ملخص تاريخي

هذه لمحة عامة عن التطورات الأولى للأممية الشيوعية كتبها ماتياس راكوزي عشية المؤتمر الرابع، لأجل الدليل السنوي للعمل، الذي وضعته الأممية عام 1923.

 

 

 

الأممية الثالثة الشيوعية

كان لا بد ان تبين الأممية الثانية حقيقتها وإمكاناتها خلال الحرب الإمبريالية. وقد كانت معدة لذلك فكريا. كان جرى سلفا وضع تحليل دقيق للغاية لطابع الحرب. ومرارا، كانت المؤتمرات الأممية قررت خوض أشد النضال قوة، وحتى استخدام الإضراب العام الأممي ضد الحرب.

إلاّ أنه حين انفجرت الحرب، حصل العكس تماما. لم تكن الأممية حتى قادرة على تقديم احتجاج. وبدل إعلان الإضراب العام أو النضال ضد الحرب الإمبريالية هرع القادة الاشتراكيون-الديموقراطيون لدعم برجوازيتهم الخاصة بهم، بحجة الدفاع الوطني. كانت تلتهمهم الانتهازية والشوفينية وتربطهم آلاف الروابط بالبورجوازية. ما كان بإمكان الأممية الثانية بطبيعة الحال، أن تكون مختلفة عن الأحزاب التي تتشكل منها. ولم تكن الجمل الثورية قادرة على طمس الواقع إلاّ طالما لم يحن الوقت الذي سيتم خلاله فرض التطابق بين الأفعال والأقوال. لذلك شكلت بداية الحرب العالمية إيذانا بانهيار الأممية الثانية.

لهذا حرمت الحركة العمالية العالمية من قيادتها، وتحديدا، في لحظة البلبلة الفكرية والأخلاقية الأشد. إن قلة من الرجال، الذين لم يفقدوا صوابهم، حتى وسط موجة الإنتهازية والشوفينية التي بدأ، في آب 1914، أنها استحوذت على كافة العقول، سعوا على الفور إلى إفهام هذا الواقع للعمال، وهم بشكل خاص البلاشفة الروس الذين كانوا، إبّان نضالهم الشرس ضد القيصرية خاصة خلال عامي 1905-1906، قد تعلموا أن يميزوا بين الأقوال والأفعال الثورية، والذين كانوا قد شكلوا جناحا يساريا داخل الأممية الثانية، التي ينتقدون عملها. كتب الرفيق لينين، في العدد الأول من جريدة البلاشفة المركزية التي صدرت في الأول من نوفمبر 1914: « لقد ماتت الأممية الثانية،قضت عليها الانتهازية. فلتسقط الانتهازية ولتحيَ الأممية الثالثة، متخلصة من المرتدين ولكن أيضا من الإنتهازيةّ ! ».

إن الأممية الثانية قد قامت بعمل مفيد في تنظيم الجماهير البروليتاريا أثناء « مرحلة سلمية » طويلة في أسوأ عبودية رأسمالية خلال الثلث الأخير من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. إن مهمة الأممية الثالثة ستكون تحضير البروليتاريا للنضال الثوري ضد الحكومات الرأسمالية، وللحرب الأهلية ضد البرجوازية في البلدان كافة، بهدف الاستيلاء على السلطات العامة وانتصار الاشتراكية ».

وبعد عدة أسابيع، كتب الرفيق زينوفييف حول « الاشتراكية-الديموقراطية الثورية »: « علينا أن نرفع راية الحرب الأهلية، ستتبنى الأممية هذا الشعار وستكون جديرة باسمها، وإلاّ سيكون نموّها بائساً. إن واجبنا هو التحضير للمعارك القادمة، وهو أن نعتاد نحن والحركة العمالية بمجملها على هذه الفكرة: إمّا أن نموت أو ننتصر تحت راية الحرب الأهلية ».

إن نشر أفكار كهذه كان يصطدم بصعوبات هائلة. فقد استخدمت البرجوازية في البلدان كافة، وساندها الاشتراكيون-الوطنيون في مسعاها، شتى الوسائل لمنع هذه الأفكار من التغلغل بين الجماهير.

جرت أول محاولة لإعادة تشكيل الأممية الثورية في بداية سبتمبر 1915 في زيمرفالد بسويسرا، وقد دعيت إليها « كل التنظيمات العمالية التي بقيت أمينة لمبدأ الصراع الطبقي والتضامن الأممي » بمبادرة من الاشتراكيين الإيطاليين، وحضرها مندوبون من ألمانيا، فرنسا، إيطاليا، دول البلقان، السويد، النروج، بولندا، روسيا، هولندا وسويسرا، وتمثلت فيها الاتجاهات كافة، بدءا بالإصلاحيين السلميين وانتهاءا بالماركسيين الثوريين. وقد تبنى الكونغرس بيانا يفضح الحرب الإمبريالية، ويطالب بالاقتداء بمثال كل أولئك الذين اضطهدوا لأنهم حاولوا إيقاظ الروح الثورية في صفوف الطبقة العاملة. لقد شكل هذا البيان، على الرغم من غموضه، خطوة كبيرة إلى الأمام. هذا، ونشرت المجموعة المدعوة بـ يسار زيمرفالد قرارا أكثر وضوحا ونقاء بكثير، وتضمن هذا القرار المقطع التالي: « رفض كل القروض من أجل الحرب، خروج الوزراء الاشتراكيين من الحكومات البرجوازية، ضرورة فضح الطابع الإمبريالي للحرب من على منصة البرلمان وفي أعمدة الصحف الشرعية وغير الشرعية عند الحاجة، تنظيم التظاهرات ضد الحكومات، الدعاوة داخل الخنادق لصالح التضامن الأممي، حماية الإضرا بات الاقتصادية والعمل في الوقت نفسه على تحويلها إلى إضرابات سياسية، حرب أهلية لا سلم اجتماعي ».

إن رفض هذا القرار من قبل الكونفرنس يدل بشكل كاف على عقلية الذين شاركوا فيه. هذا وشكل الكونفرنس « لجنة اشتراكية عالمية »، وعلى الرغم من الإعلان الشكلي من قبل أكثرية الكونفرنس عن عدم نيتهم خلق أممية ثالثة، فإن اللجنة أصبحت، انطلاقا من معارضتها للـ« مكتب الاشتراكي العالمي » (الهيئة التنفيذية للأممية الثانية)، نقطة التقاء المعارضة ومنظمة الأممية الجديدة. إن ما يميز الكونفرنس الثاني، كونفرنس كينتال، في أبريل 1916 الذي تبع كونفرنس زيمرفالد، كان واقع أن فكرة النضال الثوري الأممي ضد الحرب، وكنتيجة لذلك، ضرورة أممية جديدة، برز في الصدارة أكثر فأكثر، فيما تزايد تأثير « اليسار الزيمرفالدي »، وجرى العمل باندفاع، فطبعت الكراريس والبيانات التي أرسلت إلى مختلف البلدان في أصعب الشروط، وتمت لقاءات صغيرة واجتماعات موسعة، استمرت في نشر فكرة الصراع الطبقي الثوري.

