روزا لوكسمبورغ

مقدمة في الاقتصاد السياسي

IV. الإنتاج السلعي

4.2

إن التبادل، الذي هو الرابط الاقتصادي الوحيد بين أعضاء المجتمع، يشكل صعوبات كثيرة وليس على مثل تلك البساطة التي افترضناها حتى الآن. ولننظر إلى الأمر عن كثب: فطالما أننا لن نكن نتحدث سوى عن التبادل بين منتجين فرديين بين الاسكافي والخباز، كانت الأمور في منتهى البساطة. فلاسكافي لا يمكنه أن يعيش بالأحذية فقط، ويحتاج إلى الخبز، والخباز لا يمكنه أن يعيش بالخبز فقط، كما تقول الكتابات المقدسة وهو لا يحتاج فقط إلى كلمة الله بل يحتاج أحيانا إلى الأحذية. وبما أن هناك توازٍ بين الاثنين، يتم التبادل بكل سهولة، فالخبز يتحول من يد الخباز الذي لا يحتاج إليه، إلى يد الاسكافي، والأحذية تتحول من مشغل الاسكافي إلى مخزن الخباز. لقد تمكن الاثنان من سد احتياجاتهما وتبين أن نشاطهما الخاص ضروري اجتماعيا. وهذا الأمر نفسه لا يحدث فقط بين الاسكافي والخباز، بل بين كل أعضاء المجتمع، أي بين كل منتجي السلع. إن من حقنا أن نقرأ بهذا، بل نحن مجبورون على الإقرار به. وذلك لأن لكل أفراد المجتمع أن يعيشوا، وعليهم جميعا أن يسدوا مختلف احتياجاتهم. والإنتاج في المجتمع لا يمكنه أبدا أن يتوقف، وذلك لأن الاستهلاك لا يتوقف أبدا. والآن ينبغي علينا أن نضيف: بما أن الإنتاج مقسم إلى نشاطات خاصة مستقلة لا يمكن لأي شخص فرد أن يؤديها جميعا، فإن التبادل لن يتوقف ولو للحظة والاستهلاك لا يتوقف للحظة. الجميع يتبادلون منتجاتهم باستمرار. فكيف يحث هذا؟ لنعد الآن إلى المثال الذي اقترحناه. فالاسكافي لا يحتاج فقط إلى ما ينتجه الخباز، بل هو بحاجة للحصول على كمية معينة من السلع الأخرى. فإلى جانب الخبز نجده بحاجة إلى لحم الجزار وإلى معطف يحصل عليه من عند الخياط، وإلى قماش لقميص يأتي به من عند الحائك وإلى تسريحة شعر ينجزها الحلاق الخ. وهو لا يستطيع الحصول على هذه السلع إلا عن طريق التبادل، وهو دائما ليس لديه ما يبادل به سوى الأحذية. بالنسبة إلى الاسكافي نجد أن المنتجات التي يحتاجها لكي يعيش تكون متخذة في أول الأمر شكل أحذية، إذا احتاج إلى قميص سيضع أحذية، وإذا احتاج إلى قبعة أو سجائر سيصنع المزيد من الأحذية. بمعنى أن نشاطه الخاص، وبالنسبة إليه شخصيا، يجعل كل الثروة الاجتماعية التي يمكنه الحصول عليها، تتخذ شكل أحذية. وفقط عبر التبادل في السوق يمكن لنشاطه أن يخرج من شكله الضيق (أحذية) ليتحول إلى وسائل البقاء متعددة الأشكال التي يحتاجها.

