تقرير عن ثورة 1905


كتب: في ألمانيا قبل 9 يناير 1917
نشر لأول مرة: في البرافدا عدد 18، 22 يناير 1925 بإمضاء: ن. لينين
المصدر:لينين المختارات في عشر مجلدات المجلد 6، صفحات 237 الى 262، دار التقدم-موسكو، طبعة 1977

نسخ الكتروني: جريدة المناضل/ة (يوليو 2005)


أيها الأصدقاء والرفاق الشبان !

اليوم يوم الذكرى السنوية الثانية عشرة « للأحد الدامي » الذي يعتبره بملء الحق والصواب بداية الثورة الروسية.

آلاف العمال، – علماً بأنهم ليسوا اشتراكيين-ديموقراطيين، بل أناس مؤمنون، ومخلصون للقيصر، – يتوافدون بقيادة الكاهن غابون، من جميع أنحاء المدينة، نحو الساحة الواقعة أمام قصر الشتاء لكي يقدموا للقيصر عريضتهم. العمال يمضون حاملين الأيقونات، وكان زعيمهم آنذاك غابون قد أكد للقيصر خطيا أنه يضمن له سلامته الشخصية ويرجوه أن يطل على الشعب.

ولكن صدر الأمر باستدعاء قوات من الجيش، فرسان الأولن والقوزاق ينقضون على الجموع بالسلاح الأبيض، ويطلقون النار على العمال العزل من السلاح الذين كانوا يتوسلون من القوزاق، راكعين على الأقدام، بأن يسمحوا لهم بالوصول إلى القيصر. ويستفاد من تقارير البوليس أنه سقط آنذاك أكثر من ألف قتيل وأكثر من ألفي جريح. وكان غضب العمال لا يوصف.

هذه صورة عامة للغاية عن 22 كانون الثاني/يناير 1905 – عن « الأحد الدامي ».

ولكي تتصوروا أهمية هذا الحدث التاريخية بمزيد من الوضوح، أقرأ عليكم بضعة مقاطع من عريضة العمال. تبدأ العريضة بما يلي:

« نحن العمال المقيمون في بطرسبورغ جئنا إلى جلالتكم. نحن عبيد مساكين، مضامون، يسحقنا الاستبداد والتعسف. وعندما عيل صبرنا، توقفنا وطلبنا من أسيادنا أن يعطونا فقط ما تكون الحياة بدونه عذابا بعذاب. ولكن كل هذا قوبل بالرفض، وكل هذا بدا لأصحاب المصانع غير مشروع. نحن هنا آلاف وآلاف، ونحن مثل الشعب الروسي بأسره لا نملك أية حقوق بشرية. بفضل موظفيك، صرنا عبيدا ».

وتعدد العريضة المطالب: – العفو العام، الحريات الاجتماعية، الأجرة المحترمة، تحويل الأرض تدريجيا إلى الشعب، عقد الجمعية التأسيسية على أساس حق الاقتراع العام والمتساوي، – وتنتهي بما يلي:

« أيها العاهل ! لا ترفض مساعدة شعبك ! دمر الجدار بينك وبين شعبك ! مرّ واحلف بأن ينفذوا طلباتنا، فتجعل روسيا سعيدة؛ وإلاّ، فإننا مستعدون للموت هنا بالذات. أمامنا سبيلان فقط: الحرية والسعادة، أو القبر ».

حين يقرأ المرء الآن هذه العريضة لعمال غير متعلمين، أميين يقودهم كاهن بطريركي، يخالجه شعور غريب. ويقارن عفو الخاطر بين هذه العريضة الساذجة وبين القرارات السلمية المعاصرة للاشتراكيين-المسالمين أي لأناس يريدون أن يكونوا اشتراكيين ولكنهم ليسوا بالفعل غير ثرثارين برجوازيين. إن العمال غير الواعين في روسيا ما قبل الثورة لم يكونوا يعرفون أن القيصر هو رئيس الطبقة السائدة، أي بالضبط طبقة كبار ملاكي الأراضي الذين ارتبطوا بألوف الخيوط بالبرجوازية الكبيرة، والمستعدين للدفاع بجميع وسائل العنف عن احتكارهم وامتيازاتهم وأرباحهم. أمّا الاشتراكيون-المسالمون المعاصرون الذين يريدون – بدون أي مزاج ! – أن يبدو أناسا « متعلمين جدا »، فإنهم لا يعرفون أن توقع السلام « الديموقراطي » من الحكومات البرجوازية التي تخوض غمار حرب إمبريالية لصوصية، هو بادرة غبية مثلما هي غبية الفكرة الزاعمة أنه يمكن استمالة القيصر الدموي، بالعرائض السلمية، إلى الإصلاحات الديموقراطية.

ولكن الفرق الكبير بين الطرفين يتلخص، فضلا عن كل هذا، في أن الاشتراكيين-المسالمين المعاصرين هم، بمقدار كبير، منافقون يسعون بالايحاءات الوديعة الى صرف الشعب عن النضال الثوري، في حين أن العمال الروس غير المتعلمين في روسيا ما قبل الثورة قد اثبتوا بالأفعال أنهم أناس مستقيمون استيقظوا للمرة الأولى على الوعي السياسي.

وفي هذه اليقظة على وجه الضبط، يقظة الجماهير الشعبية الغفيرة على الوعي السياسي والنضال الثوري، تكمن الأهمية التاريخية للثاني والعشرين من كانون الثاني/يناير 1905.

« ليس في روسيا حتى الآن شعب ثوري ». هكذا كتب قبل « الأحد الدامي » بيومين السيد بيوتر ستروفه، وكان آنذاك زعيم الليبراليين الروس وكان يصدر صحيفة غير شرعية، حرة، مطبوعة في الخارج. إلى هذا الحد من الخراقة كانت تبدو لهذا الزعيم، زعيم الإصلاحيين البرجوازيين « العالي التثقيف »، المغمور واللامتناهي الغباوة، الفكرة القائلة أن في مستطاع بلد من الفلاحين الأميين أن يلد شعبا ثوريا ! إلى هذا الحد كان اصلاحيو ذلك العهد على اقتناع عميق – كما هم عليه اصلاحيو اليوم – باستحالة قيام ثورة حقيقية !

