أية دولة.. لأية تنمية ؟..


بقلم: إينياسي سـاش (*)
المصدر: ألتيرناتيف إيكونوميك، عدد اسثنائي، رقم 35
ترجمة
: عبد الكريم شوطا (نوفمبر 2005)

 

(*) مدير الدراسات بالمدرسة العليا للدراسات في العلوم الاجتماعية (EHESS)، عضو دائرة كوندورسيه بباريس.


 

أكثير من الدولة أم قليل منها ؟ إن الاختلاف بين الليبراليين والاشتراكيين الديمقراطيين لم يتوقف بعد عن إسالة المداد، والاستعجال يتمثل في التفكير في نموذج آخر للتنمية بغاية وضع حد لإقصاء عدد أكبر من أفراد المجتمع.

 

ينتهي القرن في خضم فضيحة تنمية أخلفت وعدها. لقد عرف الإنتاج العالمي، محمولا على ظهر مدٍّ قوي من التجديدات التكنولوجية منذ نصف قرن، نموّا أعلى من تزايد السكان، والمستوى الذي بلغه هذا التطور من شأنه أن يسمح، بيسر أكبر، بضمان شروط وظروف حياة معقولة لكل ساكن من سكان الأرض إذا كانت ظروف الاقتسام وشروطه عادلة. إلاّ أن التطور، عكس ذلك مع الأسف، يتم في إطار اللاعدل وبواسطته.

لقد قُدِّر أن حوالي مليار من ساكنة الأرض تعيش في بحبوحة عيش لا سابق لها، وأن مليارا آخر من البشر غارق في دوامة من الفقر والعنف يجد الأغنياء صعوبة في تصورها أو حتى تخيلها، الباقون؛ أي قرابة 4 مليارات من البشر يعيشون في مستوى أدنى من عتبة الفقر. لكن إذا ما استمرت هوة في فصل الشمال عن الجنوب، الدول الرّاهنة nantis عن الدول الفقيرة، فإن خط القسمة بين الشمال والجنوب يخترق كل المجتمعات: فهناك شمال في الجنوب – الأقلية الغنية تعيش في بحبوحة هوليوودية –، لكن أيضا، وأكثر فأكثر، هناك جنوب في الشمال: يتمثل في مقصيينا، عاطلينا، وفقراؤنا الجدد يعدون بالملايين ؛ فالنظام لم يعد أبدا في حاجة إليهم.

في سنة 1945 كتب السيد ج.س. كومارايا، أحد مريدي غاندي قائلا: "يجب أن يتمثل منهج عملنا في توزيع الثروات عبر سيرورة إنتاج الثروة. وإذا لم تتم مصاحبة التوزيع للإنتاج أو لم يتذخلا معا بشكل متآن، فإنهما يقودان غالبا نحو تراكم الغنى في جهة، وتراكم الفقر والعوز في جهة أخرى." ثم يضيف: "لا يمكن أن يقاس غنى دولة ما بعدد المليونيرات في هذه الدولة"(1).

ومنذ ذلك الحين لم يتم التفوه بكلمات أفضل من هذه الكلمات. يجب أن نجعل من توزيع المداخيل وفرص الشغل نقاط العبور إلى استراتيجية للتنمية أحرى من أن نعتبرها نواتج سيرورة متمحورة حول تعاظم التطور والأرباح. لقد كان السيد هورست ماهلر، المدير العام السابق للمنظمة العالمية للصحة (OMS)، على حق في احتجاجه على إعطاء الأولوية للشأن الاقتصادي والجري المحموم واللامضبوط وراء الربح بدون إيلاء أية أهمية للكلفة الإنسانية لذلك: "إذا ما قيّمتم النجاح على قاعدة الاقتصاد الخالصة والصلبة وحدها، فعليكم إذن أن تقتلوا الشيوخ والضعاف والعجزة. تخلصوا من الباتولوجيا الاجتماعية بإعدام ضحاياها !"

إن التصحيح الملائم، بعد فوات الأوان، عن طريق إعادة التوزيع لجزء من المداخيل، وهو الضروري للأخذ بيد بقايا الحساب، لن يكون كافيا لإعادة التوازن للنسق. لا يتعلق الأمر هنا بنفي دور و لا أهمية شبكات الضمان الاجتماعي. ومع ذلك، فمهما طال زمن عدم تصحيح إعادة التوزيع الأولي المضمن بنمط الإنتاج، فإن مساعدة المقصيين المتكاثر عددهم عبر الزمن ن لن تشكل إلا عملا سيزيفيا حقيقيا. إن المفارقة الاشتراكية الديمقراطية لم تشتغل حقيقة بصورة مقنعة إلا ضمن ظروف نمو سريع وتشغيل تام، بيد أن هذه الظروف لم تعد كافية أبدا، وهناك من الحظوظ أقلها بأن تستقيم الوضعية في مستقبل منظور، اللهم إلا إذا تم انخراط كلي في البحث عن سبل وصيغ جديدة للتنمية.

