الفصل الثامن
من الماركسية إلى النزعة السلمية

إن الظاهرة التي تدعو للقلق أكثر من غيرها هي مقطع من مقالة راديك لا علاقة له بالموضوع الأساسي الذي نحن بصدده، وإنما تربطه به وحدانية إنحياز راديك نحو مفكّري الوسطية الحاليين. أعني بذلك تودّد راديك الخجول لنظرية الاشتراكية في بلد واحد. يجب أن نتوقف عند هذه النقطة، لأن هذه "الحاشية" من أخطاء راديك قد تجاوز جميع الخلافات الأخرى في الرأي في تطورها اللاحق، مبينة أن كميتها قد تحولت نهائيا إلى نوعية.

في معرض مناقشته للأخطار التي تهدّد الثورة من الخارج، يكتب راديك أن لينين "…كان مدركا أن الدكتاتورية (دكتاتورية البروليتاريا) لا تستطيع أن تحافظ على نفسها إلاّ إذا هبّت البروليتاريا الأوروبية لنجدتها، ذلك بسبب مستوى التطور الاقتصادي في روسيا عام 1905."

الأخطاء تتوالى، فتؤدي قبل شيء إلى خرق بذيء للأفق التاريخي. لقد قال لينين في الواقع، أكثر من مرّة، إن الدكتاتورية الديموقراطية (وليس دكتاتورية .البروليتاريا) لا تستطيع المحافظة على نفسها في روسيا بدون قيام الثورة الاشتراكية في أوروبا. إن هذه الفكرة تتخلل، كخيط أحمر، جميع مقالات لينين وخطبه إبان مؤتمر الحزب في ستوكهولم عام 1906 (في مساجلته مع بليخانوف، وفي معالجته لقضايا التأميم، إلى آخره). ولم يخطر ببال لينين، في تلك الفترة، أن يطرح قضية قيام دكتاتورية البروليتاريا في روسيا قبل قيام الثورة الاشتراكية في أوروبا. غير أن الموضوع الأساسي ليس هنا في الوقت الحاضر. ما هو معنى عبارة "بسبب مستوى التطور الاقتصادي في روسيا عام 1905" ؟ وكيف كان مستوى هذا التطور في عام 1917 ؟ إن نظرية الاشتراكية في بلد واحد قد بينت على هذا التباين في المستويات. ولقد قسّم برنامج "الكومنتيرن" الكرة الأرضية إلى مربعات "مؤهلة" في مستواها لبناء الاشتراكية بشطل مستقل، وأخرى "غير مؤهلة" لذلك؛ فأوقع الستراتيجية الثورية بذلك في طريق مسدودة لا أمل بالخروج منها. لا شك في أن التباين في المستويات الاقتصادية قد ينعكس على قوى الطبقة العاملة السياسية. ففي عام 1905، لم نستطع أن نرتفع إلى مستوى دكتاتورية البروليتاريا كما أننا لم نستطع أن نرتفع إلى مستوى الدكتاتورية الديموقراطية، وفي عام 1917، أقمنا دكتاتورية البروليتاريا التي ابتلععت الدكتاتورية الديموقراطية، ولكن مستوى التطور الاقتصادي الذي كان موجودا عام 1917 وعام 1905 لم يسمح للدكتاتورية بأن تحافظ على نفسها وتتطور نحو الاشتراكية إلاّ إذا هبت البروليتاريا الأوروبية لنجدتها في الوقت المناسب. وطبعا، لا يمكن تحديد هذا "الوقت المناسب" بشكل مسبق، إن مجرى التطور والنضال يحددانه. إلى جانب هذه المسألة الأساسية التي تحددها العلاقة بين القوى في العالم والتي لها الكلمة الفاصلة الأخيرة في الأمر، يصبح التباين في مستويات التطور في روسيا بين عامي 1905 وعام 1917 عاملا ثانويا مهما بلغ من الأهمية.

غير أن راديك لا يكتفي بالإشارة المبهمة إلى هذا التباين في المستويات. فبعد الإشارة إلى أن لينين قد أدرك الارتباط بين قضايا الثورة الداخلية وقضاياها العالمية، يستطرد قائلا:

"إلاّ أن لينين لم يشدد فقط على هذا الارتباط بين المحافظة على الدكتاتورية الاشتراكية في روسيا وبين مساعدة بروليتاريا أوروبا الغربية لها مثلما بالغت صياغة تروتسكي الشديدة الحدّة التي تؤكد أنه يجب على المساعدة أن تكون مساعدة حكومية، أي مساعدة تقدمها بروليتاريا أوروبا الغربية بعد تحقيق إنتصارها".

