روزا لوكسمبورغ

مقدمة في الاقتصاد السياسي

*IV. الإنتاج السلعي


إن المعضلة التي حددنا لأنفسنا مهمة حلها هي التالية: ليس بوسع أي مجتمع أن يبقى قائما من دون عمل مشترك، أي عمل مخطط ومنظم. ولقد سبق لنا أن وجدنا أشكالا لمجتمعات بالغة التنوع وتنتمي لكل العصور… أما في المجتمع الراهن فإننا لا نعثر على أي أثر لأي تنظيم: فليس هناك هيمنة ولا قانون ولا أثر لتخطيط أو لتنظيم: إنها الفوضى. فكيف يمكن للمجتمع الرأسمالي أن يكون حقا؟


4.1


لكي نكشف كيف بُني برج بابل الرأسمالي، دعونا نتصور للحظة مجتمعا تم فيه تخطيط العمل وتنظيمه. وليكن مجتمعا تطور فيه تقسيم العمل تطورا كبيرا بحيث لم يعد التمايز قائما فقط بين الصناعة والزراعة، بل حيث[1] حتى في داخل كل من هذين القطاعين أصبح كل فرع من اختصاص مجموعة معينة من العمال. إذن في داخل هذا المجتمع هناك مزارعون وحطابون وصيادون وعمال حدائق، واسكافيون وخياطون وقفالون وحدادون وصانعو شباكٍِِ وحائكون الخ. أي أن المجتمع بأسره يتمتع بكل أنواع الأشغال والمنتوجات. وهذه المنتجات تفيد، بنسب متفاوتة، كل أفراد المجتمع لأن العمل عمل مشترك، إذن فهو موزَّع ومنظم ٌُ بطريقة مخطط لها على يد سلطة ما- ولتكن هذه السلطة قانونا استبداديا لحكومة ما، أو سلطة عبودية أو أي شكل آخر من أشكال التنظيم. وفي سبيل تنظيم الأمور لنتصور أننا إزاء مجتمعٍ مشاعي أملاكه مشتركة شبيه بالمجتمع الذي رأيناه في المثال الهندي[2] .

ولنفترض لوهلة أن تقسيم العمل داخل تلك الجماعة هو أكثر تطورا مما تقوله الحقيقة التاريخية، ولنفترض بأن جزء من أعضاء الجماعة يكرس نفسه فقط لأشغال الزراعة، فيما يقوم حرفيون مختصون ببقية الأعمال. إن اقتصاد هذه الجماعة واضحٌ بالنسبة إلينا: فأعضاؤها هم الذين يمتلكون شراكة، الأرض وكل وسائل الإنتاج، وإرادتهم المشتركة هي التي تقرر صنع هذه المنتوجات أو تلك في فترة معينة وبكمية معينة. أما كمية المنتوجات الجاهزة، التي تخص الجميع، فإنها توزع عليهم جميعا تبعا لاحتياجاتهم. ولنتخيل الآن أن الملكية المشتركة داخل تلك الجماعة المشاعية، كفت ذات صباح جميل عن الوجود واختفى معها العمل المشترك والإرادة المشتركة التي كانت تنظم الإنتاج. وواضح هنا أن التقسيم المتطور للعمل سيبقى على حاله. فالإسكافي لن يجد أمامه سوى القالب، والخباز سوى الفرن، والحداد لن يعرف سوى الحديد وسوى حمل المطرقة والضرب بها، الخ. أما السلسلة التي كانت في الماضي تربط كل هذه الأشغال المختصة في عملٍ مشترك وفي اقتصادٍ اجتماعي، فقد تحطمت ولم يعد لكل واحدٍ سوى الاعتماد على نفسه: المزارع، الاسكافي، الخباز، القفال، والحائك.. كل واحد منهم صار حرا ومستقلا. ولم يعد لدى الجماعة ما تقوله له، ولم يعد بإمكان أحد أن يطلب منه الاشتغال من أجل الجماعة، كذلك لم يعد أحد يهتم بتلبية احتياجاته.

إن الجماعة التي تشكل كلا واحدا تفككت الآن إلى جماعات صغيرة مثل مرآة تحطمت واستمالت ألف شظية. وصار كل إنسان معلقا في الهواء مثل حبة الغبار، مستقلا، وما عليه سوى أن يدبر نفسه بنفسه.

