أرشيف الماركسيين: كتاب ماركسيون: ماركس & انجلز: البيان الشيوعي: الفصل الثالث: الأدب الاشتراكي والشيوعي

الفصل الثالث: الأدب الاشتراكي والشيوعي


1 - الإشتراكية الرجعية


أ - الإشتراكية الإقطاعية

وَجدت الأرستقراطية الفرنسية و الإنكليزية نفسها مدعوّة، بحكم موقعها التاريخي، إلى كتابة قطع هجائية ضدّ المجتمع البرجوازي الحديث. ففي ثورة تموز (يوليو) الفرنسية عام 1830، وفي حركة الإصلاح الإنكليزية، كانت قد انهزمت مرة أخرى، أمام هذا الوصوليّ المقيت، فلم يعد ممكنا الحيث عن نضال سياسي جديّ. لقد بقي لها النضال الأدبي فقط. ولكن التشدقات الكلامية القديمة، عهد إعادة المَلَكية[1] ، غدت في ميدان الأدب أيضا مستحيلة. ولتستدرَّ العطف اضطرت الأرستقراطية إلى التظاهر بالتخلّي عن مصالحها، وإلى وضع قرارها الإتهامي ضد البرجوازية لمصلحة الطبقة العاملة المستَغلَّة فقط. وعلى هذا الوجه وفرت لنفسها لذة هجاء سيّدها الجديد بواسطة الأغاني، والغمغمة في أذنه بتنبؤات مشحونة بفيض من النذر.

وهكذا نشأت الإشتراكية الإقطاعية مزيجا من نحيب وهجاء من صدى الماضي و وعيد المستقبل، مصيبة أحيانا البرجوازية في الصميم بحُكم قاس ثاقب، و مُثيرة السخرية باستمرار لعجزها التام عن إدراك مسيرة التاريخ الحديث.

فعوضا عن التلويح بالرّاية لوَّح الأرستقراطيون بمخلاة التسوّل البروليتارية، ليحشروا الشعب خلفهم، لكنه ما أن تبعهم حتى لمح على عجيزتهم شارات النَّسَب الإقطاعية القديمة، فانفضَّ عنهم بقهقهات وقحة مستخفة.

وقد أجاد في تمثيل هذا المشهد قسم من الشرعيين الفرنسيين ومن إنكلترا الفتاة.

وعندما يبرهن الإقطاعيون على أنّ نمط استغلالهم كان يختلف عن نمط الإستغلال البرجوازي، ينسَون فقط أنهم كانوا يستغلون في أوضاع وشروط مختلفة كليا ولّى اليوم عهدها. وعندما يُثبتون أنّ البروليتاريا الحديثة لم تكن موجودة في ظل سيطرتهم، ينسَون فقط أنّ البرجوازية الحديثة كانت، ضبطا، وليدا واجب الوجود لنظامهم المجتمعي.

وزد على ذلك أنهم قلّما يُخفون الطابع الرجعي لانتقادهم، إذ أنّ مأخذهم الرئيسي على البرجوازية يَكمُن، ضبطا، في القول إنّ الطبقة التي تتبسط في ظلّ نظامها، ستنسف التظام المجتمعي القديم برُمّته.

وهُم لا يلومون البرجوازية، أكثر ما يلومونها، لأنها أنجبت البروليتاريا بشكل عام، بل لأنها أنجبت البروليتاريا الثورية.

ولذا فإنهم في الممارسة السياسية يشتركون في جميع التدابير القمعية ضد الطبقة العاملة، ورغما عن تشدقاتهم الجوفاء فإنهم في حياتهم الإعتيادية يَرتضون التقاط التفاحات الذهبية، ومقايضة الوفاء والحب والكرامة بالمتاجرة بالصوف والشمندر والعرق[2].

ومثلما سار الكاهن والإقطاعي دوما يدا بيد تَسير الإشتراكية الكهنوتية والإشتراكية الإقطاعية.

