3- تكيف الرأسمالية

يذهب برنشتاين إلى أن نظام التسليف ووسائل الاتصال التي تقرب من الكمال والمجمعات الرأسمالة الجديدة هي العوامل الهامة التي تؤدي إلى تكيف المجتمع الرأسمالي.

للتسليف تطبيقات متنوعة في الرأسمالية. وأهم الأدوار التي يلعبها على الاطلاق هو توسيع الانتاج وتسهيل التبادل. فعندما يصطدم الميل الداخلي للانتاج الرأسمالي إلى التوسع بلا حدود بالابعاد المحدودة للملكية الخاصة، يظهر التسليف كوسيلة لتخطي هذه الحدود بالطريقة الرأسمالية الخاصة. فهو يمكِّن كل رأسمالي من استخدام أموال الرأسماليين الآخرين، على شكل تسليف صناعي. وهو في شكله التجاري يسرع تبادل السلع وبالتالي عودة رأس المال إلى الانتاج، وبذلك يعيد دورة العملية الانتاجية بكاملها. إن الطريقة التي يؤثر بها هذان الدوران اللذان يلعبهما التسليف على نشوب الأزمات واضحة تماما. ذلك أنه إذا كانت الأزمات تنشب نتيجة التناقض بين القدرة على الاتساع، أي ميل الانتاج إلى الازدياد، وبين القدرة الاستهلاكية المحدودة للسوق، فإن التسليف بالنظر إلى ما أسلفنا هو بالضبط الوسيلة المحددة التي تجعل التناقض ينفجر كلما كان ذلك ممكنا. فالتسليف أولا يزيد بطريقة غير متناسبة من قدرة الإنتاج على الاتساع ليشكل بذلك قوة داخلية دافعة تدفع الانتاج بدأب إلى تخطي حدود السوق. لكن التسليف بضرب في اتجاهين، فهو يحث الإنتاج (كعامل من عوامل العملية الإنتاجية)، ولكنه بعد ذلك (بوصفه عاملا من عوامل التبادل) يدمر خلال الأزمة القوى الإنتاجية ذاتها التي خلقها. فالتسليف يذوب مختفيا عند أول بوادر الأزمة، ويتخلى عن التبادل حيث تكون الحجة ماسة اليه ،ليظهر بدلا من ذلك بلا جدوى و لا فعالية حيث يستمر بعض التبادل. فيكون بذلك قد قلص قدرة السوق الاستهلاكية إلى حدها الأدنى.
يؤثر التسليف، بالإضافة إلى هاتين النتيجتين الرئيسيتين، على نشوب الأزمات بالطرق التالية: إنه يشكل الوسيلة التقنية التي تتيح للرائد الرأسمالي entreprenent استخدام رأس مال الغير، وفي الوقت ذاته يتيح له الاستخدام الجريء وغير الحريص لأملاك الغير، أي أنه يؤدي إلى المضاربة. ولا يفاقم التسليف الأزمة بوصفه وسيلة ضمنية للتبادل فحسب، بل إنه يساعد على نشوب واتساع الأزمة وذلك بتحويله للتبادل كله إلى آلية معقدة جدا ومصطنعة يسهل تخلخلها عند أضعف هزة لأنها تعتمد على الحد الأدنى فقط من النقد كأساس حقيقي لها.

هكذا نجد أن التسليف بدلا من أن يكون أداة لإخماد الأزمات أو تخفيفها، هو على العكس من ذلك أداة قوية جدا لإحداثها . ولا يمكن له إلا أن يكون كذلك، فهو يقضي على البقية الباقية من صلات العلاقات الرأسمالية، ويدخل أقصى مرونة ممكنة إلى كل مكان، فيجعل القوى الرأسمالية جميعها مطاطة ونسبية وحساسة إلى ابعد حد. وهو بذلك يسهل الأزمات ويؤدي إلى تفاقمها، فالأزمات ليست إلا الإصطدامات الدورية لقوى الاقتصاد الرأسمالي المتعارضة.