عندما انفجرت الثورة في روسيا، رجعت إليها العناصر الأكثر نشاطا في « اليسار الزيمرفالدي »، وهكذا تم انتقال مركز النضال من أجل الأممية الثالثة إلى روسيا، ولهذا كان زينوفييف على حق عندما كتب: « لقد ربطت الأممية الثالثة مصيرها، منذ نشأتها، بمصير الثورة الروسية، فانتصار الثورة في روسيا، يفرض شعار « من أجل الأممية الثالثة » نفسه. وبقدر ما تتعزز الثورة الروسية، يتعزز أيضا « وضع الأممية الشيوعية في العالم أجمع ».

خلال تظاهرات مايو 1917، كان شعار بناء الأممية الشيوعية أحد الشعارات الأساسية التي رفعتها الجماهير البروليتارية. وقد غدت هذه الأممية أكثر حرارة عندما استلمت البروليتاريا الروسية السلطة، وعندما وقفت الأممية الثانية – كما في الحرب العالمية – إلى جانب البرجوازية أثناء النضال ضد الامبريالية العالمية.

بعد مضي عدة شهور على هزيمة دول المحور، بادر الحزب الشيوعي الروسي إلى تأسيس الأممية الثالثة، وأظهرت الثورات التي تلت الحرب إفلاس « الدفاع الوطني » وأنصاره الاشتراكيين-الديموقراطيين، ومرت موجة ثورية عارمة للطبقة العاملة في البلدان كافة، فظهرت في أوروبا الوسطى انتفاضات عمالية في كل حدب وصوب.ولم تكن الأرضية خصبة كافية من أجل تشكيل الأممية الشيوعية فحسب، بل إن هذه الأخيرة أصبحت ضرورة من أجل تحضير النضالات الثورية وتنظيمها.

 

المؤتمر الأول – مارس 1919

في 24 يناير 1919 قامت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الروسي والمكاتب الخارجية للأحزاب الشيوعية في بولندا وهنغاريا وألمانيا والنمساء وليتوانيا واللجان المركزية للحزب الشيوعي الفنلندي والاتحاد الاشتراكي البلقاني والحزب الاشتراكي العمالي الأمريكي بتوجيه النداء التالي: « إن الأحزاب والتنظيمات الموقعة أدناه تعتبر اجتماع المؤتمر الأول للأممية الثورية الجديدة ضرورة ملحة. خلال الحرب والثورة، لم يظهر فقط الإفلاس الكامل للأحزاب الاشتراكية والاشتراكية-الديموقراطية الهرمة ومعها الأممية الثانية، ولكن أيضا عجز العناصر الوسطية في الاشتراكية-الديموقراطية الهرمة عن العمل الثوري، فيما بدأت ترتسم بوضوح معالم أممية ثورية حقيقية ».

يصف النداء، في اثني عشرة نقطة، هدف الأحزاب « الاشتراكية » وتكتيكها ومسلكها، معتبرا أن العصر الحالي يتميز بتحلل النظام الرأسمالي وانهياره، الذي هو، في الوقت نفسه، انهيار للحضارة الأوروبية إذا لم يتم القضاء على الرأسمالية. إن مهمة البروليتاريا هي الاستيلاء المباشر على السلطات العامة، وهذا يقوم على تدمير جهاز الدولة البرجوازية وتنظيم جهاز الدولة البروليتارية. وعلى الجهاز الجديد أن يجسد ديكتاتورية الطبقة العاملة وأن يُستخدم كأداة قمع منهجي للطبقة المستغلة ومصادرة ملكيتها. إن النموذج الذي تقدمه الدولة البروليتارية ليس الديموقراطية البرجوازية، هذا القناع الذي تخبئ وراءه سيطرة الطغمة المالية، بل الديموقراطية البروليتارية على صورة مجالس. ومن أجل تحقيق مصادرة الأرض ووسائل الإنتاج، التي يجب أن تنتقل إلى أيدي الشعب بأكمله، ينبغي نزع سلاح البرجوازية وتسليح الطبقة العاملة. إن الأسلوب الرئيسي للنضال هو نشاط الجماهير الثورية وصولا إلى الانتفاضة المسلحة ضد الدولة البرجوازية.

في ما يتعلق بموقف الاشتراكيين، جرى التمييز بين ثلاث مجموعات. فبمواجهة الاشتراكيين-الوطنيين الذين يقاتلون إلى جانب البرجوازية، ينبغي النضال دون هوادة، بينما يجب العمل على شق العناصر الوسطية ونقد قادتها باستمرار وفضحهم. وفي مرحلة معينة من التطور يفرض الانفصال العضوي عن الوسطيين نفسه، وينبغي تشكيل المجموعة الثالثة المكونة من العناصر الثورية في الحركة العمالية. يتبع ذلك تعداد لتسعة وثلاثين حزبا وتنظيما مدعوا للمؤتمر الأول. وترتكز مهمة المؤتمر على « خلق منظمة مقاتلة مكلفة بتنسيق الحركة الأممية الشيوعية وقيادتها، وتحقيق إخضاع مصالح الحركة في بلدان عديدة للمصالح العامة للثورة العالمية ».

انعقد المؤتمر الأول في مارس 1919. في هذه المرحلة كانت روسيا السوفياتية محاصرة تماما، ومحاطة بالجبهات العسكرية من كل الجوانب بحيث أن عددا قليلا فقط من المندوبين تمكن، وفي أصعب الظروف، من الحضور إلى المؤتمر. وقد كتب الرفيق زينوفييف (في تقريره إلى المؤتمر الثاني)، حول موضوع تشكيل هذا المؤتمر، ما يلي: « لم تكن الحركة الشيوعية، في مختلف بلدان أوروبا وأمريكا، في تلك الفترة، إلاّ في بداياتها. وكانت مهمة المؤتمر الأول نشر راية الشيوعية وإعلان فكرة الأممية الشيوعية، غير أن الوضع العام للأحزاب الشيوعية في مختلف البلدان، وعدد المندوبين للمؤتمر الأول لم يسمحا بنقاش معمق للمسائل العملية الخاصة بتنظيم الأممية الشيوعية ».

استمع المؤتمر الأول إلى تقارير المندوبين حول وضع الحركة في بلدانهم، وتبنّى قرارات حول توجهات الأممية الشيوعية وحول الديموقراطية البرجوازية وديكتاتورية البروليتاريا، والمواقف إزاء التيارات الاشتراكية والوضع العالمي، وقد صيغت هذه القرارات كافة بروحية نداء التأسيس. وتقرر تأسيس الأممية الشيوعية بالإجماع، عدا امتناع خمسة أصوات. وتركت للمؤتمر الثاني مهمة التشكيل النهائي للأممية الشيوعية، التي أسندت قيادتها إلى لجنة تنفيذية تتمثل فيها احزاب روسيا وألمانيا وهنغاريا، والاتحاد البلقاني والحزب السويسري والاسكند نافي، وانهى المؤتمر أعماله بتوجيه بيان إلى بروليتاريا العا لم أجمع.