فلا شيء أسهل من إضفاء صبغة الإشتراكية على التنسّك المسيحي. ألم تُـلغِ المسيحية أيضا الملكية الخاصة والزواج والدولة؟ وبدلا منها ألم تعظ بالصدقة والتسول والتبتل وأمانة الجسد، والحياة الرهبانية والكنسية؟ فالإشتراكية المسيحية ليست إلاّ الماء المقدّس الذي يكرِّس به الكاهن حقد الأرستقراطي.


ب - الإشتراكية البرجوازية الصغيرة

الأرستقراطية الإقطاعية ليست الطبقة الوحيدة التي أطاحتها البرجوازية، والتي ذبُـلت شروط حياتها وهلكت في المجتمع البرجوازي الحديث. فإنّ برجوازيي المدن وفئة الفلاحين الصغار في القرون الوسطى كانوا طلائع البرجوازية الحديثة.

وهذه الطبقة لا تزال، في البلدان الأقل تطورا صناعيا وتجاريا، تعيش حياة خاملة إلى جانب البرجوازية الصاعدة.

وفي البلدان، التي نمت فيها الحضارة الحديثة، تكونت برجوازية صغيرة جديدة تتأرجح بين البروليتاريا والبرجوازية. وهي كجزء مكمل للمجتمع البرجوازي لا تفتأ تعيد تشكيل نفسها؛ ومن جرّاء المزاحمة ينحدر أفرادها باستمرار إلى (صفوف) البروليتاريا؛ بالإضافة إلى ذلك يرون، مع نمو الصناعة الكبيرة، اقتراب الساعة التي سيضمحلّون فيها كليّا، بوصفهم قسما مستقلا عن المجتمع الحديث، ليحُلّ محلهم، في التجارة والمانيفاتورة والزراعة، نُظّار العمل والمستخدمين.

وكان طبيعيا، في بلدان مثل فرنسا، حيث تُشكّل طبقة الفلاحين أكثر من نصف السكان، أن يَعمد الكُـتّاب، الذين يناصرون البروليتاريا ضد البرجوازية، إلى استخدام معيار برجوازي صغير وفلاحي صغير في نقدهم النظام البرجوازي، وأن ينحازوا إلى العمال من وجهة نظر البرجوازية الصغيرة. وعلى هذا الوجه تكونت الإشتراكية البرجوازية الصغيرة.

وسيسموندي هو زعيم هذا الأدب لا في فرنسا فحسب بل في إنكلترا أيضا.

فهذه الإشتراكية حلّلت، بكثير من الفطنة، التناقضات في علاقات الإنتاح الحديثة، وفضحت تبريرات الإقتصاديين المنافقة، وأثبتت، بشكل لا يُدحض، التأثيرات المدمِّرة للمكننة، وتقسيم العمل، وحصر رؤوس الأموال والملكية العقارية، والإنتاج الزائد، والأزمات والإنحلال المحتم للبرجوازيين الصغار والفلاحين الصغار، وبؤس البروليتاريا، والفوضى في الإنتاج، والتفاوت الصارخ في توزيع الثروة، والحرب الصناعية الماحقة بين الأمم وانحلال العادات القديمة، والعلاقات العائلية القديمة، والقوميات القديمة.

وهذه الإشتراكية، بحسب مضمونها الوضعي، تريد إمّا إعادة وسائل الإنتاج والتبادل القديمة، وبذلك تعيد علاقات الملكية القديمة والمجتمع القديم، وإمّا حصر وسائل الإنتاج والتبادل الحديثة بالقوة في إطار علاقات الملكية القديمة الذي نَسفته، والذي لا بدّ من نسفه. وهي في كلتا الحالتين رجعيّة وطوباوية في آن واحد.

النظام الحرفي في المانيفاتورة، والإقتصاد البطريركي في الريف: تلك هي كلمتها الأخيرة، وهذا الإتجاه إنتهى، في تطوره اللاحق، إلى مُواءٍ جبان.


