محاولة في تصنيف الأحزاب السياسية


صدرة للمرة الاولى في 30 سيتمبر 1906
في
جريدة بروليتاري عدد 5
مصدر النسخة المترجمة: الاعمال الكاملة (بالفرنسية) دار التقدم – موسكو – طبعة 1966، الجزء 11، صفحة 228
ترجمة ونسخ
: جريدة المناضل-ة (فبراير 2005)


رفض مؤتمر توحيد حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي، كما نعلم، تحليل الأحزاب السياسية الروسية من وجهة نظر قاعدتها الطبقية ورفض تحديد موقف البروليتاريا إزاءها. ولم يكن التأكيد العام على مقرر أمستردام غير شكل لهذا الرفض. لكن الثورة تتطلب بإلحاح متزايد أن نطبق المنهجية والنظرية الماركسيتين في دراسة تشكل الأحزاب وفي تلك السيرورة العميقة وبالغة الأهمية التي تتواصل في روسيا بشكل أسرع واكثر حيوية من أي مكان آخر وذلك لأسباب مفهومة.

طبعا مازالت هذه السيرورة بعيدة عن الاكتمال وما زالت لم تعط بعد نتائج قارة. لكن هذه السيرورة لا يمكن أبدا أن تنتهي في المجتمع الرأسمالي ولا يمكن أن تكون نتائجها« قارة » إلا عندما يتوقف تطور الثورة بما هي تدمير شامل لكافة البنية الفوقية السياسية القديمة. هذا ما يجعل متعذرا علينا تأخير تحليل الأحزاب البرجوازية لا سيما أن فترة حريات أكتوبر من جهة وفترة الدوما الأولى من جهة ثانية قد أعطتا بلا ما لا يدع مجالا للشك نتائج جدية يستحيل غض الطرف عنها. وسيتطلب النضال الثوري المفتوح في شكل إضرابات وانتفاضات، الخ من حزبنا أن يدقق بوضوح علاقاته مع باقي الأحزاب، والحال أن ذلك غير ممكن الا بتحليل علمي أي تحليل طبقي.

لنبدأ بجرد الأحزاب السياسية الهامة إلى هذا الحد أو ذاك (بوجه الدقة أنماط * الأحزاب) سيرا من « اليمين » إلى « اليسار »، فهناك: أ) اتحاد الشعب الروسي، الملكيون، الخ،  ب) حزب النظام الشرعي، ج) الاكتوبريون، د) حزب التجديد السلمي، هـ) حزب الإصلاحات الديمقراطية، و) حزب الكاديت، ز) المفكرون الاحرار، الراديكاليون، « البيزاغلافسكي »(1)، الخ. ح) الاشتراكيون الشعبويون–الترودوفيك ط) الاشتراكيون-الثوريون، ي) القصويون، ك) الاشتراكون الديمقراطيون المناشفة والبلاشفة.

ولا نعتبر الفوضويين لأنه من المخاطرة اعتبارهم حزبا سياسيا (شأنهم في ذلك شان القصويين).

من هذه الفسيفساء تبرز بوضوح خمس أنماط أساسية من الأحزاب السياسية في بلدنا: أ) المئات السود، ب) الاكتوبريون، ج) الكاديت، د) الترودوفيك، هـ) الاشتراكيون الديمقراطيون. ويبرهن تحليل الطبيعة الطبقية لهذه الأحزاب على صحة هذا التصنيف.

لا شك أنه يتعين اعتبار الاشتراكية-الديمقراطية نمطا على حدة. إنها خاصة بأوربا بكاملها. إنها في روسيا الحزب العمالي الوحيد، إنها حزب البروليتاريا، سواء بتركيبه أو وجهة نظره البروليتارية المدعومة بصرامة.

ثم من الجلي أيضا أن على الترودوفيك(3) أن يشكلوا نمطا آخر. ويُدرج في هذا النمط « الحزب الاشتراكي-الشعبي للعمل » والاشتراكيون-الثوريون بحصر المعنى وأخيرا القصويون. وكلهم ينطلقون نظريا من وجهة نظر « مبدأ العمل ». ويميلون كلهم إلى جمع وصهر البروليتاريين وصغار المنتجين في « مجموعة واحدة للعمل ». ويسعون إلى الاستناد بالخصوص على الفلاحين. وقد أبرزت دوما الدولة، حيث شكلت غالبية النواب الفلاحين مجموعة عمل، إن هذه الاتجاهات تمكنت (إلى هذا الحد أو ذاك) من خلق فعلي للمنظمة السياسية للفلاحين.

