الفصل السابع
الأسرة – الشبيبة – الثقافة


التيرميدور في العائلة

لقد برّت ثورة أوكتوبر بوعودها المتعلقة بالمرأة. ولم تكتف السلطة الجديدة بمنح المرأة حقوق الرجل القانونية والسياسية ذاتها، بل بذلت كل ما بوسعها، وأكثر من أي نظام آخر، لتفتح أمامها الطريق لكل المجالات الاقتصادية والثقافية. ولكن أقوى الثورات عاجزة، تماما مثل البرلمان البريطاني "كلي القدرة"، عن جعل المرأة كائنا مشابها للرجل. أو بمعنى آخر عاجزة عن أن توزع بينها وبين رفيقها متاعب الحمل والولادة والرضاعة وتربية الأطفال. لقد حاولت الثورة بكل شجاعة تدمير "البيت العائلي" اﻵمن. تلك المؤسسة القديمة الرتيبة الخانقة التي حكم على نساء الطبقات الكادحة فيها بالأشغال الشاقة منذ الطفولة حتى الموت. وكان الثوريون يؤمنون بضرورة استبدال الأسرة من حيث هي مؤسسة صغيرة مغلقة بنظام مكتمل للخدمات الاجتماعية: مراكز أمومة، حضانات، حدائق للأطفال، مطاعم، أماكن لتنظيف الثياب، مستوصفات، مستشفيات، مراكز للنقاهة، منظمات رياضية، سينما، مسارح... الخ. وقيام المجتمع الاشتراكي بكل مهام الأسرة الاقتصادية، بغية ربط الجيل كله بفكرة المشاركة والتعاون المتبادل، يؤدي إلى تحرير المرأة، وبالتالي إلى تحرير الزوجين تحريرا حقيقيا من النير الدهري. وطالما بقي هذا الأمر بعيدا عن التنفيذ، فإن أغلبية الأسر السوفياتية، البالغ عددها 40 مليون أسرة، ستبقى بين براثن عادات القرون الوسطى، والعبودية، وهيستيريا النساء، والإهانات اليومية للأطفال، ووساوس هذه وتلك. وليس هنالك أي أمل في هذا المجال. هذا هو السبب في أن التعديلات المتعاقبة لوضع الأسرة في الاتحاد السوفياتي هي تلك التي تحدد بالشكل الأفضل طبيعة المجتمع السوفياتي الحقيقية وتطور شرائحه الحاكمة.

لم ينجح الهجوم على الأسرة القديمة. وليس هذا بسبب انعدام النية الحسنة أو لصلابة فكرة الأسرة في أعماق الضمير، فالعاملات والفلاحات المتقدمات وقفن موقف الحذر من الدولة ودور حضانتها وحدائق أطفالها ومختلف مؤسساتها لمدة قليلة ثم بدأن يقدرن المكاسب الكبيرة للتربية الجماعية، وتشريك اقتصاد الأسرة. ولكن المجتمع بدا في واقع الأمر بغاية الفقر والجهل، ولم تكن موارد الدولة الحقيقية تتلاءم مع الخطة أو مع نوايا الحزب الشيوعي. لذا فإن من الصعب إلغاء الأسرة ويستحسن الاكتفاء باستبدالها. إن تحرير المرأة الحقيقي مستحيل على أرض "البؤس الاشتراكي". لقد أكدت التجربة هذه الحقيقة التي تكلم ماركس عنها قبل 80 سنة.

كان العمال في سنوات المجاعة يتغذون – مع أسرهم في بعض الأحيان – في مطاعم المصانع أو المؤسسات المماثلة. وفسر الأمر بصورة رسمية كبداية للتقاليد الاشتراكية. ولسنا بحاجة الآن للتوقف عند خصائص المراحل المختلفة – شيوعية الحرب، السياسة الاقتصادية الجديدة، الخطة الخمسية الأولى – فالواقع أنه منذ إلغاء بطاقة الخبز في عام 1935 بدأ العمال ذوو الأجور الحسنة بالعودة إلى مائدة الطعام العائلية. ومن الخطأ أن نرى في هذا حكما على النظام الاشتراكي الذي لم يكن قد جُرب بعد. ولكن العمال وزوجاتهم كوّنوا انطباعا قاسيا عن "التغذية الاجتماعية" التي نظمتها البيروقراطية، كما كوّنوا الانطباع والفكرة ذاتيهما عن أماكن التنظيف الاشتراكية حيث تـُسرق الثياب وتـُحرق بدلا من أن تـُنظف. فهل نعود إلى البيت ؟ إن العودة إلى المطبخ والتنظيف المنزلي التي يمتدحها بعض الخطباء والصحفيين السوفيات بحرج تعني عودة المرأة إلى القدور وأوعية التنظيف، أي إلى العبودية القديمة. ومما يشك فيه أن تقتنع ربة البيت بعد ذلك بتصريحات الأممية الشيوعية عن "انتصار الاشتراكية الكامل والنهائي في الاتحاد السوفياتي" !

أما بالنسبة للأسرة الريفية المرتبطة بالاقتصاد المنزلي والزراعة فهي محافظة أكثر من الأسرة المدينية بكثير. وعموما، نلاحظ أن الكومونات الزراعية قليلة العدد هي وحدها التي أرست لديها في البدء التغذية الجماعية والحضانات. لقد قالوا إن على الجماعية أن تؤدي إلى تغيير جذري في الأسرة: فبدؤوا بمصادرة أبقار الفلاح، ودجاجه أيضا. ومع ذلك لم تنخفض نسبة التصريحات والإعلانات حول السير المظفـَّر للتغذية الاجتماعية في الريف. وعندما بدأ التراجع ظهرت الحقيقة من طيات ضباب الخداع. إن الكولخوزات لا تؤمِّن للمزارع عادة سوى القمح لبيته والعلف لحيواناته، أما اللحوم ومنتجات الألبان والخضار فيأتي أغلبها من إنتاج أعضاء الكولخوز الفردي. وما دامت أهم عناصر التغذية ناتجة عن الجهد الفردي فمن الصعب التحدث عن التغذية الجماعية. وهكذا تعطي أجزاء الأرض الصغيرة قاعدة جديدة للأسرة وتحمِّل المرأة عبئا مضاعفا.

في عام 1933 كان عدد الأماكن الدائمة في دور الحضانة 600 ألف، كما كان هنالك حوالي 4 ملايين مكان موسمي تستخدم خلال فترة العمل الزراعي. وفي عام 1935 كان هنالك خمسة ملايين وستمائة ألف سرير في الحضانات بينما بقيت الأماكن الدائمة قليلة كالسابق. وعلى أية حال فإن دور الحضانات الموجودة حتى في موسكو وليننغراد والمراكز الكبيرة لا تؤمِّن أبسط المتطلبات. وتقول صحيفة سوفياتية كبيرة: "يجد الأطفال أنفسهم في دور الحضانة في وضع أسوأ من وضعهم البيتي. وما هذه الدور سوى ملاجئ سيئة". ومن الطبيعي أن لا يرسل العمال الميسورون أولادهم إليها. ولكن جماهير العاملين لا يجدون هذه "الملاجئ السيئة" كافية، ولقد قررت السلطة التنفيذية مؤخرا أن تعهد بالأطفال المشردين والأيتام إلى الأسر التي ترغب بذلك. وهذا اعتراف من البيروقراطية بعجزها عن القيام بوظيفة اشتراكية هامة. ولقد زاد عدد الأطفال المقبولين في حدائق الأطفال خلال السنوات الخمس الأخيرة 1930– 1935 من 370 ألفا إلى 1,181 مليون. ويبدو رقم 1930 متواضعا، ولكن رقم 1935 رغم كبره لا يكفي إطلاقا متطلبات الأسر السوفياتية. وتدل الدراسة الدقيقة على أن معظم حدائق الأطفال وأفضلها محجوزة لأسر الموظفين والفنيين والاستاخانوفيين الخ..

وصرح المجلس التنفيذي منذ فترة قريبة "عن بطء تنفيذ عملية وضع حد لواقع الأطفال المشردين أو غير الخاضعين لمراقبة كافية"، فماذا يخفي هذا القول ؟ إننا نعرف مصادفة، ومن المقالات الصغيرة في زوايا الصحف أن "أكثر من ألف طفل يعيشون في موسكو داخل المنزل بالذات، في ظروف سيئة جدا". وأن بيوت الأطفال في العاصمة تحوي 1500 مراهق لا يعرفون ما هو مصيرهم وينتظرون العودة إلى الشارع. وأن 7500 أسرة حوكمت في موسكو وليننغراد خلال خريف 1935 لأنها تركت أطفالها دون مراقبة. فما فائدة هذه الحكومة ؟ وكم من آلاف العائلات استطاعت التهرب منها ؟ وما هو عدد الأطفال "الذين يعيشون في البيوت في ظروف سيئة جدا" ولم تذكرهم الإحصائيات ؟ وبمَ تختلف الظروف "السيئة جدا" عن الظروف السيئة فقط ؟ هنالك أسئلة كثيرة تحتاج إلى جواب. إن الطفولة المشردة، الظاهرة والمستترة، وباء يبلغ نسبا خطيرة بفعل الأزمة الاجتماعية التي تفتت الأسرة بسرعة تجعل المؤسسات الجديدة عاجزة عن الحلول مكانها.

ويعرف القارئ من خلال المقالات الصحفية ذاتها في المناسبات، ومن خلال الوقائع القضائية أن الدعارة، وهي آخر درجات انحطاط المرأة لصالح الرجل القادر على الدفع، تعبث فسادا في الاتحاد السوفياتي. ولقد نشرت الازفستيا في الخريف الماضي فجأة أنه "تم توقيف حوالي 1000 امرأة يبعن في شوارع موسكو أجسادهن بصورة سرية"، ومنهن 177 عاملة، 92 مستخدمة، 5 طالبات.. الخ. فما الذي ألقى بهن إلى الرصيف ؟ إن الذي ألقى بهن على رصيف الشارع هو: نقص الدخل، والحاجة، وضرورة "الحصول على دخل إضافي يكفي لشراء أحذية وثياب". ولقد حاولنا دون جدوى معرفة الحجم التقريبي لهذا المرض الاجتماعي، فالبيروقراطية تطلب من مصلحة الإحصاء أن تلتزم بالصمت. ولكن هذا الصمت الإجباري دلالة على أن "طبقة" العاهرات كبيرة العدد. وليس الأمر استمرارا للماضي لأن العاهرات هنا شابات يافعات. ولا يوجد من يستطيع اتهام النظام السوفياتي واعتباره سبب هذا الجرح القديم قدم الحضارة. ولكن من غير المغتفر أن نتكلم على انتصار الاشتراكية ما دامت الدعارة موجودة. وتؤكد الصحف ضمن الحدود المرسومة لها لبحث هذا الموضوع الحساس أن الدعارة في تناقص مستمر. وقد يكون هذا صحيحا بالمقارنة مع سنوات المجاعة والانحلال (1931 – 1933) ولكن العودة إلى العلاقات المبنية على المال تؤدي بصورة حتمية إلى تنامي الدعارة وانتشار الطفولة المشردة. فحيث يوجد أفراد متميزون يوجد أناس منبوذون !