ج - الإشتراكية الألمانية أو الإشتراكية "الصحيحة"

إنّ الأدب الإشتراكي والشيوعي في فرنسا، الذي نشأ تحت ضغط برجوازية مسيطرة، تعبيرا أدبيا عن النضال ضد هذه السيطرة، أُدخِل إلى ألمانيا في وقت كانت البرجوازية (الألمانية) تستهلّ نضالها ضد الإقطاعية الإستبدادية.

وبشراهة تخاطف الفلاسفة، وأدعياء الفلسفة، والأدباتية الألمان، هذا الأدب. ولكنهم نسوا أنّ نزوح تلك الكتابات، من فرنسا إلى ألمانيا، لم يرافقه في الوقت نفسه نزوح أوضاع الحياة الفرنسية. فـفقد الأدب الفرنسي، في الأوضاع الألمانية، كل أهمية عملية مباشرة واتخذ وجها أدبيا بحتا. ومن ثم كان لا بد من أن يبدو كتأمل لا نفع فيه حول تحقيق الجوهر الإنساني. وهكذا، لم تكن مطالب الثورة الفرنسية الأولى، في نظر الفلاسفة الألمان في القرن الثامن عشر، سوى مطالب "العقل المعياري" بصورة عامة، وتجليات إرادة البرجوازية الثورية الفرنسية، لم تكن تعني في نظرهم، سوى قوانين الإرادة البحتة، الإرادة كما ينبغي أن تكون، الإرادة الإنسانية الحقة.

والعمل الوحيد للأدباء الألمان كان ينحصر في التوفيق بين الأفكار الفرنسية الجديدة ووجدانهم الفلسفي القديم، أو بالأحرى في انتحال الأفكار الفرنسية انطلاقا من آرائهم الفلسفية؛ وهذا الإنتحال تم بالطريقة نفسها التي يتعلم بها المرء عادة لغة أجنبية، أي بواسطة الترجمة.

ومعروف كيف استبدل الرهبان عناوين المخطوطات، المنطوية على الأعمال الكلاسيكية للعهد الوثني القديم، بعناوين حكايات سمجة لقدّيسين كاثوليك. أمّا الأدباء الألمان فقد تصرفوا حيال الأدب الفرنسي الدنيوي على عكس ذلك، لقد ذيَّلوا الأصل الفرنسي بهرائهم الفلسفي، فكتبوا، مثلا تحت النقد الفرنسي للعلاقات المالية: "تجريد الكائن البشري"، وتحت النقد الفرنسي للدولة البرجوازية: "إلغاء سيطرة الكلّي المجرَّد" إلخ..

إن دسّ هذه العبارات الفلسفية الجوفاء، تحت التطويرات الفرنسية، عمَّدوه بأسماء، مثل "فلسفة الفعل"، و"الإشتراكية الحقّة"، و"علم الإشتراكية الألمانية"، و"التعليل الفلسفي للإشتراكية"، إلخ..

وبهذه الطريقة خُصي الأدب الإشتراكي-الشيوعي الفرنسي خصيا واضحا. وبما أن هذا الأدب كفَّ في أيدي الألمان، عن التعبير عن نضال طبقة ضد أخرى، تصوّر الألمان أنهم تجاوزوا "المحدودية الفرنسية"، وأنّهم دافعوا لا عن الحاجات الحقيقية، بل عن الحاجة إلى الحقيقة، ولا عن مصالح البروليتاري، بل عن مصالح الكائن البشري، مصالح الإنسان على العموم، الإنسان الذي لا ينتمي إلى أي طبقة، ولا إلى الواقع إطلاقا، بل ينتمي فحسب إلى سماء الخيال الفلسفي المضبَّبة.

وهذه الإشتراكية الألمانية، التي حملت تمارينها المدرسية الحمقاء على محمل الجد والمهابة الكبيرين، وزمَّرت لها وطبّلت بمثل هذا الزعيق، فقدت شيئا فشيئا براءتها الدعية.

فإنّ نضال البرجوازية الألمانية لا سيّما البرجوازية البروسية، وبكلمة نضال الحركة الليبيرالية ضد الإقطاعيين والملكية المطلقة، أصبح أكثر جديّة.

