فريديريك انجلز

أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة

العائلة

IV
العائلة الأحادية

إنها تنشأ، كما سبق وقلنا، من العائلة الثنائية، في المرحلة الواقعة بين الطورين الأوسط والأعلى من أطوار البربرية. وانتصارها النهائي هو إحدى العلائم على بداية عصر الحضارة. إن هذه العائلة تقوم على سيادة الزواج مع الرغبة الصريحة في ولادة أولاد تكون أبوتهم ثابتة لا جدال فيها، وثبوت الأبوة هذا ضروري لأن الأولاد سيملكون أموال والدهم ذات يوم بوصفهم ورثته المباشرين. وهي تمتاز عن الزواج الثنائي بكون عرى الزواج أمتن بكثير، وبأنه لم يعد من الممكن فسخ هذه العرى كلما طاب لأحد الزوجين. فالزوج وحده على العموم، هو الذي يسعه الآن أن يفسخ هذه العرى ويطلّق امرأته. ثم أن حق الخيانة الزوجية لا يزال مضموناً له في الوقت الحاضر أيضاً، وأن بحكم العرف والعادة على الأقل،( إن Code Napoléon *[1] تمنح الزوج هذا الحق بكل وضوح، شرط ألا يأتي بعشيقته إلى المنزل العائلي (58) )، وهذا الحق يمارس على نطاق أوسع فأوسع بقدر ما يستمر التطور الاجتماعي. أما إذا تذكرت الزوجة الممارسة الجنسية القديمة وأرادت أن تستأنفها، فإنها تتعرض لعقاب أقسى مما في أي وقت مضى.

إن شكل العائلة الجديد يظهر أمامنا بكل صرامته عند الإغريق. فإن دور الآلهات أي الميثولوجيا، كما لاحظ ماركس (59) ، يصور لنا عهداً أسبق كانت فيه النساء يشغلن مركزاً أوفر حرية وتقديراً واحتراماً، أما في العهد البطولي، فإننا نجد المرأة منحطة المقام من جراء سيادة الرجل ومزاحمة العبدات. حسبنا أن نقرأ في “الأوذيسة” كيف يقاطع تيليماك أمه ويجبرها على السكوت (60) . وفي مؤلفات هوميروس، تصبح النساء الشابات الأسيرات عرضة لأهواء المنتصرين الجنسية، فإن القادة العسكريين يختارون لأنفسهم بالدور وتبعاً لمراتبهم أجمل الأسيرات، وجميع أحداث “الإلياذة” تدور، كما هو معروف، حول النزاع بين أخيل وأغممنون على إحدى العبدات. ومع كل بطل هوميري على جانب ما من الأهمية، يرد اسم الفتاة الأسيرة التي يشاطرها خيمته وسريره. وهؤلاء الفتيات يأخذونهن أيضاً إلى الوطن وإلى البيت الزوجي، كما فعل مثلاً، عند إسخيلوس، أغممنون مع كاسندرا (61) . والأولاد الذين يولدون من هذه العبدات ينالون نصيباً صغيراً من إرث الوالد ويعتبرون مواطنين أحراراً. فإن توكر، مثلاً، ابن تيلامون غير الشرعي، يحق له أن يتسمى باسم والده. والمطلوب من الزوجة الشرعية أن تتحمل كل هذا، وأن تتقيد بكل دقة بواجب العفاف وواجب الأمانة الزوجية. صحيح أن المرأة اليونانية من العهد البطولي تتمتع باحترام يفوق احترام المرأة في عصر الحضارة، إلا أنها في آخر المطاف ليست بالنسبة لزوجها أكثر من أم ورثته الشرعيين المولودين في ظل الزواج، والمديرة العليا لبيته والمراقبة العليا لعبداته اللواتي يستطيع أن يجعل منهن، حسبما يطيب له، ويجعل منهن فعلاً، عشيقات له. وأن وجود العبودية إلى جانب أحادية الزواج، ووجود العبدات الجميلات الفتيات الخاضعات لمطلق تصرف الرجل، هو الذي أضفى على أحادية الزواج منذ البدء طابعها الخاص، إذ جعل منها أحادية زواج بالنسبة للمرأة فقط، لا بالنسبة للرجل. وهذا الطابع لا تزال تحتفظ به في أيامنا.

و يجدر التمييز عند اليونانيين من مرحلة لاحقة بين الدوريين والأيونيين. فعند الأوائل الذين كانت إسبرطة مثالهم الكلاسيكي، كانت علاقات الزواج في العديد من النواحي أكثر بدائية حتى من تلك العلاقات التي صورها هوميروس. وفي إسبرطة، يسود الزواج الثنائي معدلاً حسب المفاهيم السبارطية عن الدولة، ناهيك بأنه يشبه الزواج الجماعي في كثير من الجوانب. والزواج بلا أولاد يُحَلْ: فإن الملك أنكسندريداس (السنة 560 قبل الميلاد) اتخذ لنفسه زوجة ثانية بالإضافة إلى زوجته العاقر، وأسس اقتصادين بيتيين، وفي الوقت نفسه تقريباً، اتخذ الملك أريستون، الذي كانت عنده زوجتان عاقران، زوجة ثالثة، ولكنه طلّق بالمقابل إحدى الزوجتين الأوليين. ومن جهة أخرى، كان من الممكن أن يكون لبضعة أخوة زوجة واحدة مشتركة. وكان بوسع الرجل الذي تعجبه زوجة صديقه أن يشاطره إياها، وكانوا يعتبرون من اللائق أن يضع الرجل زوجته تحت تصرف “فحل” قوي، كما كان يقول بيسمارك، حتى وإن لم يكن هذا “الفحل” من عداد المواطنين. وعند بلوتارك مقطع ترسل فيه إسبرطية إلى زوجها محباً لها يحاول كسب حبها، ومن هذا المقطع يمكن الاستنتاج، على حد قول شومان، أنه كانت تسود في الأخلاق حرية أوسع وأكبر (62) . ولهذا كانت المخالفة الفعلية للأمانة الزوجية، أي خيانة الزوجة لزوجها، عملاً غريباً خارقاً. ومن جهة أخرى، لم تعرف إسبرطة، في خيرة عهودها على الأقل،العبودية البيتية، وكان الهيلوت الاقنان يعيشون على حدة في العقارات، ولهذا كانت احتمالات إغراء نسائهم أقل عند الإسبرطيين (63) . وبحكم جميع هذه الظروف، كان من الطبيعي أن تحظى النساء في إسبرطة بمركز مشرف أكثر بكثير مما عند اليونانيين الآخرين. وكانت النساء الإسبرطيات وخير قسم من الهيتيرات الآثينيات النساء الوحيدات في اليونان اللواتي كان الأقدمون يتحدثون عنهن باحترام ويعتبرون أقوالهن جديرة بالاستشهاد بها.

و الحال مختلف تماماً عند الأيونيين الذين كانت أثينا نموذجاً لهم. فقد كانت الفتيات لا يتعلمن غير الغزل والحياكة والخياطة، وكن في أفضل الأحوال يتعلمن أيضاً قليلاً من القراءة والكتابة. وكن يعشن في عزلة تامة تقريباً، ولا يعاشرن غير نساء أخريات. وكان مخدع النساء في قسم خاص منعزل من البيت، في الطابق الأعلى أو في مؤخرة البيت، ولم يكن من السهل على الرجال، ولا سيما الغرباء منهم التسرب إلى هذا القسم، وإلى هذا القسم كانت تنسحب النساء عندما يزور الرجال البيت. وكن لا يخرجن بدون مصاحبة العبدات. وفي البيت كن يخضعن لرقابة فعلية. ويتحدث أرستوفانس عن كلاب حراسة كانوا يستخدمونها لتخويف مخالفي الأمانة الزوجية (64) ، وفي المدن الآسيوية على الأقل، كانوا يستخدمون لمراقبة النساء الخصيان الذين كانوا يصنعونهم في زمن هيرودوتس في جزيرة خيوس لأجل المتاجرة بهم والذين كان يشتريهم كما يقول فاكسموت، البرابرة (65) وغير البرابرة أيضاً. وينعت أوريبيدس المرأة oikurema (66) ، وتعني شيئاً ألأجل تدبير شؤون البيت (و الكلمة من الجنس المحايد**[2])، وعلاوة على إنتاج الأولاد، لم تكن بالفعل بالنسبة للأثينيين إلا الخادمة الرئيسية. وكان الزوج يمارس تمارينه الرياضية ويقوم بشؤونه العامة التي كانت المرأة مقصية عنها، وفضلاً عن ذلك كانت عنده في كثير من الأحيان عبدات لتلبية رغائبه، كما كان يستفيد في زمن ازدهار أثينا من بغاء واسع الانتشار وموضوع على كل حال تحت حماية الدولة. وعلى أساس هذا البغاء بالذات، نشأت وتطورت نماذج ساطعة فريدة من نساء يونانيات كن، بذكائهن وذوقهن الفني، أعلى من المستوى العام لنساء الأزمنة القديمة، مثلما كانت الإسبرطيات أعلى بطبعهن. وهكذا كان ينبغي للمرأة أن تصبح من الهيتيرات لكي تصبح امرأة حقيقية، وهذا الواقع كان أقسى حكم على العائلة الأثينية.