إن ازدياد عدد الأطفال المشردين يدل بما لا يقبل الجدل على وضع الأم المأساوي. حتى البرافدا المتفائلة تجد نفسها مضطرة للاعتراف بمرارة "إن ولادة طفل بالنسبة لكثير من النساء تشكل خطرا جديا". ولهذا منحت السلطة الثورية المرأة حق الإجهاض، وهو أحد حقوقها المدنية والسياسية والثقافية الأساسية طالما استمر البؤس والاضطهاد العائلي، رغم ما يقوله الخصيان والعوانس من الجنسين. ولكن هذا الحق البائس يصبح بسبب اللامساواة الاجتماعية امتيازا. إن المعلومات القليلة التي تقدمها الصحافة حول ممارسة الإجهاض مؤثرة: إن احد المستشفيات الريفية في الاورال استقبل في عام 1935 "195 امرأة مشوهة من جراء عمليات إجهاض قامت بها نساء دجَّالات غير مختصات" منهن 33 عاملة، و28 مستخدمة و65 فلاحة كولخوزية و28 ربة منزل الخ. ولا تختلف هذه المنطقة عن غيرها إلا بأن المعلومات الخاصة بها قد انتشرت، فكم امرأة تشوه بعمليات إجهاض سيئة في الاتحاد السوفياتي كله ؟

وعندما شعرت الدولة بعجزها عن تقديم العناية الطبية اللازمة والمنشآت الصحية للمرأة المضطرة للإجهاض غيرت اتجاهها فجأة وسارت في طريق منع الإجهاض، هكذا تجعل البيروقراطية من الفقر فضيلة، كما في الكثير من الحالات. ويبرر سوليتز، أحد أعضاء المحكمة السوفياتية العليا والمختص بمواضيع الزواج، حظر الإجهاض قريبا، قائلا إنه لما كان المجتمع الاشتراكي لا يعرف البطالة... الخ لا يمكن منح المرأة حق نبذ "مسرات الأمومة". وما هذه سوى فلسفة كاهن رعية في متناوله عصا الدركي. لقد قرأنا مؤخرا في صحيفة الحزب المركزية أن ولادة طفل بالنسبة لكثير من النساء – والأفضل أن نقول غالبية النساء – تشكل "تهديدا". كما سمعنا مرجعا سوفياتيا عليا يتحدث عن "عدم تنفيذ القرار بوضع حد لحالة الأطفال المشردين". وهذا يعني زيادة التشرد عند الأطفال. وها نحن نرى قاضيا كبيرا يعلن ضرورة فرض العقوبة اللازمة على عملية الإجهاض في بلاد "الحياة السعيدة" تماما كما الحال في البلاد الرأسمالية حيث التعاسة. وإننا لنرى مسبقا أن العاملات والفلاحات والخادمات اللواتي يصعب عليهن إخفاء خطيئتهن هن اللواتي سوف يقعن بين أيدي السجانين، سواء أكان ذلك في الاتحاد السوفياتي أم في الغرب. أما "نساؤنا" اللواتي يطلبن عطورا ممتازة وأدوات زينة أخرى، فإنهن قادرات على تنفيذ كل ما يرغبن به على مرأى من عدالة متساهلة. ويضيف سوليتز: "نحن بحاجة إلى رجال"، متجاهلا وجود الأطفال المشردين. ولو لم تضع البيروقراطية على أفواه العاملات ختم الصمت لأجبنه قائلات: "إذن فلتنجبوا أنتم الأطفال !" لقد نسي هؤلاء السادة أن على الاشتراكية أن تلغي الأسباب التي تدفع المرأة إلى الإجهاض لا أن تدفع الشرطي ليتدخل بكل قحة في الحياة الخاصة للمرأة فارضا عليها "سعادة الأمومة".

ولقد تعرض مشروع قانون الإجهاض لمناقشة عامة. وقد اضطرت مصفاة الصحافة السوفياتية الضيقة للسماح بتسرب عدد من الشكوى المريرة والاحتجاجات المكتومة. ثم انتهت المناقشة بسرعة كما بدأت. وقد جعلت السلطات في 27 حزيران / يونيو 1936 من المشروع السافل قانونا مثلث السفالة. وأبدى كثير من المحامين العاملين في كنف البيروقراطية تبرّمهم منه. وكتب لويس فيشر أن القانون الجديد هو مجرد سوء فهم مؤسف. والحقيقة أن هذا القانون الموجه ضد المرأة والذي يرسي بالنسبة للسيدات المحترمات نظام استثناءات هو أحد النتائج الطبيعية للردة التيرميدورية (1).

إن رد الاعتبار الاحتفالي للأسرة الذي ترافق مع رد اعتبار الروبل – يا للصدفة الإلهية ! – يعود إلى فقر الدولة ماديا وثقافيا. بدل أن يقول قادة النظام: "كنا فقراء وجهلاء لدرجة منعتنا من تأمين علاقات اشتراكية بين الناس، إلا أن أولادنا وأحفادنا سيفعلون ذلك"، يقومون بترميم بناء الأسرة المحطم. ويفرضون عبر التهديد بالعقوبات القاسية عقيدة الأسرة التي تشكل القاعدة المقدسة للاشتراكية المظفرة، ومن الصعوبة بمكان قياس عمق هذا التراجع !

ويجرف التطور الجديد كل ما أمامه، الأديب ورجل القانون، والقاضي والميليشيا، والصحيفة والتعليم. وعندما كتب شيوعي شاب شريف وسليم النية لصحيفته: "يستحسن أن تجدوا حلا لهذه المعضلة: كيف تستطيع المرأة أن تهرب من كماشة الأسرة ؟" تلقى ردا قاسيا فصمت. إن كتاب ألف باء الشيوعية (2) اعتبر إغراقا في اليسارية. بينما تنتعش الأفكار المسبقة الفجة والسخيفة للطبقات الوسطى الجاهلة لتأخذ صفة الأخلاق الجديدة. وماذا يجري في حياة الأصقاع النائية اليومية لبلاد مترامية الأطراف ؟ إن الصحافة لا تكشف عمق الردة التيرميدورية داخل الأسرة إلا بمقدار بالغ الضآلة.

وتتنامى رغبة الوعاظ النبيلة مع ازدياد الرذائل، وتكتسب الوصية السابعة (3) شعبية كبيرة في الأوساط الحاكمة، وليس على الأخلاقيين السوفيات إلا أن يغيروا قليلا في تركيب الجمل. لقد بدأت حملة ضد الطلاق السهل كثير الوقوع. ويبشر الفكر الخلاق للمشرعين بتدبير "اشتراكي" يتضمن دفع رسوم تسجيل الطلاق، وزيادة هذه الرسوم عند التكرار. إننا لم نخطئ عندما قلنا إن الأسرة تتجد في الوقت الذي يستعيد فيه الروبل دوره، ونحن نأمل أن لا تكون الرسوم عائقا أمام أفراد الوسط الحاكم. إن من يملكون شققا جيدة وسيارات ووسائل رفاهية أخرى ينظمون شؤونهم الخاصة دون دعاية نافلة، وبالتالي من غير تسجيل. وليس للدعارة وجه مخز أليم إلا في قاع المجتمع السوفياتي. أما في قمة هذا المجتمع حيث تتحد السلطة مع الرفاهية فإنها تأخذ مظهرا أنيقا على شكل خدمات صغيرة متبادلة، لا بل مظهر "العائلة الاشتراكية". وقد سبق وعرّفنا سوسنوفسكي على أهمية عامل "السيارة – الحريم" وراء انحطاط القادة.

إن "لأصدقاء" الاتحاد السوفياتي العاطفيين والأكاديميين عيونا لا يرون بها. إن قانون تنظيم الزواج الذي قدمته ثورة أوكتوبر، فكان في حينه مصدر فخر، قد عدّلته وشوّهته استعارات كبيرة من الكنز القانوني للبلاد البرجوازية. وكما لو كان هناك إصرار على جمع السخافة مع الخيانة، تجري الآن استعادة الحجج التي استخدمت في الماضي للدفاع عن حريتي الإجهاض والطلاق غير المشروطتين – "تحرير المرأة" "الدفاع عن الحقوق الشخصية" "حماية الأمومة" – وذلك للحد من هاتين الحريتين أو حظرهما معا.

ويأخذ التراجع شكل نفاق مقزز، ويتجاوز في أبعاده حجم الضرورة الاقتصادية القاسية. وتضاف إلى الذرائع الموضوعية للعودة للقواعد البرجوازية، من مثل دفع نفقة غذائية للطفل، المصلحة الاجتماعية للأوساط الحاكمة في تعميق الحق البرجوازي. وما المبرر القاهر للعبادة الحالية للأسرة سوى حاجة البيروقراطية لإيجاد تسلسل صلب للعلاقات الاجتماعية ولخلق شبيبة تتولى ضبطها 40 مليون أسرة تعمل كنقاط استناد للسلطة والحكم. وطالما كان يؤمل إيلاء الدولة مهمة تربية الأجيال الجديدة، عملت السلطة على فصل الأطفال عن عائلاتهم لتحصينهم ضد التقاليد القديمة، بدل الاهتمام بدعم سلطة البالغين، ولاسيما الوالد والوالدة. وخلال الخطة الخمسية الأولى كانت المدارس ومنظمات الشبيبة الشيوعية تدعو الأطفال لكشف الأب السكير أو الأم المتديِّـنة، وإحراجهما وتخجيلهما ومحاولة "إعادة تربيتهما". الأمر الذي أدى إلى هز قواعد السلطة العائلية. لقد جرى تبديل جذري في هذا الحقل الذي لا يخلو من الأهمية. أعيد العمل بالوصية الخامسة (4)، إضافة للوصية السابعة، دون التطرق مرحليا إلى السلطة الإلهية. إلا أن المدارس الفرنسية تستغني هي الأخرى عن هذا الأمر، ولكن ذلك لا يمنعها من بث الروتين وروح المحافظة.

إن الاهتمام بسلطة الأهل قد استتبع تغييرا في السياسة المتبعة حيال الدين. وكان نكران الله ومساعديه ومعجزاته من أخطر عوامل التجزئة التي استخدمتها السلطة الثورية لتفريق الآباء عن الأبناء. إلا أن النضال ضد الكنيسة الذي قاده رجال من أمثال ياروسلافسكي تجاهل تطور الثقافة، والدعاية الجدية، والتربية العلمية، فانتهى في أغلب الأحيان إلى ترهات وتنكيدات. ثم انتهى الهجوم على السماوات مثلما انتهى الهجوم على العائلة، وأمرت البيروقراطية، الراغبة بتحسين سمعتها، الشباب الملحد بترك السلاح والبدء بالمطالعة. ولم يكن ذلك سوى البداية. إن نظاما من الحياد الساخر يتبلور تدريجيا بالنسبة للدين. هذه هي المرحلة الأولى، وليس من الصعب توقع المرحلتين التاليتين إذا تعلق سير الأمور بالسلطات الحاكمة فقط.