قبل 22 كانون الثاني/يناير (9 كانون الثاني/يناير حسب التقويم القديم) 1905، كان الحزب الثوري في روسيا يضم حفنة صغيرة من الناس؛ وكان اصلاحيو ذلك العهد (مثل اصلاحيي اليوم) يسموننا على سبيل التهكم والسخرية « شيعة ». بضع مئات من المنظمين الثوريين، بضعة آلاف من أعضاء المنظمات المحلية، نصف دزينة من المنشورات الثورية التي تصدر مرة واحدة في الشهر على الأكثر، وتطبع بمعظمها في الخارج وترسل سرا إلى الأحزاب الثورية في روسيا عبر مصاعب لا تصدق وتضحيات جسيمة، وذلك ما كانته الأحزاب الثورية في روسيا، وبالدرجة الأولى، الاشتراكية-الديموقراطية الثورية، قبل الثاني والعشرين من كانون الثاني/يناير 1905، وكان ذلك يمكن، في الظاهر، الإصلاحيين المحدودين والأعياء من الزعم أنه ليس في روسيا شعب ثوري.

ولكن الأمور تغيرت كليا خلال بضعة أشهر. وإذا بمئات الاشتراكيين-الديموقراطيين الثوريين يصبحون « فجأة » آلافاً، والآلاف يصبحون زعماء مليونين أو ثلاثة ملايين من البروليتاريين. واستثار النضال البروليتاري غليانا كبيرا، حتى أنه استثار جزئيا بين 50 مليون من الفلاحين و100 مليون؛ وترددت أصداء الحركة الفلاحية في الجيش وأدت إلى نشوب تمردات عسكرية، إلى اصطدامات مسلحة بين أقسام الجيش. وهكذا دخل بلد شاسع يعد 130 مليون نسمة الثورة؛ وهكذا غدت روسيا الغافية روسيا البروليتاريا الثورية والشعب الثوري.

ومن الضروري دراسة هذا التحول، وفهم ما جعله ممكنا، وتحليل أساليبه وسبله، إذا جاز القول.

إن الإضراب الجماهيري كان أهم وسيلة لهذا التحول. إن أصالة الثورة الروسية تتلخص بالتحديد في أنها كانت ثورة برجوازية-ديموقراطية من حيث مضمونها الاجتماعي، ولكنها كانت بروليتارية من حيث وسائلها الكفاحية. لقد كانت ثورة برجوازية-ديموقراطية لأن الهدف الذي كانت تطمح إليه مباشرة والذي كان في مقدورها بلوغه مباشرة بقواها الخاصة، كان الجمهورية الديموقراطية، ويوم العمل من 8 ساعات، ومصادرة الأملاك العقارية الكبيرة الشاسعة التي تخص النبلاء، وجميعها تدابير حققتها كليا تقريبا في فرنسا الثورة البرجوازية في 1792 و1793.

وفي الوقت نفسه كانت الثورة الروسية ثورة بروليتارية، لا لأن البروليتاريا كانت فيها القوة القائدة، طليعة الحركة فحسب، بل أيضا لأن وسيلة الكفاح المميزة الخاصة بالبروليتاريا، أي الإضراب، كانت الوسيلة الرئيسية لتحريك الجماهير وإبرز واقع يصف تصاعد الأحداث الحاسمة موجة اثر موجة.

إن الثورة الروسية هي في التاريخ العالمي أول ثورة كبيرة – ولكن من المؤكد أنها لن تكون الأخيرة – اضطلع فيها الإضراب السياسي الجماهيري بدور في منتهى الأهمية. بل يمكن التأكيد أنه لا يمكن فهم أحداث الثورة الروسية وتعاقب أشكالها السياسية دون دراسة أسس هذه الأحداث وهذا التعاقب استنادا إلى إحصاء الإضرابات.

واني لأعرف جيدا جدا إلى أي حد لا تتلاءم أرقام الإحصاءات الجافة مع المحاضرات الشفوية، إلى أي حد يمكنها أن تنفّر المستمعين. ولكني لا أستطيع الامتناع عن إيراد بعض الأرقام المبسطة، التي تمكنكم من تقدير الأساس الموضوعي الحقيقي لمجمل الحركة. في السنوات العشر التي سبقت الثورة، بلغ المتوسط السنوي لعدد المضربين في روسيا 43 ألفاً. فكان هناك إذن بالاجمال 430 ألف مضرب خلال السنوات العشر السابقة للثورة. وفي كانون الثاني/يناير 1905، الشهر الأول من الثورة، بلغ عدد المضربين 440 ألفا. أي، في شهر واحد فقط، أكثر مما في السنوات العشر السابقة كلها !

إن بلدا واحدا من البلدان الرأسمالية في العالم، حتى بين أكثرها تقدما مثل بريطانيا أو الولايات المتحدة الأمريكية أو ألمانيا، لم يعرف حركة اضرابية جليلة كالحركة التي عرفتها روسيا في عام 1905. وقد بلغ عدد المضربين الإجمالي مليونين و 800 ألف، أي ضعفي عدد العمال الصناعيين الإجمالي ! وبديهي أن هذا لا يثبت أن العمال الصناعيين في مدن روسيا كانوا أوفر ثقافة، أو أشد قوة وبأسا، أو أكثر أهلية للنضال من إخوانهم في أوربا الغربية. فالعكس هو الصحيح.

