روزا لوكسمبورغ

مقدمة في الاقتصاد السياسي

III. التاريخ الاقتصادي (2)

3.3

لم يتم تصنيف القسم 3.2 في إصدار الكتاب الإلكتروني الذي يستند إليه هذا الملف ، إما بسبب خطأ من الناشر أو لأن مخطوطة لوكسمبورغ لا تحتوي على القسم]

مع المشاعية القروية الروسية انتهى المصير المضطرم للشيوعية البدائية الزراعية وانغلقت الدائرة على نفسها. والمشاعية الزراعية التي كانت، في بداياتها، نتاجا طبيعيا للتطور الاجتماعي، وضمانة لأفضل تقدم اقتصادي وازدهار مادي وذهني للمجتمع، سرعان ما أضحت وسيلة للتخلف السياسي والاقتصادي. وما مشهد الفلاح الروسي الذي يجلد بالسوط على أيدي جماعته الخاصة الذين يخدمون الحكم الروسي المطلق، سوى أقسى نقد تاريخي للحدود الضيقة للشيوعية البدائية، وسوى التعبير الأكثر اندهاشا عن واقع أن النمط الاجتماعي هو بدوره خاضع للقاعدة الديالكتيكية: فالعقل يصبح هباء، والخير يضحي آفة.

إن هناك واقعين يصدماننا حين ننظر بانتباه إلى مصائر المشاعية الزراعية في مختلف البلدان والقارات. فهذا النمط الأقصى والأكثر ارتفاعا في النظام الاقتصادي الشيوعي البدائي، بدلا من أن يظهر كنموذج جامد صلب، نراه يظهر لنا الكثير من التنوع والمرونة والقدرة على التكيف مع بيئته التاريخية. ففي كل بيئة وفي كل الظروف، مر هذا النمط بسيرورة تحول كانت تجري ببطء شديد، بحيث أن تحولها هذا لم يكن ممكنا أن ننظر إليه من الخارج، وكانت السيرورة تبدل، داخل المجتمع، البنى العتيقة ببنى جديدة، وهي، تحت كافة البنى الفوقية السياسية للمؤسسات الدولية الأصلية أو الأجنبية، في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، كانت على الدوام في حالة ولادة وموت، وتطور وتآكل.

وهذا النمط الاجتماعي كان ذا صلابة وصمود غريبين، وذلك بفضل مرونته وقدرته على التأقلم. ولقد وقف متحديا في وجه كافة عواصف التاريخ السياسي، بل وتحمل كل هذه العواصف إذ رزحت فوقه، وتركها تمر عليه خلال قرون من القمع والغزوات والاستبداد والسيطرة الخارجية والاستغلال ولكن كان هناك احتكاك واحد، لم تحمله هذا النمط، ولم يتمكن من البقاء بعد حدوثه: إنه الاحتكاك بالحضارة الأوربية.. أي بالرأسمالية. ففي كل مكان، ودون أي استثناء، كان الاصطدام بهذه الأخيرة مميتا بالنسبة إلى المجتمع القديم، وأدى على ما لم تؤد إليه أبدا، قرون طويلة من الغزوات الشرقية المتوحشة: لقد أدى انحلال تلك البنية الاجتماعية من داخلها، وإلى تحطيم كافة العلاقات التقليدية، وإلى تحويل المجتمع إلى كومة من الأطلال المشوهة.