إن التضادات الاجتماعية تضاعف على الدوام وفي كل مكان من نفاق الآراء السائدة: وهذا هو تقريبا القانون التاريخي لتطور الأفكار مترجما بلغة حسابية. وتعني الاشتراكية الحقة علاقات متجردة بين الناس، وصداقة بدون حسد ودسائس، وحبا دون حسابات دنيئة. وتعلن السلطات الرسمية أن هذه القواعد المثالية قد تحققت، وذلك بشدة تتناسب مع شدة احتجاج الحقيقة على مثل هذه التأكيدات. ويقول برنامج الشبيبة الشيوعية السوفياتية الجديد المعلن في نيسان / أبريل 1936: "تخلق اليوم أسرة جديدة، تهتم الدولة السوفياتية بتفتحها، وذلك على أرض المساواة الحقيقية بين الرجل والمرأة". وأضاف معلق رسمي قائلا: "لا يدفع شبيبتنا لاختيار الرفيق أو الرفيقة سوى الحب. ولا مكان للزواج البرجوازي المبني على المصلحة في جيلنا الصاعد". (البرافدا 4 نيسان / أبريل 1936). ويتمتع هذا القول بصحة كبيرة إذا نظرنا إلى وسط العمال والعاملات الشباب. ولكن زواج المصلحة قليل الانتشار أيضا في أوساط عمال البلاد الرأسمالية. ويختلف الأمر بالمقابل في الشرائح السوفياتية العليا والمتوسطة، إذ تلحق التجمعات الاجتماعية الجديدة العلاقات الشخصية بدائرة قراراتها بصورة آلية. وتزدهر المساوئ الناجمة عن السلطة والمال في حقل العلاقات الجنسية وسط البيروقراطية السوفياتية كما لو كان هدفها اللحاق بالبرجوازية الغربية في هذا المجال.

لقد بعث حيا "زواج المصلحة"، بالتناقض المطلق مع تأكيد البرافدا الذي اشرنا إليه أعلاه. والصحافة السوفياتية تؤكد كلامنا سواء أكان ذلك بدافع الضرورة أو بفعل ميل عارض إلى الصراحة. وتكتسب الوظيفة والأجر والعمل وعدد الأشرطة على الأكمام أهمية تزداد مع الأيام، لأن مسائل الأحذية والفرو والمسكن والحمام والسيارة – حلم الأحلام – مرتبطة بها. ويجمع الصراع على الغرف ويفرق عددا لا بأس به من الأزواج في موسكو كل عام. ولمسألة أولياء الأمور أهمية خاصة. فمن المفيد أن يكون والد الزوجة ضابطا أو شيوعيا متنفذا، أو أن تكون أمها شقيقة شخصية كبيرة. فمن يستغرب هذا، وهل يمكن أن يكون الأمر غير ذلك ؟

إن انهيار الأسرة وتحطمها بسبب التطلعات الجديدة للزوج، بعد أن يغدو عضوا في الحزب أو عضوا فعالا في نقابة من النقابات أو ضابطا أو مديرا فيما زوجته مسحوقة تحت أعباء الأسرة لا تستطيع رفع مستواها، عبارة عن فصل درامي في كتاب المجتمع السوفياتي. وتحدد مأساة المرأة المتأخرة المهجورة طريق جيلين من البيروقراطية السوفياتية. ويمكن ملاحظة الحالة نفسها اليوم في الجيل الجديد. وإننا لنجد أكثر أشكال القسوة والقحة شدة في المستويات البيروقراطية العليا، حيث يعتبر محدثو النعمة الجهلاء، وهم يشكلون نسبة مرتفعة، أن كل شيء مسموح لهم. وستكشف الذاكرة والوثائق يوما من الأيام الجرائم الحقيقية المرتكبة ضد الزوجات القديمات والنساء بصورة عامة على يد وعاظ الأخلاق العائلية ودعاة "سعادة الأمومة" الإجبارية، التي يعتبرها القانون غير قابلة للانتهاك.

كلا، إن المرأة السوفياتية لم تتحرر حتى الآن. وتقدم المساواة لنساء الشرائح العليا التي تعيش من العمل البيروقراطي والتقني والتعليمي والفكري على وجه العموم، فوائد تفوق ما تقدمه للعاملات والفلاحات على وجه الخصوص. وما دام المجتمع عاجزا عن القيام بأعباء الأسرة المادية فإن الأم غير قادرة على ممارسة وظيفة اجتماعية إلا إذا كانت تملك رقيقا أبيض كالمرضعة والخادمة والطباخة... الخ. ويبني 5 بالمئة – 10 بالمئة من عائلات الاتحاد السوفياتي رفاهيتهم بصورة مباشرة أو غير مباشرة على حساب عمل الخدم. ومعرفة عدد الخدم الصحيح في الاتحاد السوفياتي مفيدة لمعرفة حقيقة وضع المرأة من وجهة النظر الاشتراكية، أكثر من كل القوانين السوفياتية مهما كانت تقدمية. ولكن الإحصائيات تخفي الخدم تحت باب العاملات أو "وظائف أخرى" !

ويختلف وضع ربة الأسرة الشيوعية المحترمة التي تستخدم خادمة، وهاتفا لطلب ما تبغيه من المخازن، وسيارة لتنقلاتها، اختلافا كليا عن وضع العاملة التي تجري من حانوت إلى آخر وتطبخ عشاءها وتجلب أطفالها من حديقة الأطفال، عندما يتوفر لهم في حديقة الأطفال مكان. ولا يمكن لأي شعار اشتراكي أن يخفي هذه المفارقة الاجتماعية التي لا تقل عن تلك الموجودة في البلاد الغربية بين السيدة البرجوازية والمرأة العاملة.

ولا تحتاج الأسرة الاشتراكية الحقيقية، التي حررها المجتمع من المتاعب اليومية الثقيلة والمهينة، إلى أي تنظيم. ولا تبدو لها فكرة القوانين حول الطلاق والإجهاض أفضل من ذكرياتها عن بيوت الدعارة أو التضحيات البشرية. ولقد خطت تشريعات أوكتوبر خطوة جريئة في صالح هذه الأسرة. ولكن التأخر الاقتصادي والثقافي للبلاد خلق ردة قاسية. وتتراجع قوانين التيرميدوريين نحو الأشكال البرجوازية مخفية تراجعها بجمل كاذبة حول قداسة الأسرة "الجديدة". وتختفي مظاهر الميوعة هنا تحت ستار من الاحترام الكاذب.

ويستغرب المراقبون الصادقون لوضع الأطفال، على وجه الخصوص، التناقض بين المبادئ السامية والحقيقة المحزنة. إن مجرد استخدام العقوبات الجزائية القاسية ضد تشريد الأطفال يدعونا إلى التفكير بأن القوانين الاشتراكية الموضوعة لصالح المرأة والطفل ليست سوى نفاق بحت. أما المراقبون من النوع المعاكس فهم مبهورون بحجم الخطة التي أخذت شكل قوانين وأجهزة إدارية وبشهامتها. ولدى مرأى الأمهات والعاهرات والأطفال المشردين البائسين يقول هؤلاء المتفائلون أن تزايد الثروة المادية سيحوّّل القوانين الاشتراكية شيئا فشيئا إلى حقيقة. وليس من السهل معرفة أي هذين النوعين من التفكير أكثر خطا وأشد ضررا. وعلى المرء أن يكون مصابا بالعمى التاريخي لكي لا يرى اتساع الخطة الاشتراكية وجسارتها، وأهمية المراحل الأولى من تنفيذها وسعة الآفاق المفتوحة أمامها. إلا أنه ليس بالإمكان كذلك إلا أن نغتاظ من التفاؤل السلبي، اللامبالي في الواقع، الذي نجده لدى من يغمضون أعينهم عن تنامي التناقضات الاجتماعية، ويعزون النفس بآفاق مستقبل يطرحون ترك مفاتيحه للبيروقراطية. كما لو أن المساواة بين الرجل والمرأة لم تصبح عند البيروقراطية مساواة في إنكار كل حق ! وكما لو أن البيروقراطية عاجزة عن صنع نير جديد بدلا من الحرية !

ويعلمنا التاريخ كثيرا حول عبودية المرأة للرجل وعبوديتهما معا للمستغِل، ويذكر لنا الكثير عن جهد الشغيلة الذين دفعوا دماءهم ليحطموا هذا النير فلم يصلوا في الحقيقة إلا إلى تغيير القيود. ثم يصمت التاريخ ولا يذكر في النهاية شيئا آخر. فكيف يمكن تحرير الطفل والمرأة والرجل حقا ؟ إن الأمثلة الايجابية في هذا الصدد ناقصة. فكل التجارب الماضية سلبية، وتفرض على الشغيلة قبل كل شيء ضرورة الحذر من الأوصياء ذوي الامتيازات الذين لا يخضعون للمراقبة.

 

النضال ضد الشبيبة

يجد كل حزب ثوري دعمه الأساسي لأول وهلة في جيل الطبقة الصاعدة الجديد. ويمكن التعبير عن الشيخوخة السياسية بفقدان المقدرة على جذب الشبيبة. والأحزاب الديمقراطية البرجوازية التي تبعد نفسها عن المسرح السياسي مضطرة لتسليم الشباب للثورة أو الفاشية. عندما كانت البلشفية محظورة كان أفرادها من العمال الشباب بينما كان المنشفيك يستمدون قوتهم من أوساط العمال العالية والمسنة إلى حد بعيد. وكانوا يتباهون بذلك وينظرون إلى البلاشفة من عل. ولقد أظهرت تطورات الأحداث خطاهم، ففي اللحظة الحاسمة جرّت الشبيبة الرجال الناضجين وحتى المسنين.

وأعطى الانقلاب الثوري للجيل السوفياتي الجديد دفعة إلى الأمام وانتزعه مرة واحدة من التقاليد المحافظة وكشف أول أسرار الجدلية القائل بأنه ليس هنالك على الأرض شيء أبدي وأن المجتمع مكون من مواد قابلة للتشكل. وتظهر تجربة عصرنا غباء نظرية الأجناس التي لا تتبدل ! فالاتحاد السوفياتي بوتقة هائلة تذوب فيها صفات عشرات القوميات وتتوارى منها فكرة الروح السلافية كما حثالة المعادن.

ولكن الدفع الذي تلقاه الجيل الجديد لم يجد حتى الآن مخرجا في مشروع تاريخي ملائم. والشبيبة في الحقيقة فعّالة جدا في الحقل الاقتصادي. ففي الاتحاد السوفياتي 7 ملايين عامل تنقص أعمارهم عن 23 سنة، ويعمل 3,14 ملايين منهم في الصناعة و700 ألف في الورشات. ويشكل العمال الشباب في المصانع الجديدة العملاقة حوالي نصف اليد العاملة. وفي الكولخوزات اليوم 1,2 مليون شاب شيوعي. وهناك مئات الآلاف من الشيوعيين الشباب الذين ذهبوا في السنوات الأخيرة للعمل في الورشات ومناجم الفحم والغابات ومناجم الذهب في القطب الشمالي أو سخالين أو على شواطئ نهر آمور حيث تبنى مدينة جديدة هي كومسومولسك (مدينة الشبيبة الشيوعية). ويقدم الجيل الجديد عمال الصدمة، والعمال المهرة، والاستاخانوفيين ورؤساء العمال وصغار الإداريين. وهم يدرسون بهمة واجتهاد في أغلب الأحيان، ويشاركون في حقل الرياضة بشكل فعال وخاصة الرياضة الخطرة كالقفز بالمظلات أو رياضات القتال كالرمي، ويذهب المندفعون منهم مع الحملات الاستكشافية الخطيرة من كل نوع.