ولكن هذا يبين إلى أي حد يمكن أن تكون كبيرة تلك الطاقة التي تغفو لدى البروليتاريا. إن هذا يبين أن البروليتاريا تستطيع في المرحلة الثورية – وأؤكد هذا دون أي مبالغة، وفقا لأدق المعطيات التي يقدمها تاريخ روسيا – أن ترفع طاقة النضال مائة مرة عمّا في الأيام العادية، الهادئة. ينجم من ذلك أن الانسانية لم تعرف حتى عام 1905 أي قوة هائلة وجليلة تستطيع البروليتاريا بذلها وستبذلها حين يكون المقصود النضال في سبيل أهداف عظيمة حقا، وبطريقة ثورية حقاً !

إن تاريخ الثورة الروسية يوضح لنا أن طليعة العمال الأجراء، ان نخبتهم على وجه الضبط هي التي كافحت بأشد الصلابة وأشد التفاني. وبقدر ما كانت المصانع أكبر، بقدر ما كانت الاضرابات أوفر عنادا وتصميما وبقدر ما كانت تكثر في مجرى السنة الواحدة نفسها. وبقدر ما كانت المدينة أكبر، بقدر ما كان دور البروليتاريا في النضال أكبر. فإن المدن الثلاث الكبرى حيث العمال هم أكثر وعيا وعددا، بطرسبورغ وريغا وفرصوفيا، تعطي، بالنسبة لمجمل العمال، عددا من المضربين أكبر بما لا يقاس من العدد الذي تعطيه جميع المدن الأخرى، وبالأحرى الأرياف.

إن عمال صناعة الآلات يمثلون في روسيا – كما في سائر البلدان الرأسمالية من باب الإحتمال – طليعة البروليتاريا، وهنا نلاحظ الواقع التالي الكبير الدلالة: بكل مائة عامل صناعي، بلغ عدد المضربين في عام 1905 في عموم روسيا 160 مضربا. ولكن كل مائة من عمال صناعة الآلات قدموا في العام نفسه، 320 مضربا ! وقد حسب أن كل عامل صناعي روسي قد خسر في عام 1905، بسبب من الاضراب، 10 روبلات بصورة وسطية – قرابة 26 فرنكا بسعر ما قبل الحرب، – وهذا بمثابة تبرعه للنضال. فإذا أخذنا عمال صناعة الآلات وحدهم، يكون المبلغ أكبر إلى ثلاث مرات ! إن خيرة عناصر الطبقة العاملة كانت تسير في المقدمة. مجتذبة المترددين، موقظة النائمين، مشددة عزائم المستضعفين.

إن تشابك الاضرابات الاقتصادية والاضرابات السياسية كان في غاية الأصالة إبان الثورة. ولا سبيل إلى الريب في أن الصلة الوثقى بين هذين الشكلين من الاضراب هي وحدها التي كانت تؤمن للحركة قوة كبيرة. فما كان بالإمكان، في أي حال من الاحوال، اجتذاب جماهير المستغلين الغفيرة إلى الحركة الثورية لو أن هذه الجماهير لم تر يوما أمثلة تبين لها كيف أن العمال الأجراء في مختلف الفروع الصناعية يجبرون الرأسماليين على تحسين وضعهم فورا، حالا. وبفضل هذا النضال، هبت ريح جديدة في صفوف كل جمهور الشعب الروسي. والآن فقط، تخلصت روسيا القنانة، الغارقة في سباتها وخمودها، روسيا البطريركية، التقية، المطيعة، من آدم القديم؛ والآن فقط تلقى الشعب الروسي تربية ديموقراطية حقا. ثورية حقا.

وحين يعمد السادة البرجوازيون ومرددو أقوالهم دون انتقاد، الاصلاحيون الاشتراكيون، ويتحدثون ببالغ الادعاء والغرور، عن « تربية » الجماهير، فإنهم يقصدون عادة بهذه « التربية » شيئا ما مدروسا متحذلقا يثبط همم الجماهير ويلقنها الأوهام البرجوازية.

إن تربية الجماهير تربية حقيقية لا يمكن أبدا فصلها عن النضال السياسي المستقل، ولاسيما عن نضالها الثوري، الذي تخوضه الجماهير بنفسها. إن النضال وحده يربي الطبقة المستغَلة، إن النضال وحده يبين لها مقدار قواها، ويوسع أفقها، وينمي كفاءاتها، وينير تفكيرها، ويسقي إرادتها. ولهذا اضطر الرجعيون أنفسهم إلى الاعتراف بأن عام 1905، هذا العام الكفاحي، هذا « العام المجنون »، فد دفن روسيا البطريركية إلى الأبد.

لنبحث عن كثب النسبة بين عمال صناعة الآلات وعمال النسيج في روسيا خلال النضال الاضرابي في عام 1905. عمال صناعة الآلات هم أكثر البروليتاريين أجورا، وأوفرهم وعيا وأوفرهم ثقافة. وعمال النسيج، وهم أكثر عددا من الأوائل إلى مرتين ونصف المرة في روسيا 1905، يؤلفون الجمهور الأشد تأخرا، والأقل أجورا، الجمهور الذي لم يقطع بعد نهائيا، في كثير الأحيان، ارتباطاته مع أقربائه الفلاحين في الريف. وهنا نصطدم بالواقع التالي البالغ الأهمية.

إن الإضرابات السياسية عند عمال المعادن تتفوق على الإضرابات الاقتصادية طوال العام 1905 كله، رغم أن هذا التفوق كان في بداية العام أقل بروزا بكثير مما في أواخره. أمّا عند عمال النسيج، فالحال بالعكس. ففي أوائل عام 1905، تفوقت الإضرابات الاقتصادية تفوقا كبيرا جدا، ولم تتفوق الإضرابات السياسية الاّ في أواخر العام. ينجم من هذا، بوضوح ما بعده وضوح، أن النضال الاقتصادي وحده، إن النضال لإجراء تحسين فوري ومباشر في أحوال أشد الفئات تأخرا بين الجماهير المستغلة هو وحده الذي يستطيع أن يهز هذه الفئات ويربيها حقا، ويجعل منها، في المرحلة الثورية، خلال أشهر قليلة، جيشا من المكافحين السياسيين.