يؤدي بنا ذلك إلى سؤال آخر. لماذا يظهر التسليف على وجه العموم بمظهر « أداة لتكيف الرأسمالية » ؟ مهما كان الشكل أو العلاقة الذين يقدم بهما بعض الناس هذا « التكيف »، إلا أن من الواضح أنه يتكوّن فحسب من القدرة على إخماد واحدة من علاقات الاقتصاد الرأسمالي العدائية المتعددة، أي القدرة على إخماد أو إضعاف أحد هذه التناقضات والسماح بحرية الحركة عند هذه النقطة أو تلك للقوى الإنتاجية التي تكون بدون هذا التكيف مقيدة. الحقيقة أن التسليف هو بالضبط ما يفاقم هذه التناقضات إلى درجتها القصوى. فهو يؤجج التعادي بين نمط الإنتاج ونمط التبادل وذلك نمط الإنتاج إلى حده الأعلى وفي الوقت ذاته شل التبادل لأتفه الذرائع. وهو كذلك يفاقم التعادي بين نمط الإنتاج ونمط التصرف بالملكية وذلك بفصل الانتاج عن الملكية، أي بتحويل رأس المال الموظف في الانتاج إلى رأسمال « اشتراكي » وفي الوقت ذاته تحويل جزء من الربح على شكل فائدة لرأس المال إلى عنوان بسيط للملكية. كما أنه يفاقم التعادي القائم بين علاقات الملكية وعلاقات الإنتاج وذلك بوضع كمية هائلة من القوى الإنتاجية في عدد فليل من الأيدي ونزع ملكية عدد كبير من الرأسماليين الصغار. وهو أخيرا يفاقم التعادي القائم بين الطابع الجماعي للانتاج والملكية الرأسمالية الخاصة الفردية، وذلك بجعله تدخل الدولة في الإنتاج أمرا ضروريا.

باختصار، يعيد التسليف إنتاج كل التناقضات العدائية الأساسية في العالم الرأسمالي. إنه يؤججها ويجعل تطورها بذلك يدفع العالم الرأسمالي قدما إلى دماره. لذا فإن تكيف الرأسمالية فيما يتعلق بالتسليف يجب أن يكون تحطيم التسليف وإلغائه. فالتسليف في الحقيقة بعيد جدا عن أن يكون أداة للتكيف الرأسمالي. فهو على العكس من ذلك وسيلة تدمير لها أهميتها الثورية القصوى. ألم يوحي هذا الطابع الثوري للتسليف في الواقع خطط إصلاح « اشتراكي » ؟ ولذا فقد وجد التسليف بعض الأنصار الممتازين، وكان بعض هؤلاء (مثل إسحاق بيرييرا في فرنسا) نصف أنبياء نصف أوغاد، على حد تعبير ماركس.

ولا تقل « وسيلة التكيف » الثانية، وهي منظمات أرباب العمل، عن سابقتها هشاشة. يرى برنشتاين أن منظمات كهذه ستضع حدا لفوضى الإنتاج وتتفادى الأزمات عبر تنظيمها للإنتاج. لم تدرس الآثار المتعددة لتطور الكارتلات و التروستات دراسة جادة بعد. ولكن هذه تمثل مسألة لا يمكن حلها دون الاستعانة بنظرية ماركس.

هناك أمر واحد أكيد: إننا لا نستطيع الحديث عن إيقاف الفوضى الرأسمالية من خلال المجمعات الرأسمالية إلاّ إذا أصبحت الكارتلات والتروستات ولو بشكل تقريبي شكل الانتاج المسيطر. لكن طبيعة الكارتلات ذاتها تحول دون هذه الامكانية والتحقق. فالهدف الاقتصادي النهائي لهذه المجمعات ونتيجتها هو التالي: يجري التأثير على اقتسام كمية الربح المكتسبة في السوق، عبر التخفيف من المنافسة في الفرع المعني من الانتاج، بحيث تتحقق زيادة في حصة هذا الفرع من الصناعة. وتنظيم كهذا للمجال يمكن أن يزيد وتيرة الربح في فرع معين من الصناعة ولكن على حساب فرع آخر. وهذا بالضبط ما يجعلها غير قابلة للتعميم، ذلك أنه حينما يجري مدها إلى فروع الصناعة الهامة جميعها فإن هذا الميل يخمد تأثيره ذاته.