ويقول مكتشف المنطقة القطبية المعروف شميدت: "إن خيرة شبيبتنا يرغبون بالعمل الصعب". هذه هي الحقيقة بلا شك، ومع هذا يبقى جيل ما بعد الثورة في كل المجالات تحت الوصاية. فماذا يعمل وكيف يعمل ؟ إن كل شيء محدد له من قبل رؤسائه، والسياسة، شكل القيادة الأمثل، تبقى بمجملها بين أيدي ما يسمى بالحرس القديم. وفي حين يظهر الكبار للشبيبة محبتهم وإعجابهم، يحافظون بكل حرص على احتكارهم.

كان انجلس يرى أن تطور المجتمع الاشتراكي لا يتم دون "زوال" الدولة، أي قيام الإدارة الذاتية للمنتجين والمستهلكين مكان جميع المؤسسات البوليسية. وكان يولي مهمة إكمال هذا العمل للجيل الجديد "الذي سيكبر في مناخات الحرية الجديدة، ويجد نفسه قادرا على أن يضع على الرف كل التفاهات القديمة المتعلقة بالدولة". وأضاف لينين في هذا المجال: "وكل ما يتعلق بالدولة بما في ذلك ما يخص الجمهورية الديمقراطية...". هكذا فكر انجلس ولينين بمنظور بناء المجتمع الاشتراكي: يبدأ الجيل الذي استولى على السلطة، الحرس القديم بتصفية الدولة ثم يأتي الجيل الذي يليه لينهي هذا العمل.

فما هي الحقيقة الآن ؟ إن 43 بالمئة من شعب الاتحاد السوفياتي مولود بعد ثورة أوكتوبر. فإذا عيَّنا حدود الأجيال عند 23 سنة، وجدنا أكثر من 50 بالمئة من الشعب السوفياتي لم يبلغ هذه الحدود. أي أن أكثر من نصف السكان لم يعيشوا تجربة أي نظام غير النظام السوفياتي. ولكن هذا الجيل لا يكبر في "ظروف الحرية" كما فكَّر انجلس. إنه ينمو تحت النير غير المحتمل للشريحة الحاكمة التي تدعي أنها قامت بثورة أوكتوبر. ففي المصنع والكولخوز والثكنة والجامعة والمدرسة وحديقة الأطفال، لكي لا نقول في دور الحضانة، تقاس فضائل الإنسان بمقدار إخلاصه لرؤسائه وطاعتهم دون جدال. وكثير من المثل التعليمية تبدو وكأنها مستوحاة من غوبلز لو أن غوبلز نفسه لم يأخذها إلى حد بعيد من بطانة ستالين.

وتدخل الشكليات والنفاق بعمق في تعليم الطلاب وفي حياتهم الاجتماعية. ولقد تعلم الأطفال حضور الكثير من الاجتماعات حيث يختنقون من الملل مع مجلس رئاستهم الفخري الذي لا بد منه، وتبخيرهم للرؤساء المحبوبين، ومناقشتهم الامتثالية المدروسة مسبقا والتي يقول المرء خلالها شيئا ويفكر بشيء آخر. فإذا ما حاولت نوادي الطلاب البريئة أن تخلق وسط هذه الصحراء واحة انصبت عليها تدابير زجرية قاسية. ويتدخل البوليس السياسي في المدارس المسماة "اشتراكية" ليفتت المعنويات بالوشاية والخيانة. ويبدي أعقل المربين ومؤلفي الكتب الخاصة بالأطفال، رغم تفاؤلهم الرسمي، خوفهم من الضغط والنفاق والملل الذي يثقل كاهل المدارس.

إن الجيل الجديد محروم من خبرة الثورة وصراع الطبقات فلا يمكنه أن يعدّ نفسه ليشترك بكل وعي في الحياة الاجتماعية إلا وسط ديمقراطية سوفياتية عن طريق الاجتهاد في دراسة تجارب الماضي ودروس الحاضر. ولا ينمو الفكر والشخصية الفرديّان بدون نقد. ولكن فكرة تبادل الآراء والوقوع في الخطأ ومراجعة الأخطاء الشخصية وأخطاء الآخرين وتصحيحها فكرة محرمة على الشبيبة السوفياتية. وتحل كافة المسائل حتى المتعلقة بها دون أخذ رأيها، وما عليها سوى التنفيذ والتسبيح بالحمد. وترد البيروقراطية على كل نقد بقصف رقبة من يجرؤ عليه. إنها تقمع كل ما هو موهوب ومتمرد لدى الشبيبة، تزيله من الوجود، أو تبيده جسديا. وهكذا يمكن تفسير لماذا ملايين وملايين الأعضاء في منظمات الشبيبة الشيوعية لم يكوّنوا إلى اليوم شخصية بارزة واحدة.

إن الشبيبة التي تندفع في مجالات التقنية والعلوم والآداب والرياضة والشطرنج تبدو كما لو كانت تتدرب على نشاطات أسمى بكثير. وهي تتنافس في كل هذه المجالات مع الجيل القديم سيء الإعداد فتلحق به وتتجاوزه في بعض الأحيان. فإذا ما اقتربت من السياسة أحرقت السياسة أصابعها، لذا فأمامها ثلاثة احتمالات: أن تنضم إلى البيروقراطية وتنجح في العمل، أو أن تخلد للصمت وتذوب في العمل الاقتصادي والعلمي وفي حياتها الخاصة، أو أن تلقي بنفسها خارج القانون وتتمرس بالصراع وتعد نفسها للمستقبل. إن العمل البيروقراطي مقفل إلا في وجه أقلية ضئيلة، وفي القطب الآخر تأتي المعارضة جماعات قليلة، ويبقى القسم المتوسط كثير التنوع. وهنالك سيرورات غير مرئية كبيرة المعنى تتم تحت ضغط المدحلة وسيكون لها أهمية بارزة في تحديد مستقبل الاتحاد السوفياتي.

إن اتجاهات التقشف خلال الحرب الأهلية أخلت المكان في مرحلة السياسة الاقتصادية الجديدة لصالح عقليات أكثر أبيقورية (5) ، لكي لا نقول أكثر ميلا للانغماس في اللذات. وفي مرحلة الخطة الخمسية الأولى ساد تقشف قسري بالنسبة للجماهير والشبيبة وحسب، في حين كان المسؤولون يتمتعون برفاهيتهم الشخصية. وتتصف مرحلة الخطة الخمسية الثانية بوجود رد فعل عنيف ضد الحرمان، وتفكير بالمكاسب الشخصية بين صفوف المواطنين عامة والشباب بصورة خاصة. فالأقلية الضئيلة التي تتوصل الارتفاع فوق مستوى الجماهير، انطلاقا من أوساط الشبيبة السوفياتية، تجد الباب مفتوحا أمامها نحو إمكانية اللحاق بالأوساط الحاكمة. من جهة أخرى، تقوم البيروقراطية باختيار موظفيها ووصولييها وبتكوينهم بصورة واعية.

ويؤكد المعلق الرئيسي لمؤتمر الشبيبة الشيوعية المنعقد في نيسان / أبريل 1936 أن "الشبيبة السوفياتية لا تعرف ما هي الرغبة بالثراء، وتجهل الدناءة البرجوازية الصغيرة والأنانية المنحطة". ويبدو هذا الكلام زائفا حيال الشعار السائد اليوم: "رفاهية وحياة رغيدة"، والعمل بالقطعة والمكافآت والأوسمة. ليست الاشتراكية تقشفا، إنها تتعارض بشدة مع التقشف المسيحي وكل دين آخر، ذلك أنها تتعلق بهذا العالم وحسب، ولكنها تمتلك سلـَّمها للقيم الأرضية. ولا تبدأ الشخصية الإنسانية، بالنسبة إليها، مع الاهتمام بالحياة الراغدة، بل على العكس، حيث يتلاشى هذا الاهتمام. إلا أنه ليس هنالك جيل قادر على القفز فوق نفسه. إن كل حركة استاخانوف مبنية حتى هذا الحين على الأنانية، ومقياسها الوحيد هو عدد البنطلونات وربطات العنق التي يمكن شراؤها بثمن العمل، ويدل هذا المقياس على "الدناءة البرجوازية الصغيرة" الكامنة فيه. وقد تكون هذه المرحلة ضرورة تاريخية ولكن ذلك لا يمنعنا من أن نراها على حقيقتها. وتفتح العودة إلى العلاقات التجارية دون شك إمكانية تحسين ملموس للرفاهية الفردية، وإن رغبة الشباب السوفياتي في أن يكونوا مهندسين لا ترجع إلى حبهم للبناء الاشتراكي، بل لكون المهندسين يكسبون أكثر من الأطباء والمعلمين بكثير. وعندما تتكشف مثل هذه الميول في جو من الضغط الفكري والردة الإيديولوجية، وعندما يرخي المسؤولون العنان لغرائز الوصوليين ينحط تكوين "الثقافة الاشتراكية" إلى مستوى تربية أنانية معادية للمجتمع إلى أبعد الحدود.

إنه لافتراء قاس، مع ذلك، اتهام الشبيبة السوفياتية بالنفعية بصورة مطلقة، أو رئيسية. لا. إنها في مجملها كريمة ومدركة وجريئة. ولا تلوثها الوصولية إلا بشكل سطحي، بينما تكمن في أعماقها ميول متنوعة لم تتوضح بعد غالبا، وشجاعة تنتظر آفاقا للعمل. وتعيش الوطنية السوفياتية الجديدة على هذه الآمال بصورة جزئية. إنها عميقة ومخلصة وفعالة ولكنها تعاني كذلك من سوء التفاهم بين شيوخها وشبابها. وتجد الصدور الشابة النقية جو النفاق خانقا لا يمكن فصله عن الردة التيرميدورية، أي الردة التي ما تزال مكرهة على ارتداء لباس الثورة. إن التناقض الصارخ بين الشعارات الاشتراكية والحقيقة التي نعيش فيها يدمر الثقة بالقوانين والنظم الرسمية. ويتخذ كثير من الشباب حيال السياسة موقفا متعاليا ويصطنعون في حركاتهم الفظاظة، لا بل انعدام الحشمة والوقار. وتعبِّر القحة وعدم المبالاة في العديد من الحالات، وربما في غالبيتها، عن إشكال بدائية للتذمر والرغبة بالانطلاق بحرية. وتدل عمليات الطرد من الشبيبة والحزب، وعمليات التوقيف والنفي لمئات الآلاف من الشباب، سواء أكانوا من "الحرس الأبيض" و"الانتهازيين" أو من البلاشفة اللينينيين، على أن مصادر المعارضة السياسية الواعية من اليمين واليسار لا تنضب، بل إنها تزايدت خلال السنوات الثلاث الأخيرة. وأخيرا فإن الأكثر حماسا وفراغ صبر، والأقل اتزانا الذين جُرحت مشاعرهم أو مُسَّت مصالحهم، يلجؤون إلى الانتقام والإرهاب. هذه هي الصورة التقريبية اليوم للذهنية السياسية للشبيبة السوفياتية.