تُرى ما الذي ستصير إليه تلك الجماعة التي حلت بها مثل هذه الكارثة فجأة، وما الذي سيفعله كل أولئك الرجال الذين صار كل منهم قيما على نفسه؟ ثمة شيء واحد أكيدٌ، فهم جميعا سوف يستمرون غداة الكارثة في العمل تماما كما كانوا يفعلون من قبل. فيما أنه ليس بالامكان الاستجابة لاحتياجات البشر من دون عمل، من الواضح أن كل مجتمع إنساني مجبرٌ على العمل. ومهما كان حجم الاهتزازات والتبدلات التي تصيب المجتمع، ليس بوسع العمل أن يتوقف ولو للحظة واحدة. إذن فالأعضاء السابقون في المجتمع المشاعي سيستمرون جميعا في العمل حتى بعد انقطاع الروابط التي كانت تربط فيما بينهم وبعد أن صار كل منهم منصرفا لذاته، وبما أننا قد افترضنا بأن كل عمل كان من عمل اختصاصي، من المؤكد أن كل واحد منهم لن يمكنه الاستمرار سوى في القيام بالعمل الذي صار من اختصاصه، ويملك بالتالي أدوات إنتاجه: فالاسكافي سيضع أحذية والخباز سيخبز خبزا، والحائك سيضع أقمشة، والمزارع سيطلع القمح من الأرض الخ. غير أن ثمة صعوبة ستظهر عما قريب: إن كل واحد من هؤلاء المنتجين سيصنع بالتأكيد بضائع بالغة الأهمية ومفيدة بشكلٍ مباشر، وكل هؤلاء الاختصاصيين (الاسكافي، والخباز والحداد، والحائك) كانوا حتى الأمس أعضاء متساوي الفائدة ومحترمين من قبل الجماعة التي لم يكن بامكانها الاستغناء عنهم. كان لكل منهم مكانته الهامة وسط الكل. أما اليوم فلم يعد الكل موجودا، صار كل واحد موجودا من أجل ذاته. غير أن أيا منهم لا يستطيع العيش بفضل منتجات عمله وحدها. فالاسكافي لا يستطيع استهلاك كل الأحذية، والخباز يعرف أن الخبز وحده لا يمكنه الاستجابة لكل احتياجاته، والمزارع قد يموت بردا وجوعا رغم امتلاء مخزنه بالقمح، فهو لا يمتلك سوى القمح، إن كل واحد من هؤلاء له احتياجات عديدة، ليس بوسعه بمفرده أن يستجيب لسوى واحدة منها. وكل واحد بحاجة إلى كمية معينة من منتجات الآخرين. إذن فهم مرتبطون بعضهم ببعض. فكيف العمل طالما أنه لم يعد ثمة وجود لأية رابطة، كما نعرف، بين مختلف المنتجين الفرديين؟ إن الاسكافي بحاجة ماسة إلى خبز الخباز، لكنه غير قادر على إجبار الخباز على إعطائه خبزا لأنهما معا حران ومستقلان. فإذا كان الإسكافي قادرا على الاستفادة من ثمرات عمل الخباز فإن مثل هذا الأمر لا يمكنه أن يقوم إلا على مبدأ التبادل، أي سيتوجب عليه هو نفسه أن يعطي للخباز منتوجا يستفيد منه هذا الأخير. بيد أن الخباز يحتاج كذلك إلى منتوجات الإسكافي وهو بالتالي يجد نفسه في موقف الآخر تماما. إذن فأساس التبادل قائم: الاسكافي يعطي الخباز أحذية ويأخذ منه خبزا. أي أن الإسكافي والخباز يتبادلان منتوجاتهما مما يجعلهما قادرين، بالتالي، على سد احتياجاتهما في هذا المجال. فإذا كان تقسيم العمل بالغ التطور والمنتجون مستقلين واحدهم عن الآخر، وإذا كان ثمة غياب لأي تنظيم فيما بينهم، من الواضح أن الوسيلة الوحيدة التي تجعل الجميع قادرين على الحصول على ما تنتجه، كافة الأشغال هو… التبادل (المقايضة) فعبر المقايضة يتبادل الإسكافي والخباز والمزارع وصانع الشباك والحائك والقفال منتجاتهم ويستجيبون بالتالي لاحتياجاتهم المتعددة. وعلى هذا النحو يكون التبادل قد خلق رابطة جديدة بين المنتجين الخاصين المشتتين والمعزولين والمنفصلين عن بعضهم البعض، أما العمل والاستهلاك وحياة الجماعة التي تحطمت، فإن بوسعها أن تنطلق من جديد، وذلك لأن التبادل قد وفر لهم إمكانية العمل من جديد من أجل بعضهم البعض، أي أنه جعل التعاون الاجتماعي والإنتاج الاجتماعي، ممكنين من جديد، حتى ولو على شكل إنتاج خاص مشتت. إن أمامنا هنا نوعا جديدا وفريدا من نوعه من التعاون الاجتماعي، يتوجب علينا دراسته عن قرب. فكل فرد يشتغل الآن تبعا لإرادته الخاصة وينتج لحسابه تبعا لتلك الإرادة. وهو لكي يعيش ينبغي عليه أن ينتج أشياء لا يحتاج إليها هو نفسه، ولكن ثمة آخرين يحتاجونها. وعلى هذا النحو يشتغل كل واحد من أجل الآخرين، وليس في هذا أي جديد على أي حال. فلدى الجماعة المشاعية أيضا، كان الجميع يشتغلون من أجل بعضهم البعض. الأمر الجديد هنا هو أن كل واحد منهم لا يعطي إنتاجه للآخرين إلا عبر التبادل ولا يمكنه أن ينال إنتاج الآخرين إلا بنفس الطريقة، ولكي يتم حصول الجميع على المنتجات التي يحتاجونها ينبغي على كل واحد أن يصنع بعمله الخاص منتجات مكرسة للتبادل. فالاسكافي ينبغي عليه أن ينتج، باستمرار، أحذية ليس ذات فائدة بالنسبة إليه شخصيا. فبالنسبة له ليس لها من غرض آخر وفائدة أخرى غير تمكينه من مبادلتها بمنتوجات أخرى يحتاج إليها. إذن فهو ينتج، مسبقا، أحذيته للتبادل، أي أنه ينتجها كسلعة. والآن ليس بوسع أي واحد أن يستجيب لكل ما يحتاجه، أي أن يحصل على المنتوجات التي يصنعها الآخرون إلا إذا تقدم بدوره بمنتوج يحتاجه الآخرون وهو لم يصنعه إلا بهذا القصد، بمعنىً آخر أنه لا يمكن لكل واحد أن يحصل على حصته من منتوجات الآخرين، أي من الناتج الاجتماعي، إلا إذا تقدم هو نفسه بسلعة ما. فالمنتوج الذي صنعه من أجل التبادل يعطيه الحق في المطالبة بحصته من النتاج الاجتماعي. وهذا النتاج الاجتماعي لم يعد موجودا على شكله السابق، على الشكل الذي كان يوجد به في المجتمع المشاعي حيث كان وقبل أن يقتسم، يمثل وبشكل مباشر في كميته ومجموعه، ثروة الجماعة كلها. كان هذا الناتج قد جُمع بشكل مشترك من قبل الجميع لحساب الجماعة وتحت إدارتها، وما أنتج كان منذ البداية منتوجا مشتركا. بعد ذلك كان اقتسام الأفراد لهذا المنتوج، وعند ذلك فقط صار أعضاء الجماعة، وبصفتهم الفردية، مالكين للمنتوج الذي كُرس لاستخدامهم له. من الآن وصاعدا صارت العملية مقلوبة: إن كل واحد الآن ينتج بصفته الفردية، والمنتوجات التي أنجزت هي التي تشكل معا ثروة الجماعة، إن حصة كل واحد، سواء من وجهة نظر العمل الاجتماعي، أو من وجهة نظر الثروة الاجتماعية، يتمثل في السلعة الخاصة التي أنتجها بفضل عمله وتقدم بها ليتبادل مع الآخرين. إذن فإن حصة كل واحد من العمل الاجتماعي لم تعد تتمثل في كمية معينة من العمل[3] الذي سبق أن حدد مسبقا، بل في المنتوج المنجز، في السلعة التي يقدمها تبعا لإرادته الحرة. فإذا لم يشأ، من الواضح أنه ليس مجبرا على العمل إطلاقا، بامكانه أن يتنزه ما طاب له الهوى، فلن يندد به أحد ولن يعاقبه أحد كما كان يحدث بالنسبة إلى الأعضاء الكسالى في الجماعة المشاعية، إذ كانوا يعاقبون على يد زعيم الجماعة أو يصبحون موضع الاحتقار العام من قبل المجموعة كلها. من الآن وصاعدا صار كل واحد سيد نفسه، فالجماعة لم تعد موجودة بوصفها سلطة. ومع هذا إذا لم يشتغل الفرد لن يكون بوسعه أن ينال أي شيء بالتبادل مع منتوج الآخرين. ومن جهة أخرى لم يعد الفرد واثقا، حتى ولو استغل بصلابة، في أنه سينال وسائل البقاء الضرورية له، وذلك لأن لا أحد مجبر على إعطائه تلك الوسائل حتى ولو بالتبادل مع منتوجاته. لا يتم التبادل إلا إذا كان ثمة حاجة متبادلة. فإذا كانت الجماعة، وبشكل مؤقت، بغير ما حاجة إلى الأحذية، صحيح أن الاسكافي سيكون قد اشتغل بجدية لصنع أجمل الأحذية الممكنة، لكن لا أحد سيأخذ منه تلك الأحذية ليعطيه في مقابلها خبزا أو لحما الخ، وسيجد بالتالي أنه لا يمتلك الحد الأدنى الضروري لعيشه.