بصراحة، لم أصدق عيوني عندما قرأت هذه الأسطر. لأي هدف استعار راديك هذا السلاح البالي من مستودع "رجال الصف الثاني" ؟ إنه مجرد ترداد مخز للتفاهات الستالينية التي كنا دوما نسخر منها. وعلاوة عن الأشياء الأخرى، فإن هذا المقطع يبين أن راديك لا يفهم المعالم الرئيسية لخط لينين الفكري. إن لينين، على عكس ستالين، لم يكن يعتقد أن ضغط البروليتاريا الأوروبية على الحكم البرجوازي هو البديل لاستلام البروليتاريا للحكم بل على العكس، فقد صاغ مسألة المساعدة الثورية الخارجية بحدة تفوق الحدة التي صغتها أنا بها. فخلال فترة الثورة الأولى كان يردد بدون كلل أنه لا يمكن لنا أن نحتفظ بالديموقراطية (ولا حتى بالديموقراطية !) إلاّ إذا قامت الثورة الاشتراكية في أوروبا. ويمكن أن نقول بشكل عام، أنه في فترة 1917-1918، لم ينظر إلى مصير ثورتنا ولم يقيمه إلاّ مرتبطا بمصير الثورة الاشتراكية التي كانت بوادرها آخذة في البروز في أوروبا. وعلى سبيل المثال، فقد صرح علناً: "بدون انتصار الثورة في ألمانيا فإننا لا محالة هالكون". وقد قال ذلك في عام 1918 ولم يقله بصدد "المستوى الاقتصادي" عام 1905، وهو لم يكن يتكلم عن العقود القادمة وإنما عن الفترة التي تلي مباشرة أي عن سنوات أو الأشهر القليلة القادمة.

لقد أعلن لينين في عشرات المناسبات: إذا كنا قد صمدنا "فإنما يعود ذلك… إلى وجود مزيج ملائم من الظروف حمانا من الاستعمار العالمي لفترة قصيرة" (إنتبه إلى عبارة:لفترة قصيرة !). ويقول بعد ذلك: "لا يمكن للاستعمار العالمي في أي ظروف وبأي شرط أن يعيش جنب مع الجمهورية السوفييتية… إن الصراع حتمي على هذا الصعيد". وما هي النتيجة ؟ الدعوة إلى التفاؤل السامي "بضغط" البروليتاريا أم الدعوة إلى "إزالة مفعول" البرجوازية ؟ كلا. النتيجة هي التالية: "إن الصعوبة التي تواجه الثورة الروسية هي … ضرورة تفجير الثورة العالمية". (لينين المؤلفات الكاملة –المجلد 15- ص 126- الطبعة الروسية). متى هذا الكلام ؟ لقد قيل عام 1917 وفي الأعوام التي تلته ولم يقل عام 1905 عندما كان نقولا الثاني يفاوض وليم الثاني بغية القضاء على الثورة وعندما قدّمت صيغتي البالغة "الحدة".

هذا ما قاله لينين في مؤتمر "الكومنترن" الثالث:

"كان واضحا بالنسبة إلينا أن انتصار ثورة البروليتاريا (في روسيا) أمر مستحيل ما لم تدعمها الثورة العالمية. وكنا نقول: إما أن تندلع الثورة في البلدان الأخرى، أي في البلدان الأكثر تقدما في الاتجاه الرأسمالي، رأسا أو على الأقل بسرعة عظيمة وإما أن يكون مصيرنا الهلاك. وبالرغم من هذه القناعة، فلقد بذلنا كل جهد للمحافظة على النظام السوفييتي في جميع الظروف غير مبالين بالعواقب، لأننا كنا نعلم أننا لا نعمل من أجل أنفسنا فقط وإنما من أجل الثورة العالمية أيضا. كنا نعلم ذلك، ولقد رددنا هذه القناعة مرارا قبل ثورة أكتوبر وبعد قيامها مباشرة وإبان توقيع معاهدة "بريست ليتوفسك". أما في الواقع الفعلي فإن الأحداث لم تسلك خطا بالاستقامة التي توقعنا لها أن تسلكه".
(محاضر مؤتمر الكومنترن الثالث – ص354 – الطبعة الروسية).