وبهذا الشكل أتيحت للإشتراكية "الحقّة" الفرصة المنشودة لمواجهة الحركية السياسية بالمطالب الإشتراكية، ولصبّ اللعنات التقليدية على الليبرالية، والنظام التمثيلي، والمزاحمة البرجوازية، وحرية الصحافة البرجوازية، والقانون البرجوازي، والحرية والمساواة البرجوازيتين، ولتحذير الجماهير من أنها لا تكسب شيئا من هذه الحركة البرجوازية، بل بالعكس ستخسر فيها كل شيء فـسَها عن الإشتراكية الألمانية، ضبطا، أنّ النقد الفرنسي الذي كانت هي صداه البليد يستلزم وُجود المجتمع البرجوازي الحديث مع الشروط الحياتية المادية المُطابقة له، ومع الدستور السياسي المُناسب، تلك المستلزمات التي كان العمل يجري في ألمانيا لتحقيقه

فالإشتراكية خَدمت الحكومات الألمانية المُطلقة وحاشيتها، من كهنة وعلماء تربية وإقطاعيين بُلداء وبيروقراطيين، كفزّاعة منشودة ضد وعيد البرجوازية المتصاعد.

والإشتراكية شكّلت التكملة المتكلفة الحلاوة، لمرارة لذع السياط وطلقات البنادق، التي تصدَّت بها الحكومات نفسها للإنتفاضات العمّالية الألمانية.

وإن كانت الإشتراكية "الحقّة" قد غدت، بهذه الصورة، سلاحا في أيدي الحكومات ضد البرجوازية الألمانية، فإنّها كانت تُمثّل مباشرة مصلحة رجعية، مصلحة البرجوازية الألمانية الصغيرة و(هذه) البرجوازية الصغيرة، التي خلّفها القرن السادس عشر والتي ما انفكت تظهر بأشكال مختلفة، تشكل في ألمانيا الأساس المجتمعي الفعليّ للأوضاع القائمة.

فالحفاظ عليها هو الحفاظ على الأوضاع الألمانية القائمة. وهي تخاف من الهلاك المبين أمام السيطرة الصناعية والسياسية للبرجوازية، نتيجة لتمركز رأس المال من ناحية، ولبروز بروليتاريا ثورية من ناحية أخرى؛ وقد تراءى لها أنّ الإشتراكية "الحقّة" قادرة على إصابة عصفورين بحجر واحد. فـتـفشّت (الإشتراكية) تفشّي الوباء.

والحُـلّة المصنوعة من شفافية النظريات التجريدية، والمطرَّزة بمحسِّنات لفظيّة، والمسبقة بندى الوجد الدافئ – هذه الحُـلّة، التي غلَّف بها الإشتراكيون الألمان بِضْعا من "حقائقهم الخالدة" (الثابتة) الهزيلة، لم تَزد إلاّ في رواج بضاعتهم لدى الجمهور.

وأكثر فأكثر أدركت الإشتراكية الألمانية من جهتها، أن مهمتها هي أن تكون المثل الطنّان لهذه البرجوازية الصغيرة.

فأعلنت أنّ الأمة الألمانية هي الأمة السوية، وأنّ البرجوازي الألماني الصغير هو الإنسان السوي. وأضفت على نذالته كلها معنى غامضا ساميا واشتراكيا، جعلها تدل على عكس واقعها. وآل بها المطاف إلى التصدي مباشرة للإتجاه الشيوعي '"الهدّام الفظّ"، وأعلنت أنها تحلّـق بتجرّد فوق كل الصراعات الطبقية. وعدا استثناءات قليلة جدا فإنّ كل الكتابات الإشتراكية والشيوعية المزعومة، المتداولة في ألمانيا، تنتمي إلى قطاع هذا الأدب القذر المثير للأعصاب[3].

2 - الإشتراكية المحافظة أو الإشتراكية البرجوازية

يرغب قسم من البرجوازية في معالجة الأوضاع المجتمعية السيئة لضمان بقاء المجتمع البرجوازي.