خلال السنة الأولى، كان على اللجنة التنفيذية أن تقوم بعمل صعب التحقيق، وكونها شبه معزولة عن أوروبا الغربية، بقيت أشهر كاملة د ون صحف، محرومة من غالبية أعضائها الذين لم يستطيعوا المجيء، بسبب الحصار. ولكنها، رغم ذلك اتخذت موقفا من المسائل الهامة كافة. وتحديدا في السنة الأولى التي تبعت الحرب، حيث كان يُفتقد الوضوح إلى حد بعيد، كان لنداءات وكتابات اللجنة التنفيذية قيمة ثمينة جدا.

قدم إنشاء الأممية الشيوعية هدفا وقيادة للجماهير المعارضة لسياسة الأممية الثانية. فقد حدث تذفق حقيقي للعمال الثوريين إلى الأممية الشيوعية. ففي مارس 1919، أعلن الحزب الاشتراكي الإيطالي انتسابه، وفي مايو جاء دور حزب العمال النروجي والحزب الاشتراكي « الضيق » البلغاري، وفي يونيو انتسب الحزب الاشتراكي اليساري السويدي والحزب الاشتراكي الشيوعي الهنغاري، الخ… في الوقت نفسه، كانت الأممية الثانية تفرغ بسرعة من عناصرها، فقد تركتها أحزابها الأكثر أهمية الواحد تلو الآخر. وإذا كانت الأممية الشيوعية، إبان تأسيسها، راية أكثر منها جيشا، فإنها لم تجمع خلال العام الأول لوجودها جيشا حول رايتها فحسب، بل أنزلت هزائم بأعدائها.

 

المؤتمر الثاني – يوليو 1920

لقد برزت مشاكل جديدة بالتوافق مع تطور الأممية الشيوعية، فلم تكن الأحزاب التي انضمت إليها مكونة بشكل كاف، ولم يكن هناك وضوح كاف بعد حول موضوع الحزب ودور الشيوعيين في النقابات وموقفهم إزاء المسألة البرلمانية والمسائل الأخرى، فكانت مهمة المؤتمر الثاني تحديد التوجهات.

أتى المندوبون من البلدان كافة، وافتتح المؤتمر في بتروغراد في 17 يوليو 1920، وسط تهليل العمال الروس واهتمام العالم البروليتاري بأكمله. لقد جرى تبني قرارات الأممية الشيوعية، التي برز فيها مفهوم الديكتاتورية البروليتاريا وسلطة السوفياتات واضحا على قاعدة التجربة العملية، وكذلك شروط تنفيذ هذا الشعار في مختلف البلدان. وتم استعراض سبل تعزيز الحركة الشيوعية، كما جرى أيضا تبني قرارات حول دور الحزب في الثورة البروليتارية، فعلى الحزب الشيوعي أن يشكل الطليعة، الجزء الأوعى والأكثر ثورية داخل الطليعة العمالية، وعليه أن يتشكل على قاعدة مبدأ المركزية، ويشكل، في كافة التنظيمات، أنوية خاصة لانضباط الحزب.

أما في ما يتعلق بالنقابات، فـ« على الشيوعيين أن يدخلوا إليها لجعلها تشكيلات قتالية ضد الرأسمالية، ومدارس للشيوعيين »، فخروج الشيوعيين من النقابات ستكون نتيجته تسليم الجماهير للقادة الإنتهازيين الذين يعملون مع البرجوازية. وجرى تبني قرارات أخرى حول موضوع المجالس العمالية ومجالس المصانع، حول البرلمانية وحول المسألة الزراعية والكولونيالية. وجرى أخيرا إقرار النظام الداخلي للأممية الشيوعية.

جرت نقاشات واسعة حول مسألة دور الحزب وحول نشاط الشيوعيين في النقابات والمشاركة في الانتخابات. وهاجم الانتهازيون بعنف الشروط الأحد والعشرين للانضمام إلى الأممية الشيوعية، فالنضال البطولي للبروليتاريا الروسية وإفلاس البرجوازية وحليفتها الأممية الثانية والشعارات والدعوات الثورية للأممية الشيوعية قادت إليها جمهورا من القادة الذين أجبروا على التنازل أمام ضغط الجماهير العمالية. لقد نذروا أنفسهم جسدا وروحا للأممية الثانية ولم يدخلوا الأممية الشيوعية إلاّ كي لا يفقدوا تأثيرهم على الجماهير. وحتى لو كانت الأممية الشيوعية قد أصبحت منظمة قوية ومجربة، فإن دخول هذه العناصر الانتهازية كان يحمل خطر إدخال روح الأممية الثانية إلى الأممية الشيوعية.

كانت هذه الشروط تفترض أن تتخذ كل دعاوة وكل تحريض يقوم بهما أي حزب يريد الانتساب إلى الأممية الشيوعية طابعا شيوعيا، وأن تكون الصحافة خاضعة كليا للجنة المركزية للحزب، وأن يبعد الإصلاحيون عن جميع مراكز المسؤولية، وأن يمتلك الحزب جهازا غير شرعي ويقوم بدعاية منظمة في الجيش وفي الأرياف ويقوم بنضال فعال ضد الإصلاحيين والوسطيين. وفي النقابات عليه أن يناضل ضد أممية أمستردام النقابية، وأن يكون شديد المركزية ويتخذ اسم الحزب الشيوعي (فرع الأممية الشيوعية)، كما على كل الأحزاب التي تنتمي إلى الأممية الشيوعية أو تلك التي تريد الدخول إليها، أن تبحث هذه الشروط في مؤتمر استثنائي يعقد في مدة أقصاها أربعة أشهر بعد المؤتمر الثاني، ويطرد من الحزب جميع الأعضاء الذين يرفضون هذه الشروط.

اختتم المؤتمر في 7 غشت. وفي شهر سبتمبر انشق الحزب الاشتراكي-الديموقراطي التشيكوسلوفاكي، فتبنت أغلبية ساحقة منه الشروط الواحدة والعشرين وشكلت، فيما بعد حزبا شيوعيا. وفي شهر أكتوبر، وخلال مؤتمر هال، أعلنت أكثرية الحزب الاشتراكي-الديموقراطي المستقل انتسابها للأممية الشيوعية. وفي ديسمبر حصل اندماج بين يسار الحزب المستقل والحزب الشيوعي الألماني (عصبة سبارتكوس) وخرج من ذلك الاندماج الحزب الشيوعي الألماني الموحد. وفي نهاية ديسمبر انضمت الغالبية العظمى من الحزب الاشتراكي الفرنسي إلى الأممية الشيوعية. وفي شهر يناير 1921، حصل انشقاق داخل الحزب الاشتراكي الإيطالي، الذي كان ينتمي آنذاك إلى الأممية الشيوعية غير أن أكثريته الإصلاحية رفضت الشروط الأحد والعشرين. في شتى البلدان التي توجد فيها تنظيمات عمالية حدثت السيرورة نفسها: انفصل الشيوعيون عن الإصلاحيين وشكلوا فروعا للأممية الشيوعية.