ولكي يجري هذا التحول بشكل فعال، لكيلا يبقى عمل الاسكافي الذي يعد نفسه بكل متع الحياة، منحصرا في شكل الأحذية، ثمة شرط ضروري نعلمه مسبقا، هذا الشرط يقول بأنه على كل المنتجين الآخرين أن يحتاجوا لتلك الأحذية وأن يرغبوا في مبادلتها بما عندهم. فالاسكافي لن يحصل على السلع الأخرى إلا إذا كان منتوجه، الأحذية، بضاعة يرغب بها المنتجون الآخرون ولن يحصل من السلع الأخرى إلا على كمية تتناسب وعمله، إذا افترضنا أن تلك الأحذية بانت سلعة مقبولة من الجميع وفي كل الأزمان، ومرغوبة دون حدود بالنتيجة. سيكون الأمر، من قبل الاسكافي، ادعاءا فعاليا وتفاؤلا غير معقول إذا ما اعتقد بأن سلعته حائزة على ضرورة مطلقة وغير محدودة بالنسبة إلى النوع البشري. ولسوف تزداد القضية سوءا إذا ما وجد بقية المنتجين الأفراد أنفسهم في وضع الاسكافي: الخباز، القفال، الحائك، الحلاق، المزارع الخ. كل واحد منهم يرغب في الحصول على البضائع الأكثر تنوعا التي يحتاجها، لكنه غير قادر على أن يقدم في مقابلها سوى منتوج وحيد. إن أي واحد لن يمكنه سد كل احتياجاته الخاصة إلا إذا كانت سلعته الخاصة مرغوبة في كل لحظة من قبل الجميع ومقبولة للتبادل. ولحظة من التفكير ستجعلنا ندرك بأن هذا الأمر مستحيل بكل بساطة. فليس كل واحد قادرا على أن يرغب في كل لحظة بكل المنتوجات. وكل واحد لا يمكنه في كل لحظة وبشكل غير محدود أن يعثر على من يشتري الأحذية والخبز والملابس والأقفال، والخيوط والقمصان والقبعات ولاصقات الشارب. ففي مثل هذه الحالة، لا يمكن لكل المنتجات أن تُتبادل في كل لحظة مقابل كل المنتجات الأخرى. فإذا كان التبادل مستحيلا كعلاقة عالمية دائمة، فإن الاستجابة إلى كل الاحتياجات مستحيلة، والعمل الشامل مستحيل ومستحيلٌ أيضا وجود أي مجتمع. وهكذا سنكون مجددا أمام الطريق المسدود غير قادرين على أن نفسر كيف يكون في وسع التعاون الاجتماعي واقتصاد ما أن يولدا، على أي حال، انطلاقا من منتجين أفراد معزولين ومشتتين لا يجمع بينهم مخطط عمل واحد ولا تنظيم واحد ولا رابطة فيما بينهم. لقد بدا لنا التبادل كوسيلة لتنظيم كل هذا، ولو بطرق غريبة. والذي ينبغي الآن هو أن يجري هذا التبادل فعلا على شكل أوالية منتظمة. بيد أننا ومنذ الخطوات الأولى سنجابه صعوبات تكون كبيرة إلى درجة أننا لن نفهم كيف سيمكن لهذا التبادل أن يتم بشكل دائم وشمولي.