يقينا أنه كان لابد، لهذا الغرض، أن لا تفهم طليعة العمال بالنضال الطبقي النضال في سبيل مصالح فئة عليا غير كبيرة، كما اجتهد الاصلاحيون في أغلب الأحيان أن يوحوا للعمال به، بل أن يعمل البروليتاريون حقا بوصفهم طليعة أغلبية المستغلين ويجتذبوا هذه الأغلبية إلى الكفاح، كما كان الحال في روسيا عام 1905 وكما يجب أن يكون الحال وسيكون بلا ريب إبان الثورة البيروليتارية القادمة في أوروبا.

إن بداية عام 1905 قد حملت أول موجة كبيرة من الحركة الاضرابية في عموم البلاد. وفي ربيع هذا العام، نلاحظ استيقاظ أول حركة فلاحية كبيرة في روسيا، وهذه الحركة ليست اقتصادية وحسب، بل سياسية كذلك. ولا يمكن أن يفهم مدى أهمية هذا الواقع الذي يشكل منعطفا في التاريخ إلاّ ذاك الذي يتذكر أن الفلاحين في روسيا لم يتحرروا إلاّ في عام 1861 من التبعية الإقطاعية الأكثر مشقة وإرهاقا، وأن الفلاحين أميون بأغلبيتهم وأنهم يعيشون في عوز لا يوصف، مسحوقين من جانب الإقطاعيين، مختبلين من جانب الكهنة، معزولين بعضهم عن بعض بمسافات هائلة وبارحاب خالية كليا تقريبا من الطرق.

في عام 1825 رأت روسيا للمرة الأولى حركة ثورية ضد القيصرية، وكانت هذه الحركة ممثلة على وجه الحصر تقريبا بالنبلاء. ومذ ذاك وحتى عام 1881، عندما اغتال الإرهابيون القيصر الكسندر الثاني، كان المثقفون المتحدرون من المرتبة المتوسطة يسيرون في رأس الحركة. وقد ضربوا أعظم آيات التفاني ونكران الذات، واستثاروا اعجاب العالم كله بطرائقهم الارهابية البطولية في النضال. ولا ريب في أن هذه الضحايا لم تسقط عبثا، ولا ريب في أنها أسهمت – مباشرة أم بصورة غير مباشرة – في تربية الشعب الروسي لاحقا بالروح الثورية. ولكنهم لم يبلغوا ولم يكن بوسعهم أن يبلغوا هدفهم المباشر، وهو استثارة ثورة شعبية.

ولم يفلح في ذلك غير نضال البروليتاريا الثوري. فإن موجات الإضراب الجماهيري التي تدفقت في عموم البلاد، بالارتباط مع الدروس القاسية التي أعطتها الحرب الروسية اليابانية الإمبريالية (1) هي وحدها التي أيقظت الجماهير الغفيرة من الفلاحين من سباتها. واكتسبت كلمة « مضرب » عند الفلاحين معنى جديدا تماما: فقد أصبحت تنطوي على ما يقرب من تعريف المتمرد، الثوري، أي ما كانت تعبر عنه من قبل كلمة « طالب ». ولكن بما أن « الطالب » كان ينتسب إلى المرتبة المتوسطة، إلى « العلماء »، إلى « السادة »، فقد كان غريبا عن الشعب. أمّا « المضرب »، فعلى العكس: فقد كان هو نفسه يتحدر من الشعب، وكان هو نفسه من عداد المستغَلين؛ وبعد إبعاده من بطرسبورغ، كان يعود في غالب الأحيان إلى القرية ويحكي لرفاقه القرويين عن الحريق الذي شمل المدينة والذي كان لا بدّ له أن يقضي على الرأسماليين وعلى النبلاء سواء بسواء. وظهرت في الريف الروسي شخصية جديدة، هي الفلاح الشاب الواعي. كان هذا الفلاح يعاشر « المضربين » ويطالع الجرائد، ويحكي للفلاحين عن الأحداث في المدينة، ويوضح للرفاق القرويين أهمية المطالب السياسية، ويدعوهم إلى النضال ضد كبار ملاكي الأراضي النبلاء، وضد الكهنة والموظفين.

كان الفلاحون يجتمعون جماعات جماعات، ويتباحثون في أوضاعهم، وينجذبون شيئا فشيئا إلى النضال: كانوا يمضون جموعا جموعا ضد كبار ملاكي الأراضي ويحرقون قصورهم ودورهم أو ينتزعون احتياطياتهم ويستولون على الحبوب وعلى المؤن الغذائية الأخرى، ويقتلون رجال البوليس، ويطالبون بتحويل عقارات النبلاء الشاسعة إلى الشعب.

في ربيع 1905، لم تكن الحركة الفلاحية إلاّ في حالة جنينية، ولم تكن تشمل غير أقلية من الأقضية، سبعها تقريبا.

ولكن تلاقي الحركة الاضرابية الجماهيرية البروليتارية في المدن مع الحركة الفلاحية في الريف كان كافيا لزعزعة « أصلب » وآخر سند للقيصرية وأعني به الجيش.

تبدأ مرحلة من الانتفاضات العسكرية في الأسطول والجيش. وكل نهوض لموجة الحركة الاضرابية والفلاحية في زمن الثورة ترافقه انتفاضات الجنود في جميع أنحاء روسيا. وأشهرها الانتفاضة على متن المدرعة « الأمير بوتيمكين » في البحر الأسود، التي وقعت في أيدي الثوار واشتركت في الثورة في أوديسا، ثم استسلمت للسلطات الرومانية في كونستانزا بعد هزيمة الثورة وبعد فشل المحاولات للاستيلاء على مرافئ أخرى (مثلا، مرفأ فيودوسيا في القرم).

اسمحوا لي أن أحكي لكم بالتفصيل عن واقعة صغيرة من وقائع هذه الانتفاضة في اسطول البحر الأسود لكي تتكون عندكم صورة ملموسة عن الأحداث في أوج تطورها.