عدا ذلك، تكون نتيجة المجمعات في حدود تطبيقها العملي عكس اخماد الفوضى الصناعية تماما. فالكارتلات تنجح في العادة في الحصول على زيادة في الربح في السوق الداخلي وذلك بالانتاج بوتيرة ربح اخفض للسوق الأجنبي. وهكذا توظف الأقسام المكملة من رأس المال التي لا تستطيع توظيفها للحاجات المحلية. أي أن الكارتلات تبيع في الخارج بأسعار أرخص مما تبيع في الداخل، فتكون النتيجة زيادة حدة التنافس في الخارج –وهذا عكس ما يريد البعض. وكذلك ما يثبته تاريخ صناعة السكر العالمية.

إن المجمعات بشكل عام، إذا ما نظر إليها على أنها إحدى تجليات نمط الإنتاج الرأسمالي، لا يمكن إلاّ أن تعتبر مرحلة محددة من مراحل التطور الرأسمالي. والكارتلات أساسا ليست غير وسيلة يلجأ إليها نمط الإنتاج الرأسمالي. بغرض إيقاف التدهور القاتل في وتيرة الربح في فرع معين من الإنتاج. فما هي الوسائل التي تستخدمها الكارتيلات للوصول إلى ذلك ؟ إنها تلجأ إلى إبقاء جزء من رأس المال المتراكم خاملا، أي أنها تستخدم الوسيلة ذاتها التي تستخدمها الأزمات ولكن بشكل اخر. فيتشابه المرض والعلاج تشابه نقطتي ماء. ولا يمكن اعتبار العلاج أهون الشرين إلاّ إلى حد معين. فعندما تتقلص منافذ التصريف وتمتد السوق العالمي إلى أقصى حدوده ويصبح مستنفدا عبر تنافس الأقطار الرأسمالية –وهذا ما سيحدث عاجلا أو آجلا، فإن الخمول الجزئي الاجباري لرأس المال يتخذ أبعادا واسعة يصبح العلاج معها داءا، وعندئد يميل رأس المال الذي كان قد « شرك » إلى حد بعيد بفضل التنظيم إلى العودة ثانية إلى شكل رأس مال فردي. وفي وجه الصعوبات المتزايدة في طريق إيجاد أسواق، يفضل كل جزء فردي من رأس المال أن يجرب حظه منفردا. حينئذ تنفجر التنظيمات المنظمة كفقاعات الصابون مخلية السبيل للمزاحمة المتفاقمة(1).

لذا تبدو الكارتلات بشكل عام، مثلها مثل التسليف، مرحلة محددة من التطور الرأسمالي، تزيد في التحليل الأخير من حدة الفوضى في العالم الرأسمالي وتعبر عن تناقضاته الداخلية وتنضجها. وتؤجج الكارتلات التعادي القائم بين نمط الانتاج والتبادل وذلك بزيادة حدة الصراع بين المنتج والمستهلك، كما هو الحال على وجه الخصوص في الولايات المتحدة. إلى ذلك، تزيد الكارتيلات من تفاقم التعادي القائم بين نمط الانتاج ونمط التصرف بالملكية وذلك بأن تضع في مواجهة الطبقة العاملة، وبأكثر الطرق الوحشية، القوة المتفرقة لرأس المال المنظم، وبذلك تزيد التعادي بين رأس المال والعمل.

وأخيرا، تفاقم المجمعات الرأسمالية التناقض القائم بين الطابع العالمي للاقتصاد العالمي الرأسمالي والطابع القومي للدولة، وذلك لأنها تترافق دوما مع حرب تعرفة شاملة مما يؤدي إلى زيادة حدة الخلافات بين الدول الرأسمالية. ويجب أن نضيف إلى ذلك التأثير الثوري الأكيد الذي تمارسه الكارتلات في تمركز رأس المال والتقدم التقني.