إن النفخة المميتة التي مارستها الرأسمالية الأوربية، ليست في الواقع سوى العامل الأخير، وليس الوحيد، الذي جعل من الحتمي –على المدى الطويل أو القصير- انهيار المجتمع البدائي. وبذور هذا الانهيار تمركزت في داخل هذا المجتمع. فإذا ما لخصنا مختلف دروب ذلك الانهيار، على الشكل الذي درسنا أعلاه مختلف أمثلته، سيتبين لنا أن ثمة تعاقبا تاريخيا معينا. فالملكية الشيوعية لأدوات الإنتاج، التي هي الأساس لاقتصاد منظم بشكل صارم، ضمنت –خلال حقب طويلة من الزمن- إنتاجية هائلة للعمل، كما قدمت أفضل ضمان مادي للمجتمع. ولهذا كان من الضروري لهذا التطور البطيء –إنما الأكيد- لإنتاجية العمل، أن يدخل في صراع مع التنظيم الشيوعي. وبعد أن، أنجز داخل هذا التنظيم، التقدم الحاسم باتجاه التحول إلى الزراعة العليا- التي تتم عن طريق استخدام المحراث-، وبعد أن اتخذت المشاعية الزراعية على أساس هذه القاعدة، أشكالا ثابتة، بات التطور الذي أصاب تقنية الإنتاج، يتطلب زراعة للأرض أكثر كثافة، غير أن هذه الزراعة لم يكن بالامكان تحقيقها، عند هذا المستوى التقني، إلا عن طريق الاستغلالية الصغيرة المكثفة، وإلا عن طريق الارتباط الأكثر وثوقا وصلابة، بين قوة العمل الفردية وبين الأرض. ومن هنا بات الاستخدام الأكثر ديمومة لنفس قطعة الأرض من قبل نفس العائلة الفلاحية، شرطا أساسيا لحدوث زراعة أكثر إنتاجية ومعتني بها. والتسميد هو –بشكل خاص- أحد الأسباب المعروفة لعملية توزيع الأرض- لأزمان أكثر طولا- والتي عرفت في ألمانيا كما في روسيا.

وبشكل خاص علينا أن نلاحظ أن الاتجاه نحو توزيع الأرض يمتد لأزمان أكثر طولا، أخذ يظهر في كل مكان في المشاعيات الزراعية. مما أدى إلى التحول من «التوزيع عن طريق القرعة» إلى تحول ملكية الأرض عن طريق الوراثة. إذن فإن التحول من الملكية الجماعية إلى الملكية الخاصة، إنما يسير جنبا إلى جنب مع مسألة ازدياد كثافة العمل.. وفي الوقت الذي ظلت فيه الغابات المراعي، لأزمان أكثر طولا، أراض جماعية مشاعية، فتحت الحقول، المزروعة بشكل أكثر كثافة، الطريق في وجه تقسيم الأراضي الجماعية، كما فتحت الطريق في وجه مبدأ الوراثة. أما الملكية الخاصة لقطع الأرض الزراعية، فإنها لم تلغ التنظيم الجماعي للاقتصاد، إذ أن هذا التنظيم ظل قائما لفترة طويلة بسبب تمازج الأراضي، وبسبب مشاعية الغابات والمراعي. وكذلك علينا أن نلاحظ بأن المساواة الاقتصادية والاجتماعية لم تلغ في المجتمع القديم. فلقد تشكلت، في البداية، جمهرة من البلدان الصغيرة، ذات شروط الحياة المتشابهة، والتي يمكنها أن تعيش وتعمل طوال قرون طويلة من الزمان، ضمن نفس التقاليد القديمة. ومع هذا فإن الطريق قد فتحت بوجه اللامساواة، عن طريق الطابع الإرثي للملكية، وعن طريق الحق المعطى للابن البكر، وعن طريق إمكانية تخلي الفلاح عن أرضه.

إن هذه السيرورة لم تفجر التنظيم التقليدي للمجتمع، إلا بشكل بطيء للغاية. ومع هذا فلقد دخلت العملية عدة عوامل تاريخية أخرى، تحركت بشكل أكثر جذرية وسرعة: إنها النفقات العامة التي كانت تزداد حجما، بحيث أنها تجاوزت الحدود الطبيعية الضيقة للمشاعية الزراعية. ونحن نعلم سلفا، الأهمية الجاسمة لمسألة الري الاصطناعي بالنسبة إلى زراعة الحقول في الشرق. لقد كان لتكثف العمل هذا، وللنمو المتعاظم لإنتاجيته، نتائج تفوق في أهميتها تلك التي أسفر عنها تسميد الأرض في الغرب. فمنذ البداية أدت أعمال الري إلى قيام الأشغال ذات المستوى العريض الضخم. وبما أن المؤسسات الصالحة لمثل هذا لم تكن ذات وجود في داخل المشاعية الزراعية، صار ينبغي خلق المؤسسات الخاصة التي تقف خارج المشاعية وفوقها. ونحن نعرف أن إدارة الأشغال العامة المتعلقة بإيصال الماء وتوزيعه، كانت في أصل هيمنة الكهنة، وكافة أنواع الهيمنة في المجتمعات الشرقية. وفي الغرب كذلك كانت ثمة أشغال عامة متنوعة كان ينبغي تسويتها، بالرغم من ضآلة أهميتها بالمقارنة مع مثيلاتها في التنظيم الراهن للدولة، ولقد ازدادت هذه الأشغال عددا وأهمية مع تطور وتقدم المجتمع البدائي، بحيث باتت تتطلب، بالنتيجة وعلى المدى الطويل، مؤسسات متخصصة. ولقد لاحظنا في كل مكان –في ألمانيا كما في البيرو، وفي الهند كما في الجزائر –أن التحول من الانتخابية إلى الوراثية في تسلم المناصب العامة في المجتمع البدائي، كان سمة عامة من سمات التطور.