ويندرج في هذا القسم: إقتصاديون وخيِّرون وإنسانيون ومحسّنو وضع الطبقات الكادحة، ومنظِّموا أعمال البر والإحسان وجمعيات الرفق بالحيوان، وجمعيات الإعتدال والقناعة، ومصلحون ضيقو الأفق من كل الأصناف. واشتراكية البرجوازيين هذه صيغت في مذاهب كاملة.

ونورد، مثالا على ذلك، "فلسفة البؤس" لبرودون.

فالبرجوازيون الإشتراكيون يريدون شروط حياة المجتمع الحديث، (لكن) بدون النضالات والأخطار الناجمة عنها بالضرورة. إنّهم يريدون المجتمع القائم منقى من العناصر التي تثوِّره وتهدمه. إنّهم يريدون البرجوازية بدون البروليتاريا. وبالطبع تتصور البرجوازية العالم الذي تسود فيه كأفضل العوالم. واشتراكية البرجوازيين تصوغ من هذا التصوّر المعزّي نصف مذهب أو مذهبا كاملا. وهي، بدعوتها البروليتاريا إلى تحقيق مذاهبها والدخول إلى أورشليم الجديدة، تطالب في الحقيقة فقط بأن تتشبّث (البروليتاريا) بالمجتمع الراهن، على أن تنفض عنها تصورات كراهيتها لهذا المجتمع.

وهناك شكل آخر لهذه الإشتراكية، عمليا أكثر وأقل تمذهبا، سعى إلى جعل الطبقة العاملة تنفر من كل حركة ثورية، بالبرهنة على أنّ ما يسعه أن يُفيدها، ليس هذا التغيير السياسي أو ذاك، وإنّما فقط تغيير أوضاع الحياة المادية، أي الأوضاع الإقتصادية. وهذه الإشتراكية لا تفهم إطلاقا أنّ تغيير أوضاع الحياة المادية يقتضي إلغاء علاقات الإنتاج البرجوازية، الذي لا يتمّ إلاّ بالطريق الثوري، بل تعني إصلاحات إدارية تستند إلى أساس علاقات الإنتاج هذه، أي أنها لا تغير شيئا في العلاقة بين رأس المال والعمل المأجور، بل تـقلل، في أفضل الأحوال، نفقات سيطرة البرجوازية وتخفف ميزانية الدولة.

فاشتراكية البرجوازيين لا تبلغ تعبيرها المُلائم إلاّ عندما تسمي مجرد تعبير بياني. فحرية التجارة، لمصلحة الطبقة العاملة، والحماية الجمركية، لمصلحة الطبقة العاملة، والسجون الإنفرادية، لمصلحة الطبقة العاملة: هذه هي الكلمة الأخيرة والوحيدة الجادة، التي تقصدها اشتراكية البرجوازيين.

فاشتراكية البرجوازية لا تكمن إلاّ في الإدعاء القائل إنّ البرجوازيين هم برجوازيون – لمصلحة الطبقة العاملة.

3 - الإشتراكية والشيوعية النقديتان الطوباويتان

وهنا لا نتحدث عن الأدب الذي أعرب، في كل الثورات الكبرى الحديثة، عن مطالب البروليتاريا (كتابات بابوف، إلخ..)

فالمحاولات الأولى للبروليتاريا، لتغليب مصالحها الطبقية مباشرة في زمن غليان عام عهد انهار المجتمع الإقطاعي، أخفقت بالضرورة نظرا إلى جنينية البروليتاريا نفسها، وإلى فقدان الشروط المادية لتحرّرها، التي هي، قبل كل شيء، حصيلة العصر البرجوازي. والأدب الثوري، الذي كان يرافق هذه الحركات الأولى للبروليتاريا، هو بالضرورة رجعي المحتوى. فهو يدعو إلى تقشف عام، إلى مساواتية فجة.