و مع مرور الزمن غدت هذه العائلة الأثينية نموذجاً أخذ يقلده، لا سائر الأيونيين وحسب، بل أيضاً وأكثر فأكثر، جميع اليونانيين سوءا أفي داخل البلد أم في المستعمرات، ويبنون بموجبه أوضاعهم البيتية. ولكن اليونانيات كن يجدن في أحيان كثيرة جداً، ورغم المراقبة والعزل، الفرصة لخداع أزواجهن وخيانتهم، وكان هؤلاء يخجلون من إبداء أي شعور من الحب لزوجاتهم، ويتلهون بشتى المغامرات الغرامية مع الهيتيرات، ولكن إذلال النساء ثأر لنفسه مع الرجال أنفسهم إلى حد أنه دفعهم إلى ممارسة اللواط مع الغلمان، وإلى الحط من كرامة آلهتهم وكرامتهم بالذات بأسطورة غانيميد.

و هكذا نشأت أحادية الزواج، بقدر ما يمكننا أن نتتبع نشوءها عند أكثر شعوب العالم القديم حضارة وأكثرها تطوراً. فلم تكن أبداً ثمرة الحب الجنسي الفردي، ولم يكن يجمع بينها وبينه أي جامع على الإطلاق، لأن الزواج ظل كما من قبل زواج انتفاع. وقد كانت أول شكل للعائلة لم يرتكز على الشروط الطبيعية، بل ارتكز على الشروط الاقتصادية، ونعني بها انتصار الملكية الخاصة على الملكية المشتركة البدائية والعفوية. سيادة الزوج في العائلة وولادة أولاد لا يمكن أن يكونوا غير أولاده من دمه وصلبه، ولا بد لهم أن يرثوا ثروته في المستقبل، -ذلك كان الهدف الوحيد من الزواج الأحادي، كما نادى به اليونانيون بلا لبس ولا إبهام. وما عدا ذلك، كان الزواج الأحادي عبئاً عليهم وواجباً حيال الآلهة والدولة وأجدادهم بالذات، كان ينبغي أداؤه. وفي أثينا كان القانون لا يفرض الزواج وحسب، بل وأداء الزوج الحد الأدنى مما يسمى بالواجبات الزوجية.***[3]

و عليه لا يدخل الزواج الأحادي إطلاقاً في التاريخ بوصفه اتحاداً اختيارياً بين المرأة والرجل، ولا حتى بوصفه الشكل الأعلى لهذا الاتحاد. بل بالعكس. فهو يظهر كاستعباد جنس من قبل الآخر، كإعلان لتناقض بين الجنسين لم يعرفه التاريخ كله من قبل. وإني أجد في مخطوطة قديمة غير مطبوعة وضعتها أنا وماركس في عام 1864 ما يلي:
“إن أول تقسيم للعمل كان بين الرجل والمرأة لأجل إنتاج الأولاد”(67) .

و بوسعي الآن أن أضيف إلى هذا القول: إن أول تضاد بين الطبقات ظهر في التاريخ يصادف تطور التناحر بين الزوج والزوجة في ظل الزواج الأحادي، وأول اضطهاد طبقي يصادف استعباد جنس النساء من قبل جنس الرجال. لقد كان الزواج الأحادي تقدماً تاريخياً كبيراً، ولكنه يدشن في الوقت نفسه، إلى جانب العبودية والثروة الخاصة، تلك المرحلة التي لا تزال مستمرة حتى أيامنا، والتي يعني فيها كل تقدم تراجعاً نسبياً، والتي يتحقق فيها ازدهار وتطور البعض بآلام البعض الآخر وقمعه. إن الزواج الأحادي إنما هو هذه الخلية من المجتمع المتمدن التي تمكننا من دراسة طبيعة التناحرات والتناقضات المتطورة تماماً في قلب هذا المجتمع.

إن الحرية النسبية القديمة في العلاقات الجنسية لم تزل كلياً مع انتصار الزواج الثنائي أو حتى مع انتصار الزواج الأحادي.

“إن نظام الزواج القديم، الذي حُصِرَ ضمن حدود أضيق نتيجة لاندثار الجماعات البونالوانية تدريجياً، كان لا يزال تلك البيئة التي تطورت فيها العائلة، وظل يعيق تطورها حتى عصر الحضارة الناشئة… ولقد زال في آخر المطاف بتحوله إلى شكل جديد للهيتيرية لا يزال يتبع الناس في عصر الحضارة أيضاً أشبه بظل أسود يخيم على العائلة”(68) .

و يقصد مورغان بالهيتيرية العلاقات الجنسية خارج الزواج بين الرجال والنساء غير المتزوجات، القائمة إلى جانب الزواج الأحادي، وقد كانت هذه العلاقات، كما هو معروف، مزدهرة بأكثر الأشكال تبايناً في سياق عصر الحضارة كله وأخذت تتحول أكثر فأكثر إلى بغاء سافر. إن هذه الهيتيرية تنجم مباشرة من الزواج الجماعي، من مجامعة الغرباء التي كانت النساء يشترين بها حقهن في العفاف. لقد كانت المجامعة من أجل المال عملاً دينياً في البدء. وكانت تجري في معبد آلهة الحب، وكان المال يعود في البدء إلى خزينة المعبد. فإن الهييرودول (69) ، خادمات أنايتيس في أرمينيا، وخادمات أفروديت في كورنثيا، وكذلك الراقصات الدينيات المحلقات بالمعابد في الهند، اللواتي يسمونهن بـ”البايادير”(و هذه الكلمة تشويه للكلمة البرتغالية bailadeira وتعني راقصة) كن أولى الباغيات. كانت مجامعة الرجال الغرباء في البدء واجب كل امرأة، ثم غدت من نصيب هؤلاء الكاهنات وحدهن، كأنما يقمن بها عوضاً عن جميع النساء الأخريات. وعند شعوب أخرى، تنجم الهيتيرية من الحرية الجنسية الممنوحة للفتيات قبل الزواج، وهي أيضاً بالتالي بقية من الزواج الجماعي، إلا أنها بقية وصلت إلينا بسبيل آخر. ومع ظهور التفاوت في الملكية، أي في الطور الأعلى من البربرية، أخذ العمل المأجور يظهر هنا وهناك إلى جانب عمل العبد، كما أخذ احتراف البغاء من قبل النساء الحرات يظهر في الوقت نفسه إلى جانب إكراه العبدة على مجامعة الرجال، بوصفه مرافقاً لازماً للعمل المأجور. ولهذا كان الإرث الذي تركه الزواج الجماعي للحضارة مزدوجاً، كما هو مزدوج، وذو وجهين، وذو حدين ومناقض كل ما تصنعه الحضارة: فمن جهة، أحادية الزواج، ومن جهة أخرى الهيتيرية مع شكلها المتطرف، البغاء. إن الهيتيرية إنما هي أيضاً مؤسسة اجتماعية ككل مؤسسة أخرى، وهي تؤمن استمرار وجود الحرية الجنسية القديمة- في صالح الرجال. إنها تتعرض للشجب قولاً، مع إنها في الواقع لا تلقى التساهل والتغاضي وحسب، بل تمارس على نطاق واسع ولا سيما من قبل الطبقات السائدة. ولكن هذا الشجب لا يقصد إطلاقاً الرجال الذين يمارسونها، بل يقصد النساء فقط، فيعاملونهن باحتقار وينبذونهن من المجتمع لكي ينادوا على هذا النحو مرة أخرى بسيادة الرجال المطلقة على جنس النساء قانوناً أساسياً من قوانين المجتمع.

و لكن تناقضاً ثانياً أخذ إلى جانب هذا يتطور في قلب أحادية الزواج نفسها. فإلى جانب الزوج الذي يرفه حياته بالهيتيرية، تعيش الزوجة المتروكة. إن أحد جانبي التناقض غير ممكن بدون الآخر، كما لا يمكن أن تكون في اليد تفاحة بكاملها بعد أكل نصفها. ولكن الرجال لم يكونوا، على ما يبدو، يرون هذا الرأي طالما لم تحملهم زوجاهم على أن يروه. فمع الزوج الأحادي يظهر على الدوام نموذجان اجتماعيان مميزان لا سابق لهما، هما عشيق الزوجة الدائم والزوج المخدوع. لقد تغلب الرجال على النساء، ولكن المغلوبات هن اللواتي تسامحن وأخذن على عاتقهن بسخاء وكرامة وضع الأكاليل على رؤوس المنتصرين. فإن الزنى، الممنوع، المعاقب بصرامة، ولكن الذي يستحيل القضاء عليه، قد أصبح، إلى جانب الزواج الأحادي والهيتيرية، مؤسسة اجتماعية راسخة. وكما من قبل، ظلت صحة الأبوة، صحة تحدر الأولاد من الوالد الشرعي، ترتكز، أكثر ما ترتكز، على القناعة الأخلاقية، المعنوية، ولأجل حل هذا التناقض المستعصي، نصت قوانين نابليون في المادة 312 منها على ما يلي:

“L’enfant conçu pendant le mariage a pour père le mari” “الزوج هو والد الولد الذي تحبل به أمه أثناء الزواج”.