غير أن هذا التحول، الذي تم ببطء ودون أن يلحظه أحد، لا يشكل قطيعة مع أسس المجتمع الشيوعي. فتحول المناصب العامة إلى الانتقال عن طريق الوراثة، نتج أولا، بشكل طبيعي، عن واقع أن التقاليد والتجربة الشخصية المتراكمة، كانت في المجتمع الشيوعي البدائي، أفضل ضمان لإنجاز العمل بأفضل شكل. وعلى المدى الطويل، أدى الانتقال الوراثي للمناصب ضمن بعض العائلات، وبشكل حتمي، إلى تشكل اريستقراطية محلية صغيرة، تحولت من خدمة الجماعة إلى السيادة. والواقع أن الأراضي التي لا يجوز تجزئتها، والتي كانت السلطات العامة هي المسؤولة عنها بشكل مباشر، شكلت الأساس الاقتصادي لتكون تلك النبالة. أما سرقة الأراضي العامة وغير المستخدمة، فكانت الأسلوب المنتظم الذي استخدمه السادة المحليون أو الأجانب الذين ارتقوا فوق مستوى الجماهير الفلاحية واستعبدوها. فإذا كان الأمر يتعلق بشعب يعيش بعيدا عن مجاري الحضارة الرئيسية، سنلاحظ بأنه من الممكن ألا يكون لدى النبالة البدائية ما يميزها –في نمط حياتها- عن طريق الجماهير إلا بصعوبة، فهي كانت مرغمة على المساهمة في عملية الإنتاج، وعلى إخفاء فارق الثروة عن طريق بعض البساطة الديموقراطية: فالأرستقراطية الياقونية، مثلا، غنية فقط بما لديها من قطيع، وبالنفوذ الذي تمارسه في المسائل العامة وحسب. أما إذا أضفنا إلى هذا بعض الاحتكاك مع الشعوب الأكثر تحضرا وشيئا من التبادل الفعال، سنجد أن احتجاجات النبالة ستضحي أكثر تميزا، وستكف عن العمل، بحيث يؤدي هذا إلى تفريق حقيقي بين الشرائع المتواجدة داخل المجتمع. وما اليونان، في الحقبة التي تلت هوميروس، سوى المثال النموذجي على هذا.

