الفصل الثالث
1789- 1848- 1905

التاريخ لا يعيد نفسه. ومهما بالغنا في تشبيه الثورة الروسية بالثورة الفرنسية العظمى، لا يمكن تحويل الثورة الأولى إلى تكرار الثورة الثانية. إن القرن التاسع عشر لم يمرّ بدون سبب.

إن عام 1848 يختلف كثيراً عن عام 1789. وعند مقارنة الثورتين البروسية والنمساوية بالثورة الفرنسية العظمى، نتفاجأ بكونهما مرتا مرورا عابرا. فمن جهة حدثت هاتان الثورتان قبل أوانهما، ومن جهة أخرى حدثتا بعد فوات الأوان. إن ذلك المجهود الجبار الذي يحتاجه المجتمع البرجوازي ليصفي حساباته بشكل جذري مع أسياد الأمس يتوفر إما بقوة الأمة بأسرها عندما تنتفض ضد تحكم الإقطاع، وإما بتبلور صراع طبقي عنيف داخل هذه الأمة السائرة في طريق التحرر. ففي الحالة الأولى، كما حدث بين 1789- 1793، استنفدت كل الحيوية الوطنية، التي ضغطتها مقاومة النظام القديم لها، خلال الصراع ضد الرجعية. أما في الحالة الثانية، التي لم تحدث بعد في التاريخ والتي نعالجها هنا بوصفها احتمالا ليس إلا، فإن الحيوية الفعلية المطلوبة لقهر قوى التاريخ المظلمة تولدها داخل الأمة البرجوازية حرب طبقية "تزرع الدمار في كلا الجهتين". إن الصراع الداخلي العنيف، الذي يمتص القدر الأكبر من حيوية البرجوازية ويحرمها من لعب الدور الرئيسي، يدفع نقيضها –البروليتاريا – إلى المقدمة ويلخص لها تجربة عشرة أعوام بشهر واحد ويوليها القيادة ويسلمها زمام الحكم. هذه الطبقة المصمّمة التي لا تعرف التردد تغير مجرى الأحداث تغييرا كاملا.

يمكن تحقيق الثورة إما عندما تكون الأمة قد جمعت نفسها متحفزة للانقضاض كالأسد، وإما عندما تنقسم الأمة على بعضها انقساما نهائيا خلال الصراع، مخولة بذلك أفضل فئة فيها لتنفيذ المهام التي فشلت الأمة في تنفيذها. هاتان هما المجموعتان المتعارضتان من الشروط التاريخية اللتان تتعارضان منطقيا فقط بشكلهما النقي.

والطريق الوسط بينهما، كما في حالات عديدة، هو أسوأ الطرق؛ ولكن هذا الطريق الوسط هو الذي ظهر عام 1848.

في الحقبة البطولية من التاريخ الفرنسي، نجد طبقة برجوازية متنورة ونشيطة لم تع بعد تناقضات وضعها ألقى التاريخ على عاتقها بمهمة قيادة النضال من أجل تحقيق نظام جديد ليس ضد مؤسسات فرنسا البالية فحسب ولكن ضد القوى الرجعية في أوروبا أيضا. وكانت البرجوازية دائما، وبجميع فصائلها، تعتبر نفسها قائدة الأمة فكانت تعبئ الجماهير للنضال وتطرح لها الشعارات وتملي عليها خطط الصراع التكتيكية. فصهرت الديموقراطية الأمة بعضها ببعض بواسطة إيديولوجية سياسية. وكان الشعب – البرجوازية الصغيرة في المدن، الفلاحون والعمال – ينتخب البرجوازيين نوابا عنه، وكانت التوصيات التي يقدمها الناخبون إلى هؤلاء النواب مكتوبة بلغة البرجوازية التي أخذت تعي مهمتها الرسلية. وخلال الثورة، وبالرغم من بروز التناقضات الطبقية، كانت القوة الدافعة للنضال الثوري تقذف باستمرار بالعناصر الأكثر محافظة من البرجوازية خارج الطريق السياسي. ولم تقذف فئة خارجا إلا بعد أن تكون قد حوّلت طاقتها إلى الفئة التي خلفتها. فاستمرت الأمة ككل، إذن، في النضال من أجل أهدافها بأساليب أعنف وأكثر تصميما. وعندما انفصلت الفئات العليا من البرجوازية من البورجوازيةالثرية من المجموعة القوميةالتي كانت اخدة بالتحرك ، وتحالفت مع لويس السادس عشر، أصبحت مطالب الأمة الديمقراطية موجهة ضد البورجوازية الأمر الذي أدّى إلى اكتساب حق الانتخاب للجميع وقيام الجمهورية بوصفها الشكل المنطقي والحتمي للديموقراطية.