وهاكم فارق أساسي يظهر أمامنا هنا يميز الوضع الجديد عن العلاقات التي كانت قائمة لدى الجماعة المشاعية البدائية. فالجماعة كانت تقيم أود الإسكافي كانت بحاجة إلى أحذيته. وعدد الأحذية التي ينبغي عليه صنعها كان يتقرر من قبل سلطات الجماعة، ولم يكن يشتغل سوى خادم لدى الجماعة، مستخدم لدى الجماعة، والجميع كانوا يعيشون هذا الوضع نفسه. وإذا كانت الجماعة قد اعتادت إعالة الإسكافي، من الطبيعي أنها كانت مرغمة على تغذيته. وكان ينال، مثله في هذا مثل كل واحد آخر، حصته من الثروة المشتركة، لكن هذه الحصة لم تكن على علاقة مباشرة بحصته في العمل، كان مجبرا على العمل لكنه كان يُطعم لأنه كان عضوا نافعا لدى الجماعة، فإذا كان في شهرٍ من الأشهر مضطرا لصناعة عددٍ أكبر من الأحذية، أو لعدم صناعة أي حذاء على الإطلاق، فإنه كان على أي حال ينال ما يحتاج إليه، ينال حصته من وسائل العيش المشتركة. اليوم لا ينال إلا بقدر ما ثمة حاجة لعمله، أي بقدر ما يتم قبول تبادل منتوجه من قبل الآخرين. إن كل واحدٍ يشتغل كما يريد، بقدر ما يريد، وبالعمل الذي يريده. وفقط واقع أن منتوجه يؤخذ من قبل الآخرين هو الذي يؤكد له بأنه ينتج ما يحتاج المجتمع إليه، أي أنه أنجز بالفعل عملا مفيداً من الناحية الاجتماعية. إن العمل، مهما كان جدياً وصلبا، ليست له أية غاية وأية قيمة من وجهة النظر الاجتماعية، فقط المنتوج الذي يمكن مبادلته هو الذي له قيمة، أما المنتوج الذي لا يقبل أحد مبادلته فهو من دون أية قيمة، عملٌ ضائع، مهما كان صلبا وجيدا.