بكلمات أخرى، إذا قيمنا الكارتلات والتروستات من زاوية أثرها النهائي على الاقتصاد الرأسمالي، فإنها تفشل في أن تكون « وسيلة تكيف ». إنها تفشل في تخفيف تناقضات الرأسمالية. وعلى العكس، فإنها تبدو عاملا يؤدي إلى المزيد من الفوضى، فهي تشجع تنامي التناقضات الداخلية للرأسمالية وتسرّع هبوط الرأسمالية العام المقبل.

ولكن إذا كانت الكارتلات والتسليف لا تخفف من فوضى الرأسمالية، فلماذا لم نشهد أزمة تجارية كبرى مدة عقدين من الزمن، منذ 1873 ؟ أليس هذا دلالة على أن نمط الانتاج الرأسمالي، على العكس من تحليل ماركس، قد كيف نفسه، على الأقل بشكل عام، لحاجات المجتمع ؟ ما كاد برنشتاين في عام 1898 يرفض نظرية ماركس في الأزمة حتى نشبت أزمة عامة عميقة في عام 1900، وبعد ذلك بسبع سنوات ضربت أزمة جديدة بدأت في الولايات المتحدة السوق العالمية. فأثبتت الوقائع خطل نظرية « التكيف »، وبينت في الوقت ذاته أن أولئك الذين تنكروا لنظرية ماركس في الأزمة لمجرد أنه لم تحدث أزمة خلال فترة معينة، إنما خلطوا بين جوهر هذه النظرية وبين واحد من مظاهرها الخارجية – هو الدورة العشرية (كل عشر سنوات). إذ لم يكن وصف ماركس وانجلز لدورة الصناعة الرأسمالية الحديثة في الأعوام 1860-1870 بأنها دورة تتكرر كل عشر سنوات سوى ملاحظة بسيطة للوقائع، لم تكن مبنية على قانون طبيعي ولكن على سلسلة من الظروف التاريخية التي كانت متعلقة بالنشاط المنتشر بسرعة للرأسمالية الشابة.

لقد كانت أزمة 1825 في الواقع نتيجة الاستثمار الكثيف لرأس المال في بناء الطرق والقنوات وشبكات الغاز الذي حدث في العهد السابق على الأخص في بريطانيا حيث نشبت الأزمة. كذلك كانت الأزمة التالية 1836-1839 نتيجة الاستثمار الكثيف في بناء وسائط النقل. وقد استثيرت أزمة 1847 بفعل البناء المحموم للسكك الحديدية في إنكلترا (من 1844 إلى 1847، أعطى البرلمان الإنجليزي امتيازات سكك الحديد ما قيمته 15 بليون دولار).

في الحالات الثلات التي ذكرنا، كانت كل أزمة تنشب بعد وضع أسس جديدة للتطور الرأسمالي. وفي 1857 حدثت نتيجة مشابهة بفعل الانفتاح المفاجئ لأسواق جديدة للصناعة الاوروبية في أمريكا وأستراليا بعد اكتشاف مناجم الذهب والبناء الكثيف لخطوط السكك الحديدية، على الأخص في فرنسا حيث جرى تقليد المثال الانجليزي (بنيت في فرنسا وحدها من 1852 إلى 1856 خطوط سكك حديدية جديدة قيمتها 1250 مليون فرنك). وأخيرا كانت الأزمة الكبرى عام 1873 نتيجة مباشرة للازدهار الأول للصناعة الكبيرة في ألمانيا والنمسا الذي تبع حوادث 1866 و1871 السياسية(2).

إذن، وحتى الآن، ما زال الاتساع المفاجئ لمجال الاقتصاد الرأسمالي، وليس تقلصه، السبب في الأزمة التجارية كل مرة. لكن تكرار الازمات2 العالمية كل عشر سنوات بالضبط لم يكن سوى حقيقة خارجية محضة، مسألة صدفة. إن المعادلة الماركسية للأزمات كما عرضها انجلز في « ضد دوهرينغ » وماركس في المجلدين الأول والثالث من رأس المال تنطبق على الأزمات إلى الحد الذي تكشف فيه آليتها العالمية وأسبابها الأساسية العامة.