ولكن مهلا! لقد تم ابتكار طريقة لتجاوز هذه الصعوبة ولجعل التبادل الاجتماعي ممكنا. ومن المؤكد أن كريستوف كولومبوس لم يكن هو الذي اكتشف تلك الطريقة، فالتجربة الاجتماعية والعادة هما اللذان عثرا في التبادل نفسه على تلك الطريقة، أو كما يقال، أن الحياة هي التي حلت تلك المعضلة. فالحياة الاجتماعية تخلق دائما، ومع الصعوبات جنبا إلى جنب، وسائل حل تلك الصعوبات، إنه لمن المستحيل على كل السلع أن تكون مرغوبة من الجميع وفي كل لحظة، أي بكمية غير محدودة. لقد كان ثمة على الدوام، وفي كل مجتمع، سلعة هامة وضرورية ومقيدة للجميع ومرغوبة من الجميع. من الواضح أن الأحذية لم تكن هي السلعة التي لعبت هذا الدور. لكن الماشية مثلا قد تكون هي في لعبه. إن الأمور لا يمكنها أن تتم بكل بساطة بواسطة الأحذية ولا بواسطة الملابس ولا بواسطة القبعات والقمح. لكن الماشية، كأساس للاقتصاد ضمنت على أي حال بقاء المجتمع، فهي توفر اللحم والحليب والجلود وقوة العمل الخ، تُرى ألم تكمن كل الثرة لدى الشعوب البدوية في القطعان وحدها؟ إن القبائل الزنجية في إفريقيا تعيش حتى اليوم أو كانت تعيش حتى الزمن الراهن، بفضل الرعي وحده. ولنفترض أن الماشية كانت لدى جماعتنا مادة مطلوبة كثيرا، حتى ولو أنها لم تكن منتوج مميز بين منتوجات كثيرة أخرى في المجتمع، لكنها ليست وحدها. إن الراعي يمارس هنا عمله الخاص في إنتاج الماشية، كما يفعل الاسكافي بالنسبة لإنتاج الأحذية، والحائك بالنسبة لإنتاج القماش الخ. كل ما في الأمر، وتبعا لفرضيتنا، أن ما ينتجه الراعي يتمتع بأفضلية عامة وغير محدودة لأنه يبدو للجميع المادة المطلوبة أكثر في غيرها والهامة أكثر من غيرها. إذن فالماشية تشكل بالنسبة إلى الجميع ثراء مرحبا به. وبما أننا نستمر في الافتراض بأن لا أحد في مجتمعنا يمكنه الحصول على ما ينتجه راعي الماشية إلا عبر مبادلته بمنتوج آخر من منتوجات العمل. وبما أن الجميع، تبعا لنظريتنا، يودون الحصول على الماشية، فإنهم جميعا مستعدون وفي كل لحظة للتنازل عن منتجاتهم لقاء الماشية. إذن فلقاء الماشية يمكن الحصول في كل لحظة على كل منتوج. أي أن ذلك الذي يمتلك الماشية يمكنه أن يختار ما يشاء لأن كل شيء موضوع في تصرفه. ولهذا السبب يريد الجميع مبادلة منتجاتهم الخاصة بالماشية ولا شيء غير الماشية، وذلك لأن المرء حين يحوز على الماشية يحوز على كل شيء لأنه قادر على أن يحصل على كل شيء في أية لحظة مقابل الماشية. وما أن يبدو هذا بوضوح ويصبح عادة حتى تصبح الماشية شيئا فشيئا بضاعة عامة أي السلعة الوحيدة المرغوب والقابلة للتبادل بشكل غير محدود. والماشية بوصفها سلعة أو بضاعة عامة تستخدم كوسيط للتبادل بين مختلف السلع الخاصة الأخرى. فالاسكافي على سبيل المثال لا يحصل مباشرة على خبز الخباز، بمبادلته أحذيته، بل بواسطة الماشية، وذلك لأنه بواسطة الماشية يمكنه أن يشتري خبزا وكل ما يشاء حينما يشاء. والخباز بامكانه الآن أن يدفع له ماشية مقابل أحذيته، وذلك لأنه حصل على الماشية من الآخرين، ومن القفال، من الراعي، ومن الجزار مقابل منتجاته الخاصة التي هي الخبز. إن كل واحد ينال ماشية مقابل منتجاته الخاصة ويدفع مجددا هذه الماشية ثمنا لما يريده من منتوجات الآخرين، وعلى هذا النحو تتحول الماشية من يد قادمة كوسيط في كل المبادلات، فهي الآن الرابط بين منتجي السلع الأفراد. وكلما زاد تحول الماشية من يد إلى يد وخدمت كوسيط في المبادلات، كلما زاد قدرها وأضحت السلعة الوحيدة القابلة للتبادل والمرغوبة في كل لحظة، أي أصبحت السلعة العامة.

