8- التعاونيات والنقابات والديموقراطية

تقدم اشتراكية برنشتاين للعمال الأمل في المشاركة في ثورة المجتمع، فيصبح الفقراء أغنياء ؟ وكيف تتحقق هذه الاشتراكية ؟ لا تحوي مقالات برنشتاين « مسائل الاشتراكية » غير تلميحات غامضة إلى هذه المسألة. لكن معلومات وافية يمكن الحصول عليها في كتابه.

تتحقق اشتراكية برنشتاين بمساعدة الأداتين التاليتين: اتحادات العمال – أو كما يصفها برنشتاين نفسه، الديموقراطية الاقتصادية – والتعاونيات. فالأولى سوف تقضي على الربح الصناعي والثانية سوف تنهي الربح التجاري.

تشكل التعاونيات، لاسيما التعاونيات في حقل الانتاج، شكلا هجينا في خضم الرأسمالية. ويمكن وصفها بأنها وحدات صغيرة للانتاج المستشرك وسط التبادل الرأسمالي.

لكن التبادل يسيطر على الانتاج في الاقتصاد الرأسمالي، أي أن الانتاج يعتمد إلى حد بعيد على إمكانيات السوق. ونتيجة للتنافس تصبح سيطرة مصالح رأس المال على عملية الانتاج – أي الاستغلال الذي لا يرحم – شرطا لدوام كل مشروع. وتعبر سيطرة رأس المال على عملية الانتاج عن نفسها بالطرق التالية: يكثف العمل، يطول يوم العمل أو يقصر طبقا لحالة السوق، أمّا أن يستخدم العمل أو يلقى به إلى قارعة الطريق، طبقا لمتطلبات السوق. وبكلمات أخرى، تستخدم كل السبل التي تمكن المشروع من الوقوف على قدميه في وجه منافسيه الآخرين في السوق. هكذا يجد العمال الذين يتشكلون في التعاونيات في حقل الإنتاج أنفسهم في مواجهة الضرورة المتناقضة للسيطرة على أنفسهم بأكبر قدر من الحزم ويضطرون إلى لعب دور الرائد الرأسمالي تجاه أنفسهم – وهذا هو التناقض الذي يفسر الفشل المعتاد للتعاونيات الانتاجية، التي أمّا أن تصبح مشاريع رأسمالية بحثة أو تنتهي إلى الذوبان إذا ظلت مصالح العمال مسيطرة.

ولقد لاحظ برنشتاين نفسه هذه الحقائق. ولكن من الواضح أنه لم يفهمها. فهو جنبا إلى جنب مع السيد بوتر – ويب يفسر فشل التعاونيات الإنتاجية في إنجلترا بافتقارها إلى « الانضباط ». ولكن ما يدعى هنا بصورة مسطحة مصطنعة « انضباطا » ليس إلاّ النظام الإطلاقي الطبيعي للرأسمالية. ومن الواضح أن العمال لا يستطيعون تطبيق هذا النظام بنجاح ضد أنفسهم(1).

لا تستطيع تعاونيات المنتجين أن تدوم داخل الاقتصاد الرأسمالي إلاّ إذا تمكنت مداورة من القضاء على التناقض الرأسمالي بين نمط الانتاج ونمط التبادل. وهي تستطيع أن تحقق ذلك فقط بأن تعزل نفسها اصطناعيا عن تأثير قوانين التنافس الحر، ولا يمكنها أن تنجح في ذلك إلاّ إذا ضمنت لنفسها مسبقا دائرة دائمة من المستهلكين، أي عندما تضمن لنفسها سوقا دائما.

إن تعاونيات المستهلكين هي التي تستطيع أن تؤدي هذه الخدمة إلى شقيقتها في حقل الإنتاج. وهنا، لا في تمييز أوبنهايمر بين تعاونيات تبيع وتعاونيات تشتري، يكمن السر الذي يسعى برنشتاين إلى اكتشافه: التفسير للفشل الدائم لتعاونيات المنتجين التي تعمل مستقلة وبقاؤها على قيد الحياة عندما تدعمها منظمات مستهلكين.