كانت الثورة الفرنسية العظمى بالتأكيد ثورة قومية. وما هو أكثر من ذلك، وجد نضال البرجوازية الدولي من أجل السيطرة والقوة والانفراد بالنصر التعبير التقليدي عنه ضمن الإطار القومي.

لقد غدت اليعقوبية كلمة لوم على شفاه جميع المتحذلقين الليبراليين. إن حقد البرجوازية على الثورة والجماهير وعلى قوة وعظمة التاريخ الذي يصنع في الشارع قد تجمع كله في صرخة استنكار وهلع واحدة: اليعقوبية ! نحن، جيش البروليتاريا العالمي، قمنا بعملية تصفية حسابات تاريخية مع اليعقوبية منذ زمن طويل. إن كل الحركة البروليتارية العالمية المعاصرة قد تكونت وقويت من خلال النضال ضد تقاليد اليعقوبية. لقد تعرضنا لنظرياتها بالنقد، وفضحنا لفظتها ورفضنا تقاليدها التي كانت تعتبر، خلال عقود من الزمن، إرثا ثوريا مقدسا.

إلا أننا ندافع عن اليعقوبية ضد الليبرالية المريضة المتقاعسة وضد تجريحها وشتائمها السافلة. لقد خانت البرجوازية بشكل مخز جميع تقاليد شبابها التاريخي ويقوم عملائها الحاليون بتلويث قبور أسلافها. يهزأون من رماد المثل التي دافع هؤلاء عنها. إن البروليتاريا قد أخذت على عاتقها أن تحمي شرف ماضي البرجوازية الثوري. إن البروليتاريا، مهما بلغ عمق انفصالها العملي عن تقاليد البرجوازية الثورية، سوف تحافظ عليها كإرث مقدس من العواطف النبيلة والبطولة والإقدام وقلبها يخفق بعطف على خطب وأعمال "المؤتمر اليعقوبي".

ما هو الذي أضفى على الليبرالية جاذبيتها إن لم يكن تقاليد الثورة الفرنسية العظمى ؟ وفي أي فترة أخرى ارتفعت الديموقراطية البرجوازية إلى ذلك الشأن وأضرمت شعلة بهذا الإتقاد في قلوب الشعب كما فعلت خلال مرحلة الديموقراطية اليعقوبية الإرهابية بقيادة روبسبيير و"المعدمين"(1) (les sans culottes) عام 1793 ؟

مَن غير اليعقوبية مكّن الراديكالية الفرنسية وما زال يمكنها، على مختلف اتجاهاتها، من أن تبقى على غالبية الشعب الساحقة، بما فيها البروليتاريا، تحت نفوذها في زمن ختمت فيه البرجوازية الراديكالية في ألمانيا والنمسا تاريخها القصير بالأعمال الوضيعة والعار ؟

وأي شيء غير سحق اليعقوبية، بأيديولوجيتها السياسية المجردة وبطقس "الجمهورية المقدسة" وببياناتها المظفرة، ما يزال في يومنا هذا تغذي الراديكاليين والراديكاليين-الإشتراكيين في فرنسا أمثال كليمنصو وميلران وبورجوا وغيرهم من السياسيين الذين يعرفون كيف يدافعون عن مرتكزات المجتمع البرجوازي بطريقة ليس بأسوأ من الطريقة التي كان يتبعها "اليونكر" خلال عهد وليام الثاني الحاكم بنعمة الله ؟ إن الديموقراطيين البرجوازيين في البلدان الأخرى ينظرون إليهم بعين الحسد ولكنهم من ذلك ينهمرون بالشتائم على اليعقوبية البطلة التي كانت مصدر مركزهم هذا.