إن المرء لكي يشاطر الآخرين ثمار الناتج الاجتماعي[4] . ويقاسمهم العمل الاجتماعي، عليه أن ينتج سلعا. بيد أن ما من أحد يقول لأحد أن عمله معترف به وضروري اجتماعيا، فالفرد يختبر هذا الأمر حين يتم القبول بسلعته تبادليا. أم مشاركته في عمل وإنتاج الجماعة فلا يمكن ضمانه إلا إذا كانت تلك المنتوجات مدفوعة بطابع العمل الضروري اجتماعيا، أي بطابع القيمة التبادلية. فإذا كان ما ينتجه غير قابل للتبادل يكون صاحبنا قد صنع منتوجا لا قيمة له، ويكون عمله بالتالي ذي قيمة اجتماعيا. ولا يكون آنئذٍ سوى اسكافي خاض قطع الجلد وصنع الأحذية لمجرد تمضية الوقت، اسكافي يضع نفسه خارج المجتمع، وذلك لأن المجتمع يتجاهل إنتاجه وهو بالتالي غير قادرٍ على الحصول على منتوجات ذلك المجتمع. أما إذا كان اسكافيا، ويا لسعادته، قد بادل أحذيته وحصل في مقابلها على مؤن، سيكون بامكانه أن يعود إلى منزله مرتاحا شبعانا مكسواً وفخوراً: لقد اعتُرف به كعضو نافع في المجتمع وتم الاعتراف بعمله كعمل ضروري[5] . أما إذا عاد إلى منزله ومعه الأحذية التي لم يشأ أحدٌ أخذها منه، فإنه سيكون على حقٍ إن بدا تعيساً، لأنه في مثل هذه الحال لن يتناول العشاء. لقد قيل له، ولو عن طريق الصمت البارد: «إن المجتمع ليس بحاجة إليك يا صديقي العزيز، وعملك ليس ضروريا أبدا، إذن فأنت شخصٌ تافه بوسعك أن تذهب وتشنق نفسك بكل هدوء!». إن هذا الاسكافي لا يمكنه أن يحتك بالمجتمع إلا بفضل زوج من الأحذية القابلة للتبادل، أو بشكلٍ أكثر عمومية، بفضل سلعة لها قيمة تعادلية. والخباز، والحائك، والمزارع جميعهم يعيشون نفس الوضع الذي يعيشه الاسكافي، فالمجتمع، الذي يعترف تارة بالاسكافي، ويطرده ببرود تارة، ليس في حقيقته سوى مجموع كل هؤلاء الأفراد الذين ينتجون السلع ويعملون في سبيل التبادل. ولهذا نجد أن مجموع العمل الاجتماعي الذي نتوصل إليه على هذا النحو، لا يتعادل أبدا مع مجموع كل أشغال وكل منتوجات أعضاء المجتمع كما كان الحال في الماضي أيام الاقتصاد المشاعي البدائي. اليوم قد يشتغل واحدٌ بدأب ومع هذا قد لا يكون إنتاجه سوى إنتاج ضائع، لا قيمة له إن لم يجد من يأخذه. فالتبادل، فقط، هو الذي يحدد الأشغال والمنتوجات ذات النفع والقيمة الاجتماعيين. الأمر هو تماماً كما لو كان كل واحدٍ يشتغل في بيته واضعاً ما أمامه نصب عينيه. غير مبصرٍ للآخرين، ثم يحمل منتوجاته الخاصة المنجزة إلى ساحة يتم فيها تفحص المنتوجات لتحديد سعرها: لهذا، ولذاك، كان العمل ضروريا من الناحية الاجتماعية، لقد قبل الاثنان التبادل فيما بينهما، لكن ثمة آخرين لم يكن العمل ضروريا لهم فلم يتبادلوا أي شيء ولم يكسبوا بالتالي أي شيء. إن القانون التبادلي يقول: هذا له قيمة، وذاك ليست له أية قيمة، والنتيجة: سعادة أو تعاسة لمن هو معني بالأمر.