إن تاريخ الإرهاب الفردي في الاتحاد السوفياتي يطبع بقوة مراحل التطور العام للبلاد. ففي فجر سلطة السوفيات نظم البيض والاشتراكيون الثوريون محاولات إرهابية في أجواء الحرب الأهلية. وعندما فقدت الطبقات المالكة القديمة كل أمل بالعودة إلى السلطة توقف الإرهاب. ولكن اعتداءات الكولاك، التي امتدت حتى الوقت الأخير، كان لها طابع محلي، إذ كانت تكمل حرب عصابات ضد النظام. إن الإرهاب الأكثر حداثة لا يعتمد على الطبقات الحاكمة القديمة، أو على الفلاحين الأغنياء. فإرهابيو الجيل الجديد، يظهرون حصرا بين الشباب السوفياتي، والشبيبة الشيوعية، والحزب، وأبناء الحكام أنفسهم. إن الإرهاب الفردي، العاجز عن حل المعضلات التي تواجهه، له مع ذلك مغزى كبير، من حيث يطبع حدة التضاد بين البيروقراطية والجماهير الشعبية عامة، والشبيبة بوجه خاص.

ويمكن اعتبار النشوة الاقتصادية، والقفز بالمظلات، والحملات القطبية، ونزعة اللامبالاة الواضحة، و"الرومانسية المبتذلة"، والذهنية الإرهابية، وعمليات الإرهاب العرضية، دلائل على قرب انفجار تذمر الشباب ضد وصاية الشيوخ الثقيلة. وقد تكون الحرب صمام أمان لبخار التذمر المتجمع. ولكنها لن تكون صماما لمدة طويلة، لأن الشبيبة تكسب خلالها ما ينقصها من صلابة المحاربين وإرادتهم، كما يفقد الشيوخ كثيرا من سمعتهم. وقد توفر الحرب للبيروقراطية، في أحسن الظروف، فترة تأجيل جديدة، ولكن حدة الصراع السياسي بعد الحرب ستكون شديدة.

ومن الخطأ تصوير مشكلة الاتحاد السوفياتي، على أنها مشكلة أجيال. إذ تعتبر البيروقراطية أن بين الشيوخ عددا لا بأس به من الأعداء الظاهرين أو المستترين، كما أن هنالك مئات الآلاف من الشباب البيروقراطيين المكتملين. ولكن، سواء انطلق الهجوم ضد الشرائح الحاكمة من اليمين أو اليسار، فسيجد المهاجمون قوتهم الرئيسية في الشبيبة المخنوقة المتذمرة المحرومة من الحقوق السياسية. والبيروقراطية تفهم هذا الأمر جيدا، فيها بالغة الحساسية ضد كل ما يهددها، وتقوم بتقوية مواقعها مسبقا، فتحفر خنادقها الرئيسية، وتبني معاقلها الحصينة في وجه الجيل الجديد.

لقد أشرنا سابقا، إلى أنه انعقد في الكرملين في نيسان / أبريل 1936 مؤتمر الشبيبة الشيوعية العاشر. لم يحاول أحد بالطبع أن يفسر سر عدم انعقاد هذا المؤتمر، خلافا للأنظمة، خلال خمس سنوات. لقد تكشف حالا أن هذا المؤتمر تعرض لعملية اختيار وتصفية بكل عناية، قبل أن يجتمع ليصادر الشبيبة بالمعنى السياسي: لقد فقدت "الكومسومول" – أو منظمة الشبيبة الشيوعية – حتى من الناحية القانونية، كل حق بالاشتراك في الحياة الاجتماعية، حسبما يظهر من أنظمتها الجديدة. أصبحت التربية والتعليم مجال نشاطها الوحيد. ولقد أعلن السكريتير العام للشبيبة الشيوعية، بناء على أوامر رؤسائه: "إن علينا... إيقاف الثرثرة حول الخطة الصناعية والمالية، بصدد انخفاض سعر التكلفة، وتوازن الحسابات، والبذار وكل مهام الحكومة الأخرى، كما لو كان لنا أن نتخذ القرار حولها". إن الأمر المتعجرف "بإيقاف الثرثرة"، الذي لم يثر أي حماس في مؤتمر مخضع كليا يبدو مدهشا إذا عرفنا أن القانون السوفياتي، يحدد سن الرشد السياسي بـ 18 سنة، ويمنح الشباب من الجنسين، اعتبارا من هذا السن، حق الانتخاب، بينما كان الحد الأعلى لسن الشبيبة الشيوعية حسب الأنظمة القديمة 23 سنة، علما بأن ثلث أعضاء المنظمة قد تجاوزوا هذا الحد. ولقد قام المؤتمر بالتصويت على تعديلين: أولهما رفع حدود سن أعضاء المنظمة، لزيادة عدد الشبيبة المنتخبة، وثانيهما حرمان المنظمة من حق التدخل في السياسة العامة (الأمر الذي لم يكن موضع بحث) ، لكن كذلك في المواضيع الاقتصادية العادية. إن رفع حدود السن ناجم عن زيادة صعوبة عملية الانتقال من منظمة الشبيبة الشيوعية إلى الحزب. أما إلغاء ما تبقى من الحقوق السياسية، لا بل مجرد مظهرها، فناجم عن الرغبة في إخضاع الشبيبة الشيوعية نهائيا للحزب الذي تم تطهيره. والتدبيران متناقضان، ولكن لهما سببا مشتركا، هو خوف البيروقراطية من الجيل الجديد.

أما مقدمو تقارير المؤتمر، الذين كانوا ينفذون، باعترافهم، مهمات كلفهم بها ستالين – وهذه التحذيرات كانت تتجه لإلغاء أي نقاش – فقد شرحوا هدف التعديل بصراحة مدهشة قائلين: "لسنا بحاجة لحزب آخر". وقد كان هذا اعترافا بأن القياديين يخشون أن تتحول الكومسومول، في حال عدم قمعها نهائيا، إلى حزب ثان. ولتحديد الاتجاهات المحتملة لهذا الحزب الافتراضي، أضاف احد المتحدثين هذا الإنذار: "لقد حاول تروتسكي في حينه أن يقنع الشبيبة، التي كان يغازلها بديماغوجية، بفكرة مناهضة للينينية والبلشفية تقول بضرورة خلق حزب آخر". وينطوي تلميح المتحدث على مفارقة تاريخية: لقد اكتفى تروتسكي آنذاك بالتحذير من أن البقرطة اللاحقة للنظام ستؤدي حتما إلى القطيعة مع الشبيبة، وتهدد بولادة حزب آخر. وليس هذا مهما: إن الإحداث التي أكدت صحة هذا الإنذار جعلت منه برنامجا كاملا. ولم يحتفظ الحزب بجاذبيته بعد انحطاطه إلا بالنسبة للوصوليين. أما الشباب والشابات الشرفاء والقادرون على التفكير فلا يسعهم إلا التقزز من هذه العبودية البيزنطية، ومن البلاغة الزائفة التي تخفي الامتيازات والتعسف، ومن تبجح البيروقراطيين التافهين الذين اعتادوا على أن يمتدحوا بعضهم بعضا، ومن كل هؤلاء الماريشالات الذين إذا لم ينتزعوا يوما نجوم السماء، فقد رصعوا بها كل بزاتهم. إذن فالأمر لم يعد يتعلق بخطر ظهور حزب آخر، كما كانت الحالة منذ 12 أو 13 سنة، ولكن بضرورة إيجاد هذا الحزب كقوة وحيدة قادرة على متابعة ثورة أوكتوبر. إن تعديل أنظمة الشبيبة الشيوعية، حتى ولو تدعم بتدابير بوليسية جديدة، لن يمنع الشبيبة من أن تكسب قوة الرجال وتدخل في صراع مع البيروقراطية. ففي أي اتجاه ستسير الشبيبة في حالة الانقلاب السياسي ؟ وتحت أية راية ستتجمع ؟ ليس هنالك من يستطيع إعطاء جواب أكيد على هذه الأسئلة. والشبيبة نفسها أعجز من غيرها على إيجاد هذا الجواب، فهنالك عوامل متناقضة تتفاعل في ضميرها. إن أحداثا تاريخية ذات أهمية عالمية ستجبر هذه الجماهير في المحصلة على اتخاذ قرارها: حرب، انتصارات فاشستية جديدة، أو على العكس، انتصار الثورة في الغرب. وستقنع البيروقراطية في كل الأحوال بأن الشبيبة المحرومة من الحقوق تشكل في التاريخ عاملا متفجرا من الدرجة الأولى.

إن الأوتوقراطية الروسية التي تكلمت في عام 1894 بلسان القيصر الشاب نيقولا الثاني، كانت ترد على أعضاء الزيمستفوات (6) الذين أظهروا بحياء رغبتهم بالاشتراك في الحياة السياسية، قائلة: " أحلام مجنونة !". وأنها لكلمات مأثورة. أما في عام 1936، فتجيب البيروقراطية على التطلعات المرتبكة إلى الآن لدى الجيل السوفياتي الجديد بأمر صارم "لإيقاف الثرثرة". ولسوف تدخل هذه الكلمات أيضا في التاريخ، وسيدفع النظام الستاليني ثمنا لا يقل عما دفعه النظام القديم الذي كان يرأسه نيقولا الثاني.

 

الأمة والثقافة

إن السياسة القومية للبلشفية، بتحقيقها انتصار ثورة أوكتوبر، قد ساعدت الاتحاد السوفياتي على الصمود في مرحلة لاحقة رغم احتشاد قوى المعارضة الداخلية وعداء البلاد المجاورة، ثم جاء انحطاط الدولة البيروقراطي فأعاق هذه السياسة. ولقد كان لينين يعد العدة لخوض معركة أولى ضد ستالين، حول المسالة القومية، في مؤتمر في مؤتمر الحزب الثاني عشر في ربيع 1923، ولكنه اضطر للتخلي عن العمل قبل انعقاد المؤتمر. ولا تزال الوثائق التي كتبها آنذاك في ملفات الرقابة (7).