بموازاة تطور وتعزز الأممية الشيوعية، حصل تفسخ الأممية الثانية، فقد شكلت سلسلة كاملة من الأحزاب، التي خرجت من الأممية الثانية ولكنها رفضت الدخول إلى الأممية الشيوعية، « الإتحاد العالمي للأحزاب الاشتراكية »، الذي اصطلح على تسميته بالأممية 2.5، لأنه كان يتذبذب، حول المسائل كافة، بين الأمميتين الثانية والثالثة.

 

المؤتمر الثالث – يوليو 1921

كان على المؤتمر الثالث للأممية الشيوعية، الذي عقد في يونيو1921، أن يعالج مهام جديدة، محد دة في جزء منها بواقع أن الأممية الشيوعية كانت قد أصبحت تضم أكثر من خمسين فرعا، بينها أحزاب جماهيرية كبيرة في البلدان الأوروبية الأكثر أهمية، الأمر الذي كان يطرح مسائل تكتيكية وتنظيمية، ولكن، خاصة، بواقع أن تطور الثورة وانهيار البرجوازية شهدا نوعا من التباطؤ الذي ما كان بالإمكان توقعه في فترة انعقاد المؤتمرين الأول والثاني.

بعد انهيار قوات المحور، كانت الموجة الثورية هائلة القوة، وكان هناك انطباع بأن الثورات البروليتارية سوف تعقب مباشرة الثورات البرجوازية. وقد نجحت البروليتاريا في هنغاريا وبافيير في الاستيلاء على السلطة لبعض الوقت؛ حتى بعد هزيمة الجمهوريات السوفياتية في هنغاريا وبافيير لم يختف الأمل بانتصار سريع للطبقة العاملة. لنتذكر الفترة التي كان فيها الجيش الأحمر أمام فرصوفيا وكانت البروليتاريا بأكملها تستعد بشكل محموم لنضالات جديدة.

غير أن البرجوازية بدت أكثر قدرة على المقاومة مما كان يعتقد. كانت قوتها ترتكز، بادئ ذي بدء، على واقع أن الاشتراكيين-الخونة الذين قاتلوا البروليتاريا أثناء الحرب، بكل استبسال، قد ظهروا، حتى بعد الحرب، كأفضل حماة للرأسمالية المزعزعة. وفي شتى البلدان التي لم تستطع فيها البرجوازية أن تبقى سيدة الموقف، سلمت السلطة للاشتراكيين-الديموقراطيين. لقد كانت « الحكومات الاشتراكية-الديموقراطية »، مع نوسكه وإيبرت في ألمانيا، رينير وأوتو باور في النمسا، توماس في تشيكوسلوفاكيا، بوهم وغارامي في هنغاريا، هي التي تولت أعمال البرجوازية خلال المرحلة الثورية، وخنقت بشكل دموي محاولات التحرر التي قامت بها البروليتاريا.

إن الازدهار الظاهري الذي تبع الحرب مباشرة، بإتاحته للرأسماليين تشغيل العمال المسرّحين، شكّل هو أيضا عائقا أمام الثورة. ونجحت البرجوازية في تهدئة العمال العاطلين عن العمل، بإعطائهم إعانات مالية، تضاف إلى ذلك أيضا ظاهرة سيكولوجية، وهي تعب جماهير واسعة من الطبقة العاملة التي خرجت لتوها من المعاناة والحرمان اللذين عانت منهما خلال السنوات الأربع من الخرب الامبريالية. وأخيرا كانت الأحزاب الشيوعية التي تقع عليها مهمة قيادة نضال البروليتاريا وتنسيقه، لا تزال في طريق تكوينها وغالبا ما تبنت أساليب نضالية خاطئة.

سمحت كل هذه الظروف للبرجوازية بأن تستجمع قواها ببطء وأن تحوز على ثقتها بنفسها وتستعيد جزءا من مواقعها المفقودة، وفي البلدان كافة، حيث شارك الاشتراكيون في الحكومة، طردتهم البرجوازية عندما لم تعد بحاجة لهم. وتولى الرأسماليون أنفسهم إدارة أعمالهم، وأنشأوا منظمات عسكرية غير شرعية وسلّحوا القسم الواعي من البرجوازية وانتقلوا إلى الهجوم على الطبقة العاملة.

في هذه الأثناء، طرأت تحولات عميقة على الوضع الاقتصادي. وفي ربيع 1920، ظهرت أزمة في اليابان وأمريكا وامتدت شيئا فشيئا إلى جميع الأمم الصناعية، فتضاءل الاستهلاك بسرعة، وا نخفض الإنتاج، وتم الإلقاء بمئات الآلاف، وملايين العمال دون مأوى ولا عمل، وانخفضت مجالات العمل بسرعة، وتقلص الإنتاج. لقد اتخذت النضالات العمالية أبعادا كبيرة انتهت بهزائم، مما عزّز وضع البرجوازية.

هكذا كان الوضع، عندما أفتُتح المؤتمر الثالث للأممية الشيوعية. لقد بحث المؤتمر بادئ ذي بدء، الوضع الاقتصادي العالمي، وتناول، بعد ذلك، مسألة التكتيك الذي يقتضيه الوضع الجديد. كانت البرجوازية اُقوى، وكذلك خدامها الاشتراكيون-الديموقراطيون. لقد انقضت مرحلة الانتصارات السهلة التي حققتها الأممية الشيوعية خلال السنوات التي تلت الحرب مباشرة. وبانتظار نضالات ثورية جديدة، كان علينا إعادة بناء تنظيماتنا وتعزيزها والاستيلاء على مواقع الإصلاحيين عن طريق العمل المتواصل داخل المنظمات العمالية. إن احتلال المصانع في إيطاليا، واضراب ديسمبر في تشيكوسلوفاكيا، وانتفاضة مارس في ألمانيا، كانت تظهر أن الأحزاب الشيوعية حتى عندما تقاتل بشكل واضح من أجل مصالح البروليتاريا بمجملها لا تستطيع أن تنتصر على القوى الموحدة للبرجوازية و الاشتراكية-الديموقراطية، ليس فقط عندما لم تكن تحوز على تعاطف أوسع الجماهير، بل أيضا عندما لم تكن تضم جماهير داخل منظماتها عبر انتزاعها من المنظمات المختلفة. لهذا أطلق المؤتمر شعار « توجهوا إلى الجماهير ! ».