طبعا لا شك أن الأحزاب السياسية من هذا النوع متبلورة ومنظمة بشكل أقل بما لا يقاس من الحزب الاشتراكي-الديمقراطي. من الناحية الشكلية لا يوجد حزب القصويين، رغم أن انشقاقهم عن الاشتراكيين-الثوريين أمر واقع برهن عليه استقلال كتاباتهم واعمالهم الإرهابية. في الدوما لم يشكل الاشتراكيون-الثوريون تكتلا، وكانوا ينشطون بالاختفاء خلف بعض الترودوفيك. كما أن « الحزب الاشتراكي-الشعبي للعمل » يوجد أيضا في حالة جنين رغم أنه لا يعمل في الصحافة بارتباط مع اشتراكيين-ثوريين أقحاح وحسب بل حتى بشكل مستقل. وفي الدوما تصرف أيضا زعماؤه تارة بارتباط بالاشتراكيين-الثوريين، لكن باستقلال تارة أخرى. كما تبرز محاضر المؤتمر الأول للحزب الاشتراكي-الثوري (باريس 1906) ان هؤلاء الاشتراكيين-الشعبويين-الترودوفيك يعملون كـ« مجموعة » على حدة على هامش حزب الاشتراكيين-الثوريين. باختصار نرى في هذا المعسكر: (1) حزبا سريا (حزب الاشتراكيين-الثوريين) العاجز كليا عن خلق منظمة جماهيرية إلى هذا الحد أو ذاك وقارة إلى هذا الحد أو ذاك، وعاجز عن العمل ياستقلال، تحت رايته الخاصة، في الدوما وفي الصحافة خلال حقبة الحريات. (2) حزبا شرعيا في طور التشكل (حزب الاشتراكيين-الشعبويين-الترودوفيك)، الذي تصرف خلال مؤتمر الاشتراكيين-الثوريين (ديسمبر1906) كمجموعة مغايرة لكنه كان عاجزا لحد الآن عن الشروع في خلق منظمة جماهيرية والذي يعمل غالب الاوقات، في الصحافة كما في الدوما، باتفاق مع الاشتراكيين-الثوريين.

إن كون الترودوفيك لم يتمكنوا، بعد حقبتين من الحرية النسبية (حقبة « أكتوبر » وحقبة « الدوما ») من تشكيل حزب سياسي أمر لايمكن بكل يقين تفسيره بمحض الصدفة. لا جدال في أن ذلك يعود إلى كون البرجوازية الصغيرة (لاسيما بالقرى) اقل قابلية للتنظيم من البروليتاريا. ولا شك أن الخلافات الأيديولوجية للترودوفيك تعكس أيضا الوضع غير القار إلى حد بعيد للمنتج الصغير في المجتمع الحديث: أقصى يمين الترودوفيك (« الحزب الاشتراكي-الشعبوي للعمل » بقيادة بيشبخونوف) لا يتميز إلا بشكل طفيف عن الكاديت لأنه يسقط من برنامجه الجمهورية ومطلب كل الأرض للفلاحين، ولا يتميز أقصى يسار الترودوفيك (القصويون) عن الفوضويين إلا قليلا جدا.

يمثل هاذان الحدان الأقصيان، إن أمكن القول، مدى التأرجح السياسي للبرجوازية الصغيرة الكادحة. من وجهة النظر الاقتصادية يُفهم جيدا كون البرجوازية الصغيرة على وجه الدقة غير مستقرة إلى ذلك الحد. ولاشك أن الثورة الروسية ستعزز عما قريب عدم الاستقرار هذا بدل اضعافه. لكن إذ نلاحظ الأمر ونفسره يجب طبعا ألا ننسى الأهمية السياسية الكبرى لأحزابٍ كأحزاب الترودوفيك. وستعزز الحرية السياسية الحقيقية تلك الاحزاب بوجه خاص، لأنه في غياب الحريات السياسية تكون قدرتها التنظيمية أضعف من قدرة البرجوازية ومن قدرة البروليتاريا أيضا. ومن جهة أخرى من الحتمي كليا، في بلد برجوازي صغير وفلاحي في جوهره كروسيا، أن تتشكل أحزاب « ترودوفيك » أو برجوازية صغيرة، متذبذبة ايديولوجيا وغير قارة سياسيا لكنها عديدة جدا.

يتوقف مصير الثورة في بلد مثل روسيا بشكل أساسي على السلوك السياسي لصغار المنتجين. إن وجوب إقدام البرجوازية الكبيرة على الخيانة ذات يوم، أمر لا ريب فيه ( ولقد خانت بنسبة الثلثين). وكون البروليتاريا هي المحارب الأكيد أمر ما لا يحتاج فيما يخص العمال الروس إلى برهان بعد أكتوبر وديسمبر. لكن البرجوازية الصغيرة هي بالذات ذلك المعطى المتغير الذي سيحدد النتيجة.