« كانت تنعقد اجتماعات للعمال والبحارة الثوريين، وكانت تجري اكثر فأكثر. وبما أن السلطات لم تعد تسمح للعسكريين بحضور اجتماعات العمال، فقد أخذ العمال يحضرون جموعا جموعا الاجتماعات العسكرية . كانوا يجتمعون آلافا والافا . ووجدت فكرة العمل المشترك صدى حيا . وفي أوعى السرايا ، أخذوا ينتخبون النواب.

وآنذاك قررت القيادة العسكرية اتخاذ التدابير. وقد أسفرت محاولات بعض الضباط لإلقاء خطابات « وطنية » في الاجتماعات الحاشدة عن نتائج في منتهى التفاهة والحقارة: فان البحارة الذين اعتادوا المناقشات كانوا يحملون رؤساءهم على الفرار بخزي وعار. ونظرا لفشل هذه المحاولات تقرر حظر الاجتماعات الحاشدة. وفي صباح 24 تشرين الثاني/نوفمبر 1905، وضعت عند بوابة ثكنات البحارة سرية بكامل معداتها القتالية. وأصدر الأميرال بيساريفسكي على مسمع من الجميع الأمر التالي: « لا تسمحوا لأحد بالخروج من الثكنات ! في حال العصيان أطلقوا النار ». خرج البحار بتروف من صفوف السرية التي صدر هذا الأمر إليها، وعبأ البندقية أمام أعين الجميع، وقتل بطلقة واحدة النقيب شتين من فوج بيلوستوك، وجرح بطلقة ثانية الأميرال بيساريفسكي. وارتفع أمر ضابط: « أوقفوه ! ». لم يتحرك أحد من مكانه. رمى بتروف بندقيته أرضا وصاح، « لماذا تقفون ؟ خذوني ! ». أوقفوه الا أن البحارة الذين تقاطروا من جميع الجوانب طالبوا بصورة عاصفة باخلاء سبيله، وأعلنوا أنهم يتكفلون به. بلغ الهيجان الأوج.

- بتروف، حدث الاطلاق بالصدفة، أليس كذلك ؟ – سأل الضابط لكي يجد مخرجا من الوضع الناشئ.

- ولماذا بالصدفة ! لقد خرجت من الصف إلى الأمام، وعبأت البندقية وصوبت، فهل هذا، يا ترى، بالصدفة ؟

- إنهم يطالبون باخلاء سبيلك...

وأخلى سبيل بتروف. ولكن البحارة لم يكتفوا بذلك، بل اعتقلوا كذلك جميع الضباط المناوبين، وجردوهم من سلاحهم وساقوهم إلى المكتب ... وتشاور مندوبو البحارة، فيما بينهم، وعددهم 40 تقريبا، طوال الليل. وقرروا اخلاء سبيل الضباط ولكن شرط عدم السماح لهم بالدخول إلى الثكنات... »

إن هذا المشهد الصغير يبين لكم بوضوح كيف تطورت الأحداث في أغلبية الانتفاضات العسكرية. فلم يكن من الممكن أن لا يشمل الغليان الثوري في الشعب القوات المسلحة أيضا. ومما له دلالته أن زعماء الحركة كانوا من تلك العناصر في الأسطول الحربي والجيش التي كانت تتحدر من بيئة العمال الصناعيين والتي كانت مطالبة بأرفع مستوى من الاعداد التكنيكي، مثلا، رجال سلاح الهندسة. ولكن الجماهير الواسعة كانت لا تزال مفرطة في السذاجة، مفرطة في المسالمة، مفرطة في طيبة القلب، مفرطة في مزاجها المسيحي. كانت الانتفاضات تندلع بسهولة كبيرة نسبيا، من جراء كل ظلامة أيا كانت، وكان بوسع المعاملة المفرطة في الخشونة من جانب الضباط، أو الغذاء السيئ وما إلى ذلك أن تثير العصيان. ولكن كانت تنقص رباطة الجأش، والإدراك الواضح للمهمات: لم يكن هناك ما يكفي من الفهم للأمر التالي، وهو أن الضمانة الوحيدة لنجاح الثورة إنما تكمن فقط في مواصلة النضال المسلح بأشد ما يكون من الحزم، في إحراز النصر على جميع السلطات العسكرية والمدنية، في إسقاط الحكومة والاستيلاء على السلطة على صعيد الدولة بأسرها.

فإن جماهير واسعة من البحارة والجنود كانت تهب بسهولة إلى التمرد. ولكنها اقترفت بالسهولة ذاتها تلك الغباوة الساذجة، غباوة الإفراج عن الضباط المعتقلين؛ واطمأنت لوعود الرؤساء ونصائحهم؛ وعلى هذا النحو كسب الرؤساء وقتا ثمينا، وحصلوا على المدد، وسحقوا قوات المنتفضين، ثم اتبعوا ذلك بقمع في منتهى القساوة وبإعدام الزعماء.

ومن المفيد والطريف بخاصة إجراء مقارنة بين الانتفاضات العسكرية في روسيا عام 1905 وانتفاضات الديسمبريين العسكرية عام 1825. آنذاك، في عام 1825، كانت قيادة الحركة السياسية في أيدي الضباط وحدهم تقريبا، والضباط النبلاء على وجه الدقة؛ وكان هؤلاء مصابين بعدوى التماس بالأفكار الديموقراطية الشائعة في أوروبا في زمن الحروب النابوليونية. أمّا الأغلبية الساحقة من الجنود، التي كانت تتألف آنذاك من الفلاحين الأقنان، فكانت تقف موقفا هامدا.

