بخصوص الخطاب الفلسفي الماركسي


كتبه: سليم دولة
المصدر : « ما الفلسفة ؟ ما الثقافة ؟ » - بيرم للنشر (الطبعة الثالثة - 1989) ص 58-62
نسخ الكتروني: وجدي حمدي (أبريل 2005)
ملاحظة: العنوان (بخصوص الخطاب الفلسفي الماركسي) ليس أصلي وهو من اختيار أرشيف الماركسيين على الانترنت.


إنّ المتأمل في الأطروحة المركزية في الخطاب الفلسفي الماركسي: « إن الفلاسفة ما فعلوا، حتى يومنا هذا، من شيء سوى تفسير العالم، وإن بطرق مختلفة، غير أن الأهمّ هو العمل على تغييره » يتبيّن أنها نقطة تحوّل وضعها ماركس للحسم بين نمطين من الخطاب الفلسفي هما الخطاب الفلسفي المثالي والخطاب الفلسفي المادي الجدلي. هذه الأطروحة تدشّن تصوّرا جديدا للفلسفة ولوظيفتها. إنها تطرح على الفلسفة، وبالتحديد الفلسفة الماركسية أن تعلن دون تردّد انخراطها في مجال السياسة.

التغيير الذي يعنيه ماركس في أطروحته ليس إلا الثورة، والثورة لا تعني مجرد إصلاحات طفيفة وإنما قلب نظام الأشياء رأسا على عقب. وليس الإنسان المطلق هو المطالب بهذه الممارسة الجذرية وإنما طبقة البروليتاريا أي طبقة الذين لا يملكون سوى قوة عملهم، لذا ميز ماركس بين الفلسفة البورجوازية التي أصبحت محافظة بعد أن كانت في العصر الإقطاعي ثورية وبين فلسفة الممارسة كما يدعو إليها ماركس.

لقد استوعب الفيلسوف الفرنسي لويس التوسير الخطاب الفلسفي الماركسي فكتب في مؤلفه "مواقف": « إن على الفلسفة أن تكون سلاحا للثورة » (ص 35). أما معاصره بول نيزان فقد أشار في كتابه "كلاب الحراسة" إلى وجود "فلسفات مستقيلة" ينتجها من أطلق عليهم تسمية "كلاب الحراسة" وهؤلاء ليسوا إلا الفلاسفة البرجوازيين المحافظين أوالفلاسفة المثاليين الذين لا يهتمون بالمسائل والقضايا التي تعني البشر في واقعهم المعيش. ويدحض بول نيزان مقولة وجود فلسفة في المطلق ويرى، على العكس أنه يوجد صنفان من الفلسفة:

أ- فلسفة تقدمية تعمل على تغيير العالم، أي القيام بالثورة والإطاحة بالبرجوازية، مالكة وسائل الإنتاج والسلطة.

ب- فلسفة رجعية بامتياز تكدح على مستوى النظرية للحفاظ على نظام الأشياء القائم (القيم الأخلاقية، الزواج، الدولة، توزيع الثروة والملكية...)

ووفقا لهذه المقاربة لا يمكن أن نبحث عن تعريف واحد، عن وظيفة واحدة وعن دور واحد للفلسفة أو الفلاسفة، إذ كما يقول غرامشي في "دفاتر السجن": « لا وجود لفلسفة في المطلق ».

بعض الفلاسفة يسعون إلى عرقلة التاريخ إذ ينحرفون على صعيد النظرية عن القضايا التي تهم البشر: تحليل أسباب فقرهم الحقيقية... دوافع الانتحار... فالبحث عن التجانس في الفلسفة يمنعنا بالضرورة عن إدراك التباين والاختلاف والتغاير في المشاريع الفلسفية والأنساق المختلفة.

إن فلسفة البراكسيس (Praxis) أو المادية الجدلية لا تحكم على خطاب فلسفي ما حسب تماسكه الداخلي ولا حسب مكانة هذا الفيلسوف أو ذاك في تاريخ الفلسفة وإنما تحكم انطلاقا من موقف هذا الفيلسوف وذاك من قضايا عصره (قضية الاستعمار مثلا...) وطريقة تعامله مع المسائل الحيوية في المجتمع. وبلغة غرامشي: « تسأل فلسفة الممارسة ما إذا كان الفيلسوف ملتحما بطبقة المستغلين المستنزفين من مالكي وسائل الإنتاج والسلطة ».

فإذا كان الفيلسوف صامتا، مقيما في برجه العاجي يمكن أن نتحدث حسب بول نيزان عن خيانته.

الحكم إذن على الفلسفة يكون انطلاقا من مدى مساهمتها، أو عدم مساهمتها في تغيير الواقع المعيش.

لقد خصص الفيلسوف الماركسي المعاصر بول نيزان في كتابه المذكور فصلا للحديث عن "الفلاسفة المستقيلين" بيّن فيه أننا نعيش في زمن اتسم بصمت الفلاسفة وغيابهم عن ساحة الممارسة العملية، فهم يصمتون متى يتوجب الكلام ويتكلمون متى يتوجب الصمت: يبحثون في مسائل لا تعني البشر الواقعيين، يبحثون عن "الأشياء في ذاته" كما فعل كانط ويتحدثون عن « الوثبة الحياتية » كما فعل الفيلسوف المعاصر برغسن.

الملاحظ أن الفلسفات المثالية لا تعترف بشرعية النقد الذي يوجه إليها من قبل الفيلسوف العضوي الملتزم وفق المصطلح الغرامشي.