هذا ما يوجب على الاشتراكيين-الديمقراطيين أن يتابعوا بانتباه خاص التأرجح السياسي الراهن للبرجوازية الصغيرة بين سياسة الولاء البئيسة لدى الكاديت ونضال ثوري جريء ولا هوادة فيه. ولا يتعين عليهم ملاحظة هذه السيرورة فحسب، بل التأثير عليها بقدر قواهم بروح بروليتارية.

لنتابع. لا جدال في أن الكاديت يشكلون نمطا آخر. وليس حزب الإصلاحات الديمقراطية على يمينهم والمفكرون الأحرار والراديكاليون وتجمعات أخرى على يسارهم غير تفرعات عديمة الدلالة. يمثل الكاديت،في المرحلة السياسية الراهنة، نمطا سياسيا مستقلا. ونرى بوضوح تميزه عن الترودوفيك. فالترودوفيك النموذجي هو الفلاح الواعي .وهو لن يرفض التفاهم مع الملكية وسيهدأ اذا نال قطعة أرضه في اطار النظام البرجوازي لكنه في اللحظة الحالية يبذل كل جهوده في محاربة الملاكين العقاريين لاجل الظفر بالأرض وفي النضال ضد الدولة الإقطاعية لاجل الديمقراطية. مثال الترودوفيك هو وضع حد للاستغلال، إنما يفهم هذا الإلغاء بمعنى بورجوازي صغير وذلك ما يجعل ميله يفضي عمليا إلى نضال ليس ضد كل استغلال بل ضد استغلال الإقطاعيين ورجال المال الكبار. أما الكاديت فهو المثقف البرجوازي النموذجي وحتى المالك العقاري الليبرالي. ويشكل التعامل مع الملكية وكبح الثورة ميله الأقوى. ليس الكاديت، العاجز مطلقا عن النضال، غير سمسار أعمال. مثاله الحفاظ إلى الأبد على النظام البرجوازي، لكن في أشكال مضبوطة بشكل ملائم حسب مقاييس الحضارة والبرلمانية. وتكمن قوته السياسية الكبرى في اتحاد الغالبية الكبرى من المثقفين البرجوازيين، الذين لا غنى لأي مجتمع برجوازي عنهم، لكن العاجزين بالمطلق طبعا عن ممارسة تأثير جدي لتغيير نظام هذا المجتمع.

ليس الاكتوبري النموذجي هو المثقف البرجوازي بل البرجوازي الكبير. ليس حامل إيديولوجية المجتمع البرجوازي بل سيده. وهو معني بنحو مباشر جدا بالاستغلال الرأسمالي، ويحتقر النظريات ويهزأ من المثقفين ويرفض كل الادعاءات « الديمقراطية » الخاصة بالكاديت. إنه البرجوازي رجل الأعمال. وهو يسعى مثل الكاديت إلى المساومة مع الملكية لكن الأمر بالنسبة له لا يتعلق بنظام سياسي ولا ببرلمانية بل بتفاهم بعض الأشخاص أو القادة مع البلاط لاجل إخضاع الموظف الروسي الفظ والأ رعن، بصفته موظفا أسيويا بمعنى الكلمة، للبرجوازية القائدة. الاكتوبري كاديتي يطبق في الأعمال نظرياته البرجوازية. والكاديتي اكتوبري يحلم في ساعات فراغه، عندما لا يسلخ العمال والفلاحين، بمجتمع بورجوازي مثالي. على الاكتوبري أن يزيد قليلا من تعلم البرلمانية والنفاق السياسي ولعب « الديمقراطية ». وعلى الكاديت أن يزيد بشكل طفيف تعلم طرائق البرجوازي. عندها سينصهر الكاديتي والاكتبري حتميا مهما كانت نتائج المساعي الحالية لأجل هذا التقارب الحميم والتي يقوم بها بوجه خاص أنصار « التجديد السلمي ».

لكن لا داعي للكلام عن المستقبل. ما يهمنا هو تعلم معرفة الحاضر. بما أن السلطة توجد بالكامل بيد البلاط فمن الطبيعي تماما أن تكون الجمل الديمقراطية للكاديت ومعارضتهم « البرلمانية » لوحدها مفيدة أكثر عمليا للعناصر التي على يسارهم. كما أنه من الطبيعي أيضا أن يبتعد الاكتوبري، المعادي بجلاء لتلك العناصر، مستاء من الكاديت ويدعم (في انتخابات الدوما الاولى) المئات السود الحكوميين.