إلاّ أن تاريخ عام 1905 يعطينا لوحة معاكسة تماما. فإن الضباط، ما عدا أقلية صغيرة، كانوا آنذاك إمّا ذوي مزاج برجوازي ليبرالي، إصلاحي، وأمّا ذوي مزاج معاد للثورة على المكشوف. وكان العمال والفلاحون باللباس العسكري روح الانتفاضات؛ وأصبحت الحركة شعبية. وللمرة الأولى في تاريخ روسيا، شملت الحركة أغلبية المستغَلين. ولكنه كانت تنقصها، من جهة، رباطة الجأش، وحزم الجماهير التي كانت مصابة فوق الحد بمرض سرعة التصديق؛ وكان ينقصها، من جهة أخرى، تنظيم العمال الاشتراكيين-الديموقراطيين الثوريين بالمعاطف العسكرية: فقد كانت تنقصهم القدرة على أخذ القيادة في أيديهم والسير في طليعة الجيش الثوري والانتقال إلى الهجوم على السلطة الحكومية.

وللمناسبة نقول أن هذين النقصين لن يقضي عليهما تطور الرأسمالية العام وحسب، بل أيضا الحرب الحالية – ولربما بصورة أبطأ مما نود، ولكن بالتأكيد...

وعلى كل حال، يعطينا تاريخ الثورة الروسية، مثله مثل تاريخ كومونة باريس عام 1871، درسا قاطعا مفاده أن النزعة العسكرية لا يمكن التغلب والقضاء عليها يوما وفي أي حال من الأحوال بأي أسلوب غير النضال المظفر من جانب قسم من جيش الشعب ضد قسمه الآخر. فلا يكفي التنديد بالنزعة العسكرية، ولعنها، و« إنكارها » وانتقادها، والبرهنة على ضررها؛ ومن الغباوة الامتناع بهدوء عن أداء الخدمة العسكرية؛ إنما ينبغي الحفاظ على وعي البروليتاريا الثوري في حالة من التوتر، وليس فقط بوجه عام، بل إعداد خيرة عناصرها بصورة ملموسة لكي تسير في طليعة الجيش الثوري عندما يبلغ الاستياء في صفوف الشعب ذروته.

وهذا بالذات ما تعلمنا إياه التجربة اليومية في كل دولة رأسمالية، أيا كانت. فإن كل أزمة « غير كبيرة » تعانيها دولة من هذا الطراز تبين لنا بصورة مصغرة عناصر واجنة المعارك التي لا بدّ لها أن تتكرر في مرحلة الأزمة الكبيرة على نطاق كبير. وما هو الاضراب، كل إضراب، مثلا، إن لم يكن أزمة صغيرة يعانيها المجتمع الرأسمالي ؟ أوليس على حق، يا ترى، وزير الداخلية البروسية، السيد فون بوتكامر، حين أطلق قوله المأثور: « في كل اضراب يكمن تنين الثورة ». أولا تبين لنا وقائع استدعاء الجنود في زمن الاضرابات في جميع البلدان الرأسمالية بما فيها – إذا جاز القول – أكثرها هدوءا، وأكثرها « ديموقراطية »، كيف ستسير الأمور في زمن الأزمات الكبيرة فعلاً.

ولكن أعود من جديد إلى تاريخ الثورة الروسية.

لقد حاولت أن أبيّن لكم كيف هزت اضرابات العمال البلاد بأسرها وأوسع فئات المستغَلين وأشدها تخلفا، وكيف بدأت الحركة الفلاحية، وكيف رافقتها الانتفاضات العسكرية.

في خريف 1905، بلغت الحركة كلها أوجها، وفي 19 (6) آب/أغسطس صدر بيان القيصر بعقد جمعية تمثيلية. كان من المزمع عقد ما أسمي بدوما بوليغين (2) بموجب قانون انتخابي نص على عدد قليل جدا من الناخبين ولم يخول هذا « البرلمان » الفريد أية حقوق تشريعية، بل خول حقوقا استشارية فقط !

كانت البرجوازية، والليبراليون، والانتهازيون على استعداد لتلقف « هدية » القيصر المذعور هذه بكلتا اليدين. فإن اصلاحيينا في عام 1905، شأنهم شأن جميع الاصلاحيين، لم يستطيعوا أن يفهموا أنه تحدث حالات تاريخية تبتغي فيها الاصلاحات، وبخاصة الوعود بالاصلاحات، هدفا واحدا بوجه الحصر هو وقف تذمر الشعب، وحمل الطبقة الثورية على الكف عن النضال أو على إضعافه على الأقل.

ولقد أدركت الاشتراكية-الديموقراطية الثورية في روسيا جيدا الطابع الحقيقي لهذه المنحة، لهبة الدستور الموهوب هذه في آب/أغسطس 1905. ولهذا رفعت، دون أن تتبطأ دقيقة واحدة، شعار: ليسقط الدوما الاستشاري ! لنقاطع الدوما ! لتسقط الحكومة القيصرية ! تجب مواصلة النضال الثوري بغية اسقاط الحكومة ! ليس القيصر، بل الحكومة الثورية الموقتة هي التي يجب أن تعقد أول هيئة تمثيلية شعبية حقيقية في روسيا !

ولقد أثبت التاريخ صحة خط الاشتراكيين-الديموقراطيين الثوريين بواقع أن دوما بوليغين لم ينعقد يوما. فقد كنسه الاعصار الثوري قبل أن يعقد؛ وهذا الاعصار أكره القيصر على اصدار قانون انتخابي جديد يزيد بصورة ملحوظة عدد الناخبين ويعترف بطابع الدوما التشريعي.

إن تشرين الأول/أكتوبر وكانون الأول/ديسمبر 1905 يسجلان ذرة الخط الصاعد للثورة في روسيا. فإن جميع ينابيع قوة الشعب الثورية قد تفتحت بصورة أوسع بكثير من ذي قبل. وعدد المضربين الذي بلغ 440 ألفا في كانون الثاني/يناير 1905، كما سبق وقلت لكم، ارتفع في تشرين الأول/أكتوبر 1905 إلى أكثر من نصف مليون (لاحظوا أن ذلك جرى في سياق شهر واحد فقط !). ولكنه يجب أن نضيف إلى هذا العدد الذي يشمل عمال المصانع فقط، بضع مئات الآلاف من عمال السكك الحديدية وموظفي البرق والبريد، ومن اليهم.