إن تقسيم العمل داخل المجتمع البدائي، قد أدى –بسرعة تقل أو تزيد- إلى النهاية الحتمية التي قضت على المساواة السياسية والاقتصادية. والواقع أن منصبا ذا طابع عام، يلعب دورا أساسيا في هذه السيرورة ويؤثر بشكل أكثر قوة من كافة المناصب ذات الطابع السلمي: إنه السلوك الساري أيام الحرب. فالحرب التي كانت، في البداية، قضية يهتم بها الجميع، أضحت إثر تطور الإنتاج، شيئا تتخصص فيه بعض الأوساط في المجتمع البدائي. وكلما تطورت سيرورة العمل وأضحت أكثر انتظاما وتخطيطا داخل المجتمع، أضحى هذا الأخير أقل قدرة على تحمل اللاإنتظام، وفقدان الطاقة، المرتبطين بالحياة العسكرية. فإذا كانت الحملات العسكرية الدورية، نتيجة مباشرة للنظام الاقتصادي السائد لدى الشعوب التي تعيش من الصيد وتربية الماشية، فإن الزراعة مرتبطة إلى حد بعيد بنوع من الجمودية لدى المجتمع، لذا نراها تتطلب وجود شرعية خاصة من المحاربين تتولى الدفاع عنها. والحياة الحربية –هي نفسها ليست سوى التعبير عن الحدود الضيقة لإنتاجية العمل- تلعب دورا هاما لدى الشعوب البدائية، وتؤدي إلى نوع جديد من تقسيم العمل. والواقع أن انفصال النبالة المحاربة، أو القادة العسكريين، بشكل إحدى أقوى الصدمات التي اضطرت المساواة الاجتماعية إلى مجابهتها في المجتمع البدائي. فحيثما نجد مجتمعات بدائية، لا يمكننا على الإطلاق أن نعثر على العلاقات البشرية المتساوية بين بشر أحرار، التي وصفها مورغان لدى الشعوب الايروكية: فالتفاوت والاستغلال هما الميزتان اللتان تطبعان المجتمعات البدائية، واللتان سنعثر عليهما بوصفهما نتاجا لحقبة طويلة من التفكك، سواء بالنسبة إلى الشرائح المهيمنة في الشرق، أو الاريستقراطية الياقوتية، أو «العشائر الكبيرة» الكلتية في اسكوتلندا، أو لدى النبالة العسكرية في بلاد اليونان والرومان والجرمان أيام الهجرات ذات الحجم الكبير، أو أيضا لدى الاستبداديين الصغار في ممالك إفريقيا.

ولننظر على سبيل المثال، إلى إمبراطورية «مواتا كاسيمبي» في وسط جنوب أفريقيا إلى الشرق من امبراطورية لوندا، حيث كان البرتغاليون قد تسللوا في بداية القرن التاسع عشر، فها هنا سوف نرى، وحتى في المناطق التي بالكاد تمكن الأوربيون من الدخول إليها، على علاقات اجتماعية لم تعد تترك أي مكان للمساواة والحرية. والواقع أن حملة الماجور مونتيرو والكابتن غاميتو، التي جرت في العام 1831، انطلاقا من الزامبيزي نحو الداخل، ركضا وراء أهداف تجارية وعليمة، تصف لنا الوضع هناك على الشكل التالي: لقد وصلت الحملة، أولا، إلى بلاد المارافي، التي كانت تمارس زراعة بدائية تعتمد على جني ما تنتجه الأشجار، وكان سكانها يقطنون أكواخا هرمية الشكل ولا يرتدون سوى قطعها صغيرة من الملابس تحيط بمؤخراتهم. في الحقبة التي اجتاز فيها مونتيرو وغاميتو بلاد المارفي، كان يقود هذا الشعب زعيم مستبد يحمل لقب «نيدي». وكان هذا الزعيم يحكم في كافة الخلافات في عاصمته موتزيندا، ولم يكن يحق لأي شخص أن يحتج على أي حكم يصدره الزعيم. ولكن على سبيل الشكلية المحضة، كان الزعيم يجمع مجلسا يضم كبار السن، غير أنه كان يتوجب دائما على هذا المجلس أن يرى رأي الزعيم. أما البلاد كلها فكانت تقسم إلى أقاليم يديرها «المامبو»، وهذه الأقاليم نفسها كانت تقسم إلى مقاطعات يتولى إدارتها زعماء يعرفون باسم «فونوس». وكافة هذه المناصب كانت وراثية. «في الثامن من آب وصلنا إلى مقر الموكوندا، زعيم التشيفا القوي. وهذا الزعيم الذي كنا قد بعثنا إليه ببعض الهدايا من الأقمشة القطنية الحمراء والجواهر والملح..الخ، وصل في اليوم التالي إلى مخيمنا راكبا حصانا. وكان موكوندا رجلا في الستين إلى السبعين من عمره، وذا سمة مرحة وذات جلال. وكان الثوب الوحيد الذي يرتديه عبارة عن قطعة من القماش ملفوفة حول وسطه. لقد بقي بيننا زهاء ساعتين، ثم حين أراد الذهاب طلب لكل منا هدية بشكل مؤثر ولا يقاوم..