تلك هي النتيجة الأخيرة لثلاثة آلاف سنة من الزواج الأحادي.

إن العائلة الفردية، -عندما تبقى أمينة لمنشئها التاريخي، وعندما يكتسب التناقض بين الرجل والمرأة فيها طابعاً واضحاً بحكم سيادة الرجل المطلقة،- تعطينا إذن صورة مصغرة عن تلك التناحرات والتناقضات التي يتحرك في داخلها المجتمع المنقسم إلى طبقات منذ بداية عصر الحضارة، والتي لا يستطيع هذا المجتمع لا حلها ولا التغلب عليها. وغني عن البيان أني لا أقصد هنا غير حالات الزواج الأحادي التي تطابق فيها الحياة الزوجية بالفعل الفروض النابعة من طابع هذه المؤسسة الأصلي، الأولي، والتي تثور فيها الزوجة مع ذلك على سيادة الزوج. أما أن الزواجات لا تجر على هذا النحو، فليس ثمة من يعرف هذا خيراً من التافة الضيق الأفق الألماني الذي يعجز عن أن يكون سيداً سواء في عائلته أم في الدولة. ولهذا تستأثر زوجته بكامل الحق بسلطة الزوج التي لا يستحقها. ولكنه بالمقابل يتصور أنه أعلى بكثير من رفيقه الفرنسي في التعاسة الذي يصطدم أكثر منه بكثير بمصاعب ومنغصات أشد وأسوأ.

و من جهة أخرى، لم تتخذ العائلة الفردية إطلاقاً في كل مكان وكل زمان الشكل الكلاسيكي الصارم الذي اتخذته عند اليونانيين. فعند الرومان الذين كانوا يتحلون، بوصفهم فاتحي العالم العتيدين، بنظرة إلى الأمور أكثر اتساعاً وإن كانت أقل دقة، من نظرة اليونانيين، كانت الزوجة تتمتع بمزيد من الحرية ومزيد من الاحترام. وكان الروماني يعتقد أن الأمانة الزوجية مؤمنة كفاية بفضل ما يملكه من حق الحياة والموت على زوجته. وفضلاً عن ذلك، كان بمقدور الزوجة هنا، مثلها مثل الزوج، أن تفسخ الزواج حين يطيب لها. ولكن أكبر تقدم تحقق في تطور الزواج الأحادي إنما تحقق، بلا ريب، مع دخول الجرمان حلبة التاريخ، لأن أحادية الزواج لم تكن بعد، على ما يبدو، قد تطورت في ذلك الوقت من الزواج الثنائي، وذلك بسبب فقرهم على الأرجح. ونحن نخلص إلى هذا القول استناداً إلى ظروف ثلاثة ذكرها تاقيطس. أولاً، رغم كل قداسة الزواج، “كانوا يكتفون بزوجة واحدة، وكانت النساء يعشن محصنات بعفافهن”(70) ،

و مع ذلك، كان تعدد الزوجات منتشراً عندهم بين الأعيان وزعماء القبائل، مثلما كان الحال عند الأميركيين الذين كان يوجد عندهم الزواج الثنائي. ثانياً، لا بد أن الانتقال من الحق الأمي إلى الحق الأبوي كان آنذاك حديث العهد، لأن أخ الأم، – وهو أقرب نسب لها بين الرجال في العشيرة بموجب الحق الأمي- كان يعتبر تقريباً نسيباً أقرب إليها من والدها بالذات، وهذا ما يطابق كذلك وجهة نظر الهنود الحمر الأميركيين لفهم ماضينا بالذات. ثالثاً، كانت النساء عند الجرمان يتمتعن بقدر كبير من الاحترام ويؤثرن تأثيراً كبيراً في الشؤون العامة، الأمر الذي يناقض تماماً سيادة الرجال الملازمة لأحادية الزواج. وفي كل هذا تقريباً، لا يتميز الجرمان عن السبارطيين الذين كان الزواج الثنائي عندهم لم يندثر بعد كلياً، كما سبق ورأينا. ومن هذه الناحية أيضاً، أحرز إذن عنصر جديد تماماً، مع الجرمان، سيطرته على العالم. فإن أحادية الزواج الجديدة التي تطورت على أنقاض العالم الروماني في سياق تخالط الشعوب، أضيفت على سلطان الرجال أشكالاً أخف، ومنحت النساء، وإن في الظاهر، وضعاً أوفر احتراماً وحرية لم تعرفه يوماً الأزمنة القديمة الكلاسيكية. وبذلك أنشئت للمرة الأولى المقدمة التي استطاع على أساسها أن يتحقق، إطلاقاً من أحادية الزواج، – في داخلها، أو إلى جانبها، أو رغما عنها، حسب الظروف،- أعظم تقدم أخلاقي نحن مدينون به لها، عنيت به الحب الفردي العصري بين الجنسين الذي كان العالم القديم كله يجهله.

و لكن هذا التقدم نجم على وجه الضبط من أن الجرمان كانوا لا يزالون يعيشون في مرحلة العائلة الثنائية وأنهم أدخلوا على أحادية الزواج، بقدر ما كان ذلك ممكناً، وضع المرأة الذي كان يطابق العائلة الثنائية. فإن هذا التقدم لم ينجم أبداً مما نسب إلى الجرمان من فطرة أسطورية عجيبة على نقاوة الأخلاق، تقتصر، من حيث جوهر الأمر، على كون الزواج الثنائي يخلو بالفعل من التناقضات الأخلاقية الحادة الملازمة لأحادية الزواج. بل بالعكس، فإن الجرمان قد انحطوا كثيراً من الناحية الأخلاقية في سياق هجراتهم، ولا سيما في اتجاه الجنوب الشرقي، إلى مستوى رحل سهوب ساحل البحر الأسود، وأخذو عن هؤلاء الرحل، فضلاً عن فن ركون الخيل، عيوبهم الشنيعة المنافية للطبيعة، الأمر الذي يشهد عليه بكل وضوح أميان فيما يتعلق بالتايفال وبروكوبيوس فيما يتعلق بالهيرول (71) .

و لكن إذا كانت أحادية الزواج بين جميع لأشكال المعروفة من العائلة الشكل الوحيد الذي أمكن أن ينشأ منه ويتطور الحب الجنسي الحالي، العصري، فإن هذا لا يعني أن هذا الأخير قد تطور في قلب أحادية الزواج بوجه الحصر، أو حتى بصورة رئيسية بوصفه حباً متبادلاً بين الزوج وزوجته، فإن طبيعة الزواج الأحادي المتين ذاتها كانت تستبعد ذلك في ظل سيادة الزوج. وعند جميع الطبقات النشيطة تاريخياً، أي عند جميع الطبقات السائدة، بقي عقد الزواج كما كان عليه منذ الزواج الثنائي، أي صفقة يعقدها الآباء. وعندما ظهر الحب الجنسي للمرة الأولى في التاريخ بشكل عشق، وبوصفه عشقاً في منال كل فرد (من الطبقات السائدة على الأقل)، بوصفه أعلى شكل للغريزة الجنسية،- الأمر الذي يشكل طابعه الخاص المميز،- لم يكن هذا الشكل الأول، الحب الفروسي في القرون الوسطى، حباً زوجياً على الإطلاق. بل بالعكس. فإن الحب الفروسي بشكله الكلاسيكي، عند البروفنساليين، يسعى بكل أشرعته نحو انتهاك الأمانة الزوجية، وشعراؤه ينشدون هذا السعي. إن زهرة الشعر الغزلي (72) البروفنسالي هي أغاني “ألبا” albas، وبالإلمانية Tageliede (أغاني الصباح، التصبيحات). إن هذه التصبيحات تصور بألونا ساطعة كيف ينام الفارس في سرير حسنائه،- وهي امرأة رجل آخر،- بينا يقف في الخارج حارس ينبئه بأولى تباشير الصباح alba لكي يتمكن من التملص دون أن يراه أحد، ثم يلي مشهد الوداع، وهو ذروة الأغنية. إن سكان فرنسا الشمالية، وكذلك الألمان البواسل تبنوا هم أيضاً هذا الضرب من الشعر مع طرائق الحب الفروسية التي تناسبه، وقد ترك صاحبنا العجوز ولفرام فون إيشنباخ حول هذا الموضوع الحساس، ثلاث أغنيات رائعة تعجبني أكثر مما تعجبني قصائده البطولية الطويلة الثلاث.