وفي الحقيقة فإنّ المذاهب الإشتراكية والشيوعية، مذاهب سان سيمون، وفورييه، وأوين، إلخ.. ظهرت في الحقبة الأولى الجنينية من الصراع بين البروليتاريا والبرجوازية، أي في الحقبة التي ذكرناها آنفا (راجع: برجوازية وبروليتاريا).

إنّ مبتدعي هذه المذاهب يستبينون حقا التناحر بين الطبقات، مثلما يستبينون تأثير العناصر الهدّامة في المجتمع السائد نفسه، لكنهم لا يتبيَّـنون في إتّجاه البروليتاريا أيّ فعل تاريخي تلقائي، أو أيّة حركة سياسية خاصة بها.

ولما كان نمو التناحر الطبقي يواكب نمو الصناعة، فإنّهم كذلك لا يعثرون على الشروط المادية لتحرّر البروليتاريا، ويأخذون في البحث عن علم مجتمعي، عن قوانين مجتمعية، لخلق هذه الشروط.

فعن النشاط المجتمعي يستعيضون بنشاط حذاقتهم الشخصية، وعن الشروط التاريخية للتحرر (يستعيضون) بشروط كيفية، وعن تنظيم البروليتاريا في طبقة تنظيما تدريجيا متصاعدا (يستعيضون) بتنظيم للمجتمع يختلقونه. وفي نظرهم، فإنّ تاريخ العالم المقبل ينحلّ في الدعاية وفي التنفيذ العملي لتصاميمهم المجتمعية.

ولكنهم يعون أنّهم بتصاميمهم يُدافعون بالدرجة الأولى عن مصالح الطبقة العاملة، بوصفها الطبقة الأكثر معاناة. فالبروليتاريا بالنسبة إليهم لا تكون إلا بهيئة الطبقة الأكثر معاناة.

وعن الشكل الأوَّلي للصراع الطبقي، وكذلك عن وضعهم المعيشي، ينتج اعتقادهم بأنهم فوق كل تناحر طبقي. فهم يريدون أن يُحسِّنوا الوضع الحياتي لكل أعضاء المجتمع، حتى لأكثرهم يسرا. ولذا يتوجهون باستمرار إلى المجتمع بأسره بدون تمييز، بل (يتوجهون) بالأحرى إلى الطبقة السائدة. فحَسْب المرء أن يفهم مذهبهم كي يعترف بأنّه أفضل خطة ممكنة لأفضل مجتمع ممكن.

فهم إذن، ينبذون كل نشاط سياسي، وخصوصا كل نشاط ثوري، ويريدون بلوغ هدفهم بطريقة سلمية، ويحاولون أن يشقوا الطريق للإنجيل المجتمعي الجديد بتجارب صغيرة فاشلة بالطبع وبقوة المثال.

وهذا الوصف الخياليّ للمجتمع المقبل، في ومن ما زالت فيه البروليتاريا، الضعيفة النمو إلى حدّ بعيد تَنظر في وضعها بكيفية هي ذاتها خياليّة، ينبثق من اندفاعاتها السليقية الأولى نحو تحويل المجتمع تحويلا شاملا.

بَيْد أنّ الكتابات الإشتراكية والشيوعية تشتمل أيضا على عناصر نقدية. فهي تهاجم المجتمع القائم بكل أسسه. ومن ثم فإنّها تُـقدِّم مادة قيّمة جدا لتنوير العمال. فإنّ موضوعاتها الإيجابية عن مجتمع المستقبل، مثل إزالة التناقض بين المدينة والريف، وإلغاء العائلة، والربح الخاص، والعمل المأجور، والمناداة بالإنسجام المجتمعي، وبتحويل الدولة إلى مجرّد إدارة للإنتاج، هذه الموضوعات كلُّها لا تعبّر إلاّ عن إلغاء التناحر الطبقي الذي ابتدأ ينمو، والذي لا تعرف هذه الكتابات إلاّ شكله الأوّلي المبهم غير المحدد – ولذا ليس لهذه الموضوعات حتى الآن سوى معنى طوباوي صرف.