والآن لنلخص هذه العناصر المختلفة: يبدو أن واقع تبادل السلع نفسه، ومن دون أي تدخل أو تنظيم، يحدد ثلاث علاقات هامة:

حصة العمل الاجتماعي، التي ينالها كل واحد من أعضاء المجتمع. إن هذه الحصة، كميا ونوعيا، لا تعطي للفرد تبعا لتحديد مسبق تقوم به الجماعة، إن له حصة أو ليست له حصة تبعا للمنتوج المنجز. في الماضي كان كل زوج من الأحذية يصنعه اسكافينا، يعتبر عملا اجتماعيا. الآن لم تعد أحذيته سوى عمل خاص لا يعني أحدا. بعد ذلك تُفحص الأحذية في سوق التبادل، أما الجهد الذي بذله الاسكافي في سبيلها. فلا يتم الاعتراف به كعمل اجتماعي إلا إذا تم القبول به ضمن الإطار التبادلي. وإلا فإن تلك الأحذية ستبقى عملا خاصا بدون أية قيمة.

حصة كل فرد من الثروة الاجتماعية: في الماضي كان الاسكافي ينال حصته من الإنتاج الذي تحققه الجماعة ككل. وكانت تلك الحصة تحدد تبعا للوضع العام، وتبعا لحالة الثروة المشتركة وأخيرا تبعا لاحتياجات أفراد المجتمع. كانت العائلة كثيرة العدد تنال أكثر مما تنال عائلة قليلة العدد. ففي عملية توزيع الأراضي التي غزتها القبائل الجرمانية التي أتت أوربا إبان الهجرات الكبرى وأقامت على أطلال الإمبراطورية الرومانية كان حجم العائلة يلعب دوراً كبيرا. والجماعة الروسية التي قامت في عهد سنوات الثمانين في القرن الماضي، بعمليات توزيع وإعادة توزيع للملكية العامة أخذت في اعتبارها عدد الأفراد أو عدد “الأفواه” داخل كل [6] . ومع تعميم التبادل، اختفت كل علاقة بين احتياجات أعضاء المجتمع وحصتهم من الثروة كما اختفت كل علاقة بين حجم تلك الحصة والحجم الإجمالي لثروة المجتمع المشتركة. إن الشيء الوحيد المحدد بالنسبة إلى حصة الثروة الاجتماعية التي ينالها كل فرد، هي المنتوج الذي يقدمه هذا الفرد في السوق. وفقط إذا ما تم القبول بمنتوجه كبضاعة تبادلية ضرورية اجتماعيا.