في مجتمع يضم منتجين خاصين مشتتين ويخلو من أي تخطيط للعمل المشترك يكون كل إنتاج العمل، عملا خاصا، ووحده واقع أن هذا المنتوج قد قبل للتبادل، يبرهن على أن هذا العمل كان ضروريا من الناحية الاجتماعية، وأن لإنتاجه قيمة ما ويضمن لعامله حصة في منتوجات الجماعة، وحين يكون الأمر عكس ذلك يكون العمل ضائعا. الآن أمامنا منتجات لا تستبدل إلا لقاء الماشية. والمنتوج لا يعتبر ضروريا من الناحية الاجتماعيةإلا إذا كان يستبدل بالماشية. والمنتوج لا يحصل على دفعة تؤكد أنه ضروري اجتماعيا إلا بفضل قدرته على أن يستبدل لقاء الماشية، أي أن له قيمة تعادل قيمة الماشية. بهذا المعنى تكون الماشية تجسيدا للعمل الاجتماعي، وتكون بالتالي الرابط الاجتماعي الوحيد بين الناس.

هنا من المؤكد أنكم ستعتقدون بأننا قد ضللنا الطريق. فحتى الآن كان كل شيء مفهوما إلى حد ما، فها نحن لكي ننهي هذا نجد أن الماشية التي صارت سلعة عامة وتجسيدا للعمل الاجتماعي، والرابط الوحيد في المجتمع البشري، تبدو هنا وكأنها اختراع غير ذي معنى بل ومهين لكرامة الجنس البشري، ومع هذا ستكونون على خطأ إن شعرتم أنكم مهانون. فمهما كان حجم احتقاركم لهذه الماشية البائسة، من الواضح أنها أقرب إلى الإنسان، بل وبمعنى من المعاني أكثر شبها به مثلا من كمية من الطين جمعت من الأرض أو من بحصة أو من قطعة من الحديد. وأن عليكم الإقرار بأن الماشية ستكون أكثر جدارة بالتحول إلى رابط اجتماعي حي يبني البشر من قطعة معدنية جامدة. ومع هذا نحن نلاحظ بأن الإنسانية قد أعطت الأفضلية للمعدن وذلك لأن الماشية، إذ تلعب الدور الذي وصفناه أعلاه في عملية التبادل، ليست شيئا آخر غير… المال. فإذا كنتم غير قادرين على تصور المال بشكل آخر غير شكل القطع الذهبية أو الفضية أو حتى الأوراق النقدية، وإذا كنتم ترون أن هذا النقد المعدني أو الورقي الذي هو وسيط عام في العلاقات بين البشر، وقوة اجتماعية، أمر يسير من تلقائه وأن الوصف الذي جعلنا فيه الماشية تلعب هذا الدور هو من قبيل الجنون، فإن في الأمر برهانا على درجة هيمنة أفكار العالم الرأسمالي الراهن على ذهنكم[1] . إن صورة العلاقات الاجتماعية التي تحمل شيئا من العقلانية تبدو عبثية تمام العبث، أما ما هو عبثي معا وعيني بالمطلق فإنه يبدو وكأنه الأمر الصواب. فالحقيقة أن المال على شكل ماشية، له وبالتمام نفس وظيفة المال المعدني، ووحدها اعتبارات تسهيل الأمور هي التي جعلتنا نتخذ المعدن عملة لنا. نحن لا يمكننا بالطبع أن نستبدل الماشية ولا أن نقيس بالتحديد قيمتها تبعا للمنطق الذي نقيس به تلك الاسطوانات المعدنية الصغيرة. فنحن سنكون بحاجة إلى حاملة نقود كبيرة، على شكل إسطبل تقريبا، لكي نستمر في استخدام الماشية كنقد. فالإنسانية قبل أن توافيها فكرة استخدام النقود المعدنية، كانت بالفعل تستخدم المال كوسيط للتبادل لا غنى عنه. وذلك لأن المال كسلعة عامة هو بالتحديد تلك الوسيلة التي لا غنى عنها والتي لا يمكن للتبادل الشامل أن يحصل بدونها، وبدونها لا يمكن للاقتصاد الاجتماعي غير المخطط والمعتمد على منتجي أفراد أن يوجد.