..إن دفن الزعماء، تصحبه لدى التشيفا احتفالات بربرية للغاية. فنساء الميت تسجن مع جثته في كوخ واحد، حتى الوقت الذي يصبح كل شيء فيه معد للدفن. وعلى الفور يتجه الموكب الجنائزي في طريقه نحو حفرة، ما أن يصل إليها حتى تنزل فيها امرأة الميت الأثيرة مع سبع نساء أخريات حيث يتمددن بسيقانهن الممدودة.. ثم ترمى فوقهن أكداس من القماش تغطيهن، وبعد هذا تلقي الجثة وفوقها ست نساء أخريات كانت قد قطعت رقابهن سلفا. وبعد هذا كله يغطي القبر، وينهي الاحتفال الرهيب بعد أن يخوزق شابان، أحدهما يحمل طنبورا ويكون خازوقه على رأس القبر، والثاني يخوزق عند أسفله وهو يحمل قوسا وسهما. ولقد شهد الماجور مونتيرو واحدة من هذه المراسيم خلال تجواله في بلاد التشيفا».

ومن هناك تابعت الرحلة سيرها باتجاه الجبال الواقعة في وسط الإمبراطورية. ولقد وصل البرتغاليون «إلى منطقة مرتفعة ومهجورة، ومحرومة عمليا من أي مادة غذائية أو كائنات حية، ولقد شوهدت في المنطقة بعض الآثار التي خلفتها الحملات العسكرية السابقة.. ولقد أحاطت المجاعة بالحملة الحالية وهددتها بأبشع العواقب. وعلى الفور بعث الرسل، مع بعض الهدايا، إلى أقرب زعيم «مامبو» ليطلبوا منه موافاة الحملة بدليل، لكن الرسل سرعان ما عادوا بأنباء رهيبة تقول بأنهم لم يجدوا في القرية سوى المامبو وأفراد عائلته وجميعهم على وشك الفناء بسبب الجوع.. وقبل وصولنا إلى قلب المملكة، قيّض لنا أن نشاهد العديد من الأدلة على نوعية العدالة البربرية التي تمارس، فغالبا ما كنا نصادف شبابا قطعت آذانهم وأيديهم وأنوفهم، وبعض أعضائهم الأخرى، عقابا لهم على مساوئ كانوا قد ارتكبوها. وفي التاسع عشر من نوفمبر، تمكنا أخيرا من الوصول إلى العاصمة، حيث أحدث الحمار الذي يركبه الكابتن غاميتو، صخبا وضجيجا. ووصلنا إلى شارع وضعت على جانبيه حواجز هي أشبه بالجدران. وعلى الجانبين كنا نشاهد في هذه الحواجز، أبواب مفتوحة. أما في نهاية الشارع فكان ثمة كوخا مربع الشكل لم يكن يفتح إلا لناحية الغرب، وفي وسط هذا الكوخ كان ثمة شكل إنساني لا يزيد طوله عن 70 سنتمترا، ومقطوع بشكل رهيب وموضوع على أريكة من الخشب، وفي الجانب المفتوح من الكوخ كان ثمة كومة تضم نحو 300 جمجمة. وفي هذا المكان كان الشارع يتحول إلى ساحة مربعة كبيرة المساحة، تمتد عند طرفاها غابة لا تفصلها عن الساحة سوى بعض الأعمدة. وعلى جانبي الباب وضع، على سبيل الزينة، ما يزيد عن 30 جمجمة.

«بعد هذا حل دور الاستقبال الذي أعده «مواتا» وبدأ في كل جلاله محاطا بقوته الحربية التي تعد بين 5000 و6000 رجلا. وكان جالسا على كرسي مغطاة بقماش أخضر وبجلود الأسود والنمرة. أما غطاء رأسه فكان عبارة عن قبعة أرجوانية مصنوعة من ريش يبلغ طول كل منها 50 سم. وعلى جبهته كان ثمة جواهر براقة معلقة. أما حول رقبته فثمة عقد علقت فيه قواقع وقطع من المرايا المكسرة وبعض الأحجار الكريمة المزيفة. وحول ذراعيه كانت هناك قطع من القماش الأزرق المغطى بالفراء، وأساوره مليئة بالحجارة الزرقاء.. أما أسفل جسده فكان ملفوفا بشرشف أصفر وأحمر وأزرق معلق بحزام. والأفخاذ كاليدين، كانت مزينة بالحجارة الزرقاء..