إذا كان صحيحا أن امكانيات وجود تعاونيات المنتجين داخل الرأسمالية رهن بامكانيات وجود تعاونيات المستهلكين، فإن مجال الأولى مقتصر، حتى في أكثر الحالات مواتاة ، على السوق المحلي المحدود وعلى مصنعي المنتوجات التي تخدم حاجات مباشرة، وعلى الأخص المنتجات الغذائية. وبذلك تستثني تعاونيات المستهلكين وبالتالي تعاونيات المنتجين من معظم فروع انتاج رأس المال الأكثر أهمية – صناعات النسيج والتعدين والمعادن والبترول وبناء الآلات والقاطرات والسفن. ولهذا السبب وحده، فإن التعاونيات في حقل الانتاج، بغض النظر عن طبيعتها الهجينة، لا يمكن اعتبارها جديا أداة للتحويل الاجتماعي العام. ذلك أن إقامة تعاونيات المنتجين على نطاق واسع تفترض قبل كل شيء القضاء على السوق العالمي وتفتيت الاقتصاد العالمي الراهن إلى حقول انتاج وتبادل محلية صغيرة. أي أن المطلوب من رأسمالية عصرنا الفائقة التطور الواسعة الانتشار أن تقفل عائدة إلى اقتصاد العصور الوسطى التجاري.

تقتصر تعاونيات المنتجين ضمن إطار مجتمعنا الراهن على لعب دور الملحق البسيط بتعاونيات المستهلكين. ولذا يبدو أن هذه الأخيرة يجب أن تكون بداية التحويل الاجتماعي المقترح. ولكن إصلاح المجتمع المتوقع بواسطة التعاونيات يكف بذلك عن أن يكون هجوما ضد الإنتاج الرأسمالي. أي أنه يكف عن أن يكون هجوما على القواعد الأساسية للإنتاج الرأسمالي، ويصبح بدلا من ذلك نضالا ضد رأس المال التجاري وعلى الأخص الصغير والمتوسط منه. أنه يصبح هجوما على أغصان الشجرة الرأسمالية.

إن النقابات طبقا لبرنشتاين هي أيضا وسيلة هجوم على الرأسمالية في حقل الإنتاج. ولقد أوضحنا فيما سبق أن النقابات لا يمكن أن تمنح العمال تأثيرا حاسما على الإنتاج. فهي لا تستطيع أن تحدد أبعاد الإنتاج ولا تقدمه التقني.

يكفي أن نقول في الجانب الاقتصادي المحض من « نضال وتيرة الأجور ضد وتيرة الربح »، كما يسمي برنشتاين النشاط النقابي، ما يلي: إن هذا النشاط لا يحدث في السماء، بل يحدث ضمن الإطار المحدد جيدا لقانون الأجور، ولا يمكن تحطيم قانون الأجور بنشاط النقابات بل هو يطبق بهذا النشاط.

إن النقابات هي التي تقود، طبقا لبرنشتاين ، الهجوم الحقيقي على وتيرة الربح الصناعي – في الحركة العامة من أجل انعتاق الطبقة العاملة. وعليها، في رأي برنشتاين، تترتب مهمة تحويل وتيرة الربح الصناعي إلى « وتائر أجور ». ولكن الحقيقة هي أن النقابات اخر من يستطيع شن حملة اقتصادية على الربح، فالنقابات ليست الا الدفاع المنظم للقوة العاملة ضد هجمات الربح، وهي تعبر عن المقاومة التي تبديها الطبقة العاملة في وجه اضطهاد الاقتصاد الرأسمالي.

تعمل النقابات، من جهة، على التأثير على الوضع في سوق قوة العمل. ولكن هذا التأثير يقهر باستمرار بدفع الشرائح الوسطى من مجتمعاتنا إلى صفوف البروليتاريا، وهي عملية تجلب باستمرار بضائع جديدة إلى سوق العمل. الوظيفة الثانية للنقابات هي تحسين حالة العمال. أي أنها تحاول زيادة نصيب الطبقة العاملة من الثروة الاجتماعية. بيد أن هذا النصيب يجري تخفيضه، بحتمية عملية طبيعية، بنمو انتاجية العمل. وليس المرء بحاجة إلى أن يكون ماركسيا ليلاحظ ذلك، إذ تكفي قراءة كتاب رودبيتس « تفسيرا للمسألة الاجتماعية ».

بكلمات أخرى، تحول الظروف الموضوعية للمجتمع الرأسمالي الوظيفتين الاقتصاديتين لاتحادات العمال إلى نوع من العمل السيزيفي(2)، الذي لا غنى عنه برغم ذلك، لأن العامل نتيجة نشاط اتحادات العمل ينجح في الحصول لنفسه على وتيرة الأجور التي يستحقها طبقا لوضع سوق قوة-العمل. ومن هنا فإن قانون الأجور الرأسمالي يطبق نتيجة لنشاط اتحادات العمال، ونتيجة له يشل ميل التطور الاقتصادي إلى الهبوط، أو إذا أردنا الدقة بلطف هذا الميل.

بيد أن تحويل اتحادات العمال إلى أداة للتقليص المضطرد للربح لمصلحة الأجور بفترض مسبقا الشرطين الاجتماعيين التاليين: أولا توقف سقوط الشرائح الوسطى من مجتمعنا إلى صفوف البروليتاريا، وثانيا وقف نمو انتاجية العمل. وفي الحالتين تكون العودة إلى الظروف ما قبل الرأسمالية.

ليست التعاونيات واتحادات العمال بقادرة اطلاقا على تحويل نمط الانتاج الرأسمالي. وهذا ما يتفهمه برنشتاين وإن بشكل مشوش. ذلك أنه يشير إلى التعاونيات واتحادات العمال على أنها وسيلة لتخفيض ربح الرأسماليين وإثراء العمال. وهو بذلك يتخلى عن النضال ضد نمط الإنتاج الرأسمالي ويحاول أن يوجه الحركة الاشتراكية إلى النضال ضد « التوزيع الرأسمالي »(3)، فهو يشير إلى الاشتراكية المرة تلو المرة على أنها جهد إلى نمط توزيع « عادل وأعدل وأكثر عدالة من ذلك ».

لا يمكن إنكار أن السبب المباشر الذي يدفع الجماهير الشعبية إلى الحركة الاشتراكية هو بالضبط نمط التوزيع « المجحف » الذي يميز الرأسمالية. وعندما تناضل الاشتراكية الديموقراطية لتشريك الاقتصاد كله، فهي إنما تطمح أيضا إلى توزيع « عادل » للثروة الاجتماعية. لكن الاشتراكية الديموقراطية، على هدي ملاحظة ماركس ان نمط التوزيع في حقبة معينة نتيجة طبيعية لنمط الإنتاج في تلك الحقبة، لا تناضل ضد التوزيع ضمن إطار الانتاج الرأسمالي، بل تناضل بدلا من ذلك للقضاء على الانتاج الرأسمالي ذاته. وباختصار، تريد الاشتراكية الديموقراطية أن تقيم نمط توزيع اشتراكي بالقضاء على نمط الانتاج الرأسمالي. لكن طريقة برنشتاين على العكس من ذلك ترمي إلى مقارعة نمط التوزيع الرأسمالي أملا منها بهذه الطريقة في إقامة نمط انتاج اشتراكي تدريجيا.

ما هو إذا والحالة هذه أساس برنامج برنشتاين لإصلاح المجتمع ؟ هل يجد هذا البرنامج دعمه في اتجاهات محددة للإنتاج الرأسمالي ؟ كلا، فهو في المقام الأول ينكر هذا الاتجاه. والتحويل الاشتراكي بالنسبة له هو نتيجة التوزيع لا سببها. إنه لا يستطيع أن يعطي برنامجه أساسا ماديا، ذلك أنه قد تخلى عن أهداف ووسائل الحركة من أجل الاشتراكية وبالتالي عن شروطها الاقتصادية. ونتيجة ذلك، فهو يجد نفسه مجبرا على الوقوف على أساس مثالي.

إنه يشكو « لماذا نقدم الاشتراكية على أنها نتيجة الحتمية الاقتصادية ؟ » « لماذا نحط من قدر فهم الإنسان، وشعوره بالعدالة وإرادته ؟ ». إن التوزيع الفائق العدالة الذي يقول به برنشتاين يجب أن يتحقق إذن بفضل إرادة الإنسان الحرة، إرادة الإنسان التي لا تعمل وفق الضرورة الاقتصادية بحكم أن هذه الإرادة ذاتها ليست غير أداة، بل بسبب من فهم الإنسان للعدالة، بسبب مثال الإنسان عن العدالة.

هكذا نعود بحبور إلى مبدأ العدالة، ذلك الحمار العجوز الذي امتطاه مصلحو الأرض أجيالا عددا، لافتقارهم إلى وسائط نقل تاريخي أفضل. نعود إلى « روسينانت »(4) المأسوف على ذكرها التي امتطى صهوتها كل دون كيشوتات التاريخ وخبوا بها نحو الإصلاح العظيم للارض، ليعودوا دوما وقد اسودت منهم الوجوه.

اشتراكية علاقة الغني بالفقير أساسها ومبدأ التعاون محتواها و« التوزيع الأكثر عدلا » هدفها وفكرة العدالة شرعيتها التاريخية الوحيدة ! ألم يدافع ويتلنغ عن هذا النوع من الاشتراكية قبل خمسين عاما بقدر أكبر من القوة والذكاء والحماسة ! بيد أن عبقريته التي تشبه عبقرية الخياطين لم تكن تعرف الاشتراكية العلمية. فإذا كان هذا المفهوم الذي مزقه ماركس وإنجلز نتفا قبل نصف قرن يرقَّع اليوم ويقدم للبروليتاريا وكأنه الكلمة الأخيرة للعلم الاجتماعي، فان ذلك أيضا فن من فنون الخياطة، ولكن لا عبقرية فيه.

النقابات والتعاونيات هي نقاط الدعم الاقتصادية للنظرية التحريفية، ونمو الديمقراطية هو شرطها السياسي الأساسي. والمظاهر الراهنة للرجعية السياسية « إزاحة » فقط بالنسبة لبرنشتاين، فهو يعتبرها طارئة ومؤقتة، ويقترح أن لا تأخذ بعين الاعتبار عند وضع التوجهات العامة للحركة العمالية.

الديمقراطية، بالنسبة لبرنشتاين، مرحلة حتمية من تطور المجتمع، وهو يرى، كما يرى المنظرون البورجوازيون للبيرالية، ان الديمقراطية هي قانون التطور التاريخي الاساسي العظيم الذي تدفع إلى تحقيقه كل قوى الحياة السياسية. غير أن موضوعة برنشتاين خاطئة تماما، فهي تبدو في شكلها المطلق هذا ابتذالا بورجوازيا صغيرا لنتائج مرحلة قصيرة جدا من التطور البورجوازي، هي مرحلة السنوات العشرين أو الثلاثين الأخيرة. فنحن نصل إلى نتائج مختلفة تماما عندما نتفحص التطور التاريخي للديمقراطية تفحصا أكثر تمعنا بقليل، ونأخذ بعين الاعتبار في الوقت ذاته التاريخ السياسي العام للرأسمالية.

لقد وجدت الديمقراطية في أكثر التشكيلات الاجتماعية اختلافا: في الجماعات الشيوعية البدائية وفي دول العبودية في العصور القديمة السابقة للعصور الوسطى وفي عاميات (كومونات) العصور الوسطى. كذلك يمكن العثور على الحكم المطلق وعلى الملكية الدستورية في أكثر الأنظمة الاقتصادية تنوعا. وقد لجأت الرأسمالية عندما بدأت في أول إنتاج للسلع إلى دستور ديمقراطي في العاميات-البلدية في القرون الوسطى. وفيما بعد تطورت الرأسمالية إلى المانيفاكتورة فوجدت الشكل السياسي المناسب لها في الملكية المطلقة. وفي النهاية أصبحت الرأسمالية اقتصادا صناعيا متطورا ودفعت إلى حيز الوجود في فرنسا الجمهورية الديموقراطية عام 1793 ثم ملكية نابليون الأول المطلقة ثم ملكية النبلاء في فترة العودة إلى الملكية (1815-1830) ثم ملكية لويس فيليب البرجوازية الدستورية ثم ملكية نابليون الثالث و أخيرا و للمرة الثالثة الجمهورية. أمّا في ألمانيا فلم يكن الدستور الديموقراطي الوحيد – الاقتراع العام – نصرا أحرزته البرجوازية الليبرالية، بل كان الاقتراع العام أداة لصهر الدويلات الصغيرة. وهو بهذا المعنى فقط ذو أهمية لتطور البرجوازية الألمانية التي كانت ستكتفي، لولا ذلك، بالملكية الدستورية شبه-الاقطاعية. وفي روسيا ازدهرت الرأسمالية ردحا طويلا من الزمن في ظل نظام من الحكم المطلق الشرقي، دون أن تبدي البرجوازية أدنى رغبة في ادخال الديموقراطية. وفي النمسا، لم يكن الاقتراع العام غير حبل النجاة مدّ لملكية غريق أصابها التحلل. أما في بلجيكا، فقد كان إحراز الحركة العمالية للاقتراع العام عائدا بلا شك إلى ضعف العسكرية المحلية وبالنتيجة إلى الوضع الجغرافي السياسي الخاص للبلد، ولكننا هنا نجد « نتفة من الديموقراطية » لم تحرزها البرجوازية بل أحرزت ضدها.

إن تفحصا أكثر إمعانا يبين لنا أن النصر المتواصل للديموقراطية، الذي يبدو للتحريفيين وكذلك للبيرالية البرجوازية قانونا أساسيا عظيما من قوانين التاريخ الإنساني، وعلى الأخص التاريخ الحديث، ليس إلاّ شبحا. وأنه لا تمكن إقامة صلة عامة بين التطور الرأسمالي والديموقراطية. فالشكل السياسي لبلد محدد هو دائما نتيجة العوامل السياسية القائمة جميعها: محلية وكذلك أجنبية، وهو يسمح ضمن حدوده لكل المنوعات من الملكية المطلقة إلى الجمهورية الديموقراطية.

لذا فإن علينا أن نودع كل الآمال في إقامة الديموقراطية كقانون عام للتطور التاريخي، حتى ضمن إطار المجتمع الحديث. ذلك أنه إذا ما التفتنا إلى المرحلة الراهنة للمجتمع البرجوازي ، فإننا نلاحظ هما أيضا عوامل سياسية تؤدي إلى تخلي المجتمع البورجوازي عن المنجزات الديموقراطية التي تم كسبها حتى الآن، بدلا من أن تؤدي إلى تأكيد خطط برنشتاين.

لقد استنفدت المؤسسات الديموقراطية كل دور لها كأدوات معينة في تطور المجتمع البرجوازي (وهذا أمر على جانب عظيم من الأهمية). فقد كانت هذه المؤسسات ضرورية لصهر الدويلات الصغيرة وخلق دولة عصرية كبيرة (ألمانيا، إيطاليا)، ولكنها لم تعد أمرا لا غنى عنه في الوقت الراهن، ذلك لأن التطور الاقتصادي قد خلق في هذه الأثناء التئاما عضويا داخليا.

يمكن أن يقال الشيء ذاته فيما يتعلق بتحويل جهاز الدولة السياسي والإداري كله من الآلية الإقطاعية أو شبه الإقطاعية إلى الآلية الرأسمالية. فمع أن هذا التحويل كان ملازما تاريخيا لتطور الديموقراطية، إلاّ أنه تحقق اليوم إلى مدى أصبح فيه من الممكن القضاء على العناصر الديموقراطية النقية في المجتمع كالاقتراع العام والشكل الجمهوري للدولة دون أن تجد الإدارة أو مالية الدولة أو المنظمة العسكرية أن من الضروري العودة إلى الأشكال التي كانت سائدة قبل ثورة آذار/مارس(5).

إذا كانت الليبرالية بما هي قد أصبحت غير ذات فائدة إطلاقا للمجتمع البرجوازي، فهي من جهة أخرى أصبحت معيقا مباشرا للرأسمالية من وجهات نظر أخرى. هناك عاملان يحكمان تماما الحياة السياسية للدول المعاصرة وهما: السياسة العمالية والحركة العمالية. وليس كل منهما سوى وجها آخر من وجوه المرحلة الراهنة للتطور الرأسمالي.

ونتيجة لتطور الاقتصاد العالمي وتفاقم التنافس على السوق العالمي وانتشاره فقد أصبحت العسكرية وسياسة الأساطيل الكبيرة، كأدوات للسياسة العالمية، عاملا حاسما في الحياة الداخلية للدول الكبرى وكذلك في حياتها الخارجية. وإذا كان صحيحا أن السياسة العالمية والعسكرية تمثلان ميلا صاعدا في المرحلة الراهنة للرأسمالية، فإن الديموقراطية البرجوازية يجب أن تتحرك منطقيا في خط هابط.

ولقد دفع ثمن غال في ألمانيا لفترة التسلح الكبرى والتي بدأت عام 1893 ولدخول ألمانيا السياسية العالمية الذي دشن في كياوشو. لقد كان القربان الضحية الذي دفع ثمنا هو تحليل الليبرالية وتضاؤل حزب الوسط الذي انتقل من صف المعارضة إلى صف الحكومة. ولقد كانت الانتخابات الأخيرة للريشتاغ في العام 1907 والتي جرت تحت شعار السياسة الكولونيالية الألمانية جنازة الليبرالية الألمانية.

إذا كانت السياسة الخارجية تدفع بالبرجوازية إلى أحضان الرجعية، فإن هذا صحيح كذلك بالنسبة للسياسة المحلية – وذلك بفضل صعود الطبقة العاملة. ويشير برنشتاين إلى أنه يدرك ذلك عندما يجعل « أسطورة » الاشتراكي الديموقراطي الذي « يريد أن يبتلع كل شيء » – بكلمات أخرى الجهود الاشتراكية للطبقة العاملة – مسؤولة عن خيانة البرجوازية الليبرالية.

إنه ينصح البروليتاريا أن تتنكر لهدفها الاشتراكي، حتى يخرج الليبراليون المذعورون من جحر الرجعية. وعندما يجعل برنشتاين القضاء على الحركة العمالية الاشتراكية شرطا حيويا للحفاظ على الديموقراطية البرجوازية، فإنه يثبت بطريقة مدهشة أن هذه الديموقراطية على تناقض تام مع الميل الداخلي لتطور المجتمع الراهن. ويثبت في الوقت ذاته أن الحركة الاشتراكية ذاتها نتاج مباشر لهذا الميل.

ولكنه يثبت في الوقت ذاته أمرا آخر أيضا. فهو عندما يجعل التخلي عن الهدف الاشتراكي شرطا حيويا لانبعاث الديموقراطية البرجوازية، إنما يبين إلى أي حد من عدم الدقة يذهب الادعاء بأن الديموقراطية البرجوازية شرط لا غنى عنه للحركة الاشتراكية وانتصار الاشتراكية. إن تفكير برنشتاين يستهلك ذاته في حلقة مفرغة، فنتائجه تبتلع الافتراضات التي انطلق منها !

الحل بسيط جدا. بالنظر إلى أن الليبرالية البرجوازية قد ذعرت خوفا من الحركة العمالية النامية وهدفها النهائي، فإننا نستنتج أن الحركة الاشتراكية العمالية هي اليوم السند الوحيد للديموقراطية مع أن الديموقراطية ليست هدف الحركة الاشتراكية. وعلينا أن نستنتج أن الديموقراطية لا يمكن أن يكون لها سند آخر. يجب أن نستنتج أن الحركة الاشتراكية ليست مرهونة بالديموقراطية البرجوازية، بل على العكس من ذلك أن مصير الديموقراطية مرهونة بالحركة الاشتراكية. يجب أن نستنتج أن الديموقراطية لن يكون لها فرص حياة أكبر إذا ما تنكرت الطبقة العاملة للنضال من أجل إنعتاقها، ولكن على العكس من ذلك إن الديموقراطية تحوز فرص حياة أكبر عندما تصير الحركة الاشتراكية قوية قوة تكفي للنضال ضد النتائج الرجعية للسياسة العالمية وخيانة البرجوازية للديموقراطية. من يريد أن يقوي الديموقراطية، يتوجب عليه أن يريد تقوية الحركة الاشتراكية لا إضعافها. ومن يتخلى عن النضال من أجل الاشتراكية يتخلى عن الحركة العمالية والديموقراطية معا.


(1) إن المصانع التعاونية للعمال انفسهم تمثل البدايات الاولى للجديد داخل الشكل القديم . على الرغم من أنها تفرخ ويجب أن تفرخ في كل مكان من تنظيمها الفعلي كل معايب النظام السائد ـ رأس المال المجلد الثالث ، ص 521.
 

(2) سيزيف (باليونانية سيزيفس) هو الملك الميثولوجي لكورينثيا الذي حكمت عليه الآلهة في العالم السفلي ان يدحرج صخرة ضخمة من قاع الوادي إلى قمة الجبل ، حتى إذا فعل تدحرجت الصخرة إلى قاع الوادي مرة ثانية ليتعين عليه أن يبدأ العمل للتو من جديد و أن يستمر في ذلك إلى الأبد .وقد أصبح سيزيف وعمله رمزا للعنة و العبث.
 

(3) اصطلاح يستخدمه برنشتاين للدلالة على تقسيم الثروة الاجتماعية الكلية على الاقسام المختلفة من المجتمع الراسمالي ـ ر.ل .
 

(4) فرس دون كيشوت.
 

(5) الثورة الالمانية عام 1848 التي ضربت بعنف وفعالية على المؤسسات الاقطاعية في ألمانيا .