في أيامنا يجري عقد الزواج في البيئة البرجوازية بطريقتين. ففي البلدان الكاثوليكية، يبحث الوالدان، كما من قبل، عن زوجة تليق بشاب ابن برجوازي، وهذا ما يؤدي بالطبع إلى تطور التناقض الملازم لأحادية الزواج أكمل التطور، أي إلى ازدهار الهيتيرية من جانب الزوج، وإلى ازدهار الخيانة الزوجية من جانب الزوجة. وإذا كانت الكنيسة الكاثوليكية قد حرمت الطلاق، فلسبب واحد فقط، كما ينبغي الظن، هو أنها اقتنعت بأنه لا مفر من الخيانة الزوجية كما لا مفر من الموت. أما في البلدان البروتستانتية، فالأمر بالعكس، فإن ابن البرجوازي يتمتع، على العموم، بحق اختيار زوجة له من بنات طبقته، بهذا القدر أو ذالك من الحرية، ولهذا يمكن أن يكون الحب، بقدر ما، أساساً لعقد الزواج، ناهيك بأنه ينبغي دائماً، بحكم اللياقة، افتراض وجوده تبعاً لروح الرياء البروتستانتي. وهنا يمارس الزوج الهيتيرية بأقل من الحمية، بينا خيانة الزوجة أقل حدوثاً. ولكن بما أن الناس يبقون في ظل الزواج، أياً كان شكله، مثلما كانوا من قبله، وبما أن البرجوازيين في البلدان البروتستانتية هم بمعظمهم تافهون ضيقوا الأفق، فإن أحادية الزواج البروتستانتية هذه، حتى في أفضل الأحوال، لا تؤدي مع ذلك، إلا إلى مساكنة زوجية مملة لا تطاق يسمونها بالسعادة الزوجية. وخير مرآة لهذين النوعين من الزواج هي الرواية، الرواية الفرنسية لآجل الزواج الكاثوليكي والرواية الألمانية لأجل الزواج البروتستانتي. وفي كل من الروايتين، “ينال الرجل نصيبه”: في الرواية الألمانية ينال الشاب الفتاة، وفي الرواية الفرنسية، ينال الزوج قرنين. ليس من الواضح دائماً في هذه الحال معرفة أي منهما أسوأ نصيباً. ولهذا يثير ملل الرواية الألمانية في نفس البرجوازي الفرنسي من الرعب والذعر قدر ما تثيره “لا أخلاقية” الرواية الفرنسية في نفس البرجوازي الألماني التافه ضيق الأفق. ولكن في الآونة الأخيرة، أي منذ أن “أخذت برلين تصبح عاصمة عالمية”، طفقت الرواية الألمانية تتطرق بأقل من الارتباك والوجل إلى ظاهرتي الهيتيرية والخيانة الزوجية المعروفتين جيداً هناك من زمان بعيد.

و لكن الزواج في هذه الحالة وتلك يقوم على وضع الطرفين الطبقي، ولذا كان دائماً زواج انتفاع. وفي كلا الحالين، ينقلب زواج لانتفاع هذا في أحيان كثيرة جداً إلى بغاء في منتهى القذارة والخساسة من جانب الطرفين أحياناً، وفي أحيان أكثر بكثير من جانب الزوجة التي لا تختلف عن البغية العادية إلا بكونها لا تؤجر جسدها بالقطعة كما تؤجر العاملة عملها، بل تبيعه دفعة واحدة وإلى الأبد كالعبدة. وعلى زواج الانتفاع بجميع مظاهره وأشكاله، تصح كلمة فوريه:
“كما أن نفيين في قواعد اللغة يعنيان تأكيداً، كذلك يعني بغاءان في قواعد الأخلاق فضيلة”(73) .

إن الحب الجنسي لا يمكن أن يكون ولا يكون بالفعل قاعدة في العلاقات مع المرأة إلا في بيئة الطبقات المظلومة، أي، في أيامنا، في بيئة البروليتاريا، سواء أكانت هذه العلاقات مسجلة رسمياً أم لا. ولكن جميع أسس أحادية الزواج الكلاسيكية مهدومة هي أيضاً في هذه البيئة. فهنا لا وجود لأي ملكية أنشئت من أجل صيانتها وتوريثها على وجه الضبط أحادية الزواج وسيادة الرجال، ولذا، لا وجود هنا لأي وسيلة لأجل تحقيق هذا الغرض: فإن الحق البرجوازي الذي يحمي هذه السيادة لا يوجد إلا من أجل المالكين ومن أجل خدمة علاقاتهم مع البروليتاريين، وهو يكلف غالياً، ولذا لا يصلح أبداً في علاقات العامل مع زوجته نظراً لفقر العامل. هنا تضطلع بالدور الحاسم ظروف خاصة واجتماعية مختلفة تماماً. وهناك اعتبار آخر. فمنذ أن انتزعت الصناعة الكبيرة المرأة من البيت، وأرسلتها إلى سوق العمل وإلى المعمل وحولتها في كثير من الأحيان إلى معيلة للعائلة، زالت في المسكن البروليتاري كل تربة لآخر بقايا سيادة الرجل، اللهم إلا بعض الفظاظة في معاملة الزوجة متوارث منذ دهور أحادية الزواج. وهكذا لم تبق عائلة البروليتاري أحادية الزواج بمعنى الكلمة الصرف، حتى وإن سادها أحر الحب وأمتن الإخلاص من كلا الطرفين، ورغم جميع البركات الدينية والدنيوية من كل شاكلة وطراز. ولهذا يضطلع هنا مرافقاً أحادية الزواج الدائمان، الهيتيرية والخيانة الزوجية، بدور ضئيل وحين لا يبقى بوسع الطرفين أن يعيشا معاً، فإنهما يفضلان الانفصال. وخلاصة القول أن الزواج البروليتاري زواج أحادي بمعنى الكلمة الأصلي لا بمعناها التاريخي.

بيد أن حقوقيينا يعتبرون أن تقدم التشريع ينتزع أكثر فأكثر من النساء كل مبرر للشكوى. إن قوانين البلدان المتمدنة العصرية تعترف أكثر فأكثر، أولاً، بأنه ينبغي للزواج، لكي يكون صحيحاً، أن يكون عبارة عن عقد يعقده الطرفان بملء اختيارهما، وثانياً، بأنه ينبغي أن يكون للطرفين خلال مدة الزواج كلها نفس الحقوق والواجبات حيال أحدهما الآخر. فإذا ما تحقق هذان الشرطان بدأت وانسجام، لحصلت النساء على كل ما بوسعهن أن يرغبن فيه.

إن هذه المحاكم الحقوقية الصرف تطابق تماماً المحاكمة التي يلجأ إليها الجمهوري البرجوازي الراديكالي الذي يدعو البروليتاري بين الفينة والفينة إلى التزام جانب النظام. إن عقد العمل يُعَدّ معقوداً بملء رضا الطرفين. ولكنه يعد معقوداً بملء رضا الطرفين لأن القانون يقرر على الورق المساواة بين الطرفين. أما السلطة التي يخولها اختلاف الوضع الطبقي لأحد الطرفين، والضغط الذي يمارسه هذا الطرف بفضل ذلك على الطرف الآخر، أي وضع الطرفين الاقتصادي الفعلي، فإن القانون لا يذكرهما بأي كلمة. وأثناء مدة عقد العمل، يظل الطرفان متمتعين، حسب القانون، بالمساواة فيما بينهما طالما أن أحدهما لم يتنازل صراحة عن حقوقه. أما أن الوضع الاقتصادي يجبر العامل على التنازل حتى عن آخر مظهر من مظاهر المساواة في الحقوق، فلا شأن أيضاً للقانون بذلك.

و فيما يخص الزواج، يشعر القانون بأكمل الارتياح، حتى وإن كان أكثر القوانين تقدماً، إذا أعرب الطرفان المعنيان، حسب الأصول، عن موافقتهما طوعاً واختياراً على الزواج. أما ما يجري ما وراء كواليس القانون حيث تجري الحياة الفعلية، وكيف تتحقق هذه الموافقة الحرة، فإن القانون ورجل القانون لا يأبهان لذلك. ومع ذلك، لا بد لأبسط مقارنة بين قوانين مختلف البلدان من أن تبين للحقوقي ما تعنيه بالفعل هذه الموافقة الحرة. ففي البلدان التي يكفل فيها القانون للأولاد نصيباً إلزامياً من تركة والديهم، والتي لا يمكن فيها بالتالي حرمانهم من التركة،- في ألمانيا وفي البلدان التي تتبنى القانون الفرنسي، وفي بعض البلدان الأخرى،- ينبغي على الأولاد أن يحصلوا على موافقة الوالدين لأجل عقد الزواج. أما في البلدان التي تتبنى القانون الإنجليزي، والتي لا يفرض فيها القانون موافقة الوالدين لأجل عقد الزواج، فإن الوالدين يتمتعان بكامل الحرية عند التوصية بتركتهما، وبوسعهما، كما يطيب لهما، أن يحرما أولادهما من التركة. ولكنه واضح أن حرية عقد الزواج في إنجلترا وأميركا ليست أبداً بالفعل، رغم هذا، وحتى بسبب هذا على وجه الضبط، عند الطبقات التي يوجد لديها ما تورثه، أكبر مما هي عليه في فرنسا وألمانيا.