ابتداء من عام 1921 بدأت الحركة بالسير في خط لم يكن بالاستقامة التي توقعنا لها أنا ولينين أن تسير به عام 1917-1919 (وليس فقط عام 1905). ومع ذلك فقد تطورت في خط التناقضات العدائية بين الدولة العمالية والعالم البرجوازي. وكان لا بد من أن ينهار أحدهما ! ولا يمكن المحافظة على الدولة العمالية في وجه الأخطار المميتة التي تتهددها، اقتصاديا كانت أم عسكرية، إلاّ بانتصار ثورة البروليتاريا في الغرب. وان محاولة اكتشاف التباين بين موقفي وموقف لينين لهو ذروة من القذارة النظرية. أعيدوا قراءة لينين على الأقل، لا تشوّهوه، ولا تسقونا هذا الحساء الستاليني الفاسد !

إلاّ أن الانحدار نحو الدرك لا يتوقف عند هذا الحدّ. فبعد أن يخترع راديك قصة تقول أن لينين يعتبر أن المساعدة "البسيطة" التي تقدمها البروليتاريا العالمية تكفي (هذه الفكرة الإصلاحية في جوهرها والمنسوبة إلى بورسيل)، وان تروتسكي قد "بالغ في الإلحاح "على المساعدة الحكومية فقط، أي المساعدة الثورية؛ بعد ذلك يستطرد راديك قائلا:

"لقد أثبتت التجربة أن لينين كان على حق في هذه النقطة أيضا. لم تكن البروليتاريا الأوروبية قد أصبحت من القوة بحيث تستطيع الاستيلاء على الحكم، غير أنها كانت تملك القوة الكافية، خلال فترة التدخل، لتمنع البرجوازية العالمية من أن تحشد قوى فعّلة في المعركة ضدنا. وقد ساعدت بذلك على المحافظة على السلطة السوفييتية. إن الخوف من الحركة العمالية والتناقضات داخل العالم الرأسمالي ذاته كانت القوة الأساسية التي ضمنت استمرار السلم خلال السنوات الثماني بعد انتهاء فترة التدخل".

إن هذا المقطع الذي لا يحمل شيئا من الطرافة إذا ما قورن بفروض الإنشاء التي يخطّها الموظفون الفكريون في زمننا هذا، يبقى جديرا بالاهتمام لأنه مزيج من التزوير التاريخي ومن البلبلة السياسية ومن أفظع الأغلاط المبدئية.

يستنتج من كلام راديك أن لينين، في منشور له عام 1905 بعنوان "خطط عمل للاشتراكية-الديموقراطية" (وهذا هو المنشور الوحيد الذي يشير إليه راديك) قد تنبأ أن ميزان القوى بين الدول والطبقات بعد عام 1917 سيكون في وضع يحول فيه لمدة طويلة دون إمكان حصول تدخل عسكري واسع ضدنا. ومقابل ذلك فإن تروتسكي لم يتنبأ عام 1905 بالوضع الذي سينتج حتما بعد الحرب الاستعمارية، ولكنه اكتفى بالاعتراف بوقائع تلك الحقبة كقوة جيش الهوهنزولرن مثلا، وضخامة جيش الهابسبورغ، وجبروت البورصة الفرنسية، إلى آخره. هذا افتراء حقير على التاريخ، يزيد في تعقيده التناقضات السالفة التي تحتويها. يعتبر راديك أن خطأي الأساسي هو أني توقعت قيام دكتاتورية البروليتاريا "مع وجود مستوى التطور الاقتصادي كما كان عليه عام 1905". والآن يتضح الخطأ الثاني: إني لم أعالج توقع قيام دكتاتورية البروليتاريا الذي عرضته عشية ثورة عام 1905 في ضوء الوضع الدولي الذي لم يبرز إلاّ بعد عام 1917. عندما يبدو حجج ستالين على هذا النحو، فإننا لا ندهش بها، لأننا على علم وثيق "بمستوى تطور" ستالين كما كان عام 1917 وكما هو عام 1928 – ولكم كيف وقع راديك بين مجموعة كهذه ؟

