هذا الكتاب

كتب كتاب ترو تسكي: "دروس أكتوبر" خلال صيف 1924، ونشر في شهر أكتوبر كبديل لمقدمة الجزء الأول من مؤلفاته الكاملة.

إن هذا الكتاب، كما سنرى من الصفحة الأولى، بناء شخصي للحوادث التي سبقت الثورة الروسية ورافقتها في أثناء الفترة الممتدة من فبراير إلى أكتوبر. وهذا هو الذي يجعلنا اليوم نفهم، بصعوبة، السبب الذي جعل هذا الكتاب يثير ما أثار من جدل وما لقي من معارضة إبان صدوره. فقد كان مركز نقاش سياسي في الاتحاد السوفياتي امتد لعدة شهور. فكون المؤلف عاد في هذا الكتاب "دروس أكتوبر" إلى الكلام حول بعض المواضيع"الحساسة"، خاصة، بإعادته إلى الأذهان موقف زينوفياف وكاميناف عشية ثورة أوكتوبر، لا يكفي بالتأكيد، لتفسير لماذا أحدث ذلك الاهتمام، ولماذا أثار ذلك الجدل.

على أن الأمر الأول الذي يجب أخذه بعين الاعتبار هو أن شخصية المؤلف، بعد وفاة لينين في يناير 1924، كانت، بدون أدنى شك الشخصية الأكثر مهابة بين فريق القادة البلاشفة، واسمه كان يستحضر إلى الذهن التجارب والصفحات الأكثر فخرا للثورة والحرب الأهلية. أما الأمر الثاني فهو الأخذ بعين الاعتبار ما كانت تمثله شخصية تروتسكي في الفلك السياسي وفي الأوضاع التي كانت قائمة في تلك الفترة، فقد كان يبدو، بصورة خاصة، كنقد، وكمعارضة، للفريق الحاكم الذي كان يمارس المراقبة الفعلية على الحزب وعلى الدولة.

ولاستكمال التفسير يلزم اعتبار عدة وقائع وعناصر أخرى:

فبين خريف 1924، والشهور الأولى لسنة 1925، كان تروتسكي قد نشر سلسلة مقالات جمعها بعد ذلك في كتاب سماه "تيار جديد". والموضوع الرئيسي لهذه المقالات يكمن في استنكار العملية الجارية لتدوين Bureaucratisation الحزب، والتي ستظهر آثارها في التعارض بين الجيل القديم "الحراس القدماء" وبين الأجيال الجديدة. فالحزب - حسب رأي تر وتسكي- أخذ يفقد، بشكل دائم، الاتصال بالقوى الحية الأكثر ثورية في البلاد: وهي الشبيبة العمالية والطلابية. ويعبر عن هذه الظاهرة تركيبه الاجتماعي، من خلال نمو الوظائفية Fonctionnarisme فيه.

ولكن ما هو المحتوى الدقيق لهذا التطور البيروقراطي، وما هي بالضبط المشاكل والحاجات الجديدة التي لم يشعر بها "الحراس القدماء" ؟ ؟. إن تروتسكي لم يوضح ذلك جيدا في كتابه "تيار جديد"، فالاحتجاجات والبديهيات هنا تغلب على التحليل، ومع ذلك فإن قارئا منتبها، وعلى علم بوقائع الوضع السوفياتي لسنتي 1923-1924 لا يعدم أن يجد بعض المواضيع التي ستصبح بعد ذلك عناصر لنظرة مترابطة ذات أفق سياسي مكتمل، يجدها هنا بالكاد مخططة ومستشفة. ولذلك خصص مكان واسع لموضوع التخطيط Planification حيث احتل فصلا كاملا من الكتاب، لأن الأمر يتعلق هنا بموضوع عزيز جدا على تروتسكي، وقد تحدث عنه طويلا وبعاطفة في علاقته مع المؤتمر الثاني عشر للحزب. وهو الموضوع الذي يعكس تجربته الثورية في تنظيم الجيش الأحمر في أثناء فترة "شيوعية الحرب"، خاصة، التخطيط الاقتصادي منه، وبشكل أخص، تخطيط الصناعة الكبيرة التي استولت عليها الدولة حيث أمكن بواسطة ذلك التخطيط الاقتصادي التغلب على "أزمة المقص" المشهورة التي تمثلت في التباعد بين منتجي الإنتاج الزراعي وبين منتجي الإنتاج الصناعي. تلك الأزمة التي كان تروتسكي أول من لفت انتباه الحزب إليها. وفي هذه النقطة اصطدم بقضية الفلاحين. ذلك أن سياسة تخطيطية تمثل إلى حد ما رجوعا إلى شيوعية الحرب، لابد أن تصطدم وتتعارض مع السياسة الاقتصادية الجديدة N.E.P. التي دشن عهدها لينين سنة 1921.