حتى بعد أن تحطمت الآمال العديدة ظلت اليعقوبية تقليدا في ذاكرة الشعب. ولمدة طويلة ظلت البروليتاريا تتكلم عن مستقبلها بلغة الأمس. ففي عام 1840 أي بعد نيف ونصف قرن على قيام حكومة "الجبل"، وقبل أيام يونيو 1848 بمثابة أعوام زار "هاين"(2) عدة معامل في "فوبرسان-مارسو" ليطلع على ماذا يقرأه العمال "اسلم قطاع من قطاعات الطبقات الدنيا". فكتب في جريدة ألمانية يقول: "وجدت هناك عدة خطب جديدة لروبيسبيير العجوز وكذلك منشورات لمارا صادرة في طبعات تباع النسخة منها بقرشين، ووجدت كتاب كابيه، تاريخ الثورة وبعض أهاجي كارمينين القاتلة وجميع مؤلفات بيوناروتي وأخيرا كتاب تعاليم بابوف ومؤامراته، كلها مؤلفات ترشح بالدم…" ويتنبأ الشاعر: " بأن إحدى ثمار هذه البذرة سيكون عاجلا أم آجلا خطر قيام جمهورية في فرنسا".

في عام 1848 كانت البرجوازية قد أثبتت عن عجزها عن لعب دور ذي قيمة. فهي لم تحاول ولم تتمكن من تصفية النظام الإجتماعي الذي يعترض طريقها إلى الحكم تصفية ثورية. إننا نعرف الآن لماذا كان الأمر كذلك. كان هدفها أن تدخل إلى النظام القديم الضمانات الضرورية ليس لتحقيق سيطرتها السياسية وإنما لمجرد أن تتقاسم السلطة مع قوى الأمس. وكانت تعي هذا الهدف الوعي التام. فكانت تلك مسلكية حقيرة تخللت تجربة البرجوازية الفرنسية الفاسدة بسبب خياناتها والخائفة بسبب فشلها. فهي لم تفشل في قيادة الجماهير لتقويض النظام القديم فحسب، ولكنها دعمت أيضا هذا النظام لكي تمنع الجماهير الملحاحة من التقدم.

لقد نجحت البرجوازية الفرنسية في أن تفجر ثورتها العظيمة. فكان وعيها هو وعي المجتمع، ولم يكن بالإمكان لأي شيء أن يتحول إلى مؤسسة إلا بعد أن يمر في وعيها على شكل هدف، على شكل مشكلة خلق سياسي. وغالبا ما لجأت إلى الوقفات المسرحية لكي تخفي عن نفسها ضيق حدود عالمها البرجوازي، ولكنها كانت تسير إلى الأمام.

وعلى العكس من ذلك، فالبرجوازية الألمانية لم تصنع "الثورة" بادئ بدء بل تبرأت منها. لقد تمرّد وعيها على الظروف الموضوعية التي تؤهل لها السيطرة. فلم يكن بالإمكان تحقيق الثورة بواسطتها وإنما ضدها. فعوضا عن أن تبدو المؤسسات الديموقراطية لها هدفا تناضل من أجله بدت خطرا يهدد مصالحها.

في عام 1848، ظهرت الحاجة إلى طبقة تستطيع أن تتولى الأمور بمعزل عن البرجوازية وبالرغم عنها، طبقة لا تكون مستعدة لدفع البرجوازية إلى الأمام بواسطة ضغطها فحسب ولكنها ترمي إلى التخلص من جثة البرجوازية السياسية عندما يحين الأوان. ولم يكن بإمكان البرجوازية الصغيرة في المدن ولا الفلاحون أن يحققوا ذلك.