فإن إضراب السكك الحديدية العام في عموم روسيا قد أوقف حركة السكك الحديدية وشل قوة الحكومة بأحزم شكل. وانفتحت أبواب الجامعات، وقاعات المحاضرات، التي كانت معدة بوجه الحصر في زمن الهدوء لأجل اختبال عقول الشباب بحكمة أساتدة المنابر وتحويلهم إلى خدم طيعين للبرجوازية والقيصرية، وصارت الآن أمكنة للاجتماعات لأجل آلاف وآلاف العمال والحرفيين والمستخدمين الذين شرعوا يتناقشون في المسائل السياسية بحرية وعلى المكشوف.

وتم اكتساب حرية الطبع والنشر. وأزيلت الرقابة كليا. ولم يتجاسر أي ناشر على تقديم نسخة الزامية للسلطات، ولم تتجاسر السلطات على اتخاذ أية تدابير ضد هذا. وللمرة الأولى في التاريخ الروسي، صدرت الجرائد الثورية بحرية في بطرسبورغ وغيرها من المدن. وفي بطرسبرغ وحدها، صدرت ثلاث جرائد اشتراكية-ديموقراطية يومية كانت تطبع في كل عدد بين 50 و100 ألف نسخة.

وسارت البروليتاريا في رأس الحركة. ووضعت نصب عينيها مهمة الظفر بيوم العمل من ثماني ساعات بالسبيل الثوري. وآنذاك كان شعار بروليتاريا بطرسبورغ الكفاحي: « يوم العمل من ثماني ساعات والسلاح ! ». وأصبح واضحا لجمهور العمال المتعاظم باستمرار أن النضال المسلح وحده هو الذي يمكنه أن يقرر وسوف يقرر مصائر الثورة.

وفي معمعان النضال، تشكلت منظمة جماهيرية أصيلة هي سوفياتات نواب العمال الشهيرة، جمعيات المندوبين عن جميع المصانع. وقد أخذت سوفياتات نواب العمال في بعض من مدن روسيا تضطلع أكثر فأكثر بدور الحكومة الثورية الموقتة، بدور هيئات الانتفاضات وقادة الانتفاضات. وقامت محاولات لتنظيم سوفييتات لنواب الجنود والبحارة، وتوحيدها مع سوفييتات نواب العمال.

في تلك الأيام، حلت في بعض مدن روسيا مرحلة من « الجمهوريات » المحلية الصغيرة التي أطيح فيها بسلطة الدولة وعملت فيها سوفييتات نواب العمال بالفعل بصفة سلطة جديدة للدولة، ومن المؤسف أن هذه المراحل كانت قصيرة للغاية و« الانتصارات » ضعيفة للغاية، ومنعزلة للغاية.

وفي خريف 1905، بلغت الحركة الفلاحية أبعادا أكبر من ذي قبل. فإن أكثر من ثلث الأقضية في عموم البلاد قد شملها آنذاك ما أسمي « بالاضطرابات الفلاحية » وشملتها انتفاضات فلاحية حقيقية. وقد احرق الفلاحون زهاء الفي دار وعقار، ووزعوا فيما بينهم وسائل العيش التي كان قد نهبها الضواري النبلاء من الشعب.

ومن المؤسف أن هذا العمل كان واهنا للغاية ! ومن المؤسف أن الفلاحين قضوا آنذاك على جزء واحد فقط من أصل 15 جزءا من دور وعقارات النبلاء، على جزء واحد من أصل 15 جزءا مما كان يجب عليهم أن يقضوا عليه لكي يمحوا كليا من على وجه الأرض الروسية عار الملكية العقارية الكبيرة الاقطاعية. ومن المؤسف أن الفلاحين تصرفوا بصورة متفرقة للغاية، بصورة غير منظمة وبما لا يكفي من الروح الهجومية؛ وفي هذا يكمن أحد الأسباب الجذرية لهزيمة الثورة.

ونشبت حركة التحرر القومي بين الشعوب المظلومة في روسيا. ففي روسيا يعاني أكثر من نصف السكان، زهاء ثلاثة أخماس السكان (وبالضبط: 57%) من الاضطهاد القومي، وهم لا يتمتعون حتى بحرية اللغة القومية، ويروّسونهم بالعنف. فإن المسلمين، مثلا – الذين يشكلون عشرات الملايين من سكان روسيا، قد نظموا آنذاك بسرعة مذهلة – وكان ذلك على العموم عهد نمو مختلف المنظمات نموا هائلا – اتحاد اسلاميا.

ولكن أعطي الحاضرين ولاسيما منهم الشباب، صورة تبين كيف نهضت حركة التحرر القومي في روسيا آنذاك بالارتباط مع الحركة العمالية، اضرب لكم مثالا صغيرا واحدا.

في كانون الأول/ديسمبر 1905 أحرق التلامذة البولونيون في المئات من المدارس جميع الكتب والصور الروسية وصور القيصر، وضربوا وطردوا من المدارس المعلمين الروس والتلاميذة الروس صائحين: « روحوا إلى روسيا ! ». وفي عداد مطالب تلامذة المدارس الثانوية البولونيين، كانت المطالب التالية: « 1- يجي أن تخضع جميع المدارس الثانوية لسوفييت نواب العمال؛ 2- عقد اجتماعات مشتركة للتلامذة والعمال في المباني المدرسية؛ 3- السماح بارتداء البلوزات الحمراء في المدارس الثانوية دليلا على الانتساب إلى الجمهورية البروليتارية المقبلة »، الخ..