«كان الملك جالسا هناك، بكل تيه وكبرياء، تحميه سبع مظلات ملونة. ويقف حوله نحو دزينة من الزنوج يحملون المنافض ويتولون إبعاد أية حبة غبار قد يحلو لها إزعاج جلالته. أما حول المكان كله فكان ثمة بلاط معقد للغاية، فأولا هناك صفان من التماثيل التي يصل ارتفاع كل منها إلى 40 سنتمترا، وتمثل زنوجا حملوا قرون حيوانات.. ووسط هذه التماثيل كلها كان ثمة قفص فيه تمثال أصغر حجما. وأمام التماثيل كان ثمة زنجيان يحرقان أوراقا ذات رائحة نفاذا. وإضافة إلى هذا كله كانت ثمة امرأتان رئيسيتان، أحداهما ترتدي ثيابا على شاكلة ما يرتديه مواتا، وتشغلان معا مكاني الشرف. أما في المؤخرة فيوجد «الحريم» بأكمله، وهو مؤلف من نحو 400 امرأة كلهن عاريات إلا من بعض الزينة الضئيلة. وعدا هؤلاء، كان ثمة 200 امرأة أخرى واقفات على استعداد للاستجابة لأي طلب. وداخل المربع الذي شكلته النساء، كان يجلس كبار أعيان المملكة، وهم المعروفون باسم «كيلولو»، وكانوا يجلسون على جلود الأسود والنمرة، وكل منهم فوقه مظلة، ويرتدي ثيابا شبيهة بثياب مواتا، وعدا عن هذا كانت ثمة بعض الفرق الموسيقية التي تعزف على آلات فريدة من نوعها، محدثة أصواتا رهيبة، وبعض الخدم وكلهم يرتدون ثياب وقرون الحيوانات.

«وهؤلاء جميعا كانوا يحيطون بالملك مواتا كاسمبي، الذي جلس وسط كل هذه الفخامة ينتظر اقتراب البرتغاليين منه. والواقع أن «مواتا» -ومعناها السيد-، هو الذي يحكم بشكل مطلق شعبه بأسره. وكمساعدين له، ثمة أولا الكيلولو أو النبلاء الذين ينقسمون بدورهم إلى طبقتين. ومن بين النبلاء الأكثر امتيازا، هناك ولي العهد وأقرباء «المواتا»، والقائد الأعلى للقوات العسكرية. وللمواتا على كل هؤلاء سلطة غير محدودة، تشمل أيضا حياة وممتلكات كافة النبلاء.

«إذا كان الطاغية ذا مزاج سيء، لم يكن ليتورع عن إصدار الأمر بقطع إذن ذاك الذي لم يفهم أمرا أصدر إليه ويطلب منه تكراره «لكي يتعلم كيف يصغي بشكل أفضل في المرة القادمة». وكل سرقة كانت ترتكب في أملاك الملك، كانت تسبب لمرتكبها قطع أذنيه ويديه، أما الذي يجرؤ على مقابلات إحدى نسائه أو التحدث إليها فيعاقب بالقتل أو بقطع كل أعضائه. وكان الملك يتمتع بين شعبه المتطير باحترام كبير إلى درجة أن أي واحد سيلمسه سيموت بسبب سحره. ولكن بما أنه لم يكن من الممكن تفادي مثل هذا اللمس على الدوام، ابتكر الملك ترياقا للحيلولة دون موت لامسه. وتبعا لهذا الترياق يكون على من يلمس الملك أن يركع في حضرته، فيعمد الملك إلى لمسه محررا إياه على هذا النحو من السحر القاتل» [91].