فقد كانت البرجوازية الصغيرة في المدن معادية ليس فقط للأمس، ولكن للغد كذلك. لكونها مازالت مرتبطة بالعلاقات المتبقية من القرون الوسطى ولكنها عاجزة عن الصمود في وجه "الصناعة الحرة"، ولكونها ما تزال تؤثر على المدن ولكنها تخلي الطريق أمام البرجوازية المتوسطة والكبيرة، ولكونها مفرقة في حساسياتها يصم آذانها ضجيج الأحداث، ولكونها مستغَلة ومستغِلة، جشعة ومستسلمة في جشعها ظلت البرجوازية الصغيرة في ورطتها. فلم تتمكن من السيطرة على أحداث الساعة العاصفة.

أما الفلاحون فقد كانوا أكثر حرمانا من المبادرة السياسية المستقلة. ولكونهم مستعبدين خلال قرون من الزمن ومدقعي الفقر وغاضبين يجمون جميع خيوط الإستغلال قديمه وحديثه كان الفلاحون في فترة معينة مصدرا غنيا من مصادر الطاقة الثورية، ولكن لكونهم بدون تنظيم ولكونهم مبعثرين ومعزولين عن المدن، عصب الحياة السياسية والثقافية، ولكونهم أغبياء ومحصورين في آفاقهم ضمن حدود قراهم، وغير مبالين بكل ما تفكر به المدينة، لم يكن باستطاعة الفلاحين أن يكون لهم أية قيمة كقوة قائدة. فاستكان الفلاحون في اللحظة التي رفع فيها عبء الفرائض الإقطاعية عن أكتافهم، وردوا على فضل المدن عليهم بنضالها من أجل حقوقهم بنكران الجميل.

كان المثقفون الديموقراطيون يفتقرون إلى القوة الطبقية. فحينا تتبع هذه الفئة شقيقتها الكبرى – البرجوازية الليبرالية – فتغدوا ذيلا سياسيا لها وطورا تتخلى عن البرجوازية الليبرالية في اللحظة الحاسمة فتكشف عن ضعفها. لقد أورطت نفسها في تناقضات لا تحل وحملت هذه الورطة معها أينما ذهبت.

أما البروليتاريا فقد كانت جد ضعيفة تفتقر إلى التنظيم والخبرة والمعرفة. كانت الرأسمالية قد تطورت إلى درجة تحتم إلغاء العلاقات الإقطاعية القديمة، ولكنها لم تكن قد تطورت التطور الكافي الذي يسمح بدفع الطبقة العاملة، ثمرة العلاقات الصناعية الجديدة، إلى المقدمة كقوة سياسية حاسمة. كان التناقض بين البروليتاريا والبرجوازية، حتى ضمن الإطار الوطني الألماني، قد عمق إلى مدى لم يعد يسمح فيه للبرجوازية من أن تقدم بدون خوف على لعب دور الهيمنة على الوطن، ولكن هذا التناقض لم يكن من العمق الكافي بحيث يسمح للطبقة العاملة من أن تلعب هذا الدور. الحقيقة أن الإحتكاك الداخلي في الثورة مهّد للبروليتاريا أن تحرز استقلالها السياسي، ولكنه في ذلك الحين حطّ من العزيمة وأضعف وحدة العمل وأدى إلى بذل جهد لا مبرر له وأجبر الثورة على البقاء في مكانها بملل بعد انتصاراتها الأولى، وعلى التقهقر تحت ضربات الرجعية.

إن النمسا مثل واضح وفاجع بشكل خاص لهذا الطابع غير الكامل أو المنتهي من العلاقات الإجتماعية في مرحلة الثورة.