وأخيرا نجد أن أوالية التبادل تنظيم كذلك التقسيم الاجتماعي للعمل. في الماضي كانت الجماعة هي التي تقرر أنها بحاجة إلى هذا القدر من العاملين في المزرعة وإلى هذا القدر من الاسكافيين والخبازين والقفالين والحدادين الخ. فالنسبة الصحيحة بين مختلف المهن كانت تحددها الجماعة التي كانت تسهر على تنفيذ كل الأشغال الضرورية. ولقد بلغنا بالطبع خبر ذلك الاسكافي الذي حكم عليه بالموت ثم جاء مندوبو جماعة القرية سائلين إطلاق سراحه وأخذ حداد مكانه لأنه كان ثمة حدادان في الضيعة. وما هذا سوى مثل جيد على العناية التي بها كانت الجماعة تسهر على تطبيق تقسيم جيد للعمل. (ولقد رأينا كيف أن شارلمان كان في القرون الوسطى يحدد عدد وأنواع الحرفيين في أملاكه. كذلك رأينا كيف أن القرى القروسطية[7] كانت تحدد أنظمة منغلقات حرفية تنص على أن تمارس مختلف المهن ضمن نسبة توزيع عادلة أما ما ينقص من الحرفيين فكان يؤتى بهم من الخارج). أما حين يكون التبادل الحر بغير حدود فإن عملية التبادل نفسها هي التي تنظم الأمور. فلا أحد بوسعه أن يطلب من اسكافينا ممارسة مهنته كاسكافي. فهو إن شاء بوسعه أن يصنع الصابون أو طيارات الهواء، وبامكانه، إذا خطرت الفكرة في رأسه، أن يشتغل في النسيج وفي صنع الشباك وكجوهرجي، بدلا من الإشتغال في صنع الأحذية. فلا أحد يقول له بأن المجتمع بحاجة إليه بشكل عام وبحاجة إليه كاسكافي بشكل خاص. من المؤكد أن المجتمع بحاجة إلى أحذية، تجد أن لا أحد من شأنه أن يحدد عدد الاسكافيين الذين بوسعهم سد حاجة المجتمع في هذا المجال. لا أحد يقول لاسكافينا، ما إذا كان هذا الاسكافي ضروري، وما إذا لم تكن ثمة حاجة إلى حائك أو حداد. إن الشيء الذي لا يقوله له أحد، لا يمكن لصاحبنا أن يتعلمه إلا في السوق، فإذا تم القبول بأحذيته للتبادل، سيكون قد علم بأن المجتمع بحاجة إليه كاسكافي. وهو حتى لو صنع أفضل سلعة في العالم، ستكون بضاعته غير ذات قيمة إذا ما كان اسكافيون آخرون قد سبقوه لسد احتياجات المجتمع. إما إذا تكرر الأمر فيسكون عليه الاستغناء عن مهنته. فالاسكافي الفائض عن الحاجة سيقوم المجتمع بإلغائه بنفس الميكانيكية التي يلغي بها الجسم المادة غير الضرورية له: المجتمع لا يقبل بعمله كعمل اجتماعي ويحكم عليه بالهلاك. ونفس الضغط الذي يجبره كشرط ضروري لوجوده، على إنتاج البضائع القابلة للتبادل مع الآخرين، هو الذي ينتهي إلى إجبار اسكافينا الفائض على اختيار مهنة أخرى تكون ثمة حاجة إليها كالحياكة مثلا، أو صنع العربات، وعلى هذا النمو سيكون. الافتقار إلى اليد العاملة في هذا القطاع قد انتهى.