كان على الأحزاب الشيوعية في أوروبا الغربية، أن تفعل ما بوسعها لإجبار النقابات والأحزاب المستندة إلى الطبقة العاملة، على القيام بعمل مشترك لأجل المصالح المباشرة للطبقة العاملة في الوقت الذي تتحضر فيه هذه الأخيرة لاحتمال خيانة الأحزاب الشيوعية.

ظهر نوع من المعارضة « اليسارية » ضد هذا التكتيك، فقد رأى فيه حزب العمال الشيوعي الألماني(1) تخليا عن النضال الثوري، واتهم الأممية الشيوعية بأنها قامت، على الصعيد السياسي، بالتراجع نفسه الذي وجدت سلطة السوفيات نفسها مجبرة على القيام به على الصعيد الاقتصادي. كما أن بعض الرفاق الجيدين لم يفهموا، في البداية، ضرورة هذا التكتيك.

وإلى جانب مسألة التكتيك، اتخذت مسألة التنظيم الإهتمام الأكبر. وقد شكّل المكتب النقابي، الذي أنشأه المؤتمر الثاني بالتعاون مع النقابات التي انتسبت في الفترة الفاصلة بين المؤتمرين، الأممية النقابية الحمراء بهدف السيطرة على النقابات. وجرى نقاش مسألة أممية الشباب أيضا والحركة النسائية، والمسألة المرتبطة بالعمل في التعاونيات والاتحادات الرياضية العمالية.

استمع المؤتمر، فيما بعد، إلى تقرير حول روسيا السوفياتية وأقّر بالإجماع التكتيك المتبع.

وحصل نقاشات واسعة حول التقرير المتعلق بنشاط اللجنة التنفيذية، وقد عارض بعض الرفاق سياسة اللجنة التنفيذية بصدد المسألة الإيطالية، وقضية ليفي وقضية حزب العمال الشيوعي الألماني. لكن المؤتمر أيّد في هذه المسائل كافة نشاط اللجنة التنفيذية. وقد أتت الأحداث لتثبت صحة هذه القرارات.

اختتم المؤتمر أعماله في 12 أغسطس بنقاش المسألة الشرقية.

كانت الأشهر التالية هادئة نسبيا، وفسحت المجال أمام مختلف الأحزاب الشيوعية لتنفيذ قرارات المؤتمر الثالث. وقد خضعت المنظمات لامتحان قاس وتوطد الارتباط بين مختلف الفروع و اللجنة التنفيذية. لقد أصبحت الأممية الثالثة خلال ثلاث سنوات من وجودها، منظمة عالمية حقا، فلم يكن للأممية الثانية، مثلا، أي حزب في بلدان كفرنسا وإيطاليا، وعلى العكس، لم يكن هناك أي بلد لم يشكل فيه القسم الأكثر وعيا من البروليتاريا، دون تمييز بين العرق واللون، فرعا للأممية الشيوعية. كانت هذه الأخيرة تضم 60 فرعا، ويبلغ عدد أعضائها الإجمالي ثلاثة ملايين وتملك 60 صحيفة يومية. وكان يتم كسب جماهير جديدة بنجاح، فمؤتمر عمال الشرق الأقصى، الذي عقد في موسكو في شهر يناير 1922، أقام الصلة بين الطبقتين العاملتين الصينية واليابانية والأممية الشيوعية.

 

الجبهة المتحدة

انعقد المؤتمر الثالث في فترة كان يسودها هبوط كبير بالمعنويات في صفوف الطبقة العاملة. فقد ثبطت همة البروليتاريا بفعل الهزائم التي تلقتها، وتفاقم هذا الوضع أيضا بعد المؤتمر، وعانى العمال في إنجلترا وأمريكا وإيطاليا والبلدان المحايدة من البطالة الدائمة. وفقدت الطبقة العاملة المكتسبات التي حققتها في السنوات الأخيرة، وجرى تمديد يوم العمل وانخفض مستوى معيشة العمال إلى ما دون المستوى الذي كان عليه قبل الحرب. وإذا كانت البطالة أقل اتساعا في البلدان حيث سعر صرف العملة منخفض، مثل ألمانيا، النمسا وبولندا، فإن بؤس الطبقة العاملة كان أشد قساوة، نظرا إلى الهبوط الثابت في الأجور الفعلية العائد إلى الإنخفاظ الدائم في القيمة الشرائية للعملة، مما كان يضع العمال إزاء استحالة تلبية حاجاتهم، حتى أكثرها أولية.

لم يكن هذا الوضع يحتمل، فبدأت الجماهير، تحت ضغط البؤس المتزايد، بالبحث عن علاج لوضعها. لقد فهمت أن الأساليب القديمة كانت عاجزة عن الوصول إلى أي شيء. كانت الإضرابات تفشل، وعندما تنجح، كانت المكتسبات المحققة تلغى بعد فترة قصيرة عن طريق خفض قيمة العملة. ورأت الجماهير أن الطبقة العاملة الموزعة على أحزاب مختلفة كانت تقاتل بعضها البعض، فيما تخوض الطبقة الرأسمالية ضدها هجمة موحدة، وكان الحل الذي يفرض نفسه، في هذا الوضع، هو توحيد القوى المشتتة للبروليتاريا كي تقف بوجه الهجمة الرأسمالية.

بأية طريقة ينبغي أن يتحقق هذا التوحيد لقوى البروليتاريا ؟ لم يكن لدى الجماهير العمالية أية فكرة واضحة تماما بهذا الصدد. في شتى الأحوال، كان واقع أن هناك حركة، تنشأ في كل مكان بهذا الإتجاه، دليل على عمقه وضرورته. كان هذا يثبت أن الجماهير قد تحولت لا شعوريا عن السياسة الإصلاحية للأممية الثانية والأممية النقابية لأمستردام؛ فبعد قدر كبير من الأخطاء والهزائم، قررت أخيرا السير في طريق توحيد قوى البروليتاريا.

في الوقت نفسه، كان هذا يعني تحولا في تقويم دور الأحزاب الشيوعية والأممية الشيوعية. لقد كانت البروليتاريا خلال عامي 1918 و1919 قد هُزمت، لأن طليعتها، الحزب الشيوعي، كان يمثل اتجاها أكثر منه تنظيما قادرا على الإمساك بقيادة الصراع الطبقي، وأجبرت تجربة الهزائم الشيوعيين على خلق المنظمات المقاتلة الضرورية وذلك عن طريق الانشقاقات وعبر إنشاء الأحزاب المستقلة. تزامنت هذه المرحلة مع مرحلة تراجع الموجة الثورية الكبرى، ومع بدء الهجمة المضادة الرأسمالية. وحتى لو لم يعرف الاشتراكيون-الديموقراطيون كيف يستغلون هذا الظرف بمهارة فإن استياء كان سيحصل في صفوف الجماهير من « الانشقاقيين » لأنها لم تستطع فهم هذا التكتيك، كذلك لم تفهم الجماهير جيدا محاولات الاستنهاض التي قام بها الشيوعيون، عندما طالبوا، قبل الطبقة العاملة بمجملها –تحديدا لأنهم يشكلون القسم الأكثر وعيا داخلها – باستخدام أساليب نضال – أكثر فعالية. لقد كان إضراب ديسمبر في تشيكوسلوفاكيا، وحركة مارس في ألمانيا سيفشلان حتما حتى لو جرت قيادتهما بشكل أفضل، لأن أوسع الجماهير لم تكن تدرك بعد ضرورة هكذا أسلوب في النضال. غير أن ضغط البؤس جعلها تفهم سريعا ضرورة ما كانت تعتبره في السابق عصيانا مسلحا. إن العمل الذي قام به الشيوعيون لوحدهم، في مرحلة الإحباط، وكلفتهم تضحيات هائلة، أصبح ينتج ثماره.