فأهمية الإشتراكية والشيوعية النقديتين - الطوباويتين تتناسب عكسا والتطور التاريخي. فبقدر ما ينمو الصراع الطبقي ويتجسم، يفقد هذا الترفُّع الخيالي عن هذا الصراع، و(تفقد) مكافحته المتخيلة، كل قيمة عملية، وكل تبرير نظري. ولهذا، إذا كان واضعوا هذه المذاهب ثوريين في كثير من النواحي، فإنّ مريديهم يؤلفون في كل حين شيعا رجعية. فهم يتشبّثون بآراء أساتذتهم القديمة تجاه التطور التاريخي المطّرد للبروليتاريا. ولذا يسعَون بإصرار إلى إخماد الصراع الطبقي الجديد، وإلى التوفيق بين التناقضات. فهم لا يزالون يحلمون بأن يحققوا تجريبيا طوباوياتهم المجتمعية – إقامة الفالانستيرات[4] المعزولة، وتأسيس مستوطنات داخلية [5]، وتأسيس إيكارية [6] صغيرة – طبعة مُصغَّرة عن أورشليم الجديدة – ولبناء هذه القصور كلها على الرمال توجب عليهم أن يُناشدوا رأفة القلوب والجيوب البرجوازية. وشيئا فشيئا ينحدرون إلى مصاف فصيلة الإشتراكيين الرجعيين أو المحافظين الذين جرى وصفهم آنفا، وهم لا يختلفون عنهم إلاّ بحذلقة أكثر منهجية، وباعتقاد خرافيّ متعصّب بالمفعول العجائبي لعملهم المجتمعي.

ولذا يتصدّون بضراوة لكل حركة سياسية عُمّالية، إذ لا يُمكن أن تصدر إلاّ عن كفر أعمى بالإنجيل الجديد.

الأوينيون في إنكلترا، والفورييويون في فرنسا، يقاومون هناك الشارتيين وهنا الإصلاحيين.




[1] المقصود هنا، ليس إعادة المَلَكية في إنكلترا 1660 - 1689 ، بل في فرنسا 1814 - 1830. (ملاحظة إنجلس للطبعة الإنكليزية 1888)

[2] هذا ينطبق بالدرجة الأولى على ألمانيا، حيث الأرستقراطيون الزراعيون وكبار أصحاب الأراضي الألمان، يشرفون على إدارة الشؤون الاقتصادية في القسم الأكبر من أراضيهم، على حسابهم الخاص بواسطة الوكلاء، وحيث يملكون علاوة على ذلك معامل كبير للسكر والعرق. أمّا أغنى الأرستقراطيين الإنكليز فلم تبلغ بهم الحال بعد هذه الدرجة، إلاّ أنهم يعرفون هم أيضا كيف يُعوّضون عن هبوط الريع بإعطاء أسمائهم لمؤسسي شركات مساهمة، مشكوك فيها إلى هذا الحد أو ذاك. (ملاحظة إنجلس للطبعة الإنكليزية 1888)

[3] عاصفة ثورة عام 1848 كنست هذا الإتجاه الرث كله، وأفقدت داعامة الرغبة في مواصلة الانشغال بالاشتراكية. والمثل الرئيسي، بل النمط الكلاسيكي لهذا الإتجاه، هو السيد كارل غرون (ملاحظة إنجلس الطبعة الألمانية 1890)

[4] فلانستير، إسم القصور الإجتماعية التي تخيّلها فورييه. (ملاحظة إنجلس الطبعة الألمانية 1890)

[5] المستوطنات الداخلية Home - Colonies. هكذا سمى أوين مجتمعاته الشيوعية النموذجية. (ملاحظة إنجلس الطبعة الألمانية 1890)

[6] إيراكية Icarle. إسم أطلقه كابه على بلد تخيّله، ثم على مستعمرة شيوعية، أنشأها في أمريكا. (ملاحظة إنجلس للطبعة الإنكليزية 1888) أسم بلد خيالي طوباوي وصف به كابه مؤسساته الشيوعية. (ملاحظة إنجلس الطبعة الألمانية 1890)