يشكل المئات السود النمط الأكثر يمينية من أحزابنا السياسية. إنهم لا يريدون « دستور 17 أكتوبر » مثل أمثال غوتشكوف: هم في حاجة إلى الحفاظ على الاتوقراطية وإعادة ارسائها شكلا. وتكمن مصلحتهم في الحفاظ على كامل الوسخ والجهل والخساسة المزدهرة في ظل السلطة المطلقة للملك المحبوب. إن ما يجمعهم هو نضال ضاري للدفاع عن امتيازات البلاط للتمكن، كما في السابق، من نهب وتعنيف ولجم البلد برمته.

وبدفاعهم مهما كلف الأمر عن الحكومة القيصرية الحالية يقتربون باستمرار من الاكتوبريين وهذا ما يصعب تحديد اين ينتهي المئات السود واين يبدأ الاكتوبري عندما يتعلق الامر بحزب « النظام الشرعي ».

هكذا أفرزت الثورة الروسية في أقصر وقت عدة أنماط أساسية من الأحزاب السياسية تطابق الطبقات الرئيسية بالمجتمع الروسي. فثمة حزب البروليتاريا الاشتراكية الواعية، وأحزاب البرجوازية الصغيرة الراديكالية أو ذات الميول الراديكالية وفي المقام الأول البرجوازية الصغيرة القروية أي الفلاحين، والأحزاب البرجوازية الليبرالية، والأحزاب البرجوازية الرجعية. إن كانت المنظمات السياسية لا تطابق تماما التجمعات الاقتصادية والاجتماعية فمرد ذلك فقط إلى أن التجمعين الاخيرين لا تقابلهما مجموعتان سياسيتان بل ثلاث: الكاديت والاكتوبريون والمئات السود. لكن ذلك يجد تفسيره الكامل في خصوصيات الحقبة الراهنة، وهي اللحظة التي أضحى فيها النضال الثوري بالغ العنف وحيث يغدو الدفاع بأي ثمن عن الملكية دفاعا عن الاتوقراطية. واللحظة التي تتداخل تبرز فيها بشكل طبيعي في المجموعات الاجتماعية لهذا الاتجاه الاقتصادي أو ذاك (لأجل رأسمالية تقدمية أو لأجل رأسمالية رجعية) تجمعات سياسية (مع الحكومة الراهنة أو ضدها). لكن القرابة بين الاكتوبريين والكاديت جلية جدا ولن يجادل أحد في وشوك تشكل حزب بورجوازي ليبرالي « عملي » كبير.

الخلاصة: تؤكد عملية تشكل الأحزاب السياسية في روسيا باسطع نحو النظرية الماركسية.

ملاحظة: كتب هذا المقال قبل انشقاق اتحاد 17 اكتوبر. والآن يعِد كل من خروج شيبوف والتشكل القريب لحزب ليبرالي معتدل (اكتوبريون يساريون، انصار التجديد السلمي ويمين الكاديت) بارجاع الاحزاب السياسية الروسية بصفة نهائية إلى الأنماط الأربع الأساسية القائمة في كل بلد رأسمالي.


(1) البيزاغلافسكي: مجموعة نصف كاديتية ونصف منشفية من الانتليجانسيا البورجوازية الروسية، تشكلت لحظة انحدار الثورة الروسية لسنوات 1905-1907. اسمها يحيل على جريدتها الأسبوعية بيز زاغلافيا (دون يافطة) الصادرة في بطرسبورغ في ماي 1906 بادارة بروكوبوفيتش. ومع اعلانهم عدم الانتماء إلى أي حزب كان البيزاغلافسكي عمليا دعاويين لليبرالية البرجوازية وللانتهازية ومؤيدين لنزعة المراجعة في الاشتراكية الديمقراطية الروسية والعالمية.
 

(2) ديسك: « الاتحاد الديمقراطي للدستوريين » منظمة مضادة للثورة ظهرت في خريف 1905 وتضم ممثلي من الفئات العليا من النبلاء وفئات محافظة من البرجوازية الصناعية وكبار الموظفين. في أواخر 1905 انضمت الديسك إلى حزب الاكتوبريين.


(3) الترودوفيك: مجموعة ديمقراطيين بورجوازيين صغار بمجالس دوما الدولة الروسية، مكونة من فلاحين ومثقفين من الاتجاه الشعبوي. تشكلت مجموعة الترودوفيك في ابريل 1906 من نواب الفلاحين في الدوما الاولى.