لقد أضيف إلىذلك واقع أن العمال، خلال النضال، لم يعودوا يبالون بالحدود بين الأحزاب التي حاول الاشتراكيون-الديموقراطيون أن يبعدوهم بوا سطتها عن الشيوعيين.

سعا محازبو أمستردام أعضاء الأممية الثانية والأممية 2/1 2 ، إلى استغلال التيار الجديد بإثارتهم حركة لصالح الوحدة، ضد الشيوعيين. غير أن المرحلة، التي كانت هكذا مناورات ممكنة خلالها لأن الاشتراكيين-الديموقراطيين كانوا يمسكون بأيديهم كل التنظيمات العمالية وكل الصحافة العمالية، كانت قد انقضت. وقد فضحت اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية هذا المُخطط، وقامت بحملة « من أجل وحدة البروليتاريا العالمية، ضد الاتحاد مع الاشتراكيين-الخونة ». وتوجهت في البداية إلى أممية أمستردام بصدد قضية إغاثة الجياع وإغاثة عمال يوغسلافيا وإسبانيا. دون نتيجة. ولكن عندما أصبحت ملامح الموجة الجديدة أكثر وضوحا وأكثر ظهورا، اتخذت اللجنة التنفيذية، بعد نقاشات طويلة، موقفا بصدد المسألة.

وفي « قرارات حول الجبهة المتحدة للعمال وحول العلاقات مع العمال الذين ينتمون إلى الأممية الثانية، والأممية 2/1 2، وأممية أمستردام النقابية، والتنظيمات الفوضوية-النقابية »، جرى تحليل الوضع ووضع هدف واضح ومحدد للجهود الأولية في سبيل الجبهة المتحدة، « ليست الجبهة المتحدة سوى اتحاد لكل العمال الذين قرروا النضال ضد الرأسمالية ». كان على الشيوعيين التمسك بهذا الشعار حول أكبر وحدة ممكنة لكل التنظيمات العمالية في كل عمل ضد الرأسمالية. لقد خان زعماء الأممية الثانية وكذلك زعماء الأممية 2/1 2 وزعماء أممية أمستردام النقابية الجماهيرية العمالية في شتى مسائل النضال العمالية ضد الرأسمالية، هذه المرة أيضا فضّلوا الوحدة مع البرجوازية على الوحدة مع البروليتاريا. كان دور الأممية الشيوعية ومختلف فروعها، إقناع الجماهير العمالية، هذه المرة، بنفاق الاشتراكيين-الخونة، الذين تكشفوا كهدّامي وحدة جبهة الطبقة العاملة. ضمن هذا الهدف أصبح الاستقلال المطلق وحرية النقد الكاملة الشرطين الأساسيين للأحزاب الشيوعية.

وشددت القرارات أيضا على المخاطر التي يمكن أن تنشأ، لدى وضع هذا التكتيك موضع التنفيذ، حيث الأحزاب الشيوعية لم تتملك بعد الوضوح الإيديولوجي الضروري والتجانس اللازم.

في منتصف شهرد يسمبر جرى تبني هذه القرارات، ولاتخاذ القرار النهائي بصددها تمت الدعوة إلى عقد دورة موسعة للجنة التنفيذية في موسكو في أوائل شهر فبراير اللاحق. وفي نداء حول الجبهة المتحدة العمالية، بتاريخ أول يناير 1922، بيّنت اللجنة التنفيذية ضرورة النضال المشترك ردّا على كونفرانس واشنطن والهجمة الشاملة للرأسمالية ضد الطبقة العاملة. لقد انتشرت القرارات ونداء اللجنة التنفيذية بسرعة في كل البلدان، وأصبحت موضوع نقاشات طويلة من جانب الشيوعيين وأعدائهم، وأسهمت في توضيح مسألة الجبهة المتحدة. وأطلق الاشتراكيون-الخونة الصرخات العالية، إذ فهموا أنهم وُضِعوا هنا إزاء مسألة ستجبرهم على كشف أقنعتهم. غير أن سخطهم على هذه « المناورة الشيوعية الجديدة » لم يكن بمقدوره إزالة الانطباع لدى الجماهير بأن الشيوعيين، الذين كان يطلق عليهم حتى ذلك الوقت اسم « الانشقاقيين »، كانوا في الواقع الأنصار الحقيقيين لوحدة جبهة البروليتاريا. وبسبب إضراب عمال سكك الحديد الألمان لم تعقدجلسة اللجنة التنفيذية الموسعة إلاّ في نهاية فبراير. لقد كانت الجلسة بالواقع مؤتمرا صغيرا ضمّ أكثر من 100 مندوب يمثلون 36 بلدا. كان جدول الأعمال مثقلا بعض الشيء: يتضمن تقارير الأحزاب عن البلدان الأكثر أهمية، ومهام الشيوعيين في النقابات، ومسالة النضال ضد مخاطر الحرب، ومسألة السياسة الاقتصادية الجديدة في روسيا السوفياتية ومسألة النضال ضد بؤس الشبيبة العمالية، غير أن المسألة الأساسية كانت مسألة الجبهة المتحدة والمشاركة في الكونفرانس المشترك الذي اقترحته الأممية 2/1 2.

أعلن الرفاق الفرنسيون والإيطاليون معارضتهم للوحدة الجبهوية بالشكل الذي قُدِّمت فيه في قرارات اللجنة التنفيذية، فقد عبّر الرفاق الفرنسيين عن خشيتهم من ألاّ تفهم الجماهير العمالية الفرنسية عملاً مشتركا بين الشيوعيين والمنشقين، وأعلنوا عن أنفسهم كمناصرين للجبهة المتحدة للعمال الثوريين كما أعلنوا أن نشاط الشيوعيين، في فرنسا، يتجه إلى تشكيل تكتل العمال الثوريين حول مسألة يوم العمل من ثماني ساعات ومسألة الضريبة على الأجور. كان الحزب الفرنسي لا يزال فتيا جدا ولا يمتلك قدرة كبيرة على المناورة وغير قادر على القيام بعمل مشترك مع الاشتراكيين المنشقين والنقابات الإصلاحية، التي انفصل عنها منذ فترة وجيزة.