إن الحاجات الثقافية للأمم التي توقظها الثورة تتطلب أوسع الاستقلال. أما الاقتصاد فلا يمكن أن يتطور جيدا إلا إذا خضعت كل أجزاء الاتحاد لخطة عامة ممركزة. والواقع أنه لا يمكن تفريق الاقتصاد عن الثقافة بحواجز واضحة. وقد تدخل الاتجاهات إلى الحرية الثقافية في صراعات مع المركزة الاقتصادية إلا أنها صراعات قابلة للحل. وإذا لم يكن هنالك صيغ جاهزة لحل مثل هذه الأمور، فإن الإرادة المرنة للجماهير ذات المصلحة الموجودة، ويمكن لمشاركتها الفاعلة في تقرير مصيرها يوما بيوم أن ترسم في كل مرحلة محددة حدود تفصل بين متطلبات المركزية الاقتصادية والمتطلبات الحيوية للثقافات القومية. إلا أن المأساة تعود بمجملها إلى كون إرادة سكان الاتحاد السوفياتي، المتجسدة في عناصرهم القومية المتنوعة تخضع لتزويرات البيروقراطية التي لا تنظر إلى الاقتصاد والثقافة إلا من زاوية المصالح الخاصة بالشريحة الحاكمة وتسهيلات الحكم.

صحيح أن البيروقراطية تقدم في هذين المجالين إسهاما تقدميا مستمرا ولكن بتكاليف كبرى باهظة. ويتعلق هذا القول قبل كل شيء بالقوميات المتأخرة في الاتحاد السوفياتي التي يتحتم عليها أن تمر بمرحلة الاستعارة والتقليد والامتصاص وهي مرحلة يمكن أن تطول أو تقصر. وتبني البيروقراطية لهذه القوميات جسرا نحو المحاسن الأولية للثقافة البرجوازية، وجزئيا ما قبل البرجوازية. ويقوم النظام بالنسبة لمناطق وقوميات متعددة بالدور التاريخي الذي قام به بطرس الأول وبطانته في روسيا القديمة، ولكن على مستوى أوسع وبسرعة أكبر.

يتم التدريس اليوم في الاتحاد السوفياتي بثمانين لغة على الأقل لم يكن لمعظمها أبجديات، أو كان لها أبجديات أسيوية، أرستقراطية جدا، فاستعيض عنها بأبجدية لاتينية يسهل على الجماهير تعلمها. وتصدر الصحف بعدد مساو من اللغات، وهي تعرّف الرعاة الرحل والمزارعين البدائيين بمبادئ الثقافة. تظهر صناعات في المناطق النائية التي كانت في الماضي مهملة، ويدمر الجرَّار التقاليد القديمة التي تعود إلى عصر القبيلة. ويظهر مع الكتابة الطب وفن الزراعة الحديثة. وليس سهلا تقويم هذا الاستخدام لشرائح جديدة من البشرية. إن ماركس لم يخطئ عندما قال: إن تطور الثورة قاطرة تجر التاريخ.

ولكن أقوى القاطرات عاجزة عن صنع المعجزات: إنها لا تبدل قوانين الكون، ولكنها تعجل سرعة الحركة. وتدل ضرورة تعليم عشرات الملايين أصول الكتابة وقراءة الصحف وأبسط مبادئ الصحة على أن أمامنا طريقا طويلا لا بد من اجتيازه قبل أن تنطرح جديا مسألة ثقافة اشتراكية جديدة. إن الصحف تنشر مثلا أن سكان سيبيريا الغربية البدائيين الذين كانوا يجهلون الاستحمام يملكون الآن "في كثير من القرى حمامات يؤمها الناس من مسافة 30 كيلومترا". ويدل هذا المثال للتقدم الأولي على مستوى العديد من المكاسب الأخرى التي حصل عليها الشعب في كل المناطق وليس فقط في الأصقاع البعيدة والمتخلفة. وعندما أراد رئيس الحكومة الدلالة على انتشار التقدم قال: "إن الطلب قد زاد في الكولخوزات على الأسرّة المعدنية والساعات والألبسة الداخلية والبلوزات والدراجات". وهذا يعني بدء الفلاحين الأغنياء باستخدام منتجات الصناعة التي دخلت حياة فلاحي الغرب منذ أمد بعيد. وتردد الصحافة باستمرار تنبؤاته حول "التجارة الاشتراكية المتمدنة". ويتعلق الأمر في الواقع بإعطاء شكل جديد ونظيف وجذاب لمخازن الدولة وتزويدها بالأدوات وبتشكيلات كافية، وحفظ التفاح من العطب، وبيع الجوارب مع خيوط خاصة لترقيعها عند اللزوم، وتعويد الباعة على معاملة الزبائن باهتمام ولباقة، أي الوصول إلى مستوى التجارة الرأسمالية العادي. ومع ذلك فإننا لا نزال دون هذا الهدف الذي لا يمكن وصفه بالاشتراكية إطلاقا.

أما إذا تركنا القوانين والمؤسسات لحظة ونظرنا دون أوهام إلى حياة الجماهير اليومية، لرأينا أن تأثير إرث الحكم المطلق والرأسمالية يفوق في تأثيره على العادات تأثيرات بذور الاشتراكية. ويدلل الشعب على ذلك بتهافته على كل ما يأتيه من الغرب من وسائل الرفاهية الجاهزة. ويحاول المستخدمون والعمال السوفيات الشباب تقليد سلوك ولباس المهندسين والفنيين الأمريكيين الذين يقابلونهم في المصنع، وتلتهم المستخدمات والعاملات بنظراتهن السائحات الأجنبيات ليتعلمن طريقتهن في الملبس ويقلدن تصرفاتهن. فإذا ما نجحت إحداهن في ذلك التوجه غدت بدورها مجالا للتقليد. وتذهب العاملات كبيرات الأجر إلى حلاقي السيدات بدلا من تجعيد شعورهن بقصاصات الورق. وتتعلم الشبيبة "الرقصات الحديثة" بشغف. ويمكننا اعتبار كل هذه الأمور تقدما من نوع ما، ولكنها لا تدل في الوقت الحاضر على تفوق الاشتراكية على الرأسمالية، بل تدل على تفوق الثقافة البرجوازية على الثقافة البطريركية، وتفوق المدينة على الريف، والمراكز على المقاطعات، والغرب على الشرق.

وتقلد الأوساط السوفياتية المتميزة أعلى المستويات الرأسمالية، ويلعب دور الحكم في هذه المسائل الديبلوماسيون ومدراء التروستات والمهندسون الذين يسافرون غالبا إلى أمريكا وأوروبا. ولا يمكن للنقد أن يتعرض لهذه الأمور لأن من المحظر عليه التشهير من قريب أو من بعيد "بالعشرة آلاف" مسؤول قيادي. وهنا لا بد أن نذكر بمرارة فشل المبعوثين السوفيات في الخارج في الظهور بمظهر خاص بهم أمام الحضارة الرأسمالية. لأنهم لا يتمتعون بصلابة داخلية كافية تجعلهم يتعففون عن التعلق بالمظاهر ويحافظون على مواقعهم. إنهم يطمحون إجمالا إلى التقليل قدر الإمكان من تمايزهم عن المتأنقين البرجوازيين. إنهم بكلمة مختصرة لا يشعرون بأنهم ممثلو عالم جديد قدر إحساسهم بأنهم محدثو النعمة، وهم في الواقع يتصرفون على هذا الأساس.

إن اعتبار الاتحاد السوفياتي يتبع اليوم الخطوات الثقافية التي اختطتها البلاد المتقدمة في زمن بعيد على أسس رأسمالية هو نصف الحقيقة على الأقل. فليست الإشكال الاجتماعية الجديدة حيادية، وهي لا تكتفي بفتح السبيل أمام بلد متأخر للوصول إلى مستوى البلاد المتقدمة، بل تدفع التقدم ليسير بسرعة تفوق السرعة التي سار بها الغرب. وما ذلك إلا لأن رواد البرجوازية اخترعوا تقنيتهم وتعلموا تطبيقها على الاقتصاد والثقافة، بينما وجد الاتحاد السوفياتي مكسبا جاهزا حديثا، وهو لا يطبقه جزئيا وشيئا فشيئا، بل دفعة واحدة وعلى مدى واسع، بفضل تشريك وسائل الإنتاج.

وكثيرا ما امتدح العسكريون القدامى دور الجيوش في تثقيف الشعب وخاصة جماهير الفلاحين. إننا لا نريد أن تخدعنا الحضارة الخاصة التي تنشرها العسكرية البرجوازية، ولكننا لا ننكر أن كثيرا من العادات المفيدة لخدمة التقدم وصلت إلى الجماهير عن طريق الجيش. لهذا نرى الجنود وضباط الصف يسيرون غالبا على رأس الثوار في جميع الحركات الثورية، وخاصة حركات الفلاحين. ولا يؤثر النظام السوفياتي على حياة الجماهير الشعبية عن طريق الجيش فحسب، بل كذلك بواسطة أجهزة الدولة والحزب والشبيبة الشيوعية، والنقابات المتلاحمة مع الدولة. وتتم عملية هضم الأشكال الجاهزة للتقنية والعناية الصحية والفنون والرياضة في مهل أقصر بكثير من المدة التي أنفقها الغرب لإنشاء هذه الأشكال بالذات، وذلك بفضل ملكية الدولة، والديكتاتورية السياسية والإدارة المخطـَّطة.

ولو لم تقم ثورة أوكتوبر إلا بدفع العجلة وإسراع الخطى لأنصفها التاريخ وبرّر قيامها. لأن النظام البرجوازي المتهاوي لم يُظهر قدرته في أواخر القرن الماضي على تطوير بلد واحد متخلف في أي جزء من أجزاء العالم. ولقد قامت البروليتاريا الروسية بالثورة لأهداف أكبر من هذا الهدف بكثير، ولا تزال عناصرها المخلصة متمسكة بالبرنامج الشيوعي وآماله الكبيرة رغم النير المفروض عليها. وعلى البيروقراطية أن تتكيف مع البروليتاريا عن طريق توجه سياستها، وتفسير هذه السياسة . لذا فإن كل تقدم في الاقتصاد أو العادات يصبح، بغض النظر عن تفسيره التاريخي الصحيح ومعناه الحقيقي بالنسبة لحياة الجماهير، مكسبا كبيرا ولا مثيل له "للثقافة الاشتراكية". لا ريب أن وضع فرشاة الأسنان وصابون التواليت بين أيدي ملايين الناس الذين كانوا يجهلون إلى عهد قريب أبسط مبادئ النظافة، انجاز حضاري كبير. ولكن الصابون وفرشاة الأسنان وحتى العطور التي تطلبها "نساؤنا" عاجزة عن صنع الثقافة الاشتراكية، خاصة إذا كانت هذه الرموز البائسة للحضارة في متناول 15 بالمئة فقط من الشعب.