تلكم هي صورة مجتمع ابتعد كثيرا عن الأسس الأصيلة لأية مشاعية بدائية، كما ابتعد عن كل ديموقراطية ومساواة. وليس من المستبعد أن تكف العلاقات الشيوعية والملكية الجماعية للأرض، والتنظيم المشترك للعمل، عن الوجود والبقاء ضمن هذا الشكل الاستبدادي. والبرتغاليون الذين لاحظوا بدقة الشكل الخارجي للملابس وللقاءات هاهنا، لم يكن لديهم –مثلهم مثل كافة الأوربيين- أية مصلحة تحملهم على إصدار حكم على علاقات اقتصادية، لاسيما إذا كانت هذه العلاقات تسير بشكل يختلف عن الشكل الذي تسير عليه الملكية الخاصة الأوربية. وعلى أي حال، نجد أن التفاوت الاجتماعي والاستبداد السائدين في المجتمعات المتمدنة، يتميزان تماما عن ذنيك السائدين في المجتمعات المتمدنة، واللذين عادا وأدخلا المجتمعات البدائية. إن ارتفاع مستوى النبالة البدائية، والسلطة الاستبدادية التي يتمتع بها الزعيم البدائي، ما هما سوى نتاجين طبيعين لهذا المجتمع تماما مثل شروط وجوده الأخرى. وما هما سوى تعبير آخر عن عجز المجتمع في مواجهة البيئة المحيطة، وفي مواجهة علاقاته الاجتماعية الخاصة، وهذا العجز يتبدى من خلال الممارسات السحرية العبودية، ومن خلال المجاعات الدورية حيث يتعفن الزعماء المستبدون، تعفنا نصفيا أو كليا مثلهم مثل رعاياهم. ولهذا نجد أن هذه السيطرة التي تمارسها النبالة والزعماء، تبدو متناسقة تمام التناسق مع السمات المادية والذهنية الأخرى للحياة الاجتماعية، وهو أمر ملحوظ من خلال واقع أن السلطة السياسية للزعماء البدائيين تكون على الدوام مرتبطة وثيق الارتباط بالدين الطبيعي البدائي، بعبادة الأموات وتبجيلهم. وانطلاقا من وجهة النظر هذه. نجد أن المواتا كاسمبي –زعيم زنوج لوندا، الذي ترافقه 14 امرأة حية في قبره، والذي له مطلق الصرف بحياة وموت أتباعه تبعا لمزاجه الخاص، ولأنه هو نفسه وشعبه يعتقدان، بحزم، أنه ذو قوة سحرية، أو أن أمير «كازنغو» عند ضفاف نهر لوماني، الذي –بعد ذلك بأربعين عاما- ذبح، على سبيل التحية الموجهة إلى الإنكليزي كاميرون، راقصة وهو يرتدي ثياب النساء وجلود القردة ويضع منديلا وسخا على رأسه محاطا بابنتيه العاريتين وبكبار مساعديه وشعبه، إن هذين هما في ذواتهما ظاهرتان أقل عبثية من ظاهرة السيطرة عن طريق «الفضل الالوهي» التي يمارسها رجل لا يمكن حتى لألذ أعدائه أن يقول بأنه ساحر، على شعب يتألف من 68 مليون نسمة، سبق له أن أنتج أشخاصا مثل كنت وهلمهولتز [92] وغوته!

إن المجتمع الشيوعي البدائي، انطلاقا من تطوره الداخلي نفسه، يقود إلى اللامساواة وإلى الاستبداد. غير أنه لا يمكنه أن يختفي بسبب هذا التطور، بل على العكس بامكان هذا الأخير أن يضمن له بقاء يستمر ألوف السنين. وعلى سبيل الانتظام، تصبح مثل هذه المجتمعات، آجلا أو عاجلا، فريسة للمحتلين الأجانب. ومن هنا تحدث التحولات الاجتماعية الكبيرة. وفي هذا المجال نجد أن الهيمنة الإسلامية هامة للغاية، لأنها –وفي كثير من الأماكن- استبقت السيطرة الأوربية في آسيا وإفريقيا. ونلاحظ انه حيثما وطد شعب من البدو المسلمين (سواء أكانوا من المنغول أو من العرب) سلطته في بلد محتل، نمت تلك السيرورة التي أطلق عليها هنري مين وكافالوفسكي اسم FEODALISATION. فالمحتلون دون أن يستولوا على الأراضي بأنفسهم، كانوا يسعون وراء هدفين: إبراء الذمة من الأتاوات، والتعزيز العسكري لسيطرتهم على البلد. والواقع أن التنظيم العسكري والإداري الدقيق كان يخدم هدفين: كان البلد يقسم إلى عدة ولايات يتولى فيها موظفون مسلمون مهمة جمع الضرائب والإدارة العسكرية. وعلى هذا النحو كانت أراض غير مزروعة تستخدم لتأسيس مستوطنات عسكرية.