و ليست الحال أفضل فيما يخص المساواة القانونية بين الرجل والمرأة في الزواج. إن التفاوت في الحقوق بين الطرفين، الذي ورثناه من العلاقات الاجتماعية السابقة، ليس سبب اضطهاد المرأة في المضمار الاقتصادي، بل نتيجته. ففي الاقتصاد البيتي الشيوعي القديم الذي كان يشمل عدداً كبيراً من الأزواج مع أولادها، كانت إدارة هذا الاقتصاد المعهود بها إلى النساء ضرباً من النشاط الاجتماعي الضروري للمجتمع، شأنها شأن حصول الرجال على وسائل العيش. ولكن الوضع تغير منذ ظهور العائلة البطريركية، وبالأحرى منذ ظهور العائلة الفردية الأحادية الزواج. فقد فقدت إدارة الاقتصاد البيتي طابعها الاجتماعي. ولم تعد لها علاقة بالمجتمع. وأصبحت خدمة خاصة، وصارت الزوجة الخادمة الرئيسية، وأقصيت عن الاشتراك في الإنتاج الاجتماعي. إن الصناعة الكبيرة في أيامنا هي التي فتحت أمام المرأة –المرأة البروليتارية فقط- السبيل إلى الإنتاج الاجتماعي، ولكنها، إذا ما قامت بواجباتها الخاصة في خدمة العائلة، بقيت خارج الإنتاج الاجتماعي وعجزت عن تحصيل أي أجر مستقل، وإذا ما شاءت أن تشترك في العمل الاجتماعي وأن تحصل على أجر مستقل، عجزت عن أداء واجباتها العائلية. إن حال المرأة واحد في هذا الصدد، سواء في المصنع أم في جميع ميادين النشاط الأخرى، بما فيها ميدانا الطب والمحاماة. إن العائلة الفردية الحالية ترتكز على عبودية النساء السافرة أو المقنعة، والمجتمع الحالي إنما هو كتلة تتألف بوجه الحصر من عائلات فردية هي بمثابة جزيئاتها. وفي الوقت الحاضر، يتعين على الزوج في أغلبية الأحوال أن يكون سند العائلة ومعيلها، على الأقل في بيئة الطبقات المالكة، وهذا ما يضمن له سيادة لا تحتاج إلى أي امتيازات قانونية خاصة. فالرجل في العائلة هو البرجوازي بينا المرأة تمثل البروليتاريا. ولكن ميزة الاضطهاد الاقتصادي الذي ينيخ بكلكله على البروليتاريا في ميدان الصناعة لا تبرز بكل حدتها إلا بعد القضاء على جميع الامتيازات الخاصة التي يعترف بها القانون لطبقة الرأسماليين وبعد قرار المساواة التامة في الحقوق بين الطبقتين من الناحية القانونية. إن الجمهورية الديمقراطية لا تزيل التضاد بين الطبقتين، وهي، على العكس، لا تفعل غير أن تمهد التربة التي يحتم عليها الصراع من أجل حل هذا التضاد. كذلك ميزة سيادة الزوج على الزوجة في العائلة الحالية وضرورة وطريقة إقرار المساواة الاجتماعية الفعلية بينهما لن تتجلى بكل سطوع إلا متى أصبح الزوج والزوجة، من الناحية القانونية، متساويين تماماً في الحقوق. وآنذاك يتبين أن الشرط الأول لتحرر المرأة هو عودة جنس النساء بكليته إلى الإنتاج الاجتماعي، الأمر الذي يتطلب بدوره زوال العائلة الفردية بوصفها وحدة اقتصادية في المجتمع.

هناك إذن ثلاثة أشكال رئيسية للزواج تناسب بالإجمال المراحل الرئيسية لثلاث من تطور البشرية. فالوحشية يناسبها الزواج الجماعي، والبربرية يناسبها الزواج الثنائي، والحضارة تناسبها أحادية الزواج المقرون بالخيانة الزوجية والبغاء. وبين الزواج الثنائي وأحادية الزواج، تتسرب في الطور الأعلى من البربرية سيادة الرجال على العبدات وتعدد الزوجات.

إن أصالة التقدم الذي يتجلى في تعاقب الأشكال هذا تقوم، كما يتبين من كل عرضنا السابق، في حرمان النساء، أكثر فأكثر، لا الرجال، من الحرية الجنسية الملازمة للزواج الجماعي. وبالفعل، لا يزال الزواج الجماعي في الواقع قائماً في صالح الرجال في الوقت الحاضر أيضاً. وما هو جريمة من جانب المرأة ويستتبع عواقب وخيمة، قانونية واجتماعية، إنما هو بالنسبة للرجل أمر مشرف أو، في أسوأ الأحوال، لطخة أخلاقية طفيفة يحملها بسرور. ولكن بقدر ما تتغير الهيتيرية القديمة في أيامنا تحت تأثير الإنتاج البضاعي الرأسمالي وتتكيف له، وبقدر ما تتحول إلى بغاء سافر، بقدر ما يشتد تأثيرها المفسد. وهي تفسد أخلاق الرجال أكثر بكثير مما تفسد أخلاق النساء. وبين النساء، لا يفسد البغاء غير التعيسات اللواتي يصبحن ضحاياه، ولكنه يفسدهن أقل مما يعتقد عادة. بيد أنه بالمقابل يذل طبع جنس الرجال كله. فإن استطالة زمن العزوبة، مثلاً، هو في تسع حالات من أصل عشر، مدرسة إعدادية حقيقة للخيانة الزوجية.

و لكننا نسير الآن نحو انقلاب اجتماعي ستزول فيه حتماً الأسس الاقتصادية القائمة حتى الآن لأحادية الزواج شأنها شأن أسس مرافقها، البغاء. فقد نشأت أحادية الزواج من تمركز ثروات كبيرة في يد واحدة –هي يد الرجل- ومن الرغبة في نقل هذه الثروات بالميراث إلى أولاد هذا الرجل بالذات، لا إلى أولاد رجل آخر ما. ولهذا الغرض، كانت تنبغي أحادية زواج المرأة لا أحادية زواج الرجل، وهكذا لم تكن أحادية زواج المرأة لتعيق أبداً تعدد زوجات الرجل، الظاهر والمستتر. ولكن الانقلاب الاجتماعي العتيد الذي سيحول على الأقل القسم الأعظم من الثروات الدائمة التي يمكن توريثها، أي وسائل الإنتاج- إلى ملكية عامة، اجتماعية، سيقلل إلى الحد الأدنى من جميع هذه الهموم المتعلقة بمعرفة الورثاء وكيفية نقل الإرث. ولكن هل تزول أحادية الزواج التي نشأت من الأسباب الاقتصادية إذا زالت هذه الأسباب؟

قد يمكن الجواب، وليس دون مبرر، بأنها لن تزول، وليس هذا وحسب، بل أنها، على العكس، لن تتحقق تماماً إلا آنذاك. لأنه مع تحويل وسائل الإنتاج إلى ملكية عامة، اجتماعية، يزول كذلك العمل المأجور وتزول البروليتاريا، وتزول بالتالي الضرورة التي تقضي على عدد يمكن إحصاؤه من النساء ببيع أجسادهن لقاء المال. إن البغاء سيزول، أما أحادية الزواج، فلن تزول، بل تصبح في آخر المطاف واقعاً بالنسبة للرجال أيضاً.

و هكذا سيتغير وضع الرجال، على كل حال، تغيراً عميقاً. ولكن وضع النساء، جميع النساء، سيطرأ عليه هو أيضاً تغير كبير. فمع تحول وسائل النتاج إلى ملكي عامة، اجتماعية، لا تبقى العائلة الفردية وحدة المجتمع الاقتصادية. فإن الاقتصاد البيتي الخاص يصبح فرعاً من فروع النشاط الاجتماعي. وتغدو العناية بالأطفال وتربيتهم من شؤون المجتمع:فإن المجتمع سيعنى بالقدر ذاته بجميع الأطفال، سواء أكانوا شرعيين أم غير شرعيين. وبفضل هذا، يزول همّ “العواقب” الذي يشكل في الوقت الحاضر أكبر سبب اجتماعي، أخلاقي واقتصادي، يمنع الفتاة من الاستسلام بلا تحفظ للرجل الذي تحبه. ألن يكون هذا سبباً كافياً لكي يقوم تدريجياً مزيد من الحرية في العلاقات الجنسية، ولكي يتكون بالتالي رأي عام أكثر تساهلاً حيال شرف العذارى وحشمة النساء؟ أو لم نر، أخيراً، أن أحادية الزواج والبغاء هما في العالم الحالي متضادان حقاً وفعلاً، ولكنها متضادان لا ينفصل أحدهما عن الآخر، وقطبا وضع اجتماعي واحد؟ وهل يمكن أن يزول البغاء دون أن يجر معه أحادية الزواج إلى الهاوية؟

هنا يدخل الحلبة عنصر جديد لم يكن موجوداً في أفضل الأحوال إلا بصورة جنين، نواة، في عهد نشوء أحادية الزواج، وهذا العنصر هو الحب الجنسي الفردي.