إن "تحويل الناس" الذي تتكلم الصحافة السوفياتية دائما عليه يتم بسرعة ملحوظة وجيدة. ولكن هل هو تحويل اشتراكي، وإلى أي مدى ؟ لم يعرف الروس في الماضي إصلاحا دينيا كبيرا كالألمان، ولا ثورة برجوازية كبيرة كالفرنسيين. فإذا ما استبعدنا الثورة الإصلاحية البريطانية في القرن السابع عشر وجدنا أن الشخصية البرجوازية قد تشكلت في هاتين البوتقتين. وشكـَّل تطور هذه الشخصية مرحلة من أهم مراحل تطور الشخصية الإنسانية بصورة عامة، وجاءت ثورتا روسيا في عامي 1905 و1917 فحددتا بصورة قاطعة يقظة الشخصية الفردية وسط الجماهير وأكدتاها في وسط بدائي. لقد قامتا إذن بسرعة وعلى مستوى أضيق بالعمل التربوي للإصلاحات والثورات البرجوازية في الغرب. وقبل أن ينتهي انجاز هذا العمل أو تنفيذ خطوطه الرئيسية على الأقل وجدت الثورة الروسية المولودة في غسق الرأسمالية أنها مدفوعة عبر صراع الطبقات على طريق الاشتراكية. إن التناقضات في ميدان الثقافة تعكس أو تبدل اتجاهات التناقضات الاجتماعية والاقتصادية الناجمة عن هذه القفزة، وتكتسب يقظة الشخصية الفردية مذ ذاك حتما سمات برجوازية صغيرة على مستوى الاقتصاد والعائلة والشعر. ولقد أصبحت البيروقراطية مثالا للروح الفردية المستفحلة التي لا يعود يكبحها كابح في بعض الأحيان. وفي حين تسمح بالفردية الاقتصادية وتشجعها (عمل بالقطعة، قطع أراضي للمزارعين، مكافآت وأوسمة) ، تقوم من جهة أخرى بالقمع الصارم للتجليات التقدمية للروح الفردية في إطار الثقافة العقلية (نظرات نقدية، تكوين أراء شخصية، كرامة فردية).

وكلما ارتفع مستوى جماعة قومية معينة ارتفع مستوى إنتاجها الفكري، ونما اهتمامها بمشاكل الفرد والمجتمع، وازداد تحسسها لثقل الكماشة البيروقراطية. ولا يمكننا أن نتكلم على فرادة الثقافات القومية مادامت هراوة رئيس جوقة واحد – أو بالأحرى هراوة شرطي واحد – تريد قيادة الوظائف الفكرية لكل شعوب الاتحاد السوفياتي. وليست الصحف والكتب الصادرة باللغة الأوكرانية أو الجيورجية أو التركية أو بلغة روسيا البيضاء سوى ترجمة للأوامر البيروقراطية بهذه اللغات. وتنشر الصحافة كل يوم في موسكو الترجمة الروسية للقصائد المهداة للرؤساء، التي يكتبها شعراء من القوميات المختلفة، فائزون بجوائز، وهذه القصائد هي بمجموعها منظومات بائسة لا يختلف بعضها عن البعض الآخر إلا بدرجة فراغها وتزلفها.

إن الثقافة الروسية الكبرى التي تعاني كغيرها من الثقافات القومية السوفياتية الأخرى، من هذا النظام العسكري، تعيش على حساب الجيل القديم الذي نشأ قبل الثورة. وتبدو الشبيبة كأنها مسحوقة تحت صخرة كبيرة. لسنا إذن إزاء اضطهاد قومية لأخرى، بالمعنى الحصري للكلمة، بل إزاء اضطهاد كل الثقافات القومية، بما فيها الثقافة الروسية من جانب جهاز بوليسي ممركز. وهنا لا بد لنا أن نذكر أن 90 بالمئة من صحف الاتحاد السوفياتي تظهر باللغة الروسية. وإذا كانت هذه النسبة تتناقض بشكل صارخ مع النسبة العددية للروس إلى مجموع شعوب الاتحاد، فهي تتناسب بشكل أفضل مع تأثير الحضارة الروسية ودورها الوسيط بين الغرب والشعوب السوفياتية المختلفة. ألا ينبغي أن نرى مع ذلك في الحصة المبالغ في ضخامتها التي أعطيت للروس في مجال النشر (والمجالات الأخرى) امتيازا قوميا فعليا، هو امتياز قوة عظمى على حساب القوميات الأخرى ؟ قد يكون ذلك صحيحا. ولكن من الصعب الإجابة على هذا السؤال الهام بتعابير قاطعة، ذلك أن الذي يحسمه في الحياة، ليس التعاون والتنافس والإنضاج المتبادل على صعيد الثقافات المختلفة، بل القرار التحكيمي الذي لا رجعة فيه، الذي تتخذه البيروقراطية. وبما أن الكرملين هو مركز السلطة، والمحيط يتبع المركز، فإن البيروقراطية المركزية تأخذ بالضرورة منحى ترويسيا (8)، في حين تعطي للقوميات الأخرى حقا واحدا لا يمكن الجدال فيه: هو حق امتداح الحكـَم بلغاتها الخاصة بها.

تتغير العقيدة الثقافية الرسمية بتغير التعرجات الاقتصادية والاعتبارات الإدارية. ولكنها تحافظ في كل تبدلاتها على سمة حاسمة على الإطلاق. فإلى جانب نظرية الاشتراكية في بلد واحد، حصلت نظرية "الثقافة البروليتارية"، التي كانت بقيت سابقا في المؤخرة، على التطويب الرسمي. إن أخصامها يقولون أن ديكتاتورية البروليتاريا عملية انتقالية على وجه الحصر، والبروليتاريا، بعكس البرجوازية، لا تفكر بالحكم على امتداد مرحلة تاريخية طويلة، وأن مهمة الجيل الحاضر من الطبقة الحاكمة الجديدة هي قبل كل شيء هضم أفضل ما في الثقافة البرجوازية، وأنه بقدر ما تبقى البروليتاريا بروليتاريا، أي بقدر ما تواصل حمل آثار عبودية الأمس بقدر ما تعجز عن الارتفاع فوق إرث الأيام الخالية؛ وأن إمكانات عمل خلاّق جديد لن تنفتح حقا إلا بمقدار ما تذوب البروليتاريا في المجتمع الاشتراكي. وكل هذا يعني أن الثقافة الاشتراكية – لا ثقافة البروليتاريا – مدعوة لأن تحل مكان الثقافة البرجوازية.

ولقد أجري مؤلف هذا الكتاب عدة مناقشات مع منظري فن بروليتاري، هو من نتاج المختبر، فكتب: "تتغذى الثقافة من نسخ الاقتصاد، وهي تتطلب وجود فوائض مادية لتنمو وتتعقد وتتصفـَّى. إن حل المشاكل الاقتصادية الأولية بشكل جيد، لا يعني حتى الآن، وفي أي من الحالات، انتصارا كاملا للاشتراكية التي تشكل مبدأ تاريخيا جديدا". ويدل تقدم الفكر العلمي على أسس شعبية، كما يدل تقدم الفن الجديد على أن البذرة قد نبتت وازدهرت. ومن هذه الزاوية "يعتبر تطور الفن من اكبر الدلائل على حيوية وأهمية عصر من العصور" (9). لقد كانت هذه الفكرة مقبولة حتى الأمس ثم أعلنت التصريحات الرسمية فجأة أنها "استسلام" يمليه "ضعف الإيمان" بقوى البروليتاريا الخلاقة. لقد افتتحت حقبة ستالين – بوخارين. لقد كان بوخارين ينادي منذ مدة طويلة بالثقافة البروليتارية، أما ستالين فلم يكن قد فكر بهذا الأمر قبل ذلك. ولكن كليهما كان من أنصار سير الاشتراكية "بخطوات السلحفاة"، ويريان أن أمام البروليتاريا عشرات السنين لتشكل ثقافتها الخاصة؛ أما سمات هذه الثقافة فكانت مشوشة مضطربة في أفكار منظرينا، بالإضافة إلى كونها قليلة الطموح.

وجاءت سنوات الخطة الخمسية الأولى فقلبت فكرة "خطوات السلحفاة" رأسا على عقب. ومنذ عام 1931، وفيما البلاد على حافة مجاعة كبيرة، "دخلت في الاشتراكية". قبل أن يقوم الكتـَّاب والفنانون المدعوون رسميا بخلق فن بروليتاري أو نماذج أولي بارزة منه على الأقل، قالت الدولة أن البروليتاريا ذابت في المجتمع اللاطبقي. ولم يبق إلا التكيف مع واقع كونها لم يتوفر لها لخلق ثقافتها هذا العامل الذي لا غنى عنه: الوقت. وغابت فكرة البارحة في مجاهل النسيان، واتجهت الأنظار نحو "الثقافة الاشتراكية" التي نعرف الآن محتواها.

إن الخلق الفكري بحاجة لحرية واسعة، والفكرة الشيوعية المتمثلة بإخضاع الطبيعة للتقنية، والتقنية للخطة بغية إجبار المادة على منح الإنسان كل ما هو بحاجة إليه، وأكثر، تتطلع نحو هدف أسمى هو تحرير الطاقة الخلاقة في الإنسان من جميع العوائق ومن كل تبعية مذلـِّة أو إكراه قسري. لا تعود العلاقات الشخصية والعلم والفن تخضع لأي مخطط مفروض أو إكراه غير مقبول، فإلى أي حد يصبح النتاج الفكري فرديا أو جماعيا ؟ إن هذا عائد قبل كل شيء إلى الشخص المبدع نفسه.

ثمة شيء آخر هو النظام الانتقالي. إن الديكتاتورية تعبِّر عن الهمجية القديمة لا عن الثقافة المقبلة، وهي تفرض حتما تضييقات صارمة على كل النشاطات بما في ذلك النشاط الفكري. ولقد رأى برنامج الثورة فيها منذ البداية شرا مؤقتا، وتعهد بالقضاء على كل ما تلاقيه الحرية من تضييقات، مع مرور الزمن وتوطيد النظام الجديد. ولقد وجد زعماء الثورة في أكثر سنوات الحرب الأهلية عنفا أنه إذا كانت الحكومة قادرة على الحد من الحرية الخلاقة انطلاقا من اعتبارات سياسية، إلا أنها عاجزة عن التنطح للقيادة في المجالات العلمية والأدبية والفنية. ولقد كان لينين المعروف بميوله "المحافظة" على الصعيد الفني، كثير الحذر في هذا المجال، لذا فقد كان إلى عدم خبرته فيه. إن حماية مفوض الشعب للتعليم، لوناتشارسكي، لبعض أشكال الفن الحديث كانت تثير غالبا قلق لينين، إلا أنه كان يكتفي بإبداء ملاحظات ساخرة حول هذا الموضوع في مجالسه الخاصة، حريصا على أن لا يشترع من ذوقه الأدبي الخاص قانونا عاما. وفي عام 1924، على عتبة مرحلة جديدة، قال مؤلف هذا الكتاب فيما يتعلق بموقف الدولة من الاتجاهات الفنية: ""إن عليها أن تحدد قبل كل شيء ما إذا كانت هذه الاتجاهات مع الثورة أو ضدها، ثم تترك لها في مجالها الخاص حرية كاملة".