ومع ذلك فحتى هذا ليس أسوأ ما في الأمر. إن راديك قد قفز عن الحاجز الذي يفصل الماركسية عن الانتهازية والموقف الثوري عن الموقف السلمي –وهذا أسوأ ما في الأمر. ليست المسألة إلاّ مجرد مسألة النضال ضد الحرب أي مسألة البحث عن أساليب تتبع لتفادي الحرب أو إيقافها: ضغط البروليتاريا على البرجوازية أم حرب أهلية تقضي على البرجوازية ؟ لقد أدخل راديك، بدون علم منه، مسألة أساسية تتعلق بسياسة البروليتاريا في النقاش الدائر بيننا.
هل يعني راديك أني لا "أتجاهل" دور الفلاحين فحسب وإنما أتجاهل ضغط البروليتاريا على البرجوازية كذلك، وإني لا آخذ بعين الاعتبار إلاّ ثورة البروليتاريا ؟ يصعب التصديق أن راديك يدافع عن تفاهة كهذه جديرة بأمثال "ثالمان" و"سيمار" و"مونموسو". في مؤتمر "الكومنترن" الثالث دعا اليساريون المتطرفون آنذاك (زينزفييف، ثالهايمر، بيلاكون، إلى آخره) إلى انتهاج خطط تكتيكية غايتها القيام بانقلاب في الغرب لإنقاد الاتحاد السوفييتي. ففسّرت لهم ولينين، بأبسط أسلوب ممكن، أن أفضل مساعدة يستطيعون تقديمها هي أن يعملوا بشكل منهجي مبرمج لترسيخ مواقعهم ولتحضير أنفاسهم للاستيلاء على الحم عوضا عن أن يفتعلوا المغامرات الثورية لمساعدتنا. ومما يدعو للأسف الشديد أن راديك لم يقف في تلك المناسبة إلى جانب لينين وتروتسكي وإنما وقف إلى جانب زنوفييف وبوخارين. ولا شك في أن راديك يتذكر أن جوهر نقاشي ونقاش لنين كان الهجوم على اعتباطية "الصياغة الشديدة الحدة" التي تقدم بها اليساريون المتطرفون؛ على كل إذا كان راديك لا يتذكر ذلك فما عليه إلاّ أن يعود إلى محاضر المؤتمر الثالث. وبعد أن فسرنا لهم أن دعم الحزب وممارسة البروليتاريا للضغط هما عاملان في غاية الأهمية في العلاقات الداخلية والدولية أظفنا – نحن الماركسيين – لأنّ "الضغط" هو وضيفة من وظائف النظال النظري الثوري الهادف إلى استلام الحكم وأنه يعتمد كليا على تطور هذا النضال. لهذا السبب، ألقى لينين خطابا في نهاية المؤتمر الثالث في اجتماع واسع خاص للمندوبين كان موجها ضد نزعات الاستكانة والوقوف إلى هامش الأحداث، وختم خطابه بهذه الوصية: أيها الأصدقاء، لا تشترطوا في المغامرات، ولكن لا تتلكأوا، إننا لن نصمد طويلا إذا مارستم "الضغط" وحده.

يشير راديك إلى أن البروليتاريا الأوروبية لم تكن مؤهلة لاستلام الحكم بعد الحرب غير أنها منعت البرجوازية من أن تسحقنا. ولقد تكلمتُ حول هذا الموضوع في أكثر من مناسبة. بيد أن البروليتاريا الأوروبية قد نجحت في أن نحول دون سحقنا فقط لأن ضغط البروليتاريا صادف وجود النتائج الموضوعية الخطيرة للحرب الاستعمارية والتناقضات العالمية التي زادت هذه الحرب من حدّتها. ولا يمكن أن نحدد أيّ عامل كان له الدور الحاسم: الصراع داخل المعسكر الرأسمالي أم الانهيار الاقتصادي أم ضغط البروليتاريا؛ المسألة لا تطرح على هذا النحو. لقد أثبتت الحرب الاستعمارية ، بما لا يسمح الشط، أن الضغط السلمي لا يكفي بمفرده لأن هذه الحرب قد نشبت بالرغم من جميع أنواع "الضغط". وأخيرا، وهذا أهم ما في الأمر، إذا كان ضغط البروليتاريا فعالا في السنوات الحرجة الأولى من الحياة الجمهورية السوفييتية فذلك يعود إلى أن المسألة لم تكن بالنسبة لعمال أوروبا مسألة ممارسة الضغط بل مسألة النضال من أجل استلام الحكم؛ وغالبا ما أخذ هذا النضال شكل حرب أهلية.