وأعلن المندوبون الإيطاليون مناصرتهم لوحدة الجبهة النقابية، لكنهم عارضوا وحدة الجبهة السياسية مع الاشتراكيين، وعبّروا عن رأيهم بأن الجماهير لن تفهم العمل المشترك بين مختلف الأحزاب العمالية، وبأن الأرضية الفعلية، حيث الجبهة المتحدة ممكنة، هي النقابة، حيث يوجد الشيوعيون والاشتراكيون معا.

لقد أبدى جميع المندوبين الآخرين الحاضرين في الكونفرنس رأيا مختلفا. فعلى الرغم من خيانات الزعماء الإصلاحيين التي لا تحصى، فقد نجحوا، حتى الآن، في الحفاظ على تأثيرهم على الجزء الأكبر من التنظيمات العمالية، ولن نستطيع أن نكسب العمال إلينا إذا ما رددنا، مرة أخرى، أن هؤلاء خونة. فالمقصود هنا، إذ تسود بين الجماهير إرا دة القتال، أن نظهر لها ليس فقط أن الاشتراكيين-الديموقراطيين لا يريدون النضال من أجل الاشتراكية، بل أنهم لا يريدون كذلك النضال من أجل مطالب الطبقة العاملة الأكثر مباشرة. فحتى الآن لم نكن قد نجحنا بعد في فضحهم، أولا لأننا لم نكن نمتلك الوسائل الضرورية لذلك، ولأن الوضع النفسي، بالتالي، والجو الذي يستطيع فيه العمال أن يفهموا الخيانات التي تستهدفهم، كانا مفقودين. لقد توفرت لنا الفرصة أخيرا لفضحهم، لذلك فإن رفضنا النضال إلى جانب الإصلاحيين لأنهم لا يناضلون أبدا بجدية ضد البرجوازية وهم خدامها، فإننا سنحصل على رضى الرفاق الذين يعرفون ذلك من قبل، لكننا لن نقنع عاملا واحدا من الذين ما زالوا يتبعون الإصلاحيين. وعلى العكس من ذلك، فإن الشيوعيين برفضهم القيام بالنضال المشترك، في فترة تريد فيها الجماهير العمالية هذا النضال، فإنما يقدمون للاشتراكيين-الخونة إمكانية تصويرهم كمخربين لوحدة الجبهة البروليتارية، ولكن إذا اشتركنا في النضال، سترى الجماهير، بعد قليل، من يريد فعليا النضال ضد البرجوازية ومن لا يريده. إن رفاقنا الذين سينظرون، إلينا باستياء في البداية ونحن جالسون مع الإصلاحيين على طاولة واحدة، سيفهمون، خلال المفاوضات، أننا نقوم، هنا أيضا، بعمل ثوري.

بعد أن أقرت اللجنة التنفيذية الموسعة التوجهات التي تتضمنها القرارات، بإجماع الأصوات، ما عدا الرفاق الفرنسيين والإسبانيين والإيطاليين، أدلت الوفود الثلاثة المعارضة للجبهة المتحدة بتصريح تؤكد فيه خضوعها لهذه التوجهات.

وقررت اللجنة التنفيذية الموّسعة قبول دعوة أممية فيينا للمشاركة في كونفرانس أممي، مقترحة أن تدعى إلى الكونفرانس ليس فقط الأممية الشيوعية، ولكن أيضا الأممية النقابية الحمراء، وأممية أمستردام النقابية، والتنظيمات الفوضوية-النقابية والتنظيمات النقابية المستقلة، وأن يوضع على جدول أعمال الكونفرانس، إلى جانب النضال ضد الهجمة الرأسمالية وضد الرجعية، مسألة النضال ضد حروب إمبريالية جديدة، وإعادة بناء روسيا السوفياتية، ومسألة التعويضات ومعاهدة فرساي.

اختتم الكونفرنس في 4 مارس بعد تسوية بعض المسائل الأخرى (تلك الخاصة بالصحافة الشيوعية والمعارضة العمالية في الحزب الشيوعي الروسي الخ…) وبعد انتخاب رئيس اللجنة التنفيذية.

 

الكونفرنس التمهيدي للأمميات الثلاث

عقدت في 2 أبريل الجلسة الأولى لوفود الأمميات الثلاث، التي يتشكل كل منها من 10 أعضاء. لقد حاول ممثلو الأممية الثانية مباشرة تخريب الكونفرنس وخنق الجبهة المتحدة في المهد. وضعوا شروطا على الأممية الشيوعية، وطالبوا بـ« ضمانات » ضد تكتيك « الأنوية » وراحوا يناقشون مسالة جورجيا ومسألة الاشتراكيين-الثوريين. وانتهى ذلك إلى وضع يهدد بانفراط الكونفرنس. وبفضل الموقف الحازم لمندوبي الأممية الشيوعية الذين طالبوا بالجبهة المتحدة دون شروط، أيد مندوبو أممية فيينا وجهة نظرهم، مما أجبر مندوبي الأممية الثانية على التراجع. وبعد أربعة أيام من المفاوضات، تقررت الدعوة إلى كونفرنس عام، في أقرب مهلة. وشكلت لجنة مؤلفة من ثلاثة أعضاء من كل لجنة تنفيذية كلفت بالتحضير له. وبانتظار اجتماع الكونفرنس العام، تقرر تنظيم تظاهرة مشتركة لكل الأحزاب المنتسبة إلى الأمميات الثلاث في العشرين من أبريل، وحيث يتعذر ذلك من الناحية العملية تجري في أول مايو تحت الشعارات التالية:

– من أجل يوم عمل من ثماني ساعات.

– من أجل النضال ضد البطالة، الناتجة عن سياسة التعويضات التي تنتهجها الدول الرأسمالية الكبرى.

– من أجل العمل الموحد للبروليتاريا ضد الهجمة الرأسمالية.

– من أجل الثورة الروسية، من أجل روسيا الجائعة، من أجل إعادة العلاقات السياسية والاقتصادية مع روسيا.

– من أجل إعادة بناء الجبهة المتحدة الوطنية والأممية.

لقد كُلفت لجنة التنظيم بالتوسط بين ممثلي أممية أمستردام النقابية وممثلي أممية النقابات الحمراء. وصرح مندوبو الأممية الشيوعية بأن محاكمة الاشتراكيين-الثوريين ستحصل بعلنية كاملة، وستنتهي دون أحكام إعدام. ولحظ القرار أيضا أن الكونفرنس العام لا يمكن أن يعقد في أبريل، لأن الأممية الثانية كانت ترفضه تحت تبريرات مختلفة. كانت هذه الأخيرة ترفض كذلك وضع معاهدة فرساي وإعادة النظر فيها على جدول أعمال الكونفرنس.