إن هذا الأمر لا يكتفي بأن يبقى على نسبة توزّع عادلة بين المهن وحسب بل وأن ثمة مهنا تختفي وثمة أخرى تولد على هذا النحو. فحين يحدث في المجتمع أن يتم الشعور باختفاء حاجة معينة، أو تأتي منتوجات أخرى لتغطية تلك الحاجة، لا يكون الأمر، كما في المشاعية القديمة أن مسؤولي الجماعة يكونون أول من يلاحظ الأمر، وبالتالي يعمدون إلى سحب العاملين في المهنة لاستخدامهم في مهنة أخرى. بل يحدث هنا أن يظهر الأمر ببساطة بفعل استحالة تبادل المنتجات غير الضرورية. في القرن السابع عشر كان صانعو الشعر المستعار يشكلون جماعية مهنية حتى ماتت المهنة موتا طبيعيا لأن الشعر المستعار لم يعد يجد من يشتريه. كذلك نجد أن القنوات ومجاري المياه التي تزود الآن كل البيوت بالماء وتنشر في كل المدن، أزالت مهنة حاملي المياه (السقائين).

والآن لنأخذ حالة معاكسة. لنفترض أن اسكافينا الذي أشعره المجتمع دون أي إبهام، عبر رفضه الصارم لبضاعته، بأنه لم يعد ضروريا للمجتمع، لنفترض أنه كان واثقا بنفسه إلى درجة أنه اعتقد نفسه عضوا لا غنى عنه في الجماعة الإنسانية وشاء أن يعيش مهما كان الثمن. نحن نعلم وهو يعلم أن عليه أن ينتج بضائع معينة لكي يعيش. عندئذ يخترع منتوجا جديدا، يخترع مثلا مادة لتثبيت الشاربين أو يخترع شمعا عجائبيا. فهل تراه خلق نشاطا جديدا ضروريا لمجتمع، أم تراه سيظل عرضة للتجاهل كما هو حال كبار المخترعين؟ لا أحد سيقول له هذا، ولن يعرق جواب هذا السؤال إلا بالاحتكاك بالسوق نفسه. فإذا تم القبول بنتاجه الجديد في سوق التبادل، سيكون قد تم الاعتراف بأن هذا الفرع الجديد من فروع الإنتاج ضروريا اجتماعيا، وسيعرف التقسيم الاجتماعي للعمل توسعا جديدا[8] .

لقد أوجدنا، شيئا فشيئا نوعا من التماسك ونوعا من النظام داخل جماعتنا التي كانت تبدو وكأنها تعيش وضعا يائسا بعد تدهور النظام المشاعي، والملكية المشتركة، وبعد اختفاء كل سلطة في الحياة الاقتصادية، وكل تنظيم وتخطيط للعمل وكل علاقة بين أفراد المجتمع. لقد حدث هذا بطريقة تلقائية للغاية. فمن دون تفاهم بين الأفراد، ومن دون تدخل أية قوة عليا تجمعت القطع المختلفة في كل واحد، بشكل أو بآخر.