في عام 1905، لم يكن هناك حرب ولا انهيار اقتصادي وكانت الرأسمالية والنزاعات العسكرية في ذروة هيجانها الدموي. فعجز "الضغط" الذي مارسه الاشتراكيون-الديموقراطيون آنذاك عن أن يمنع وليم الثاني أو فرانز جوزيف من اجتياح مملكة بولونيا بجيشهما ومن أن يهبوا لنجدة القيصر. وحتى في عام 1917، فالضغط الذي مارسته البروليتاريا الألمانية لم يحل دون احتلال الهوهنزولرن لمقاطعات البلطيق وأوكرانيا، وإذا لم يصلوا إلى موسكو فإنما يعود ذلك ضعف قواهم العسكرية. وإذا كان الأمر غير ذلك، لماذا وكيف عقدوا معاهدة الصلح في بريست ؟ ما أسهل نسيان الماضي ! إن لينين لم يقتصر في كلامه على تعليق الآمال بضغط البروليتاريا ولكنه أكّد مرارا أننا لا بد هالكون إذا لم تندفع الثورة في ألمانيا. وكان هذا القول مصيبا في جوهره رغم أن فترة أطول من الزمن قد انقضت. يجب أن لا تخدعنا الأوهام: لقد صدر بحقنا حكم مؤجل إلى أجل غير مسمّى. ونحن ما زلنا نعيش، كما كنا في السابق، برهة استنشاق الهواء قبل العودة إلى الغوص.

إن وضعا لا تستطيع البروليتاريا فيه أن تستولي على الحكم ولكنها تستطيع أن تمنع البرجوازية من استعمال قوتها لشن الحرب، هو خير مثال على وضع من التوازن الطبقي غير المستقر. ونعتبر التوازن غير مستقر بالتحديد لأنه لا يمكن أن يستمرّ طويلا. لابد من أن ترجح هذه الكفة أو تلك. فإما أن تستلم البروليتاريا الحكم وإما ان تضعف البرجوازية الضغط الثوري، بواسطة سلسلة من الضربات الساحقة، بحيث يتسنى لها أن تستعيد حرية التصرف خاصة في قضيتي الحرب والسلم.

إن الموقف الإصلاحي هو وحده الذي يصوّر ضغط البروليتاريا على الدولة البرجوازية على أنه عامل تتزايد أهميته باستمرار وأنه ضمانة ضد التدخل. فمن هذا المفهوم بالذات نشأت نظرية بناء الاشتراكية في بلد واحد التي تنطلق من موضوعة "إزالة مفعول" البرجوازية العالمية (ستالين). ومثلما تهرب البومة عند انبلاج الفجر فإن نظرية ستالين عن إزالة مفعول البرجوازية بواسطة ضغط البروليتاريا تنشأ فقط عندما تأخذ الظروف التي ولدتها بالاضمحلال.

لقد عانى الوضع العالمي من تغيّرات مفاجئة في فترة أدى فيها التفسير الخاطئ لتجربة ما بعد الحرب إلى التعلّل بالأمل الكاذب بأننا سوف نتدبّر أمورنا دون الحاجة إلى ثورة البروليتاريا الوروبية باستبدالنا هذه الثورة بفكرة "الدعم" بشكل عام. إن هزائم البروليتاريا قد مهدت الطريق أمام استقرار الرأسمالية. لقد تغلبت الرأسمالية على النكسة التي أصيبت بها الحرب. وبرزت أجيال جديدة لم تدق أهوال المجازر الاستعمارية. فكانت النتيجة أن البرجوازية تملك الآن حرية في التصرف بآلتها الحربية أكثر مما كانت تملك من حرية منذ خمس أو ثمانية سنوات خلت.