ومع اقتصاديات السوق التي أعادتها السياسة الاقتصادية الجديدة، تلك هي الاعتراضات - مع اعتراضات أخرى من نفس النوع - التي أثارتها مقالات تروتسكي. وقد أجاب هذا الأخير منكرا أن يكون لديه أي "سوء تقدير للفلاحين" مذكرا بأنه كان متفقا تماما مع لينين لتأييد ضرورة السياسة الاقتصادية الجديدة. الأمر الذي لم يمنع خصومه من الإلحاح على هذا الموضوع ما دامت بعض الصيغ والأفكار الموجودة في كتابات تروتسكي تتيح لهذه الانتقادات أن يكون لها بعض الأساس. ولكن الفقرة التي تستوقف خصومه ويـبطئون عندها الوقوف هي التي يؤكد فيها من جديد إخلاصه المستمر لنظرية الثورة الدائمة التي صاغها سنة 1904-1906 بل ويضيف مؤكدا على أن نظرية الثورة الدائمة التي تعتبر بأن روسيا لا يمكن أن تقف عند المرحلة الديموقراطية البرجوازية من الثورة التي تعبر عنها صيغة "الديكتاتورية الديموقراطية للعمال والفلاحين" وإنما يجب أن تسير نحو تكوين "حكومة عمالية تستند إلى الفلاحين، وتفتح عهد الثورة الاشتراكية العالمية". قلنا أن تلك النظرية تقود مباشرة إلى اللينينية، وخاصة إلى موضوعات أبريل 1917. وتلك هي الفكرة الرئيسية التي نماها تروتسكي في كتابه "دروس أكتوبر". ومن ذلك كان "التيار الجديد" الذي بشر به يـبدو وكأنه شكل من أشكال "الدفع" الثوري، وضرب من العودة إلى "اللينينية" الصحيحة التي جاءت في موضوعات أبريل، سواء في الميدان الداخلي أو في العلاقة مع الحركة العمالية العالمية.

*******

على أن نشر مقالات "تيار جديد" قد أثار جدلا حادا إبان عقد مجلس الحزب Conference الثالث عشر (16-18 يناير 1924) حيث قام ستالين بالذات بالهجوم على الأفكار التي عرضها تروتسكي. على أن وفاة لينين بعد أيام قليلة من اختتام ذلك المجلس، والاضطراب الذي أصاب الفريق القائد للحزب، قطع مؤقتا ذلك الجدل. فطوال النصف الأول لعام 1924 كان الشاغل الجوهري لممثلي الحزب الرئيسيين هو إنقاذ وحدة الفريق القائد. وفي المؤتمر الثالث عشر(23-31 مايو 1924) بدا أن خلافات المجلس الثالث عشر قد نسيت. وتروتسكي نفسه الذي لم يحضر أعمال المجلس المذكور تدخل في المؤتمر وطرح كلاما معتدلا ورفاقيا، مطالبا بأن تكون المحافظة على وحدة الحزب هي الهدف الأول.

إلاّ أن نشر "دروس أكتوبر" قطعت الهدنة التي قامت بعد وفاة لينين، وأشعلت مرة أخرى نار الجدل. وبالنسبة لقارئ ذلك الحين الذي لا يزال يستحضر تلك التجارب السياسية وذلك الجدل، سوف تبدو له "الدروس" وكأنها بيان Manifeste ذلك "الدفع" الثوري لهذا "التيار الجديد" الذي حركه تروتسكي. إن نواة هذا الكتاب الجديد تتكون من التعارض بين "اللينينية" الصحيحة و"الاتجاه البروليتاري" الذي "يدل على طريق الثورة العالمية" ويعرض على فريق قائد - ولكنه متردد- بين الاختيار الثوري لموضوعات أبريل وبين (منشفية) أولئك الذين ليست لهم ثقة في قدرة البروليتاريا الروسية على اخذ المبادرة في الثورة الاشتراكية العالمية. والرجوع إلى التجربة الألمانية: أكتوبر 1923 (التي كانت الموضوع الرئيسي لنقاش المؤتمر الخامس الأممي: يوليو 1924) أعطى ذلك التعارض صفة الحاضر المعاش، ألم تكن نفس الترددات، ونفس انعدام الثقة التي كانت بين أبريل وأكتوبر 1917 والتي كادت - لولا تحريض لينين الثوري، أن تؤدي بالحركة الثورية في روسيا إلى الإفلاس والشلل ومواقع الخطأ، هي التي حددت فشل ثورة ألمانيا التي كانت حسب تقدير الأممية الشيوعية ممكنة جدا ؟ ثم أليست كذلك حجة أولئك الذين يجعلون دائما في المقدمة حالة تأخير روسيا الزراعية، ظاهرة منشفية، وقرينة على غياب ثقتهم في الإمكانيات الثورية للبروليتاريا الروسية والعالمية ؟

تلك هي القضايا التي تثيرها "دروس" أكتوبر في ذهن القراء في ذلك الحين وهي تتضمن أيضا سلسلة أخرى من القضايا التي طرحت للنقاش في ذلك الوقت: مثل قضية "السياسة الاقتصادية الجديدة" والتخطيط أو "ديكتاتورية الصناعة" وكفاءة الفريق القائد إذاك للحزب وللأممية الشيوعية في الإحساس والتعبير عن الضرورة الأكيدة لاندفاع ثوري جديد، وأخيرا قضية بيروقراطية الحزب. وإذا كان كتاب تروتسكي هذا لم يواجه هذه المشكلات مباشرة واكتفى بالمرور عليها فإن صلتها بالموضوع الرئيسي لا تظهر أقل وضوحا لأولئك الذين عاشوا التجربة السياسية لسنتي 1923-1924. والذين مازالوا يؤكدون الجدال الذي سببه قبل ذلك بسنة نشر برنامج الست والأربعين (46) ومناقشات المجلس الثالث عشر للحزب.