وهذه المؤسسات، بالإضافة إلى نشر الشريعة الإسلامية، كانت تؤدي إلى حدوث تغير أساسي في أوضاع العيش العامة في المجتمعات البدائية، أما الأوضاع الاقتصادية فلم يكن يصيبها الكثير من التبدل. فأسس وتنظيم الإنتاج كانت تظل هي نفسها وتدوم لقرون طويلة –بالرغم من الاستغلال والضغط العسكري. غير أن السيطرة الإسلامية لم تهتم –في كل مكان- نفس الاهتمام بشروط حياة السكان الأصليين. فلقد مارس العرب، على الساحل الشرقي لإفريقيا، وطوال قرون من الزمان، تجارة العبيد السود.. ولقد قادتهم هذه التجارة إلى حملات طرد عنيفة للعبيد في وسط إفريقيا، وإلى تفريغ القرى من سكانها وتدميرها بشكل كلي، وإلى تعاظم استبدادية الزعماء المحليين الذين كانوا يربحون من جراء بيع أتباعهم للعرب، أو بيع هؤلاء أبناء القبائل المستعبدة المجاورة. غير أن هذا التحول، الذي أدى إلى كل هذه النتائج التي أثرت على مصير المجتمع الإفريقي، لم يكن سوى النتيجة المباشرة للتأثيرات الأوربية: فتجارة العبيد السود لم تزدهر إلا مع الاكتشافات والغزوات التي قام بها الأوربيون في القرن السادس عشر، وإلا عندما احتاج الأمر إلى السود للعمل في المزارع والمناجم التي كان الأوربيون يستغلونها في أمريكا وآسيا.

وعلى جميع الأحوال نجد أن العامل المميت للعلاقات الاجتماعية البدائية، لك يكن سوى التسلل الذي قامت به الحضارة الأوربية. فالمحتلون الأوربيون هم الأول الذين لم يهدفوا فقط إلى استعباد السكان المحليين واستغلالهم اقتصاديا، بل أيضا إلى الاستيلاء على الأرض وعلى أدوات الإنتاج. وللقيام بهذا، حرمت الرأسمالية الأوربية النظام الاجتماعي البدائي من ركيزته الأساسية. وأنها لأسوا من كل قمع واستغلال، تلك الفوضى الأوربية الشاملة وتلك الظاهرة الأوربية الخاصة التي هي عدم أمان الوجود الاجتماعي. إن الشعوب الخاضعة، إذ فصلت عن أدوات إنتاجها، لم تعد تعتبر من مثل الرأسمالية الأوربية، سوى قوة عمل، وهي إن كانت تساوي شيئا بالنسبة إلى أهداف رأس المال، فهي لا تساويه إلا إذا حوّلت إلى عبيد، وإلا جازت إبادتها. لقد رأينا هذا المنهج يطبق في المستعمرات الأسبانية والإنكليزية والفرنسية، والمجتمع البدائي الذي تمكن من البقاء خلال كل مراحله التاريخية السابقة، استسلم أمام المسيرة الرأسمالية. وكما استسلم، نجد أن بقية ما بقي من آثاره، تكنس اليوم من على سطح الأرض، فيما تعمد الرأسمالية إلى امتصاص عنصرية الرئيسين: قوة العمل وأدوات الإنتاج. لقد زال المجتمع الشيوعي البدائي –وذلك لأنه، في التحليل الأخير، تم تجاوزه من قبل التقدم الاقتصادي- وأخلى مكانه لآفاق التطور الجديد. وهذا التطور وذاك التقدم، سوف لن يتم التعبير عنهما لفترة طويلة قادمة، إلا عن طريق المناهج الدنيئة التي يتبعها مجتمع الطبقات، وسيظل يتبعها حتى اللحظة التي يتجاوزه فيها التقدم ويزيله.

والعنف ليس هنا سوى الخادم الذي يعمل لمصلحة التطور الاقتصادي.



أرشيف روزا لوكسمبورغ