قبل القرون الوسطى، لم يكن من الممكن حتى الكلام عن الحب الجنسي الفردي. وغني عن البيان أن الجمال البدني، والعلاقات الودية، والميول المتماثلة، الخ..، قد أيقظت على الدوام عند أفراد الجنسين المختلفين الرغبة في الاتصال الجنسي، وأن الرجال والنساء على السواء لم يكونوا أبداً غير مبالين في معرفة أولئك الذين سيقيمون معهم هذه الاتصالات الحميمة. ولكن الشقة بين هذا وبين الحب الجنسي الحالي كبيرة إلى ما لا حد له. ففي سياق الأزمنة القديمة كلها، كان الآباء هم الذين يعقدون زواج المعنيين بالأمر، وكان هؤلاء يتكيفون للأمر بكل هدوء. وذلك النصيب الطفيف من الحب بين الزوجين الذي عرفته الأزمنة القديمة، ليس ميلاً ذاتياً، بل واجب موضوعي، ليس أساس الزواج، بل تابع له. إن علاقات الحب بمعناها الحالي لا تقوم في الأزمنة القديمة إلا خارج المجتمع الرسمي. فإن الرعاة الذين ينشد لنا ثيوكريتوس وموسخوس وكذلك دفنيس وكلويا عند لونغ (74) مسرات وآلام حبهم، إنما هم بوجه الحصر عبيد لا يشتركون في تصريف شؤون الدولة الذي هو المجال الحيوي للمواطن الحر. ولكن، إلى جانب العلاقات الغرامية بين العبيد، لا نجد هذه العلاقات إلا كنتاج لتفسخ العالم القديم المحتضر، ناهيك بأن هذه العلاقات تقام مع نساء يعشن هن أيضاً خارج المجتمع الرسمي،- أي مع الهيتيرات، أي مع أجنبيات أو مع معتقات، في آثينا عشية سقوطها، وفي روما في عهد الإمبراطورية. وإذا كانت قد قامت بالفعل علاقات غرامية بين مواطنين أحرار ومواطنات حرات، فإن ذلك لم يكن إلا من باب الخيانة الزوجية. بل أن العجوز أناكريونت، الشاعر الغزلي الكلاسيكي في الأزمنة القديمة، كان لا يبالي بالحب الجنسي حسبما نفهمه الآن بقدر ما كان لا يبالي حتى بجنس الكائن المحبوب.

إن الحب الجنسي الحالي يختلف اختلافاً جوهرياً عن مجرد الرغبة الجنسية، عن “إيروس” eros الأقدمين. فهو، أولاً، يفترض عند الكائن المحبوب حباً متبادلاً، والمرأة في هذا الصدد مساوية للرجل، في حين أن موافقتهما لم تكن دائماً مطلوبة في “إيروس” eros القديم. ثانياً، يبلغ الحب الجنسي قوة ومدة تجعلان الطرفين يتصوران الانفصال واستحالة الوصال بلية كبيرة إن لم تكن أفدح البلايا، فيقدمان على مجازفة ضخمة، بل أنهما يعرضان حياتهما للخطر لمجرد أن يملك أحدهما الآخر، الأمر الذي لم يحدث في الأزمنة القديمة إلا في حال الخيانة الزوجية. وأخيراً، يظهر معيار أخلاقي جديد لأجل شجب أو تبرير العلاقة الجنسية، فلا يسألون فقط ما إذا كانت قائمة على الزواج أو خارج الزواج، بل يسألون أيضاً ما إذا كان الحب متبادلاً أم لا. ومفهوم أن هذا المعيار لا يلقى من الاحترام في الممارسة الإقطاعية والبورجوازية أكثر مما تلقاه جميع المعايير الأخلاقية الأخرى، فهو لا يؤخذ بالحسبان. ولكنه لا يعامل أسوأ مما تعامل المعايير الأخرى: فهو معترف به مثله مثل غيره- نظرياً، على الورق. والآن لا تمكن المطالبة أكثر من ذلك.

و لقد انطلق القرون الوسطي من النقطة التي توقف عندها العالم القديم مع بوارده في مضمار الحب الجنسي، أي من الزنى. وقد وصفنا آنفاً الحب الفروسي الذي خلق أغنية الصباح. وبين هذا الحب الساعي إلى هدم الزواج وبين الحب الذي يجب أن يصبح أساس الزواج، لا تزال تقع طريق طويلة ينبغي قطعها، ولكن عصر الفروسية لم يقطعها قط إلى النهاية.و حتى عندما ننتقل من اللاتين المستهترين إلى الألمان الفاضلين، نجد في “أغنية نيبيلونغ” إن كريمهيلدا التي تحب زيغفريد سراً بقدر ما يحبها زيغفريد، تجيب غونتر بكل بساطة عندما يخبرها أنه خطبها لفارس لا يذكر اسمه:

“لا داعي لك أن ترجوني، كما تأمرني، كذلك سأعمل على الدوام. ومن تعطني إياه زوجاً، يا سيدي، أكن خطيبته بكل سرور” (75) .

بل أنه لا يخطر في بال كريمهيلدا أنه يمكن هنا على العموم أخذ حبها بعين الاعتبار. إن غونتر يخطب برونهيلدا، وإيتسل يخطب كريمهيلدا، مع أنهما لم يريهما قط، كذلك في “غودرون” Gudrun (76) ، يخطب الإرلندي زيغيبانت النروجية أوتا، ويخطب هيتل من هيغلنغن الإرلندية هيلدا، وأخيراً يحاول كل من زيغفريد من مورلند وهارتموت من أورمان وهرفيغ من زيلنده أن يخطب غودرون. وفي هذه الحالة الأخيرة وحدها، تقرر غودرون، بكل حرية في صالح هرفيغ. إن والدي الأمير الشاب هما، على العموم، اللذان يختاران خطيبة ابنهما، إذا كانا لا يزالان حيين، وإلا اختار بنفسه خطيبته بعد استشارة كبار أتباعه الذين لرأيهم دائماً وزن كبير في الموضوع. ناهيك بأنه لم يكن من الممكن أن يكون الحال آخر. فإن الخطبة هي بالنسبة للفارس أو البارون، وكذلك بالنسبة للأمير نفسه، عمل سياسي، وفرصة لزيادة بأسه بمساعدة حلفاء جدد. إن مصالح البيت، لا الرغائب الشخصية، هي التي يجب أن تكون لها الكلمة الفاصلة في الموضوع. فكيف يمكن في مثل هذه الأحوال أن تكون الكلمة الأخيرة للحب عند عقد الزواج؟

و كان الحال نفسه عند بورجوازي الحرف في مدن القرون الوسطى. فإن الامتيازات التي كانت تحميه، والأنظمة الداخلية الحرفية التي كانت تفرض شتى القيود، والحدود المصطنعة التي كانت تفصله قانوناً، هنا عن الحرف الأخرى، وهناك عن رفاقه بالذات في الحرفة، وهناك أيضاً عن صناعه وأجرائه، كانت تقلص بصورة ملحوظة الحلقة التي كان بوسعه أن يبحث ضمنها عن زوجة مناسبة له. وفي هذا النظام المشوش، كانت مصالح العائلة، لا رغائبه الشخصية، هي التي تقرر أي خطيبة تناسبه أكثر من غيرها.

و عليه بقي عقد الزوج في عدد لا يحصى من الأحوال، حتى نهاية القرون الوسطى بالذات، ما كان عليه في البداية بالذات، أي قضية لا يحلها العازمون على الزواج أنفسهم. ففي البداية، كان الناس يولدون متزوجين، متزوجين من جماعة كاملة من أفراد الجنس الآخر. وفي آخر أشكال الزواج الجماعي، بقي الوضع نفسه، أغلب الظن، ولكن الجماعة أخذت تتقلص أكثر فأكثر. وفي ظل الزواج الثنائي، تتفق الأمهات، على العموم، بصدد زواجات أولادهن، وهنا أيضاً يعود الدور الفاصل إلى اعتبارات بشأن علاقات النسب الجديدة ينبغي لها أن تضمن للزوج والزوجة الشابين مركزاً أثبت وأقوى في العشيرة والقبيلة. وعندما بدأ عهد سيادة الحق الأبوي وأحادية الزواج مع انتصار الملكية الخاصة على الملكية العامة ومع ظهور المصلحة في نقل الملكية بالوراثة، أصبح عقد الزواج آنذاك رهناً بكليته باعتبارات اقتصادية. إن شكل الزواج بالشراء يزول، ولكن هذا الزواج يجري، من حيث جوهر الأمر، على نطاق أوسع فأوسع، بحيث أنه صار للرجل أيضاً، علاوة على المرأة، سعر يحدد حسب ثروته لا حسب صفاته الشخصية. إن تغلب ميل الطرفين المتبادل على جميع الاعتبارات الأخرى عند عقد الزواج كان منذ البداية بالذات أمراً لا سابق له في ممارسة الطبقات السائدة. ولم يكن يحدث شيء من هذا القبيل إلا في عالم الروايات أو في أوساط الطبقات المظلومة التي لم يكن يحسب لها أي حساب.