عندما تتجه الجماهير العاملة إلى اليسار تؤدي هذه العملية، في تطورها اللاحق، إلى إزدياد ضغطها مرّة أخرى على الدولة البرجوازية. غير أن هذا العامل سيف ذي حدين. إن تفاقم خطر الطبقة العاملة بالذات هو الذي يدفع البرجوازية، في طور لاحق، إلى اتخاذ إجراءات حاسمة لكي تؤكد أنها سيدة في دارها وإلى محاولة تحطيم المركز الرئيسي الذي ينشر العدوى الثورية: الجمهورية السوفييتية. إن النضال ضد الحرب لا يحدده الضغط على الحكومة وإنما النضال الثوري لاستلام الحكم فقط. إن الآثار "السلمية" للصراع الطبقي البروليتاريا، مثل آثار الإصلاحية، ما هو إلا منتوجات للنضال الثوري لاستلام الحكم؛ إنها لا تملك إلا قوة نسبية ومن السهل قلبها إلى نقيضها، أي أنها قد تدفع البرجوازية في طريق الحرب. إن خوف البرجوازية من الحركة العمالية، الذي يعالجه راديك من زاوية جد مميزة، هو الأمل الفعلي الذي يتعلق بع جميع الاشتراكيين السلميين. إلاّ أن "الخوف" من الثورة لا يقرر سيئا بمفرده. الثورة هي التي تقرر. لهذا السبب قال لينين أن الضمانة الوحيدة ضد عودة الملكية عام 1905، وضد عودة الرأسمالية عاو 1918، ليس الضغط الذي تمارسه البروليتاريا وإنما انتصارها الثوري في أوروبا. هذا هو الشكل الوحيد لطرح القضية. وبالرغم من طول مدّة استنشاق الهواء قبل العودة إلى الغوص، فإن صياغة لينين ما تزال تحتفظ بكل قوتها حتى في هذه الأيام. ولقد صغت المسألة بالطريقة ذاتها. فكتبت في نتائج وتوقعات" عام 1906 ما يلي:

"إن الخوف من انتفاضة البروليتاريا هو بالتحديد العامل الذي يجبر الأحزاب البرجوازية، حتى وهي تصوت إلى جانب صرف المبالغ الهائلة لمتابعة الحرب، على الإدلاء بتصريحات رنّانة تؤيد فيها السلم، وعلى تعليق الآمال على "لجان تحكيم دولية"، وحتى على تنظيم "الولايات المتحدة الأوروبية". إن هذه التصريحات الرنانة البائسة لا تستطيع طبعا أن تلغي التناقض بين الدول ولا الصراعات المسلحة".
(تروتسكي: "ثورتنا" – مقالة "نتائج وتوقعات" – ص283)

إن الخطأ الأساسي الذي وقع فيه المؤتمر السادس يكمن في أنه، سعيا منه وراء إنقاذ توقعات ستالين وبوخارين السلمية والإصلاحية-الوطنية، أخذ يبحث عن وصفات ثورية-تقنية لتفادي خطر الحرب فاصلا بذلك النضال ضد الحرب عن النضال من أجل استلام الحكم.

وقد حاول موّجهو المؤتمر السادس هؤلاء البناة المترددين للاشتراكية في بلد واحد الذين هم في جوهرهم سلميون متخوفون، ان يزيدوا في سرعة "إزالة مفعول" البرجوازية بواسطة وسائل "ضغط" مكثف. وبما أنه لم يكن بإمكانهم إلا أن يعلموا ان قيادتهم قد أدّت إلى هزيمة الثورة في عدد من البلدان حتى الآن، وإنها قد أخرت مسيرة طليعة البروليتاريا العالمية، فقد سعوا في الدرجة الأولى إلى نبذ "الصياغة الشديدة الحدّة" التي طرحتها الماركسية والتي تربط قضية الحرب بقضية الثورة بشكل عضوي فحولوا النضال ضد الحرب إلى مهمة اكتفاء ذاتي. وحتى لا تتغافل الأحزاب الوطنية عن الساعة الحاسمة، أعلنوا أن خطر الحرب دائم عاجل لا يؤجل. وكل ما يحدث في العالم غايته الحرب. فلم تعد الحرب بعد الآن أداة في يد النظام البرجوازي بل أصبح النظام البرجوازي أداة في يد الحرب. ونتيجة لذلك تحوّل نضال الأممية الشيوعية ضد الحرب إلى مجموعة من الشعائر تردّد بشكل آلي في كل مناسبة فتفقد مفعولها وتتبخر. إن الاشتراكية الوطنية الستالينية تتجه نحو تحويل الأممية الشيوعية إلى أداة ثانوية "للضغط" على البرجوازي. إن هذا هو الاتجاه الذي يدعمه راديك بنقده السريع والمائع والسطحي وليس الاتجاه الماركسي. لقد أضاع بوصلته وانحراف في تيار هجين قد يقذف به إلى شطآن غريب بعيد.

الما-أطا أكتوبر 1928