قد تكرر الأزمات ذاتها كل خمس أو عشر سنين، وحتى كل ثمانية أو عشرين سنة. لكن ما يبرهن على خطأ نظرية برنشتاين هو أن الأزمة الأخيرة (1907-1908) كانت أكثر عنفا من الأقطار التي شهدت أكبر تطور لـ« وسائل التكيف » المشهورة – التسليف والاتصالات الكاملة والتروستات.

إن الاعتقاد بأن الانتاج الرأسمالي يستطيع « تكييف » نفسه للتبادل يفترض مسبقا أحد أمرين: أمّا أن يستطيع السوق العالمي الامتداد بلا حدود، أو على العكس من ذلك أن يكون تطور القوى المنتجة مقيدا لدرجة لا يستطيع معها تخطي حدود السوق. الفرضية الأولى مستحيلة ماديا، والثانية تماثل الأولى في استحالتها لأن التقدم التقني المستمر يخلق يوميا قوى منتجة جديدة في كل الفروع.

تبقى هناك ظاهرة أخرى يقول برنشتاين أنها تتناقض مع مجرى التطور الرأسمالي كما أشرنا إليه سالفا. يرى برنشتاين في « التجمعات الراسخة » للمشاريع المتوسطة الحجم اشارة إلى أن تطور الصناعة الكبيرة لا يسير في اتجاه ثوري وأنه ليس فعالا بالقدر الذي ينظر إليه من زاوية تمركز الصناعة كما تتوقع « نظرية » الانهيار. غير أن برنشتاين هنا ضحية افتقاره إلى الفهم. ذلك أن النظر إلى الاختفاء المتزايد للمشاريع المتوسطة الحجم على أنه نتيجة ضرورية لتطور الصناعة الكبيرة لا يعدو كونه سوء فهم محزن لطبيعة هذه العملية.
يلعب الرأسماليون الصغار، طبقا للنظرية الماركسية، دور رواد للتغيير التقني خلال التطور الرأسمالي. وهم يلعبون هذا الدور بمعنى مزدوج: إنهم يدخلون وسائل انتاج جديدة إلى فروع الصناعة العريقة، وهم مفيدون في خلق فروع انتاج جديدة لم يستغلها الرأسماليون الكبار بعد. ومن الخطأ أن يتصور المرء أن تاريخ المؤسسات الرأسمالية المتوسطة الحجم يسير في خط مستقيم باتجاه اختفائها المتزايد. فخط سير هذا التطور جدلي محض يتحرك دوما بين تناقضات. فالشرائح الرأسمالية المتوسطة تجد نفسها، كالعمال تماما، تحت تأثير ميلين متعاديين، أحدهما صاعد والآخر هابط. والميل الهابط في هذه الحالة هو الصعود المتزايد لسلم الانتاج الذي يفيض دوريا عن حدود حزم رأس المال المعتدلة الحجم ويقصيها باستمرار عن مسرح التنافس العالمي. أمّا النزعة الصاعدة فهي أولا الاهتلاك الدوري لرأس المال الموجود التي تخفض مرة ثانية سلم الانتاج إلى القيمة الضرورية للحد الأدنى من رأس المال، وهي بالاضافة إلى ذلك تتمثل في تغلغل الانتاج الرأسمالي إلى حقول جديدة. ولا يمكن اعتبار صراع المشاريع المتوسطة مع رأس المال الكبير معركة تتقدم بانتظام وتستمر فيها قوات الطرف الأضعف في الذوبان مباشرة وكميا. بل يجب اعتبار هذا الصراع سحقا دوريا للمشاريع الصغيرة التي تنموا ثانية بسرعة، لا لشيء إلاّ لتجد نفسها وقد سحقتها الصناعة الكبيرة مرة أخرى. يتقاذف هذان الميلان شرائح الرأسماليين المتوسطين، ولابد أن ينتصر الميل الهابط في النهاية. وعكس ذلك تماما هو الصحيح بالنسبة لتطور الطبقة العاملة. ولا يتجلى انتصار النزعة الهابطة بالضرورة في التناقص المطلق لعدد المشاريع متوسطة الحجم، ولكنه يظهر بالضرورة أولا في النمو المتزايد لكمية رأس المال الدنيا الضرورية لعمل المشاريع في فروع الصناعة القديمة، ثانيا في التناقص المطرد لفترة الوقت التي يستطيع فيها الرأسماليون الصغار الاحتفاظ بفرصة استغلال فروع انتاجية جديدة. والنتيجة فيما يتعلق بالرأسمالي الصغير هي التناقص المطرد لفترة بقائه في الصناعة الجديدة والتغير المتسارع باطراد في وسائل الإنتاج كحقل للاستثمار. وتكون النتيجة بالنسبة لشريحة الرأسماليين المتوسطين عملية انصهار وانعزال اجتماعيين تتسارع باستمرار.