ذلك كان الحال الذي وجده الإنتاج الرأسمالي عندما أخذ يستعد، بعد الاكتشافات الجغرافية، للسيطرة على العالم بفضل تطوير التجارة العالمية والمانيفاكتورة. كان يمكن الظن أن هذا الأسلوب لعقد الزواج سيكون أنسب أسلوب له، وهكذا كان بالفعل. ولكن- وسخرية التاريخ العالمي لا ينضب لها معين- الإنتاج الرأسمالي بالذات هو الذي كان مكتوباً له أن يشق هنا الثغرة الحاسمة. فبتحويله كل شيء إلى بضاعة، قضى على جميع العلاقات القديمة، التقليدية، وأقام الشراء والبيع والعقد “الحر” مقام العادات المتوارثة والحث التاريخي. وها هو ذا الحقوقي البريطاني ه.س.ماين يظن أنه حقق اكتشافاً في غاية الأهمية حين قال أن كل تقدمنا بالنسبة للعصور السابقة يتلخص في الانتقال [4]*fromstatus to contract، أي من الشروط المتوارثة إلى الشروط المقررة بموجب عقد حر (77) ، الأمر الذي قيل في “البيان الشيوعي”(78) بقدر ما هو صحيح على العموم.

و لكنه ينبغي لأجراء العقد أناس بمقدورهم أن يتصرفوا بحرية بأشخاصهم وأعمالهم وأملاكهم، ومتساوون في الحقوق بعضهم حيال بعض. ولقد كان صنع هؤلاء الناس “الأحرار” و”المتساوين” شأناً من أكبر شؤون الإنتاج الرأسمالي. صحيح أن ذلك لم يحدث في البدء إلا بصورة نصف واعية وتجلبب خارجياً بجلباب ديني، ولكنه منذ الإصلاح اللوتري والكلفيني ثبت المبدأ القائل أن الإنسان لا يتحمل كامل المسؤولية عن أعماله إلا إذا قام بها وهو متمتع بكامل حرية التقرير، وأن مقاومة كل إكراه على القيام بمسعى غير أخلاقي هي واجب أخلاقي. ولكن كيف كان يمكن أن يتوافق هذا المبدأ مع الممارسة السابقة لعقد الزواج؟ لقد كان الزواج، حسب المفهوم البرجوازي، عقداً، صفقة قانونية، له أهم الصفات لأنها كانت تقرر مصير جسد وروح شخصين مدة حياتهما بكاملها. من حيث الشكل، كانت هذه الصفقة تعقد آنذاك، والحق يقال، طوعاً واختياراً، فلم تكن تتم بدون موافقة الطرفين. ولكنه كان معلوماً جيداً جداً كيف كان يتم الحصول عل هذه الموافقة ومن كان يعقد الزواج في الواقع. وفضلاً عن ذلك، إذا كانت تنبغي حرية التقرير الفعلية لإجراء العقود الأخرى، فلماذا لا تنبغي هذه الحرية في هذه الحالة، لأجراء عقد الزواج؟ ترى، ألم يكن للشاب والشابة اللذين كان ينبغي الجمع بينها الحق في التصرف بحرية بشخصيهما، بجسدهما وأعضائه؟ ترى، ألم يكن الحب الزوجي حيال الحب الفروسي المقترن بالزنى، شكله البرجوازي الحقيقي؟ ولكن إذا كان واجب الزوجين أن يحب أحدهما الآخر، ترى، ألم يكن بالقدر نفسه واجب المحبين أن يتزوج أحدهما الآخر لا من أي ثالث؟ ترى، ألم يكن حق المحبين هذا يعلو على حق الوالدين والأقارب وسماسرة ووسطاء الزواج العاديين الآخرين؟ وإذا كان حق الاختيار الشخصي الحر يقتحم بلا تكلف ولا انزعاج ميدان الكنيسة والدين، فهل كان بوسعه أن يتوقف أمام ادعاءات الجيل الأكبر سناً التي لا تطاق بالتصرف بجسد الجيل الأصغر سناً وروحه وماله وسعادته وبؤسه؟

و هذه الأسئلة كان لا بد أن تثار في زمن ضعفت فيه جميع عرى المجتمع القديمة وتزعزعت فيه جميع التصورات الموروثة عن الماضي. وقد كبر العالم دفعة واحدة زهاء عشر مرات، فعوضاً عن ربع نصف واحد من الكرة الأرضية، ظهرت الآن الكرة الأرضية كلها، أمام أنظار الأوروبيين الغربيين، فأسرعوا يستولون على الأرباع السبع الباقية. ومع الحواجز القديمة التي تعيق أسلوب التفكير التقليدي في القرون الوسطى منذ آلاف السنين. وأمام عين الإنسان وبصيرته، انفتح أفق أوسع بما لا حد له. فأي أهمية كان يمكن أن تتسم بها السمعة بالاستقامة والامتيازات الحرفية المشرفة المتوارثة من جيل إلى جيل بالنسبة لشاب كانت تجتذبه وتسحره ثروات الهند ومناجم الذهب والفضة في المكسيك وبوتوسي؟ كان ذلك، بالنسبة للبرجوازية، عهد الفرسان التائهين. ولقد كانت للبرجوازية أيضاً رومانطيقيتها وأحلامها وتأوهاتها الغرامية، ولكن على الطريقة البرجوازية وبأهداف برجوازية في آخر المطاف.

و هكذا أخذت البرجوازية الصاعدة- ولا سيما في البلدان البروتستانتية حيث تزعزع النظام القائم أكثر مما في البلدان الأخرى- تعترف أكثر فأكثر، بحرية إجراء العقد فيما يتعلق بالزواج أيضاً، وتمارس هذه الحرية بالطريقة الموصوفة أعلاه. لقد ظل الزواج زواجاً طبقياً، ولكن الطرفين المعنيين نالا في حدود طبقتهما حرية معينة في الاختيار. وعلى الورق، في الأخلاق النظرية وفي الوصف الشعري، لم يقرر أي مبدأ بنحو أثبت وأرسخ من المبدأ القائل بلا أخلاقية كل زواج لا يقوم على الحب الجنسي المتبادل وعلى موافقة الزوجين الحرة حقاً وفعلاً. وبكلمة، نودي بزواج الحب من حق الإنسان، وليس فقط من [5]** droit de l`homme، بل أيضاً وعلى سبيل الاستثناء من ***[6] droit de la femme.

و لكن حق الإنسان هذا كان يختلف من ناحية عن جميع الحقوق الأخرى المسماة بحقوق الإنسان. وبما أن هذه الحقوق لم تشمل أيضاً في الواقع غير الطبقة السائدة،-الطبقة البرجوازية،- ولم تطبق مباشرة أو بصورة غير مباشرة بالنسبة للطبقة المظلومة، -البروليتاريا،- فإن سخرية التاريخ تبرز هنا من جديد. فإن الطبقة السائدة لا تزال خاضغة لسلطان مؤثرات اقتصادية معينة، ولهذا لا تقع في بيئتها زواجات معقودة فعلاً بحرية إلا بصورة استثنائية، بينا هذه الزواجات، كما رأينا، هي القاعدة في بيئة مظلومة.

و عليه، لا يمكن للحرية التامة في عقد الزواج أن تتحقق بصورة تامة وعامة إلا بعد أن يقضي إلغاء الإنتاج الرأسمالي وعلاقات الملكية التي خلقها الإنتاج الرأسمالي، على جميع الاعتبارات الثانوية، الاقتصادية، التي لا تزال تؤثر الآن تأثيراً كبيراً في اختيار الزوج والزوجة. وآنذاك لن يبقى أي دافع غير دافع الميل المتبادل.

و بما أن الحب الجنسي هو بطبيعته حب فردي صرف لا منازع فيه،- مع أنه لا يراعيه الآن بطبيعته هذه غير المرأة،- فإن الزواج القائم على الحب الجنسي هو إذن، بطبيعته، زواج أحادي. ولقد رأينا كم كان باهوفن على حق حينما اعتبر الانتقال من الزواج الجماعي إلى الزواج الأحادي خطوة تقدمية قامت بها النساء أساساً. إلا أن الخطوة التالية من الزواج الثنائي إلى أحادية الزواج كانت هي وحدها من صنع الرجال. ومن حيث جوهر الأمر، أدت هذه الخطوة تاريخياً إلى تردي وضع المرأة وإلى تسهيل الخيانة الزوجية من جانب الرجال. ولذا، ما أن تزول الاعتبارات الاقتصادية التي كانت النساء يحتملن بسببها هذه الخيانة العادية الأليفة من جانب الرجل (الاهتمام بمعيشتهن بالذات ولا سيما بمستقبل أولادهن)، حتى تؤدي مساواة المرأة في الحقوق، المحقق بفضل ذلك، إلى الأمر التالي، إذا أخذنا بالحسبان كل الخبرة السابقة، وهو أنها ستيسر حقاً وفعلاً أحادية الزواج عند الرجل أكثر إلى ما لا حد له مما تيسر تعدد الأزواج عند النساء.