إننا نشهد استهلاكا وإنهاكا للنماذج التي اشتغلت خلال نصف قرن، وليس مؤكدا مطلقا أن اقتصاد السوق في صيغته الليبرالية الجديدة سيحل المشاكل. ويكفي أن ننظر إلى ما حولنا لكي نتأكد من أن طاغوت الأسواق لا يمكنه إلا أن يفاقم السيرورات الحالية للتنمية المشوهة ويعمقها. بمباعدتنا بين الطرفين؛ أي اقتصاد الطلب الذي اعتاش، واقتصاد السوق الخالصة الذي ليس إلا طوباوية بالمعنى الحرفي للكلمة، يتوجب علينا التفكير بسرعة واستعجال في مختلف الصيغ الممكنة للتنظيم الديمقراطي للاقتصادات المختلطة التي لا زالت وحدها هي الممكنة كيفما كانت الأحوال.

إن هذه الأنظمة تتجسد من خلال مختلف التوليفات بين العمومي والخاص، الدولة والمقاولات والقطاع الثالث للمجتمع المدني المنتظم حول أهداف وغايات المصلحة العمومية. وكما قال عن حق السيد إريك هويسباون: "كيفما كان من الممكن أن يكون التوازن المرغوب فيه في ما بين العمومي والخاص، في ما بين الدولة والمجتمع المدني، في ما بين الحكومة والسوق، فلا أحد يمكنه الارتياب جديا في وجوب التأليف في ما بينها"(2).

 

تختلط التنمية بتوسيع فضاء الديمقراطية

لا يتعلق الأمر يقينا بالمنافحة عن نزعة دولتية مبالغ فيها وفاسدة غالبا تجد ترجمتها في الواقع بخوصصة الدولة الموضوعة في خدمة المصالح الخصوصية. لكن يتوجب في نفس الآن اطراح الفكرة التبسيطية المتمثلة في أن الإصلاح يمر بكل بساطة عبر أقل ما يمكن من تدخل الدولة، إن لم عبر تفكيكها ومحوها كما يريد الليبراليون الجدد الأعلى موقعا. نحن في حاجة أكثر من أي وقت مضى لدولة مُنمِّيةٍ تسعى نحو الهدف المزدوج المتمثل في التشغيل التام والتوزيع العادل للثروات في إطار احترام كلي للإكراهات الإيكولوجية، ولذلك تتوجب بلورة استراتيجية للتنمية مؤسسة على قاعدة برنامج وطني منحوث ديمقراطيا.

يجب أن تبدو هذه الدولة في نفس الآن قادرة على فرض ضبط فعال للأسواق وتأمين إنتاج الخدمات العمومية في أحسن الظروف، هذه الخدمات الممولة من قبل ضريبة تم إصلاح نظامها (أي موزعة بعدل، لكنها غير مقلصة إلى الحدود القصوى التي يعشقها الليبراليون الجدد). وبسيرنا في الطريق، لا يجب أن نخطئ الهدف: فليس عن طريق خوصصة المقاولات العمومية (التي يتوجب تقييم فائدتها المؤسسة حالة بحالة) يمكننا أن نتوصل إلى إخراج الدولة من حالة الخوصصة.

إن الصراع ضد نزعة التملك الجديدة ليس مفصولا عن دمقرطة الأنظمة السياسية. يجب أن يقاوم النزوع السلطوي المستحث من طرف النمو القوي لبعض الدول ذات الأنظمة الضد-ديمقراطية. إن الديمقراطية قيمة أساسية على ضوء التجارب التراجيدية للأنظمة التوتاليتارية التي أغرقت قرننا هذا في الدماء. وأكثر من ذلك، ففي قلب مفهوم التنمية ذاته يمكننا أن نُعبِّر بحدود التملك الفعلي لكل حقوق الإنسان من طرف جميع الناس: حقوق سياسية، مدنية، ولكنها أيضا اقتصادية، اجتماعية وثقافية. بتحديدنا لها هكذا، فإن التنمية تختلط وتتداخل مع توسيع فضاء الديمقراطية.

