛ فهو يؤجر أو يبيع قوة عمله. غير أن قوة العمل هذه مرتبطة بشخصه ارتباطا وثيقا لا يمكن فصم عراه. ولذا فإن نفقات إنتاجها تطابق بالتالي نفقات إنتاجه هو بالذات. وما كان يسميه الاقتصاديون نفقات إنتاج العمل إنما هي بالضبط نفقات إنتاج العامل وبالتالي نفقات إنتاج قوة العمل. وبوسعنا أن نعود هكذا من نفقات إنتاج قوة العمل إلى قيمة قوة العمل، وتحديد كمية العمل الضروري اجتماعيا لإنتاج قوة عمل من كيفية معينة، كما فعل ماركس في قسم شراء وبيع قوة العمل ("رأس المال"، المجلد الأول، الفصل الرابع، الباب الثالث.)

ولكن ماذا يحدث بعد أن يبيع العامل قوة عمله من الرأسمالي، أي بعد أن يضعها تحت تصرفه مقابل أجر متفق عليه سلفا – سواء أكان أجرا يوميا أم أجرا بالقطعة ؟ إن الرأسمالي يقود العامل إلى مشغله أو إلى مصنعه حيث تتوافر جميع الأشياء الضرورية لعمله من مواد أولية، ومنتجات ثانوية (فحم، أصباغ، الخ.)، وأدوات، وآلات. وفي هذا المشغل أو في ذاك المصنع، يشرع العامل يكدح ويعمل. وأجرته اليومية، كما سبق وافترضنا آنف، 3 ماركات، – سواء أكسبها بالمياومة أو بالقطعة، فالأمر سيان. ونحن نفترض أيضا في هذه الحال أن العامل، بعمله مدة 12 ساعة، إنما يضمِّن المواد الأولية المستخدمة قيمة جديدة قدرها 6 ماركات، وهذه القيمة الجديدة يحققها الرأسمالي ببيع القطعة بعد الانتهاء من صنعها. ومن هذه الماركات الستة، يدفع 3 ماركات للعامل، ويحتفظ لنفسه بالماركات الثلاثة الباقية. وهكذ، إذا خلق العامل في 12 ساعة قيمة قدرها 6 ماركات، فإنه يخلق في 6 ساعات قيمة قدرها 3 ماركات. فهو إذن، حين يشتغل 6 ساعات للرأسمالي، يرد للرأسمالي ما يعادل الماركات الثلاثة التي قبضه، أو الأجرة. فبعد 6 ساعات عمل، يكون كل منهما قد أبرأ ذمته تجاه الآخر ولا يترتب لأحدهما على الآخر أي شيء.

وإذا الرأسمالي يصرخ الآن: "رويدك ! لقد استأجرت العامل ليوم كامل، لـ 12 ساعة. و6 ساعات ليست سوى نصف يوم. إذن، اكدح واعمل حتى تنتهي أيضا الساعات الست الأخرى – وحينذاك فقط، يبرئ كل منّا ذمته تجاه الآخر !". ويجب على العامل أن يخضع بالفعل للعقد الذي قبِل به "بملء إرادته" والذي تعهد فيه بالعمل 12 ساعة كاملة مقابل منتوج يكلف 6 ساعات عمل.

والحالة نفسها تماما في العمل بالقطعة. لنفترض أن عاملنا يصنع في 12 ساعة 12 قطعة من البضاعة عينها. وكل قطعة تكلف ماركين من المواد الأولية واستهلاك الآلات وتباع بماركين ونصف مارك. فإذا استندنا إلى الافتراضات السابقة نفسه، فإن الرأسمالي يعطي العامل 25 بفينيغا بالقطعة، أي أنه يعطيه مقابل 12 قطعة 3 ماركات ظل العامل يكدح 12 ساعة لكسبها. أما الرأسمالي، فيقبض مقابل الـ12 قطعة 30 ماركا؛ وبعد حسم 24 ماركا من هذا المبلغ مقابل المادة الأولية وتلف الآلات يبقى 6 ماركات يدفع الرأسمالي منها 3 ماركات أجرة ويضع في جيبه 3 ماركات كما في الحالة الأولى. ففي الحالة الثانية أيض، يشتغل العامل 6 ساعات لنفسه، أي تعويضا لأجره (نصف ساعة في كل من الـ12 ساعة) و6 ساعات للرأسمالي.