يدرك برنشتاين هذا تمام الإدراك، فهو يعلق على ذلك. ولكن يبدو أنه ينسى أن هذا هو ذاته قانون حركة المشاريع الرأسمالية المتوسطة. وإذا ما اعترف المرء أن الرأسماليين الصغار رواد التقدم التقني، وأن هذا التقدم هو نبض الاقتصاد الرأسمالي الحيوي، فإن من الواضح حينئد أن الرأسماليين الصغار جزء لا يتجزأ من التطور الرأسمالي، وأنهم لن يختفوا إلاّ مع التطور الرأسمالي. إن الاختفاء المطرد للمشاريع المتوسطة الحجم، بالمعنى المطلق الذي يقصده برنشتاين، لا يعني كما يظن برنشتاين سير التطور الرأسمالي سيرا ثوريا، بل أنه على العكس من ذلك يعني توقف وبطء هذا التطور. قال ماركس « أن وتيرة الربح أي الزيادة النسبية في رأس المال هامة بالنسبة إلى مستثمري رأس المال الجدد الذين يتجمعون باستقلال. وحالما ينحصر تكوين رأس المال في أيدي حفنة من الرأسماليين الكبار، فإن حرارة الانتاج المنعشة تنطفئ وتخبو ».


(1) في حاشية من المجلد الثالث من رأس المال، كتب إنجلز عام 1894 يقول: « منذ أن كتب ما تقدم (1865) اشتدت المزاحمة على السوق العالمي إلى حد بعيد نتيجة التطور السريع للصناعة في كافة الأقطار المتمدنة وعلى الأخص في أمريكا وألمانيا. وتنمو القوى المنتجة نموا سريعا وعظيما متخطية سيطرة القوانين الخاصة بنمط تبادل السلع الرأسمالي، ذلك النمط الذي يفترض فيها أن تتحرك ضمنه. وهذه الحقيقة تفرض نفسها اليوم أكثر فأكثر حتى على وعي الرأسماليين. وهذا ما يبينه عرضان: أولهما جنون الحماية بفرض التعرفة (الجمركية) التي تختلف عن الحماية القديمة على وجه الخصوص في أن المواد القابلة للتصدير هي المواد التي تحمي أفضل من غيرها. وثانيهما تروستات المنتجين التي تشمل حقولا إنتاجية كاملة بقصد تنظيم الانتاج وبالتالي الأسعار والأرباح. وغني عن القول أن هذه التجارب عملية ما دام المناخ الاقتصادي مؤات نسبيا. لكن العاصفة الأولى تقلب هذه التجارب رأسا على عقب وتثبت أنه على الرغم من أن الانتاج يحتاج بالتأكيد إلى التنظيم إلاّ أن من المؤكد أن الطبقة الرأسمالية ليست هي المؤهلة لتلك المهمة. خلاف ذلك ليس للتروستات من مهمة سوى العمل على أن يبتلع السمك الكبير السمك الصغير بأسرع مما كان (رأس المال، المجلد الثالث، ص 142، حاشية 16، طبعة كيو. طبعة موسكو 1962 ص 118).
 

(2) المقصود هو الحرب النمساوية-البروسية عام 1866، التي كانت نتيجتها وحدة ألمانيا الشمالية حول بروسيا المتطورة اقتصاديا، وكذلك الحرب الفرنسية-البروسية عام 1870-1871، التي انتهت بانتصار بروسيا، وفي 1871 تمت الوحدة الألمانية، التي ساعدت على تطوير سريع للرأسمالية في ألمانيا.