ما هي الأدوار المتعددة للماشية في عملية التبادل، وما الذي حول الماشية إلى نقد في المجتمع الذي ندرسه؟: كونها نتاج عمل مرغوب عالميا وفي كل الأزمان. ولماذا يا ثرى ثمة رغبة عامة ودائمة بالماشية؟ لأنها منتوج نافع إلى أقصى الحدود بامكانه أن يضمن البقاء بوصفه وسيلة عيش بالغة التنوع. أجل إن هذا صحيح في البداية. بعد ذلك بقدر ما تستخدم الماشية كوسيط في عملية التبادل العام، بقدر ما يتحول استخدامها المباشر كوسيلة للعيش إلى درجة ثانية من الأهمية. فأي إنسان يحصل على الماشية لقاء ما ينتجه سيمتنع عن قتلها وعن أكلها وربطها بمحراثه، فالماشية أثمن لديه الآن كوسيلة لشراء سلعة أخرى في أي وقت من الأوقات. لذا سيمتنع عن استخدامها كوسيلة للعيش وسيحتفظ بها كأداة للتبادل. ومع التقسيم المتطور للعمل، ذلك التقسيم الذي افترضناه أعلاه، من الواضح أن الاستخدام المباشر للماشية سيكون أمرا غير مريح. فما الذي سيكون في وسع الاسكافي أن يفعله بالماشية كماشية؟ أو ما الذي سيفعله الحلاق والقفال والحائك الذين لا يمارسون الزراعة؟ لقد جرى أكثر وأكثر إهمال استخدام الماشية بشكل مباشر كوسيلة للبقاء، ولم تعد هذه الماشية مرغوبة لمجرد أنها مفيدة في المسلخ وفي مصنع الحليب وفي العمل في الحقول، بل لأنها تعطي في كل لحظة إمكانيات تبادلها لقاء أية سلعة أخرى. وأكثر فأكثر صارت مهمة الماشية تتعلق بالمنفعة العامة، بمعنى أنها صارت تسمح بالتبادل أي بأن تستخدم في كل لحظة في تحويل المنتجات الخاصة إلى منتوج اجتماعي والأشغال الخاصة على عمل اجتماعي. وبما أن الماشية أهملت على هذا النحو استخدامها الخاص كوسيلة لعيش الإنسان وتكرست كوسيط دائم بين مختلف أفراد المجتمع، كفت بالتدريج عن أن تكون منتوجا خاصا مثل المنتوجات الأخرى، وصارت قبل كل شيء آخر منتوجا اجتماعيا كما صار عمل الراعي، على عكس جميع الأشغال الأخرى، العمل الوحيد الاجتماعي بشكل مباشر. وهكذا لم تعد الماشية تربي لتخدم كوسيلة للعيش بل لكي تلعب دور المنتوج الاجتماعي، السلعة العامة، النقد. لقد استمر، وإنما بنسبة أقل، في ذبح الماشية وربطها بالمحراث. لكن هذه الميزة الخاصة بالماشية زادت من اختفائها في مواجهة ميزتها الرسمية كنقد. وهي بصفتها نقدا صارت تلعب دورا حاسما ومتعددا في حياة المجتمع.

لقد صارت بشكل نهائي وسيلة تبادل عامة، وتم الاعتراف بها رسميا على هذا النحو، فلم يعد أحد يبادل أحذية بخبز أو قمصانا بحدوات الحصان. وأي واحد شاء هذا سيطرد بهزة كتف. لم يعد يمكن الحصول على أي شيء إلا لقاء الماشية. أما عملية التبادل الثنائية القديمة فلقد انقسمت بالتالي إلى عمليتين مختلفتين: عملية البيع وعملية الشراء. في الماضي حين كان القفال والخباز يرغبان في مبادلة منتجاتهما كان كل منهما يبيع سلعته ويشتري سلعة الآخر عبر عملية مقايضة بسيطة تتم بالأيدي. كان البيع والشراء عملية واحدة. اليوم إذ يبيع الاسكافي أحذيته لا يحصل بالمقابل إلا على ماشية -لقد بدأ إذن بيع منتوجه الخاص. فمتى سيشتري شيئا ما ما الذي سيشتريه، وهل تراه سيشتري أي شيء على الإطلاق؟ تلكم مسألة أخرى. حسبنا الآن أنه تخلص من منتوجه وأنه قد حول عمله الذي كان يتخذ شكل أحذية، إلى منتوج يتخذ شكل ماشية. إن شكل الماشية هو الشكل الاجتماعي الرسمي للعمل، وإذا هي على هذا الشكل صار بامكان الاسكافي أن يحتفظ بها ما شاء له الهوى، وذلك لأنه يعلم أن بامكانه في أية لحظة أن يحول منتوج عمله من شكله الجديد كماشية إلى أي شيء آخر، أي يمكنه أن يشتري به ما يشاء.