إن الصعوبة التي تحطمت عليها جهود خيرة الاقتصاديين طالما أنهم انطلقوا من قيمة "العمل" تزول ما إن ننطلق من قيمة "قوة العمل" لا من قيمة "العمل". فإن قوة العمل هي في مجتمعنا الرأسمالي الحالي، بضاعة كجميع البضائع الأخرى، ولكنها مع ذلك بضاعة من نوع خاص تماما. فإنها بالفعل تتصف بميزة خاصة تتقوم في كونها قوة تخلق القيمة، في كونها ينبوع قيمة، بل أكثر من ذلك، إذ أنها تخلق عند استخدامها بصورة ملائمة، قيمة تفوق القيمة التي تملكها هي نفسها. وفي حالة الإنتاج الراهنة، لا تنتج قوة العمل الإنساني فقط في يوم واحد قيمة أكبر من القيمة التي تملكها والتي تكلفها هي نفسها؛ فلدن كل اكتشاف علمي جديد، لدن كل اختراع تكنيكي جديد، يزداد هذا الفائض من المنتوج اليومي لقوة العمل على كلفتها اليومية، وبالتالي يقل القسم من يوم العمل، الذي يقدم فيه العامل ما يعادل أجره اليومي، في حين يزداد من جهة أخرى القسم من يوم العمل، الذي يضطر فيه إلى تقديم عمله للرأسمالي دون أي مقابل.

هكذا هو النظام الاقتصادي لكل مجتمعنا الحالي: فإن الطبقة العاملة وحدها هي التي تنتج جميع القيم. لأن القيمة ليست سوى شكل آخر للعمل، ليست سوى التعبير الذي تُعيَّن به في مجتمعنا الرأسمالي الحالي كمية العمل الضروري اجتماعيا المتجسد في بضاعة معينة. ولكن هذه القيم التي ينتجها العمال لا تخص العمال. إنما تخص مالكي المواد الأولية، والآلات، والأدوات، والسلفيات المالية التي تتيح لهم شراء قوة عمل الطبقة العاملة. وهكذا لا يعود إلى الطبقة العاملة من مجمل المنتجات التي تبدعها سوى قسم فقط. إن القسم الثاني الذي تحتفظ به الطبقة الرأسمالية والذي يترتب عليها على الأكثر أن تتقاسمه أيضا مع طبقة الملاكين العقاريين، يزداد أكثر فأكثر، كما سبق ورأين، لدن كل اكتشاف واختراع جديد، في حين أن القسم العائد إلى الطبقة العاملة (محسوبا بالنسبة لكل فرد من أفرادها) إما أنه لا يزداد إلا ببطء شديد وبصورة طفيفة لا يُؤبه له، وإما أنه يجمد على حاله وأما أيضا أنه ينقص في بعض الأحوال.

ولكن هذه الاكتشافات والاختراعات التي يزيح بعضها بعضا بسرعة متزايدة على الدوام، وهذا المردود من العمل الإنساني الذي ينمو كل يوم بمقاييس لم يُسمع لها مثيل، إنما تستثير في آخر المطاف نزاعا لا بدّ أن يودي بالاقتصاد الرأسمالي الراهن. فمِن جهةٍ، ثروات لا عدّ لها وفائض من المنتجات لا يستطيع المستهلكون شراءه. ومن جهة أخرى، السواد الأعظم من أفراد المجتمع الذين تحولوا إلى بروليتاريين، إلى أجراء، وغدوا بالتالي عاجزين عن امتلاك هذا الفائض من المنتجات. وانقسام المجتمع إلى طبقة صغيرة لا حد لغناها وإلى طبقة كبيرة من الأجراء غير المالكين يجعل هذا المجتمع يختنق في وفرته بالذات في حين أن الأغلبية الكبرى من أفراده تكاد تكون غير محميّة، أو حتى هي غير محميّة إطلاقا من غائلة البؤس المدقع. وهذا الوضع، إنما يشتد يوما بعد يوم ما يتصف به من طابع أخرق لا فائدة منه. ولذا فإن إزالته ضرورية وممكنة. ومن الممكن قيام نظام اجتماعي جديد حيث تزول الفوارق الحالية بين الطبقات وحيث – ربما بعد مرحلة انتقال قصيرة، عجفاء لحد م، ولكنها على كل حال مفيدة جدا أخلاقي – بفضل استخدام قوى المجتمع الإنتاجية الهائلة القائمة استخداما منهاجي، وبفضل استمرار تطور هذه القوى، وبفضل العمل الإلزامي والمتساوي بالنسبة للجميع، – توضع أيضا وسائل الحياة والتمتع بالحياة والتطور والإفادة من كل مواهب الجسد والفكر تحت تصرف الجميع وبوفرة متنامية على الدوام. والدليل على أن العمال يوطدون العزم أكثر فأكثر على الظفر بهذا النظام الاجتماعي الجديد عن طريق النضال إنما يقدمه لنا من على جانبي المحيط يوم أول مايو (أيار) غدا ويوم الأحد القادم، 3 مايو (أيار).

لندن، 30 أبريل (نيسان) 1891
فريدريك انجلس