لقد برهنت البروليتاريا في فيينا عام 1848 على بطولة نادرة وعلى حيوية لا تنضب. كانت تقتحم المعركة مرة بعد مرة، يدفعها إلى الأمام حسّ طبقي مبهم مفتقرة إلى مفهوم شامل لأهداف النضال فأخذت تتخبط بين شعار وآخر. ومن المدهش حقا أن قيادة البروليتاريا إنتقلت إلى أيدي الطلاب، المجموعات الديموقراطية الفعالة الوحيدة التي إستطاعت أن يكون لها، نتيجة عملها، نفوذ كبير في أوساط الجماهير وأن تؤثر بالتالي على الأحداث. لا شك في أن الطلاب كانوا يقاتلون ببسالة وراء المتاريس ويتآخون بشكل مشرّف مع العمال، غير أنهم كانوا عاجزين تماما عن توجيه مسيرة الثورة التي سلمتهم إياها "دكتاتورية" الشارع.

إن البروليتاريا غير المنظمة والتي لا تملك الخبرة السياسية ولا القيادة المستقلة سارت وراء الطلاب. ولم يتخلف العمال في كل لحظة حاسمة عن أن يقدموا "للسادة الذين يعملون برؤوسهم" معونة "الذين يعملون بأيديهم". فحينا كان الطلاب يدعون العمال للقتال وطورا يسدون بوجههم الطريق من الضواحي إلى المدينة. وفي بعض الأحيان، كان الطلاب يستغلون سلطتهم السياسية ويعتمدون على أسلحة "الفرقة الجامعية" لكي يمنعوا العمال من تقديم مطالبهم المستقلة. كان هذا شكلا تقليديا واضحا من أشكال الديكتاتورية الثورية الخيرة على البروليتاريا. إلى ماذا أفضت هذه العلاقات الإجتماعية ؟ في 26 مايو عندما هبّ جميع عمال فيينا مستجيبين لنداء الطلاب لمقاومة نزع السلاح من الطلاب (الفرقة الجامعية)، وعندما ملأ سكان العاصمة مدينتهم بالمتاريس وبرزوا كقوة نادرة المثيل وسيطروا على فيينا، وعندما كانت النمسا كلها تلتحق بفيينا المسلحة، وعندما كانت الملكية على وشك الهرب وقد فقدت كل أهميتها، وعندما سحبت آخر الوحدات العسكرية من العاصمة تحت ضغط الشعب، وعندما استقالت حكومة النمسا دون أن تعين خليفة لها، لم يكن هنالك قوة سياسية لتمسك بدفة الحكم. لماذا حصل ذلك ؟

لقد رفضت البرجوازية الليبرالية عن قصد استلام حكم جرى الاستيلاء عليه بشكل لصوصي، كانت تحلم فقط بعودة الإمبراطور الذي فرّ إلى منطقة "التيرول".

وكان العمال على جانب من الشجاعة بحيث قهروا الرجعية غير أنهم لم يكونوا على جانب من التنظيم والوعي الكافيين ليحتلوا مكانها. كانت هناك حركة عمالية قوية ولكن الصراع الطبقي البروليتاري ذا الهدف السياسي المحدد لم يكن قد تبلور بعد. فلم تكن البروليتاريا قادرة على استلام زمام الحكم ففشلت في الاضطلاع بهذه المهمة التاريخية الضخمة وانسحب الديموقراطيون البرجوازيون بهدوء في أكثر اللحظات حرجا كما يفعلون في العديد من الأحيان.

ولكي تجر البروليتاريا هؤلاء الهاربين على القيام بواجباتهم كان يتطلب منها مستوى من الحيوية والنضج لا يقل عن المستوى الضروري لتكوين حكومة عمالية مؤقتة.

وبشكل عام، نشأ وضع وصفه كاتب معاصر بهذا الوصف الصحيح: "لقد أعلنت الجمهورية في فيينا ولكن لم يشاهدها أحد مع الأسف". وهذه الجمهورية التي لم يلاحظها أحد غابت لمدة طويلة عن المسرح مخلية الساحة أمام سلالة غايسبرغ… ما فات قد فات.