كيف نفسر هذا الموقف الاحتجاجي الذي تبديه الفلسفة البرجوازية ؟

إن قول الفلاسفة المثاليين بأن النقد الذي تمارسه ضدها الفلسفة الثورية هو نقد غير فلسفي للفلسفة. فهي تحتج ضد هذا النقد لتخفي ما يسميه بول نيزان استقالتها. الفلاسفة البرجوازيون يعيشون في حالة غياب، في حالة غيبوبة تبعث عن الفضيحة. هذه الفلسفة إما أنها مستقيلة أو متظاهرة بالاستقالة فهي "الفلسفة خائنة".

كيف تكون الفلسفة خائنة ؟

إنها تكون "خائنة"، "مستقيلة"، "معاقة"، "مقعدة"، عندما لا يشعر الفلاسفة بانتمائهم إلى الأرض، عندما يكونون أخفّ من الملائكة. هناك ضرب من الاحتشام لا يمكن للفلاسفة المستقيلين التصريح به أمام الملإ بأنهم لا يحبّون البشر حسب لغة كتاب "كلاب الحراسة". لقد حلّ الزمن الذي يتوجب أن نخرج فيه الفلاسفة المستقيلين وذلك بأن نطالبهم بالإفصاح عن حقيقة أفكارهم حول المسائل المركزية الأساسية التي تشغل البشر في واقعهم اليومي بنجاحهم وانكساراتهم، وتحديد مواقفهم لا بد أن يكون تحديدا واضحا. فماذا عن مواقف هؤلاء الفلاسفة من الاستعمار مثلا ؟ ماذا يقولون عن العمل المفتت ؟ ماذا يقولون عن الآلة التي ابتدعها الإنسان لتكون امتدادا لأعضائه فيسيطر بها على الطبيعة ولكن انقلبت الأدوار فأصبح الإنسان هو الامتداد الآلة ؟ ما هو رأيهم في البطالة ؟ في الانتحار، في الإجهاض ؟ في الحرب الكوكبية المحتملة ؟

وباختصار ما هي مواقفهم من القضايا التي تشغل المجتمع الأرضي وليس المجتمع الملائكي وسدنة الجنة.

الفلسفة موقف (Position) فماذا عن طبيعة مواقف هؤلاء الفلاسفة ؟

إن الفلسفة التزام بعمل تغييري فماذا هي التزامات الفلاسفة المستقيلين ؟

يقول الفيلسوف الماركسي نيزان: « إنه عندما نرغم هؤلاء الفلاسفة على الإجابة نتبين أن هؤلاء الفلاسفة لم يستقيلوا عن خطإ ولم يصمتوا لأنهم لم يتخذوا بعد موقفا واضحا من القضايا الحياتية، أو بأنهم أصيبوا بعَمَهٍ قابل للعلاج. إن صمت هؤلاء الفلاسفة كلام، كلام مرير، يترجم عن اختيار محدد ». لقد اختار هؤلاء الفلاسفة ما يسميه بول نيزان "الرفاهة الفكرية" والتعالي عن قضايا البشر فهؤلاء لا يمكن أن يكونوا غير طفيليات، زوائد دودية، جراثيم اجتماعية.

إذا كان الفيلسوف مع نيتشه هو "طبيب الحضارة" الذي يستأصل المرض فقد أصبح الفيلسوف المستقيل هو المرض، هو الجرثومة. إذا كان الفيلسوف مع أفلاطون هو من تجاوز "الرعاع، العامة، الدهماء، السواد الأعظم"، فإن بول نيزان يغير وجه الخطاب الفلسفي وطبيعة ممارسته إذ ستهتم بهؤلاء المستنزفين المغضوب عليهم جملة وتفصيلا. الفلاسفة الذين طالما نـُعِتوا بالمعرفة الموسوعية ونـُسبوا إلى العلم أصبحوا رمزا للجهالة الجاهلة بجهلها وحياتهم الأرستقراطية ليست إلا حياة الديدان. وباختصار يعتبر بول نيزان أنه « لا وجود لفلسفة المطلق » معرفة بألف ولام التعريف. من هنا كانت فلسفة الممارسة نقدا عنيفا للفلسفات المثالية والبرجوازية.

نتبين أن الفلسفة الثورية قد اتجهت بالتحديد إلى مخاطبة الطبقات المسحوقة واتخذت نفسا ثوريا. ليست كل فلسفة يمكن أن تكون ثورية وإنما حسب بول نيزان المادية الجدلية وحدها التي يمكن أن تكون ثورية ولأن من أنتجوها كانوا ملتزمين بقضايا المغضوب عليهم في التاريخ ونقصد ما يسمى في المعجم السوسيولوجي الكلاسيكي: الرعاع، العامة، الدهماء، السواد الأعظم أو ما يُسمى في المعجم الماركسي: البروليتاريا.

فالصراع إذن ضد البرجوازية يتخذ بعدا نظريا: (مجال الفلسفة، الإيديولوجيا، الدين ...) ومجال الممارسة العملية بمحاولة افتكاك وسائل الإنتاج من هيمنة البرجوازية والإطاحة بالنظام الاستغلالي. لقد ميز أنطونيو غرامشي في كتابه "دفاتر السجن" بين من يطلق عليهما المثـقف العضوي الثوري والمثـقف المحافظ البرجوازي فكل منهما يصدر في تفكيره عن موقف محدد من الشعب:

ــ المثـقف التقليدي أو المزيف كما يسميه جون بول سارتر أو كلب الحراسة كما يسميه بول نيزان هو عدو الشعب

ــ بينما المثـقف العضوي هو من يتبنى قضايا من سماهم غرامشي الجماهير الواسعة، فهو النقيض الموضوعي للمثـقف البلاطي الرجعي. (...)