طالما بقيت الديكتاتورية تتمتع بتأييد جماهيري وكان أفق الثورة العالمية مفتوحا أمامها، لم تكن تخاف التجربة والأبحاث وصراع المدارس، لأنها تعرف أن تحضير مرحلة ثقافية جديدة لا يتم إلا على هذا الطريق. وكانت جميع شرايين العملاق الشعبي لا تزال تنبض بالحياة. وكان هذا العملاق يفكر بصوت عال لأول مرة منذ ألف عام. وكانت القوى الفنية الشابة متفتحة حية. وفي هذه السنوات الأولى الغنية بالآمال والجرأة سنت أثمن القوانين الاشتراكية وخطـَّت أجود مؤلفات الأدب الثوري وأخرجت أحسن الأفلام السوفياتية التي أذهلت العالم بحيويتها وواقعيتها رغم ضعف الإمكانات الفنية المستخدمة لإنتاجها.

وعندما بدأ النضال ضد المعارضة في الحزب بدأت السلطات بمحاصرة المدارس الأدبية واحدة بعد الأخرى. ولم يتوقف التدمير عند حدود الأدب، بل امتد إلى كل الآفاق الفكرية، وكان تدميرا قويا لأنه تدمير غير واع تقريبا. واعتبر الحاكمون أنفسهم مسؤولين عن مراقبة الحياة الفكرية وتوجيه تطورها سياسيا. ولقد فرض البيروقراطيين أوامرهم التي لا تقبل المناقشة سواء أكان ذلك في معسكرات الاعتقال أو في الزراعة والموسيقى. وتنشر الجريدة المركزية للحزب مقالات تشبه الأوامر العسكرية لتوجيه فن البناء والأدب والمسرح والباليه والفلسفة والعلوم الطبيعية والتاريخ.

وتخاف البيروقراطية خوفا هائلا من كل ما لا يخدمها ومن كل ما لا تفهمه. وهي محقة عندما تشترط ارتباطا بين العلوم الطبيعية والإنتاج، ولكنها عندما تأمر الباحثين بالتوقف عند أهداف قريبة مباشرة تغدو عاملا يهدد بتجفيف أثمن الينابيع الخلاّقة، بما في ذلك ينابيع الاكتشافات العلمية التي تتم غالبا بصورة غير متوقعة. ولقد كوت التجارب الأليمة بنارها علماء الطبيعة والرياضيات والنحو ومنظري الفن العسكري، لذا فإنهم يبتعدون عن التعميمات الكبيرة خوفا من أن يأتي"عالم أحمر" وهو في الغالب جاهل وصولي، ويضربهم بقسوة ببعض ما يحفظه من أقوال مأثورة عن لينين أو ستالين . لأن دفاع المرء في هذه الحالة عن الفكر أو الكرامة العلميين يعني التعرض للاضطهاد.

وتتعرض العلوم الاجتماعية لأسوأ معاملة. ويحاول رجال الاقتصاد والتاريخ والإحصاء والصحافة أن لا يقفوا موقفا يتعارض بصورة مباشرة أو غير مباشرة مع المواقع الحالية للسياسة الرسمية. ولا يمكن للمرء أن يتحدث عن الاقتصاد السوفياتي أو عن السياسة الداخلية والخارجية إلا بعد أن يحمي مؤخرته وجنباته باستعارة جمل تافهة من أقوال الزعيم (10) أخذا بعين الاعتبار ضرورة إظهار الأمور وكأنها تتم كما كان متوقعا لها أو بشكل أفضل. والانصياع الكامل يجنب المرء كثيرا من المتاعب ولكنه يحمل في داخله بذور عقابه ألا وهو الإجداب.

ومن الغريب انه لم يُنشر في الاتحاد السوفياتي خلال السنوات الـ12 الأخيرة أي كتاب ماركسي يتحدث عن الاقتصاد أو الاجتماع أو التاريخ أو الفلسفة يستحق الاهتمام أو الترجمة، رغم أن الماركسية إيديولوجية الاتحاد السوفياتي الرسمية. ولا يخرج إصدار الكتب الماركسية عن كتيبات مدرسية تردد الأفكار القديمة المعروفة وتعيد استخدامها حسب حاجات الموقف. تعني الدولة بإصدار ملايين الكتب والنشرات التي لا يحتاج إليها أحد، يدخل في صناعتها الصمغ والتملق الدنيء ومواد لزجة أخرى. أما الماركسيون القادرون على كتابة شيء ذي قيمة فهم قابعون في السجون أو مُكرهون على الصمت في وقت يطرح فيه تطور الأشكال الاجتماعية في كل لحظة مشاكل ومهام ضخمة !

إن الشهامة التي لا بد منها في كل عمل نظري، تتعرض للدوس بالأقدام. وتعدل الشروح المرفقة لكتابات لينين مع كل طبعة جديدة بغية خدمة المصالح الشخصية لهيئة الأركان الحاكمة وإعلاء منزلة "الزعماء" وتسديد صفحة أعدائهم، ولو أدى ذلك إلى شطب بعض الفقرات... وتتلقى الكتب حول تاريخ الحزب والثورة المعاملة ذاتها، إذ يتم تشويه الحوادث وإخفاء الوثائق أو اختلاقها، تحسين سمعة فرد وتحطيم سمعة آخر. ولو قارنـَّا بين الطبعات المتتالية لنص كتاب واحد خلال 12 سنة لرأينا حقيقة انحطاط فكر القادة ووعيهم. وليس النظام التوتاليتاري أقل سوءا بالنسبة للأدب. لقد حل محل صراع الاتجاهات والمدارس تفسير إرادات الرؤساء. وتنتمي التجمعات الأدبية لتنظيم موحد إجباري كأنه معسكر اعتقال للأدب. إن كتـَّابا رديئين، لكن مطواعين، من مثل جلادكوف وسيرافيموفيتش، يجري اعتبارهم كتـَّابا كلاسيكيين، أما الكتـَّاب الموهوبون الذين لا يتقنون كبح جماح أنفسهم قدر ما يطلب منهم، فخاضعون لمجموعة شرسة من الوصاة المسلحين ببعض الأقوال المأثورة. وينتحر بعض الفنانين الكبار بينما يغوص البعض الآخر في أحداث الماضي البعيد بحثا عن مواضيع لعملهم أو يسكتون. ولا تظهر الأعمال الأدبية الشريفة والتي تنم عن موهبة إلا صدفة، كما لو كانت تفلت من مِخنق، تشكل نوعا من البضاعة المهرَّبة.

إن حياة الفن السوفياتي سجل من سجلات الشهداء. فبعد أن أصدرت البرافدا مقالها التوجيهي ضد النزعة الشكلية في الفن اجتاحت الكتـَّاب والرسامين ومديري المسارح ومغنيات الأوبرا موجة من الندامة، وبدأ الجميع يتبرؤون من أخطاء الأمس متحاشين في الوقت نفسه – على سبيل الحذر – تحديد ماهية النزعة الشكلية، حتى اضطرت السلطات في النهاية إلى إيقاف هذا السيل الجارف من النقد الذاتي بتوجيهات جديدة. وأعيد النظر في جميع الأحكام الأدبية خلال عدة أسابيع، وعدلت الكتب المدرسية، وغيرت الشوارع أسماءها، ونصبت التماثيل لأن ستالين مدح ماياكوفسكي. وإذا ما أعجبت أحد أعمال الأوبرا شخصية هامة كان ذلك بمثابة توجيهات للمؤلفين الموسيقيين. فلقد قال سكريتير الشبيبة الشيوعية في اجتماع للكتـَّاب: "إن تعليمات الرفيق ستالين قوانين بالنسبة للجميع"، وصفق الحاضرون رغم حمرة الخجل التي صبغت وجوه بعضهم. وكأنما هنالك إصرار على إذلال الأدب، فقد تم تكريس ستالين العاجز عن تأليف جملة روسية صحيحة، كاتبا كلاسيكيا. إن لهذه التصرفات البيزنطية وهذه السيطرة البوليسية شكلا مضحكا يخفي وراءه مأساة عميقة.

وتقول التعليمات الرسمية أن على الثقافة أن تكون اشتراكية بمحتواها، قومية بشكلها. ومحتوى الثقافة الاشتراكية لا يمكن أن يكون موضوعا لغير فرضيات ممكنة إلى هذا الحد أو ذاك. ولا يمكن لأحد أن يرسي هذه الثقافة على قاعدة اقتصادية غير كافية. والفن أقل من العلم قدرة على توقع المستقبل. مهما يكن فإن وصفات من مثل "تمثيل البناء القادم" و"إظهار طريق الاشتراكية" و"تحويل الإنسان" لا تدفع الإلهام أو تثير الخيال أكثر من سعر المنشار أو دليل السكك الحديدية.

تجري المماثلة بين الشكل الشعبي للفن ووضع المؤلفات في متناول كل الناس. وتقول البرافدا: "إن ما لا يفيد الشعب لا يتمتع بأي قيمة جمالية". ولكن هذه الفكرة الخاصة بالناردونيكيين، التي تستبعد التربية الفنية للجماهير، تأخذ شكلا رجعيا بقدر ما تحتفظ البيروقراطية لنفسها بحق تقرير ما هو الفن الذي يحتاجه أو لا يحتاجه الشعب. إن البيروقراطية تنشر الأدبيات والمؤلفات كما تزيد وتفرض البيع والتوزيع بصورة إجبارية دون أن تترك للقراء أية حرية. كل شيء يؤدي في نهاية المطاف إلى جعل الفن يستوحي مصالحها ويجهد لجعلها جذابة في أعين الجماهير الشعبية. إنها عبثا تعمل... إذ لا يمكن لأي أدب أن يحل هذه المشكلة. ويعترف المسؤولون أنفسهم بان "الخطتين الخمسيتين الأولى والثانية تستثيران موجة خلق أدبي أقوى من تلك التي ولدتها ثورة أوكتوبر". هذا الكلام الملطف جرت تحليته بشكل رهيب. والحقيقة أنه، رغم الاستثناءات، سوف يدخل العصر التريميدوري في التاريخ كعصر الناس التافهين وحاملي الجوائز والخبثاء.


(1) جرى إلغاء هذا القانون مذ ذاك.
 

(2) كتاب تبسيطي عن الشيوعية، كتبه بوخارين وبريوبراجنسكي في السنوات الأولى للثورة.
 

(3) ويقصد بذلك وصية من وصايا الله العشر وهي "لا تزن".
 

(4) الوصية الخامسة من وصايا الله العشر وهي "أكرم أباك وأمك". (المعرب)
 

(5) نسبة للفيلسوف اليوناني أبيقور الذي كان يدعو للتمتع بالحياة ولذائذها. (المعرب)
 

(6) الزيمستفو: يمكن تسميتها "مجلس المقاطعة". أنشأت في عام 1864 وكانت صلاحيتها محصورة بالقضايا الاقتصادية المحلية الصرفة (مستشفيات – طرقات – إحصاء) وبعد ثورة أوكتوبر تم تحويلها لتكون مؤسسات للحكم الذاتي. (المعرب)
 

(7) لم تنشر هذه الوثائق في الاتحاد السوفياتي إلا عام 1956 أي ثلاث سنوات بعد موت ستالين.
 

(8) نسبة إلى روسيا (المعرب)
 

(9) الإستشهادات من كتاب تروتسكي "الأدب والثورة".
 

(10) يقصد بالزعيم هنا "ستالين". (المعرب)