إن لاسال(3) قد خلص بعد دراسته لتجربة الثورتين المجرية والألمانية إلى أنه لا يمكن للثورات من الآن فصاعدا أن تجد دعما لها إلا في صراع البروليتاريا الطبقي. فكتب في رسالة إلى ماركس في 24 تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1848 ما يلي:

"كان للمجر الحظ الأوفر من أي بلد آخر لأن تنجح في نضالها. ويعود ذلك، من بين أسباب أخرى إلى أن الحزب فيها لا يعاني من الانقسامات والتناقضات الحادة التي يعاني منها في أوروبا الغربية، ولأن الثورة قد اتخذت طابع النضال من أجل الإستقلال الوطني إلى حد ما. بالرغم من ذلك انهزمت المجر نتيجة خيانة الحزب الوطني بشكل خاص.

"إذا أضفنا إلى ذلك تاريخ ألمانيا خلال فترة 1848-1849 نصل إلى الإستنتاج أنه لا يمكن للثورة أن تنجح في أوروبا إلا إذا أعلنت منذ البداية عن طبيعتها الإشتراكية الصرفة. ولا يمكن لأي نضال أن ينجح إذا ما دخلت فيه القضايا فقط على شكل عنصر مبهم من عناصره وبقيت في المؤخرة، وإذا كان النضال يخاض تحت لواء الانبعاث القومي أو الجمهورية البرجوازية".

لن نتوقف لنقد هذه الإستنتاجات الواثقة من نفسها جدا. ولكن مما لا شك فيه هو أنه حتى في منتصف القرن التاسع عشر لم يكن بالإمكان حل مشكلة التحرر السياسي بواسطة خطط تكتيكية شاملة ومنسجمة تمارس بها الأمة كلها الضغط. إن خطط البروليتاريا التكتيكية المستقلة التي تشحذ قوتها للنضال إنطلاقا من موقعها الطبقي، ومن هذا الموقع فحسب، هي وحدها الكفيلة بتحقيق انتصار الثورة.

إن الطبقة العاملة الروسية عام 1906 لا تشابه بشيء عمال فيينا عام 1848. وأحسن دليل على ذلك هو قيام مجالس مندوبي العمال (السوفييت) على صعيد روسيا كلها. لم تكن هذه المجالس منظمات للتآمر جرى تكوينها في وقت سابق لغاية استيلاء العمال على السلطة عند اندلاع التمرد. كلا، كانت هذه منظمات خلقتها الجماهير نفسها بواسطة التخطيط لغاية تنسيق نضالها الثوري. فكانت مجالس السوفييت التي تنتخبها الجماهير والمسؤولة أمام الجماهير هي بدون شك مؤسسات ديموقراطية تنفذ سياسة طبقية جد مصممة فيها روح الإشتراكية الثورية.

إن مميزات الثورة الروسية تصبح واضحة كل الوضوح عند معالجة قضية تسليح الأمة. كانت الميليشيا – "الحرس الوطني" – المطلب والمكسب الأولين لثورات 1789 و1848 في باريس وجميع ثورات دول إيطاليا، وفيينا وبرلين. ففي عام 1848، كان مطلب إنشاء "الحرس الوطني" أي عملية تسليح الطبقات المالكة و"المثقفة" هو مطلب المعارضة البرجوازية بأسرها، حتى أكثر الفئات اعتدالا منها، ولم تكن غالبية المحافظة على الحريات المكتسبة أو بالأحرى الحريات "الموهوبة" ضد تقلبات من فوق فحسب، ولكن لحماية الملكية البرجوازية الفردية من هجمات البروليتاريا. يقول المؤرخ الليبرالي الإنكليزي الذي أرّخ توحيد إيطاليا: "كان الإيطاليون يعلمون علم اليقين أن الميليشيا الحديثة المسلحة سوف تساهم في تقويض الحكم المطلق. وهي بالإضافة إلى ذلك ضمانة للطبقات الحاكمة ضد أي فوضى ممكنة أو أي اضطراب قد يأتي من تحت(4)". إن الرجعية الحاكمة التي لا تملك العدد الكافي من الجنود في ساحة العمليات للقضاء على الفوضى، أي على الجماهير الثورية، قد وزعت السلاح على البرجوازية. لقد أتاح الحكم المطلق للبرجوازية فرصة قمع العمال وتجريدهم من السلاح ثم جردت البرجوازية من سلاحها وأسكتتها.