على هذا النحو تصبح الماشية وسيلة ادخار ومراكمة الثروة، تصبح وسيلة تخزين. فطالما لم يكن بوسع الاسكافي أن يبادل منتوجاته إلا لقاء أدوات عيش، لم يكن بوسعه أن يعمل إلا بقدر ما يحتاج لكي يسد احتاجاته اليومية. إذ ما الذي سيستفيده من الاحتفاظ بأحذية كاحتياطي، أو الابقاء على احتياطي كبير من الخبز أو من اللحم أو من القمصان أو من القبعات الخ؟ إن أشياء الاستهلاك اليومي إذا احتفظ بها في المستودعات طويلا ستفسد وتصبح غير قابلة لأي استخدام. الآن صار بوسع الاسكافي أن يحتفظ بالماشية التي حصل عليها لقاء منتجات عمله، كوسيلة تفيده في المستقبل. إن رغبة الادخار تيقظت لديه، وصار الآن يسعى لبيع أكبر قدر ممكن من منتوجاته ممتنعا عن إنفاق ماشيته فورا، بل هو على العكس من هذا صار يسعى لمراكمتها، فلأن الماشية صالحة لكل شيء وفي كل وقت صار الآن يدخرها، ويجمعها من أجل المستقبل تاركا بهذا ثمار عمله إرثا لأطفاله.

في الوقت نفسه صارت الماشية مقياسا لكل القيم ولكل الأشغال. فحين يريد الاسكافي أن يعلم كمية ما يناله لقاء زوج من الأحذية، أي قيمة منتوجه، يقول مثلا: سأحصل على نصف عجل مقابل زوج الأحذية، زوج أحذيتي يساوي نصف عجل.

كذلك صارت الماشية معيار الثروة. فلم يعد يقال: هذا الشخص ثري لأنه يمتلك كثيرا من القمح أو من الثياب أو من الخدم بل يقال: أنه يمتلك ماشية. يقال: ارفعوا قبعتكم قيمة لهذا الرجل فهو (يساوي) ألف عجل. أو يقال: يا للمسكين إنه لا يمتلك ماشية على الإطلاق؟

مع ترسيخ الماشية كوسيلة تبادل عامة، لم يعد بوسع المجتمع أن يفكر إلا على شكل ماشية. لا يجري الحديث ولا يرى المرء في حلمه إلا ماشية. وينتج عن هذا كله تبجيل وعبادة حقيقية للماشية: فيفضل المرء أن يتزوج فتاة يتألف مهرها من قطعان كبيرة من الماشية، مما يزيد من حدة جاذبيتها حتى ولو كان المتقدم للزواج منها أستاذا أو كاهنا أو شاعرا وليس فقط مربي خنازير. لقد صارت الماشية جوهر السعادة الإنسانية. وعلى هذا النحو تكتب قصائد لمجد الماشية ولتمجيد قوتها الرائعة. وفي الوقت نفسه ترتكب جرائم واغتيالات بسبب الماشية. ويقول الناس وهم يهزون رؤوسهم: «إن الماشية هي التي تدبر شؤون العالم». فإذا كنتم تجهلون هذا المثل ترجموه إلى اللاتينية حيث أن الكلمة الرومانية القديمة Pecunia وتعني المال، منحدرة من كلمة Pecus [2] التي تعني ماشية.



الهوامش

[1].ملاحظة هامشية من روزا: أرسطو حول العبودية

[2].ملاحظة هامشية من روزا: في العملة المعدنية، لم تعد القيمة الاستعمالية قائمة



أرشيف روزا لوكسمبورغ