بيّنت تظاهرات 30 أبريل وأول مايو التالي، التي شاركت فيها جماهير عمالية ضخمة، أن البروليتاريا صممت أن تناضل بشكل مشترك من أجل الشعارات التي كانت قد أطلقت. حاولت الأممية الثانية والأحزاب التي تتشكل منها، اليوم كما بالأمس، أن تخرب الجبهة المتحدة، فقد رفضت تنظيم تظاهرات مشتركة، وأخرت تنفيذ القرارات المتخذة فأسهمت بذلك في فضح نفسها أمام الجماهير.

إنها مهمة الأممية الشيوعية وفروعها القومية أن تُظهر بنشاطها أن النضال ضد الهجمة الرأسمالية وضد الرأسمالية بشكل عام، لا يمكن أن ينجح إلاّ بقيادة الأممية الشيوعية.

وكما كان منتظرا، أطاحت الأممية الثانية وأممية فيينا لجنة التسعة. فبعد أن توصلتا إلى الحيلولة دون اجتماع اللجنة خلال كونفرنس جنوا لكي لا تعكرا صفو البرجوازية في شيء خلال مشاوراتها المعادية لروسيا السوفياتية، عقدت الجلسة الأولى، والتي كانت الأخيرة أيضا، في 23 مايو في برلين. وفي 21 مايو كان قد عُقد اجتماع ضم حزب العمال (الإنجليزي) وحزب العمال البلجيكي والحزب الاشتراكي الفرنسي، تقرر خلاله عقد كونفرنس عام لكافة الأحزاب الاشتراكية، باستثناء الأحزاب الشيوعية. كان واضحا أن الأممية الثانية والأممية 2/1 2 قد عادتا إلى مشروعهما بإنشاء جبهة متحدة ضد الشيوعيين. على الرغم من ذلك، قامت الأممية الشيوعية بكل ما في وسعها لإتاحة انعقاد مؤتمر عالمي لكل الأحزاب الاشتراكية. ومن أجل الوصول إلى أهداف الجبهة المتحدة، أي النضال ضد هجمة الرأسمال، وضد انخفاض الأجور وضد البطالة، أعلنت استعدادها لحذف مسألة دعم روسيا السوفياتية من جدول أعمال المؤتمر وكانت قد أقرت في البرنامج المشترك، وطلبت بالمقابل جوابا محددا عما إذا كانت الأممية الثانية تقبل بالمؤتمر العالمي. وبمواجهة هذا السؤال برزت الأممية الثانية معادية للجبهة المتحدة، وكذلك أممية فيينا، نصيرتها المتطوعة. وهكذا انفرطت لجنة التسعة.

عند ذلك دعت الأممية الشيوعية لدورة جديدة للجنة التنفيذية الموسعة، فاجتمعت في 7 يونيو، وحضرها 60 مندوبا يمثلون 27 بلدا. وقد ناقش الكونفرنس مسالة التكتيك الواجب اتباعه بعد توجهات المرحلة الأولى للنضال لصالح الجبهة المتحدة، وتكتيك الأحزاب التي لا تتفق سياستها مع السياسة العامة للأممية الشيوعية، وأخيرا موقف الأممية الشيوعية تجاه محاكمات الاشتراكيين-الثوريين، والدعوة لمؤتمر عالمي.

في ما يتعلق بتكتيك الجبهة المتحدة، سجّل الكونفرنس أنه بالرغم من فشل لجنة التسعة، فإن المسلمات السياسية والاقتصادية لتكتيك الجبهة المتحدة قائمة كما في السابق وتبعا لذلك يجب أن يقوم تكتيك مختلف فروع الأممية الشيوعية على تحقيق وحدة الجبهة ضد هجمة الرأسمال.

وبما أن الأحزاب الفرنسية والإيطالية والنروجية لم تنفّذ تكتيك الجبهة المتحدة، أو أنها لم تنفذ إلاّ بتردد أو جزئيا، اهتم الكونفرنس تفصيلا بوضع هذه الأحزاب، وعبّر عن أمله بأن يُطبّق هذا التكتيك أيضا في هذه البلدان. وفي ما يتعلق بالحزب الفرنسي، ونظرا لأن وجود يمين انتهازي هام داخله يشكل عائقا أمام نشاطه ونموه، أعلنت اللجنة التنفيذية أن أفضل طريقة لمعالجة الوضع هي وحدة الوسط واليسار ضد اليمين. وبحث الكونفرنس أيضا وضع الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي حيث ظهرت عوارض أزمة قادمة، ورأى سببها في بعض السلبية داخل قيادة الحزب وحدّد التوجيهات الملائمة من أجل إزالتها.

وفي صدد محاكمة الاشتراكيين-الثوريين، سجل أنه في الوقت الذي شرعت فيه الأممية الثانية وأممية فيينا بحملة ضد الأممية الشيوعية وروسيا السوفياتية، وبما أن الأمر، بالإضافة إلى ذلك، يتعلق بقضية هامة تعني في الوقت نفسه روسيا السوفياتية، حصن الثورة العالمية، والأممية الشيوعية، فعلى هذه الأخيرة أن تشارك بفعالية بالمحاكمة وترسل مدّعين، ومحامين، وشهوداً وخبراء.

 

المؤتمر الرابع – نوفمبر 1922

عيّن المؤتمر العالمي الرابع في نوفمبر 1922، تاريخ الذكرى الخامسة للثورة البروليتارية، مع جدول الأعمال التالي:

1- تقرير اللجنة التنفيذية؛

2- تكتيك الأممية الشيوعية؛

3- برنامج الأممية الشيوعية وفروعها: الألماني، الفرنسي، الإيطالي، التشيكوسلوفاكي، البلغاري، النروجي، الأمريكي والياباني؛

4- المسألة الزراعية؛

5- المسألة النقابية؛

6- التربية؛

7- مسألة الشبيبة؛

8- مسألة الشرق.

تقرر أن ينصب العمل الأساسي للمؤتمر الرابع على النقطة الثالثة. وقد عُيّنت مباشرة لجنة للإعداد لبرنامج الأممية الشيوعية، وكُلفت أيضا بالمساعدة في صياغة برنامج مختلف الفروع.

بيّن الكونفرنس نمو الحركة الشيوعية في مختلف البلدان وتعزيزها. وكان أحد أهم مظاهر ذلك العصبية المتزايدة لأنصار أممية أمستردام، الذين كانوا ينظرون بخوف إلى تطور تأثير الشيوعيين في النقابات. وقد أظهرت العديد من الأدلة أنهم في هذه اللحظة، قد صمموا على طرد الشيوعيين من النقابات في كل البلدان، وأنه ضمن هذا الهدف لن يتراجعوا إزاء انشقاق الحركة النقابية. ولذلك كانت المهمة الأساسية للأممية الشيوعية داخل النقابات، تقوم على فضح هذه المناورة والحيلولة دون أن يُضعف أنصار أمستردام البروليتاريا بتحطيمهم للنقابات.


(1) وهو غير الحزب الشيوعي الألماني الموحد.