في روسيا لم تلق المطالبة بإنشاء الميليشيا أي استجابة عند الأحزاب البرجوازية. فقد كان الليبراليون يقدرون المدلول الخطير للأسلحة، كانوا قد تعلموا بعض الدروس عن هذا الموضوع على أيدي الحكم المطلق. ولكنهم كانوا يفعلون أيضا استحالة إنشاء ميليشيا في روسيا بمعزل عن البروليتاريا أو ضدها. إن عمال روسيا ليسوا مثل عمال عام 1848 الذين كانوا يملئون جيوبهم بالحجارة ويتسلحون بالمعاول بينما أصحاب الدكاكين والطلاب والمحامون يتنكبون البنادق الملكية ويحملون السيوف.

إن تسليح الثورة في روسيا يعني تسليح العمال بشكل خاص. والليبراليون الذين يعلمون هذا علم اليقين ويخافونه يتحاشون الخوض في موضوع إنشاء الميليشيا من أساسه. فيتخلون عن مواقعهم في وجه الحكم المطلق بدون قتال مثلما سلّم "تيير" (Thiers) البرجوازي باريس في فرنسا إلى بسمارك لمجرد أنه يريد أن يتحاشى تسليح العمال.

في ذلك البيان الذي أصدره التحالف الليبرالي-الديموقراطي على شكل مجموعة من الدراسات بعنوان "الدولة الدستورية" يقول السيد دجيفيليفوف في معرض مناقشته لإحتمال قيام الثورات، وهو محق فيما يقول: "على المجتمع ذاته أن يكون على أهبة الإستعداد للدفاع عن دستوره عندما يحين الوقت لذلك". وبما أن النتيجة المنطقية لهذا القول هي المطالبة بتسليح الشعب، يجد هذا الفيلسوف الليبرالي أنه "من الضروري" أن يضيف "أن ليس من الضروري أن يحمل كل فرد من أفراد الشعب السلاح"(5) لمنع الإمتداد. من الضروري أن يكون المجتمع على أهبة الإستعداد للمقاومة ليس إلا. إذا كان لابد من إستخلاص نتيجة من هذا الكلام فهي أن الخوف الذي يعتصر قلوب الديموقراطيين عندنا من البروليتاريا المسلحة هو أعظم من خوفهم من جنود الحكم المطلق.

لهذا السبب، تقع مهمة تسليح الثورة على عاتق البروليتاريا وحدها. إن مطلب الميليشيا المدنية الذي قدمته البرجوازية في عام 1848 لا يقابله في روسيا مطلب تسليح الشعب عامة والبروليتاريا خاصة. إن مصير الثورة يتوقف على هذه القضية.


(1) المعدمون هم الفئات البروليتارية من أصحاب دكاكين وحرفيين دعامة الحقبة اليعقوبية من الثورة الفرنسية. (المترجم).
 

(2) هنريك هاين (1797- 1856) شاعر وناقد ألماني مشهور عرف بنضاله ضد الإضطهاد والحكم المطلق، الأمر الذي اضطره إلى ترك ألمانيا والإستقرار في باريس عام 1831. (المترجم)
 

(3) فردينان لاسال (1825-1864) إشتراكي ألماني ومؤسس "الإتحاد العام للعمال الألمان". ثم ما لبث أن اتخذ موقف الإنتهازية فانتقده ماركس وانغلز حتى شكل جناحا بقيادة في الحركة العمالية الألمانية. (المترجم)
 

(4) بولتون كنغ: "تاريخ الوحدة الإيطالية" موسكو 1901 -المجلد 1 ص 220 (ل.ت.).
 

(5) "الدولة الدستورية"- مجموعة دراسات – الطبعة الأولى- ص 49 (ل.ت.)