فالتبادل نفسه هو الذي ينظم الآن الاقتصاد بطريقة تلقائية، مثلما تفعل المضخة: فهو يقيم علاقة بين المنتجين الأفراد، وينظم تقسيم العمل فيما بينهم، إنه عدد ثروتهم وتوزع تلك الثروة، التبادل بحكم المجتمع. يقينا أنه نظام غريب بعض الشيء ذلك النظام الذي ولد، فالمجتمع يتخذ الآن سمة مختلفة تمام الاختلاف عن سمة مجتمع الماضي، المجتمع المشاعي. في الماضي كانت الجماعة تشكل كلا متماسكا، نوعا من عائلة كبيرة يلتصق أفرادها ببعضهم البعض معتصمين بحبال بعضهم البعض، كانت تشكل تنظيما صلبا، بل وحتى تنظيما جامدا ومشلول الحركة. اليوم صار للجماعة بنية رخوة لينة، حيث ينفصل الأعضاء عن بعضهم البعض ويلتقون مع بعضهم البعض في أية لحظة. لا أحد الآن يقول لاسكافينا أن عليه أن عليه أن يعمل، وبماذا عليه أن يشتغل، وبأية كمية. لا أحد يسأله عما إذا كان بحاجة إلى ما يقيم منهم الأود، وما هي الكمية. لا أحد يهتم بأمره. وهو لا وجود له بالنسبة إلى المجتمع. صاحبنا يعلن الآن للمجتمع وجوده عبر حضوره في السوق مع منتوج عمله. وجوده مقبول إذا كانت سلعته مقبولة. وعمله لا يتم الاعتراف بضرورته الاجتماعية ولا يتم الاعتراف به هو نفسه كعامل إلا إذا كانت الأحذية التي كان يعرضها مقبولة للتبادل. وهو لا يحصل على وسائل العيش المقتطعة من الثروة الاجتماعية إلا إذا كانت أحذيته قد قُبلت كسلعة. إذن فهو لا يعتبر عضوا في المجتمع بوصفه شخصا خاصا، وكذلك عمله لا يعتبر عملا اجتماعيا بوصفه عملا خاصا. هو لا يصبح عضوا في المجتمع إلا حين يصنع منتوجات قابلة للتبادل، وسلعا، وإلا إذا كان قادرا على بيع تلك السلع. إن كل زوج من الأحذية يبيعه بجعله عضوا في المجتمع. وكل زوج لا يُباع يطرده خارج المجتمع. ليس للاسكافي كاسكافي أية علاقة مع المجتمع. أحذيته فقط هي التي تضعه في علاقته مع المجتمع شرط أن تكون لتلك الأحذية قيمة تبادلية، أي أن تكون سلعا قابلة للبيع. إذن فعلاقته مع المجتمع ليست علاقة دائمة، بل هي علاقة تتجدد باستمرار وتتحلل باستمرار. وإن لجميع منتجي السلع الآخرين نفس الوضع الذي لاسكافينا. ليس ثمة في المجتمع سوى منتجي سلع، وذلك لأن الناس لا يحصلون على ما يمكنهم من العيش إلا عن طريق التبادل، وهم للحصول على تلك الوسائل ينبغي عليهم أن يتقدموا بسلعهم. إنتاج السلع، ذلكم هو شرط البقاء، وعنه ينتج مجتمع يعيش فيه أناس معزولون كليا عن بعضهم البعض كأفراد، واحدهم ليس له وجود بالنسبة للآخرين، وهم لا يحتكون بالمجتمع ولا يفقدون ذلك الاحتكاك إلا بواسطة سلعهم. إننا هنا إزاء مجتمعا لين للغاية ومتحرك مأخوذ على الدوام في تيار أعضائه الأفراد الذين لا يهدأ. والواقع أن إلغاء الاقتصاد المخطط وإدخال نظام التبادل قد أحدث انقلابا جذريا في العلاقات الاجتماعية وقلب المجتمع رأسا على عقب.


الهوامش

*III حسب تصنيف لوكسمبورغ

[1].ملاحظة من روزا على الهامش (بقلم الرصاص): ولسوف نرى بعد ذلك ما إذا كانت مثل هذه الفرضية مقبولة، وإلى أي حد.

[2].راجع: روزا لوكسمبورغ، المجتمع البدائي وانحلاله

[3].ملاحظة هامشية من روزا (بالقلم الرصاص): لم تعد الجماعة ككل هي من يتم التعامل معه، والتي تسشعر الحاجة، بل أعضاء الجماعة الأفراد.

[4].ملاحظة هامشية من روزا: أ ـ عمل اجتماعي 1) كمجموع العمل الذي يقوم به كل أفراد المجتمع من أجل بعضهم البعض، 2) بمعنى أن ما ينتجه الفرد ليس في ذاته سوى ثمرة تعاون عدد كبير من الأشخاص (مواد أولية، آلات)، بل والمجتمع كله (العلم، الحاجة). في الحالتين نجد أن التبادل هو الذي يزمن الطابع الاجتماعي. المعرفة في المجتمع المشاعي إليه اتي وفي اللاقتصاد العبودي، والآن.

[5]. 1 ـ ملاحظة هامشية من روزا: السلع التي أنتجت بكثرة، لا يمكن تبادلها وتبقى غير مستهلكة في مجتمع منظم: لدى الجماعة المشاعية (الرز الهندي)، الاقتصاد العبودي، القنانة (أديرة القرون الوسطى). فارق: الأولى ليست عملا اجتماعيا، الثانية لا شك فيها. علاقتها بالحاجة (حاجة قابلة للاستجابة من جهة فائض إنتاج السلع غير المباعة للأخرين)، فائض إنتاج في المجتمع الاشتراكي.

[6]. كتبت روزا على هامش هذه الجملة: لاحظوا جيدا.

[7]. لم يتم العثور على الفصل الذي كرسته روزا للمنغلقات الحرفية.

[8]. ملاحظة هامشية من روزا: في القرن التاسع عشر حل القطن محل الصوف.



أرشيف روزا لوكسمبورغ