و لكنه في هذه الحال ستزول بكل تأكيد من أحادية الزواج تلك السمات المميزة التي طبعها بها نشوؤها من علاقات الملكية، وهذه السمات هي، أولاً، سيادة الرجل، وثانياً، استحالة فسخ الزواج. إن سيادة الرجل في الزواج هي مجرد نتيجة لسيادته الاقتصادية، وستزول من تلقاء ذاتها مع هذه الأخيرة. أما استحالة فسخ الزواج، فهي جزئياً عاقبة للظروف الاقتصادية التي نشأت في ظلها أحادية الزواج، وجزئياً تقليد من ذلك الزمن الذي لم تكن قد فهمت فيه بعد الصلة بين هذه الظروف الاقتصادية وأحادية الزواج فهماً صحيحاً والذي كان فيه الدين يفسر هذه الصلة تفسيراً مشوهاً. إلا أن استحالة فسخ الزواج الاستحالة الظاهرية تنتهك في الوقت الحاضر في آلاف الأحوال. وإذا كان الزواج القائم على الحب هو وحده الزواج الأخلاقي، فإنه وحده يبقى كذلك ما دام الحب قائماً. ولكن مدة شعور الحب الجنسي الفردي تختف كثيراً باختلاف الأفراد، ولا سيما عند الرجال، وحين يستنفد كلياً أو يحل محله حب متأجج جديد، يغدو الطلاق عمل خير سواء بالنسبة للطرفين أم بالنسبة للمجتمع. ولكنه ينبغي فقط تجنيب الناس ضرورة الغوص في وحل دعوى الطلاق.

و لذا، إن ما يمكننا أن نفترضه الآن فيما يتعلق بأشكال العلاقات بين الجنسين بعد القضاء العتيد على الإنتاج الرأسمالي، يتسم على الأغلب بطابع سلبي، ويقتصر في أكثرية الأحوال على ما سيزول. ولكن أي عناصر ستحل محل العناصر الزائلة؟ إن هذا سيتقرر عندما ينمو الجيل الجديد، أي جيل من رجال لن يتأتي لهم أبداً في الحياة أن يشتروا المرأة بالمال أو بوسائل اجتماعية أخرى من وسائل السلطة، وجيل من نساء لن يتأتى لهن أبداً في الحياة أن يستسلمن لرجل بدوافع غير دافع الحب الحقيقي، وأن يمتنعن عن معاشرة الرجل المحبوب، خوفاً من العواقب الاقتصادية. وحين يظهر هؤلاء الناس، فإنهم لن يأبهوا أبداً لما ينبغي عليهم أن يفعلوا حسب الاعتبارات الحالية، فإنهم سيعرفون بأنفسهم ما ينبغي عليهم أن يفعلوه، وسيرسمون وفقاً لذلك رأيهم العام في سلوك كل فرد بمفرده، وهذا كل ما في الأمر.

و لكن لنعد إلى مورغان الذي ابتعدنا عنه كثيراً. إن دراسة المؤسسات الاجتماعية التي تطورت في مرحلة الحضارة دراسة تاريخية تتجاوز نطاق كتابه. ولهذا لا يتناول إلا بإيجاز مصير أحادية الزواج في سياق هذه المرحلة. وهو يرى كذلك في تطور العائلة الأحادية الزواج تقدماً، خطوة نحو المساواة التامة في الحقوق بين الجنسين، بيد أنه لا يعتبر أنه تم بلوغ هذا الهدف. ولكن، كما يقول،-

“إذا اعترفنا بأن العائلة قد مرت على التوالي بأربعة أشكال وبأنها الآن تمر بالشكل الخامس، واجهنا السؤال التالي:هل يمكن لهذا الشكل أن يدوم زمناً طويلاً في المستقبل؟ الجواب الممكن واحد وحيد، هو أنه لا بد لهذا لشكل أن يتطور بقدر ما يتطور المجتمع، ويتغير بقدر ما يتغير المجتمع، مثلما كان الحال فيما مضى. وبما أنه نتاج نظام اجتماعي معين، فنه سيعكس حالة تطوره. وبما أن العائلة الأحادية الزواج قد ترقت منذ بداية عصر الحضارة ولا سيما في العصر الحديث، ففي الوسع الافتراض، على الأقل، أن بمقدورها أن تترقى مستقبلاً، إلى أن تتحقق المساواة بين الجنسين. أما إذا تبين في مستقبل بعيد أن العائلة الأحادية الزواج غير قادرة على تلبية حاجات المجتمع، فمن المستحيل التنبؤ سلفاً بطابع العائلة التي ستليها” (79) .



الهوامش

(58). المقصود هنا المادة 230 من القانون المدني، الصادر في عهد نابليون عام 1804.

(59). كارل ماركس. “ملخص كتاب لويس هـ. مورغان “المجتمع القديم””.

(60). هوميروس. “الأوذيسة”. النشيد الأول.

(61). إسخيلوس. “أوريستية. أغممنون”.

(62). بلوتارك. “أمثال الإسبرطيات”. الفصل الخامس. راجعوا كذلك G.F. Schoemann. “Griechische Alterthümer” , Bd. I, Berlin, 1855. (غ. ف. شومان. “الأزمنة القديمة اليونانية”. المجلد الأول، برلين، 1855).

(63). الإسبرطيون، مواطنون كاملو الحقوق في إسبرطة القديمة. الهيلوت، سكان إسبرطة القديمة المحرومون من الحقوق، والمربوطون بالأرض والملزمون بتقديم أتاوات معينة في صالح ملاكي الأراضي الإسبرطيين. لم يختلف وضع الهيلوت في شيء عن وضع العبيد.

(64). أرستوفانس. “النساء في عيد فسموفوريا”.

(65). هيرودوتس. “التاريخ”. الكتاب الثامن. الفصل 105. راجعوا كذلك W.Wachsmuth, “Hellenische Alterthumskunde aus dem Gesichtspunkte desStaates”, Th. II Abth. II, Halle , 1830. (و. فاكسموت. “دراسة الأزمنة القديمة الهيللينية على صعيد أنظمتها السياسية”. القسم الثاني، الباب الثاني، هالة، 1830).

(66). أوريبيدس. “أوريست”.

(67). يورد إنجلس فكرة ظهرت في مؤلف ماركس وإنجلس “الإيديولوجية الألمانية”.

(68). L. H. Morgan. “Ancient Society”. London,1877. (ل. هـ. مورغان. “المجتمع القديم” لندن، 1877).

(69). الهييرودول Hiérodule، في اليونان القديمة والمستعمرات اليونانية، العبيد والعبدات التابعون للهياكل. في كثير من لأنحاء، ولا سيما في مدن آسيا الصغرى وفي كورنثيا، كانت النساء الهييرودول يتعاطين الدعارة في الهياكل.

(70). تاقيطس. “جرمانيا”، الفصلان 18 و19.

(71). أميان مرسيللان. “التاريخ في 31 كتاباً”. الكتاب الحادي والثلاثون، الفصل التاسع. بروكوبيوس من قيصرية. “الحرب ضد القوط”، الكتاب الثاني، الفصل الرابع عشر. (الكتاب السادس من “تاريخ حروب بوسطينيانوس ضد الفرس والفندال والقوط”).

(72). المقصود شعر التروبادور (المغنين الجوالين) في فرنسا الجنوبية أواخر القرن الحادي عشر حتى أوائل القرن الثالث عشر).

(73). هنا يحور إنجلس مقطعاً من مؤلف شارل فوريه “Théorie de l’unité universelle”:Vol: III;2-em éd. Oeuvres complètes, t. IV, Paris, 1841.(شارل فوريه.”نظرية وحدة الكون”، المجلد الثالث. الطبعة الثانية. المؤلفات الكاملة، المجلد الرابع، باريس، 1841). صدرت الطبعة الأولى من هذا المؤلف تحت اسم “Traité de l’associationdomestique- agricole”, T. I-II, Paris- London, 1882 (“بحث في الرابطة البيتية الزراعية”. المجلدان الأول والثاني، باريس، 1822).

(74). دفنيس وكلويا- بطلا رواية يونانية من القرنين الثاني والثالث. لم تبق عن مؤلفها لونغ أي معلومات.

(75). ”أغنية نيبيلونغ”. الأغنية العاشرة.

(76). ”غودرون” (أو “كودرون”) – قصيدة ملحمية ألمانية من القرن الثالث عشر.

(77). H.S. Maine. “Ancient Law: its Connection with the Early History ofSociety, and its Relation to Modern Ideas”(هنري سامنر ماين. “القانون القديم: صلته مع التاريخ الباكر للمجتمع، وعلاقته بالمفاهيم القانونية العصرية”)، صدرت الطبعة الأولى من هذا المؤلف في لندن عام 1861، المقطع الذي أشار إليه إنجلس ورد في الصفحة 170 من هذه الطبعة.

(78). كارل ماركس وفريدريك إنجلس. “بيان الحزب الشيوعي”. الفصل الأول.

(79). L. H. Morgan. “Ancient Society”. London,1877. (ل. هـ. مورغان. “المجتمع القديم” لندن، 1877).


[1]. قوانين نابليون. الناشر.

[2]. في اللغة اليونانية، ثلاثة أجناس: المذكر والمؤنث والمحايد. المعرب.

[3]. الجملة الأخيرة أضافها إنجلس إلى طبعة عام 1891. الناشر.

[4]. من الأمر الواقع إلى العقد. الناشر.

[5]. بالفرنسية في النص الأصلي. وهنا، لعب على الكلام. فإن تعبير droit de l`homme يعني “حق الإنسان” وكذلك “حق الرجل”. الناشر.

[6]. حق المرأة. الناشر.


أرشيف ماركس وانجلز