يجب في هذا السياق فحص تمفصل السلط في ما بين مختلف المستويات: (المستوى الوطني، الجهوي، والمحلي). فما هي رهانات وحدود اللامركزية ؟ أي شكل مشخص يمكن أن يتخده الانتقال للسلطة أو الإمساك بها من طرف القاعدة ؟ كيف يمكن للدولة أن تعيد التوازن للفوارق في الغنى في ما بين الجهات ؟ إن مآل كل الحلول التبسيطية هو الاطراح. إن الطوباوية الفوضوية الجديدة لفكرة إقامة كونفدرالية بين الجماعات المحلية ممركزة ذاتيا ليس لها من معنى في عالم مكوناته أكثر فأكثر تعالقا في ما بينها. كما أن مفهوم الإعانة مشوب بغموض واضح: فمن يقرر بخصوص ما يمثل الوقف على المستوى المحلي ؟

وبكل بداهة، فإن العلاقات في ما بين مختلف مستويات السلطة تتطلب إعادة التفاوض حول العقود الاجتماعية. إن المستقبل ملك لتسيير تعاقدي ومتفاوض بشأنه للموارد ومجموع المصالح العمومية، وعلى شراكة جديدة في ما بين كبريات المجموعات الثلاث للفاعلين الاجتماعيين المشار إليهم آنفا: السلطات العمومية، المقاولات، المجتمع المدني المنظم. لنلح مرة أخرى على مركزية وتركيز الديمقراطية.

 

إعادة التفكير في النظام العالمي

لا زال دور الدولة أقوى دلالة عند تقاطع الفضاء الوطني مع الفضاء العابر للأوطان. وبخلاف الكتابات الحديثة نستمر في العيش (لحسن الحظ) في عالم من الدول الوطنية مكلفة بحماية مصالح مواطنيها. وكلما خضع الاقتصاد العالمي للتصرفات غير المحمودة للمقاولات العابرة للأوطان والفاعلين في الأسواق المالية الذين يفلتون من أي ضبط أو مراقبة، كلما تعاظمت مسؤوليات الدول: حيث تصبح مطالبة بأن تتصدى للمهمة المزدوجة المتمثلة في إخماذ التاثيرات السلبية للعولمة واغتنام الفرص التي توفرها. إن الاستراتيجية الدفاعية تطرح المشاكل الأكثر تعقدا وتُجبر على إعادة التفكير في الأدوات والوسائل التي لا زالت متوفرة بالنظر للالتزامات المأخودة على المستوى العالمي لصالح التحرير.

وبالموازاة مع ذلك تجب إعادة التفكير في النظام العالمي المُرجِّح بشكل متعاظم لكفة مؤسسات بريتون وودز (البنك العالمي وصندوق النقد الدولي) وكذا المنظمة العالمية للتجارة على حساب نظام الأمم المتحدة. هذا الأخير، وبدون أن نصنع بخصوص فعاليته الحالية مزيدا من الأوهام، يحتاج إلى تدعيم وتعضيد وإعادة توجيهه نحو مهامه الجوهرية المتمثلة في الحفاظ على السلم وإنعاش التنمية. يجب أن يُؤوّل فشل المفاوضات المجراة في الماضي بغاية إقامة نظام اقتصادي عالمي جديد كما لو أنه حث على البحث عن حلول جديدة لمشاكل تحتدُّ وتتعقد أكثر فأكثر: وهي تتمثل في غياب تنظيم فعال للأسواق المالية وأسواق المواد الأولية والإنقاص المتنامي الفضيحة للمساعدة العالمية لصالح الدول الأضعف تنمية، وغياب تمويل أوتوماتيكي لنظام الأمم المتحدة، على سبيل المثال لا الحصر.

إننا كلما أفلحنا في تنظيم الاقتصاد العالمي وفي خلق ميكانيزمات للتعاون في ما بين الدول المُنمِّية، كلما كانت مهمتها أيسر بداخل كل دولة على حدة. وكما كان يجب أن نتوقع، فإن المسائل المتعلقة بدور الدولة في مجال التنمية قد تمت ملامستها ومباشرتها في كل مؤتمرات الأمم المتحدة بدون أن تجد هذه المسائل أبدا المكانة المركزية التي تستحقها. وبعد فشل ثلاثة عقود من التنمية، فإن الأمم المتحدة اختارت مقاربات قطاعية، أكيدٌ أنها أقل طموحا ولكنها أقل قابلية للجدال. إن ضعف منطوق مركزي في حضن المنظمة العالمية من أجل التفكير في التنمية في كليتها يتعارض مع الاتساع المحصل عليه من طرف الوكالات والبرامج القطاعية.

أهي حكمة، أم رعب، انتهازية ومحاصرة من قبل الراهنين والأقوياء ؟ إن الوقت قد حان لمجابهة إشكاليات الخروج من التنمية المغلوطة أو الرثة. والمؤتمر الذي تعدُّه La Cnucedـ(3) لسنة 2000 يمكنه أن يوفر فرصة ذلك بشرط إجراء تعبئة أقوى وأعظم للجان الجهوية وفتح فضاء أوسع وأرحب أمام مشاركة تنظيمات المواطنين.


(1) حسب بعض التقديرات فإن 600 ملياردير تم إحصاؤهم في العالم ينعمون بمداخيل مساوية لمداخيل نصف الناس الأكثر فقرا، أي ما يقارب 3 مليار من الأشخاص.
 

(2) و. ج. هوبسباون: "مستقبل الدولة"، تنمية وتبادل، يوليو 1996.
 

(3) مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية.