9- الاستيلاء على السلطة السياسية

رأينا أن مصير الديموقراطية مرهون بمصير الحركة العمالية. ولكن هل يجعل تطور الديموقراطية ثورة بروليتارية، أي استيلاء العمال على السلطة السياسية، أمرا لا حاجة له أو أمرا مستحيلا ؟

يسوي برنشتاين المسألة بأن يزن على وجه الدقة الجوانب السيئة والحسنة للإصلاح الاجتماعي والثورة الاجتماعية. وهو يفعل ذلك بالطريقة ذاتها التي يوزن فيها البهار أو القرفة في مخازن جمعية استهلاكية. إن برنشتاين يرى أن المجرى الشرعي للتطور التاريخي من فعل « الذكاء » بينما المجرى الثوري للتطور التاريخي من فعل « الشعور ». وهو يدرك أن النشاط الاصلاحي وسيلة بطيئة للتقدم التاريخي وأن الثورة وسيلة سريعة له. وهو يرى في التشريع قوة منهجية وفي الثورة قوة عفوية تلقائية.

لقد عرفنا منذ أمد طويل أن المصلح البورجوازي الصغير يرى جوانب « حسنة » و« سيئة » في كل شيء. إنه يقضم قليلا من كل أنواع الأعشاب، ولكن المجرى الحقيقي للأحداث لا يتأثر بهذا التركيب إلاّ قليلا. ذلك أن الكومة الصغيرة التي تجمع بحرص من « الجوانب الحسنة » من كل شيء يمكن أن تنهار عند أول نقفة تاريخية. فالإصلاح التشريعي والطريقة الثورية تعملان طبقا لتأثيرات أعمق بكثير من اعتبارات فوائد ومعايب هذه الطريقة أو تلك.

لقد عمل الإصلاح التشريعي في تاريخ المجتمع البرجوازي على تقوية الطبقة الصاعدة باضطراد حتى تصبح هذه الطبقة قوية بما يكفيها للاستيلاء على السلطة السياسية، والقضاء على النظام الحقوقي القائم وبناء نظام جديد. إن برنشتاين حينما يصب جام غضبه ضد الاستيلاء على السلطة السياسية على أنها نظرية عنف بلانكي، إنما يقع في كارثة اعتبار ما كان دوما محور التاريخ وقوته الدافعة خطا بلانكيا. لقد كان الاستيلاء على السلطة السياسية هدف كل الطبقات الصاعدة منذ أن ظهرت المجتمعات الطبقية التي يكون الصراع الطبقي المحتوى الجوهري لتاريخها. هنا نقطة البدء ونهاية كل فترة تاريخية. ويمكننا أن نرى ذلك في نضال الفلاحين اللاتين الطويل ضد المتمولين والنبلاء في روما القديمة، وفي نضال نبلاء القرون الوسطى ضد الأساقفة، وفي نضال الحرفيين ضد النبلاء في مدن القرون الوسطى. ونرى ذلك أيضا في العصور الحديثة في نضال البرجوازية ضد الإقطاع.

هكذا نجد أن الاصلاح التشريعي والثورة ليسا وسيلتين مختلفتين للتطور التاريخي يمكن أن ننتقي من على مائدة التاريخ أيا منهما كما ينتقي المرء مقانق ساخنة أو باردة. إن الإصلاح التشريعي والثورة عاملان مختلفان في تطور المجتمع الطبقي، وهما يحددان ويكملان بعضهما البعض، ولكنهما في الوقت ذاته منفصلان تبادليا مثل القطب الشمالي والقطب الجنوبي، ومثل البرجوازية والبروليتاريا.

كل دستور شرعي نتاج لثورة. ففي تاريخ الطبقات تكون الثورة فعل الخلق السياسي بينما يكون التشريع التعبير السياسي عن حياة مجتمع ظهر لتوه إلى حيز الوجود. والعمل من أجل الاصلاح لا يحتوي على القوة الخاصة به مستقلة عن الثورة. ففي كل فترة تاريخية يجري العمل من أجل الاصلاحات في الاتجاه الذي تعطيه له القوة الدافعة للثورة السابقة وهو يستمر ما دامت القوة الدافعة للثورة الأخيرة مستمرة. أو إذا أردنا أن نتكلم كلاما أكثر عيانية، فإننا نقول أن العمل من أجل الإصلاحات يجري في كل فترة تاريخية داخل إطار الشكل الاجتماعي الذي خلقته الثورة الأخيرة. وهنا لب المسألة.

إن تصوير العمل من أجل الإصلاحات كثورة تمتد على فترة زمنية طويلة والثورة كسلسلة مكثفة من الإصلاحات أمر مناقض للتاريخ. فالتحويل الاجتماعي والإصلاح التشريعي لا يختلفان في امتدادهما الزمني بل في محتواهما. فسرّ التغيير التاريخي عبر استخدام السلطة السياسية يكمن بالتحديد في تحويل التعديلات الكمية البسيطة إلى نوع جديد، وبكلمات أخرى يكمن في انتقال مرحلة تاريخية من شكل معين من أشكال المجتمع إلى شكل آخر.

هذا هو السبب في أن أولئك الذين يعلنون أنهم يحبذون وسيلة الإصلاح التشريعي بدلا من الإستيلاء على السلطة السياسية والثورة الاجتماعية وفي مقابلهما لا يختارون في الحقيقة طريقا أهدأ وأبطأ إلى الهدف ذاته بل يختارون هدفا مختلفا. فهم بدلا من أن يتخذوا موقف بناء مجتمع جديد، يتخذون موقف إجراء تعديلات سطحية على المجتمع القديم. وإذا ما تتبعنا المفاهيم السياسية للتحريفية فإننا نصل إلى النتيجة ذاتهاالتي نصلها عندما نتتبع النظريات الاقتصادية للتحريفية. إن برنامجنا إذ ذاك لا يصبح تحقيق الاشتراكية بل اصلاح الرأسمالية، ليس القضاء على نظام العمل المأجور بل تخفيف الاستغلال، أي القضاء على تعسفات الرأسمالية بدلا من القضاء على الرأسمالية ذاتها.

هل ينطبق الدوران المتبادلان للاصلاح التشريعي والثورة على الصراع الطبقي في الماضي فقط ؟ أليس من الممكن الآن، نتيجة لتطور النظام الحقوقي البرجوازي، أن يكون انتقال المجتمع من مرحلة تاريخية إلى أخرى أمرا يتم بالاصلاح التشريعي، وأن استيلاء البروليتاريا على سلطة الدولة قد أصبح فعلا « حملة فارغة » على حد تعبير برنشتاين ؟

العكس تماما هو الصحيح. فما الذي يميز المجتمع البورجوازي عن غيره من المجتمعات الطبقية عن المجتمع القديم وعن النظام الاجتماعي في العصور الوسطى ؟ إن الذي يميز المجتمع البرجوازي هو أن السيطرة الطبقية فيه لا تقوم على « حقوق مكتسبة » ولكن على علاقات اقتصادية حقيقية. إن العمل المأجور ليس علاقة حقوقية بل علاقة اقتصادية صرف. فليس في نظامنا الحقوقي معادلة واحدة تشرع للسيطرة الطبقية اليوم. والآثار القليلة الباقية لمعادلات كهذه (كتلك الخاصة بالخدم) ليست إلاّ بقايا من المجتمع الاقطاعي.

كيف يمكن القضاء على عبودية الاجرب « الطريقة التشريعية » إذا كانت هذه العبودية غير مدرجة في القوانين ؟ هنا يجد برنشتاين الذي يريد أن يتخلص من الرأسمالية بواسطة الاصلاح التشريعي أنه يشبه الشرطي الروسي الذي يخبرنا في رواية أوسبينسكي « لقد أمسكت بالوغد من ياقته. لكن يا لله ماذا أرى ؟ ليس للّعين ياقة ». وهذه هي بالضبط الصعوبة التي يجابهها برنشتاين.

« إن المجتمعات السابقة جميعا قامت على صراع بين طبقة مضطهدة وطبقة مضطهَدة » (البيان الشيوعي). ولكن هذا الصراع يعبر عنه في كل المراحل السابقة من التاريخ الحديث في علاقات حقوقية محددة مميزة، ولهذا السبب على وجه الخصوص كان يمكن لهذه العلاقات أن تفسح إلى حد ما مجالا لعلاقات جديدة ضمن إطار العلاقات القديمة. « كان القن في عهد القنانة يتوصل لأن يصبح عضوا في إحدى الكومونات (البلدية) » (البيان الشيوعي). كيف صار ذلك ممكنا ؟ بالقضاء المضطرد على كل امتيازات الإقطاع في نطاق المدينة: السخرة وحق اللباس الخاص وضريبة الإرث وحق السيد الإقطاعي في أفضل القطيع والجباية الشخصية والزواج تحت الإكراه وحق الخلافة الخ التي كانت تشكل بمجموعها القنانة.

كذلك نجحت البرجوازية الصغيرة في العصور الوسطى بالطريقة ذاتها في رفع نفسها إلى مصاف البرجوازية وهي لا تزال تحت ربقة الحكم المطلق الاقطاعي (البيان الشيوعي). بأية وسيلة ؟ بالقضاء الجزئي الرسمي أو التفكيك التام للروابط التعاونية، والتحويل المطرد للادارة المالية والجيش.

نتيجة لذلك نستطيع عندما نبحث المسألة من وجهة النظر التجريدية وليس من وجهة النظر التاريخية (أي بالنظر إلى العلاقات الطبقية السابقة) أن نتخيل انتقالا شرعيا طبقا للطريقة الاصلاحية من المجتمع الاقطاعي إلى المجتمع البرجوازي. ولكن ما الذي نراه في الواقع ؟ إننا نرى أن الاصلاحية القانونية لم تكن لتجنب استيلاء البرجوازية على السلطة السياسية فحسب، بل على العكس من ذلك مهدت لهذا الاستيلاء وأدت إليه. فقد كان التحويل الاجتماعي السياسي الرسمي أمرا لا غنى عنه لالغاء العبودية وكذلك للقضاء الكامل على الإقطاعية.

لكن الوضع مختلف تماما الآن. فالقانون الآن يجبر البروليتاريا أن تخضع لنير الرأسمالية. والفقر والافتقار إلى وسائل الانتاج يجبران البروليتاريا على الخضوع لنير الرأسمالية. وليس هناك في الدنيا كلها قانون يستطيع أن يعطي البروليتاريا وسائل الانتاج وهي لا تزال ضمن إطار المجتمع البرجوازي، ذلك لأن التطور الاقتصادي وليس القوانين هو الذي انتزع وسائل الإنتاج من ملكية المنتجين.

كذلك ليس الاستغلال داخل نظام العمل المأجور قائما على القوانين. فليست القوانين هي التي تحدد مستوى الأجور، ولكن العوامل الاقتصادية هي التي تفعل. إن ظاهرة الاستغلال الرأسمالي لا تقوم على تنظيم قانوني، بل تقوم على الحقيقة الاقتصادية البحتة، حقيقة أن قوة العمل تلعب في هذا الاستغلال دور السلطة التي تملك ضمن خصائص أخرى خاصية إنتاج قيمة تفوق القيمة التي تستهلكها على شكل وسيلة عيش العامل. باختصار، إنتاج قيمة تفوق القيمة التي تستهلكها على شكل وسيلة عيش العامل. باختصار، لا يمكن تحويل العلاقات الأساسية، علاقات سيطرة الطبقة الرأسمالية، بواسطة الاصلاحات التشريعية على أساس المجتمع الرأسمالي لأن هذه العلاقات لم تقم بقوانين برجوازية ولا هي اتخذت شكل قوانين كهذه. ومن الواضح أن برنشتاين لا يعي ذلك، لأنه يتحدث عن « اصلاحات اشتراكية ». ولكنه من جهة أخرى يبدي ادراكا ضمنيا لذلك عندما يكتب قائلا « يعمل الدافع الاقتصادي اليوم بحرية، بينما كان في السابق يختفي خلف قناع كل أنواع علاقات السيطرة وكل أنواع الأيديولوجيا ».

إن إحدى خصائص النظام الرأسمالي هي أن كل عناصر المجتمع الجديد داخل هذا النظام تتخذ في بداية تطورها شكلا لا يقترب من الاشتراكية بل على العكس من ذلك شكلا يتحرك مبتعدا أكثر فأكثر عن الاشتراكية. فالانتاج يأخذ طابعا اجتماعيا باضطراد، ولكن ما هو الشكل الذي يجري به التعبير عن الطابع الاجتماعي للانتاج الرأسمالي ؟ أن يجري على شكل مشاريع كبيرة وعلى شكل شركات مساهمة وعلى شكل الكارتل وفي داخل هذه الأشكال تندفع التعاديات الرأسمالية والاستغلال الراسمالي واضطهاد قوة العمل إلى الحد الأقصى.

وفي الجيش يؤدي التطور الرأسمالي إلى اتساع الخدمة العسكرية الاجبارية وإلى تقليص مدة الخدمة. وبالتالي إلى الاقتراب المادي من المليشيا الشعبية. ولكن كل هذا يحدث على شكل عسكرية حديثة تتجلى فيها بأوضح صورة سيطرة الدولة العسكرية على الشعب والطابع الطبقي لهذه الدولة.

وفي حقل العلاقات السياسية، يدفع تطور الديمقراطية –إذا وجدت الديمقراطية أرضا مؤاتية- إلى اشتراك كل الشرائح الشعبية في الحياة السياسية وبالتالي إلى نوع من « دولة الشعب ». ولكن هذه المشاركة تأخذ شكل البرلمانية البورجوازية التي لا تنتفي فيها التعاديات الطبقية والسيطرة الطبقية. بل على العكس من ذلك تكشف علنا. وبالضبط لأن المجتمع الرأسمالي يتحرك عبر هذه التناقضات كلها، يتوجب استخلاص لب المجتمع الاشتراكي من قشرته الرأسمالية وتقضي قضاء مبرما على النظام الرأسمالي.

يستخلص برنشتاين نتائج مغايرة بالطبع. إنه يجيبنا: إذا كان تطور الديمقراطية يؤدي إلى تفاقم التعاديات الرأسمالية وليس إلى التخفيف منها، « فإن على الاشتراكية الديمقراطية أن تحاول وبكل الطرق وقف الاصلاحات الاجتماعية والمؤسسات الديمقراطية، وذلك كي لا تجعل مهمتها أكثر صعوبة » هذا بالفعل ما يجب أن تفعله الاشتراكية الديمقراطية، إذا وجدت أن من المناسب أن تضع لنفسها، على طريقة البرجوازية الصغيرة، مهمة عقيمة هي التقاط كل الجوانب الحسنة من التاريخ ورفض جوانبه السيئة. بيد أن على الاشتراكية الديموقراطية في هذه الحالة أن تحاول في الوقت ذاته وقف الرأسمالية بشكل عام، فلا شك أن الرأسمالية هي الوغد الذي يضع كل العقبات في طريق الاشتراكية. ولكن الرأسمالية تزودنا إلى جانب كل هذه العقبات بالامكانات الوحيدة لتحقيق البرنامج الاشتراكي، ويمكن قول الشيء ذاته بالنسبة للديموقراطية.

إذا كانت الديموقراطية قد أصبحت زائدة عن حاجة البرجوازية ومبعث ضيق لها، فإنها على العكس من ذلك ضرورية ولا غنى عنها للطبقة العاملة. إنها ضرورية لأنها تخلق الأشكال السياسية (الأداة المستقلة، الحقوق الانتخابية الخ) التي ستفيد البروليتاريا كنقاط ارتكاز في مهمة تحويل المجتمع البرجوازي. ولا غنى عنها لأن البروليتاريا لا يمكن أن تصبح واعية لمصالحها الطبقية ومهمتها التاريخية إلاّ عبر ممارسة الحقوق الديموقراطية والنضال من أجل الديموقراطية.

الديموقراطية باختصار لا غنى عنها لا لأنها تجعل استيلاء البروليتاريا على السلطة السياسية أمرا لا حاجة له ولكن لأنها تجعل هذا الاستيلاء ضروريا وممكنا في آن واحد. وعندما راجع إنجلز في مقدمته لكتاب « الصراعات الطبقية في فرنسا » تاكتيكات الحركة العمالية الحديثة وحث على النضال الشرعي مقابل المتاريس، فإنه لم يقصد مسألة استيلاء معين على السلطة السياسية ولكنه قصد النضال اليومي المعاصر –وهذا أمر يدل عليه كل سطر من سطور المقدمة. إنه لم يكن يقصد الوجهة التي يجب أن تتخذها البروليتاريا تجاه الدولة الرأسمالية في وقت استيلائها على السلطة، بل كان يقصد الوجهة التي يجب أن تتخذها البروليتاريا بينما هي لا تزال ضمن حدود الدولة الرأسمالية. لقد كان انجلز يقدم الارشادات للبروليتاريا مضطهدة وليس للبروليتاريا منتصرة.

من جهة أخرى فإن جملة ماركس المعروفة جيدا في المسألة الزراعية في انكلترا (وهي جملة يرتكز عليها برنشتاين كثيرا) والتي يقول فيها « ربما سننتصر بسهولة أكبر بشراء أملاك السيد الاقطاعي » لا تشير إلى موقف البروليتاريا قبل نصرها بل بعده، ذلك أنه من الواضح أن مسألة شراء أملاك الطبقة المسيطرة القديمة لا تبرز إلا حينما تكون البروليتاريا في السلطة. إن الإمكانية التي يتصورها ماركس هي امكانية ممارسة دكتاتورية البروليتاريا سلميا وليست امكانية استبدال هذه الديكتاتورية بالاصلاحات الاجتماعية البورجوازية. لم يكن أي شك ليعتري ماركس وانجلز حول ضرورة استيلاء البروليتاريا على السلطة السياسية، فهما يتركان لبرنشتاين اعتبار قن دجاج البرلمانية البورجوازية الأداة التي يتحقق بواسطتها أعظم تحويل اجتماعي للتاريخ، الا وهو الانتقال من المجتمع الرأسمالي إلى الاشتراكية.

بيد أن برنشتاين في تقديم نظريته بتحذير البروليتاريا ضد خطر استيلائها على السلطة السياسية في وقت مبكر. أي أنه ينبغي على البروليتاريا، طبقا لبرنشتاين، أن تترك المجتمع البرجوازي على حاله الراهن وتمنى هي ذاتها بهزيمة مريعة. أما إذا وصلت البروليتاريا إلى السلطة فإن النتيجة « العملية » التي يمكن أن تستخلصها من نظرية برنشتاين فهي الاخلاد إلى النوم. إن نظرية برنشتاين تحكم على البروليتاريا بالخمول في أكثر لحظات الصراع حسما، تحكم عليها بالخيانة السلبية لقضيتها.

سيكون برنامجنا قصاصة ورق تاعسة إن لم يفدنا في كل احتمال وفي كل لحظات الصراع وان لم يفدنا بتطبيقه لا بعدم تطبيقه. وإذا كان برنامجنا يحتوي معادلة التطور التاريخي للمجتمع من الرأسمالية إلى الاشتراكية فإن عليه أن يصيغ، في كل أفكاره الأساسية المميزة، كل المراحل الانتقالية لهذا التطور، وينبغي عليه أن يكون قادرا على توجيه البروليتاريا بما يتوجب عليها فعله في كل لحظة على الطريق نحو الاشتراكية. فلا تكون ثمة لحظة تضطر فيها البروليتاريا إلى التخلي عن برنامجها أو يتخلى فيها هذا البرنامج عنها.
عمليا، يتجلى ذلك في أنه عندما تتبوأ البروليتاريا السلطة بقوة الاحداث، فلن يكون ثمة وقت تعجز فيه البروليتاريا عن اتخاذ اجراءات معينة لتحقيق برنامجها أي اتخاذ اجراءات انتقالية باتجاه الاشتراكية، أو لا تكون فيه مجبرة اخلاقيا على ذلك. وخلف الاعتقاد بأن البرنامج الاشتراكي يمكن أن ينهار تماما في أي نقطة من نقاط ديكتاتورية البروليتاريا يكمن الاعتقاد الآخر بأن البرنامج الاشتراكي لا يمكن تحقيقه عموما وفي كل الأوقات.

وماذا إذا كانت الاجراءات الانتقالية سابقة لأوانها ؟ إن هذا التساؤل يخفي عددا من الأفكار الخاطئة فيما يتعلق بالمجرى الحقيقي للتحويل الاجتماعي.

أولا- لا ينتج استيلاء البروليتاريا، أي الطبقة الشعبية الواسعة، على السلطة السياسية بصورة مصطنعة. إنه يفترض مسبقا درجة محددة من نضوج العلاقات الاقتصادية والسياسية (باستثناء حالات كحالة عامية – كومونة باريس – حين لم تحصل البروليتاريا على السلطة بعد نضال واع في سبيل هدفها، بل سقطت السلطة في يد البروليتاريا وكأنها شيء جيد تخلى عنه الجميع) . هنا يكمن الفارق الجوهري بين الانقلابات حسب مفهوم بلانكي، تلك التي تحققها « أقلية فعالة » والتي تنفجر دوما كطلقات مسدس في غير أوانها، وبين استيلاء جماهير شعبية غفيرة واعية على السلطة السياسية، ذلك الاستيلاء الذي لايمكن الا أن يكون نتاج تحلل المجتمع البورجوازي والذي يحمل بالتالي في ذاته الشرعية الاقتصادية والسياسية لظهوره في الوقت المناسب.

لذا فان استيلاء البروليتاريا على السلطة السياسية اذا نظراليه من زاوية التأثير السياسي لا يمكن أن يتحقق « قبل أوانه »، أما من زاوية الاحتفاض بالسلطة فان الثورة السابقة لأوانها التي تقض مضجع برنشتاين تهددنا كسيف ديموقليطس. وفي مقابل ذلك لا تنفع أدعية وصلوات ولا مخاوف وقلق وذلك لسببين بسيطين جدا.

أولا– من المستحيل أن يتخيل المرء تحولا عظيما عظمة الانتقال من المجتمع الرأسمالي إلى المجتمع الاشتيراكي يمكن أن يتحقق بضربة واحدة فرحة. وتخيل ذلك ممكنا يعني ثانية بعث الحياة في مفاهيم من الواضح أنها بلانكية. فالتحويل الاشتراكي يفترض نضالا طويلا عنيدا يمكن أن ترد البروليتاريا خلاله عن أعقابها غير مرة، لذا، فان على البروليتاريا من وجهة نظر النتيجة النهائية للصراع، أن تأتي إلى السلطة أول مرة « قبل الأوان ».

ثانيا– سيكون مستحيلا تجنب استيلاء البروليتاريا على سلطة الدولة « قبل الأوان » وذلك بالضبط لأن هجمات البروليتاريا « السابقة لأوانها » هذه تشكل عاملا هاما بالفعل في خلق الشروط السياسية للنصر النهائي. ففي خلال الأزمة السياسية التي تصاحب استيلاء البروليتاريا على السلطة وفي خلال النضالات الطويلة العنيدة، ستحصل البروليتاريا على درجة من النضج السياسي تسمح لها أن تحرز في الوقت المناسب نصر الثورة المبين. هكذا فإن هذه الهجمات « السابقة لأوانها » التي تقوم بها البروليتاريا على سلطة الدولة هي بحد ذاتها عوامل تاريخية هامة تساعد على إثارة وتحديد نقطة النصر الحاسم. من وجهة النظر هذه، تبدو فكرة الاستيلاء « المبكر » على السلطة السياسية سخافة سياسية ناجمة عن مفهوم ميكانيكي لتطور المجتمع يضع لانتصار الصراع الطبقي نقطة مثبتة خارج الصراع الطبقي ومستقلة عنه.

ولما كانت البروليتاريا لا تستطيع الاستيلاء على السلطة السياسية سوى « قبل الأوان »، ولما كانت البروليتاريا مجبرة على الاستيلاء على السلطة مرة أو عدة مرات « قبل الأوان » قبل أن تستطيع الاحتفاظ بالسلطة إلى الأبد، فإن الاعتراض على الاستيلاء « المبكر » على السلطة السياسية ليس في حقيقة الأمر غير رفض عام لطموح البروليتاريا إلى امتلاك سلطة الدولة. وكما أن كل الطرق تؤدي إلى الطاحون، فإننا منطقيا نصل في النتيجة إلى أن الاقتراح التحريفي بتعديل الهدف النهائي للحركة الاشتراكية هو في الحقيقة نصيحة بالتخلي عن الحركة الاشتراكية ذاتها.