وبقدر ما كانت موجات الثورة تتصاعد، بقدر ما كانت الرجعية تتسلح بمزيد من الحزم والعزم لأجل مقارعة الثورة. وفي الثورة في روسيا عام 1905، ثبتت صحة ما كتبه كاوتسكي عام 1902 في كتابه « الثورة الاجتماعية » (وللمناسبة نقول أنه كان آنذاك لا يزال ماركسيا ثوريا، وليس مدافعا عن الاشتراكية-الوطنية وعن الانتهازية، كما هو في الوقت الحاضر). فقد كتب ما يلي:

« ... الثورة المقبلة... ستكون أقل شبها بانتفاضة مفاجئة ضد الحكومة وأكثرها شبها بحرب أهلية مستطيلة »

وهكذا حدث بالضبط ! ولا ريب أنه سيحدث هكذا أيضا في الثورة الأوربية المقبلة !

كانت القيصرية تصب حقدها على اليهود بصورة خاصة. فمن جهة، كان اليهود يقدمون نسبة مئوية عالية بخاصة (بالمقارنة مع مجمل عدد السكان اليهود) من زعماء الحركة الثورية. وللمناسبة نقول أن لليهود الآن أيضا فضلا في كونهم يقدمون نسبة مئوية عالية نسبيا من ممثلي التيار الأممي بالمقارنة مع الشعوب الأخرى. ومن جهة ثانية، عرفت القيصرية كيف تستغل بصورة ممتازة الأوهام الشائنة للغاية عند أشد فئات السكان إغراقا في الجهل ضد اليهود. وهكذا ظهرت المذابح العنصرية، وكانت تلقى مساندة البوليس في أغلبية الأحوال، إن لم يكن البوليس يشرف عليها مباشرة، – في 100 مدينة بلغ عدد القتلى في هذه الحقبة من الزمن أكثر من 4000 قتيل، وعدد المشوهين أكثر من 10000 ، – هكذا ظهرت هذه المذابح الفظيعة بحق اليهود الآمنين ونسائهم وأولادهم، تلك المذابح التي استثارت مثل هذا الاشمئزاز في العالم المتمدن كله. وأني أقصد، بالطبع، اشمئزاز العناصر الديموقراطية فعلا في العالم المتمدن؛ والحال أن العمال الاشتراكيين، البروليتاريين هم وحدهم دون غيرهم عناصر من هذا النوع.

إن البرجوازية، حتى في أكثر بلدان اوروبا الغربية حرية وأكثرها نزعة جمهورية، تعرف كيف تجمع بصورة ممتازة جملها وتعابيرها المنافقة عن « الأعمال الوحشية الروسية » مع الصفقات النقدية الأشد وقاحة وصفاقة، ولا سيما مع تقديم الدعم المالي للقيصرية ولاستغلال روسيا استغلالا امبرياليا عن طريق تصدير الرأسمال وما إلى ذلك.

لقد بلغت ثورة 1905 ذروتها في انتفاضة كانون الأول/ديسمبر في موسكو. فإن عددا كبيرا من الثوار، أي بالضبط من العمال المنظمين والمسلحين – وكان عددهم لا يربو على ثمانية آلاف – قد قاوموا الحكومة القيصرية خلال 9 أيام، علما بأنه لم يكن بوسعها أن تثق بحامية موسكو، بل تعين عليها بالعكس أن تحجزها، وبأنها لم تتمكن من قمع الانتفاضة إلاّ بعد وصول فوج سيميونوفسكي من بطرسبورغ.

يطيب للبرجوازية أن تنعت انتفاضة موسكو باجراء مصطنع، وأن تستهزئ بها. مثلا. في الأدب الألماني المسمى بالأدب « العلمي » نعت البروفيسور ماكس فيبر في مؤلفه الكبير عن التطور السياسي في روسيا انتفاضة موسكو « بالفتنة ». وقد كتب هذا السيد البروفسور « العالم العلامة »: « كانت جماعة لينين وقسم من الاشتراكيين-الثوريين (3) يعملون من زمان على تهيئة هذه الانتفاضة السخيفة ».

ولكي نقدر هذه الحكمة الاساتيذية الجبانة حق قدرها، حسبنا أن نعيد إلى الأذهان الأرقام الجافة من إحصاء الإضرابات. ففي كانون الثاني/يناير 1905 لم يكن في روسيا سوى 123 ألفا من المضربين السياسيين الصرف ، وفي تشرين الأول/أكتوبر كان هناك 330 ألفا؛ وفي ديسمبر تحقق الحد الأقصى، أي أن عدد المضربين السياسيين الصرف بلغ 380 ألفاً في سياق شهر واحد ! لنتذكر تعاظم الثورة، وانتفاضات الفلاحين والجنود، فنخلص في الحال إلى الاستنتاج التالي: إن حكم « العلم » البرجوازي بصدد انتفاضة كانون الأول/ديسمبر ليس سخيفا وحسب، بل كذلك مراوغة كلامية من ممثلي البرجوازية الجبانة التي ترى في البروليتاريا عدوها الطبقي الأخطر.

وبالفعل كان كل تطور الثورة الروسية يدفع بصورة لا مناص منها إلى المعركة الفاصلة المسلحة بين الحكومة القيصرية وطليعة البروليتاريا الواعية على الصعيد الطبقي.

ولقد سبق لي وقلت في اعتباراتي المذكورة آنفا فيما كان يكمن ضعف الثورة الروسية الذي أدى إلى هزيمتها موقتا.

منذ قمع انتفاضة كانون الأول/ديسمبر يبدأ خط الثورة النازل. وفي هذه المرحلة أيضا توجد لحظات هامة للغاية؛ حسبنا التذكير بأن أشد عناصر الطبقة العاملة نزوعا إلى القتال قد حاولت مرتين وقف تراجع الثورة وإعداد هجوم جديد.

ولكن وقتي قد نفذ كليا تقريبا، ولا أريد أن أسيء استعمال صبر مستمعي. والحال أن أهم عامل لفهم الثورة الروسية، وهو طابعها الطبقي وقواها المحركة، ووسائلها النضالية، قد وصفته، كما يبدو لي، بقدر ما يمكن على العموم استنفاد مثل هذا الموضوع الشاسع في تقرير وجيز.

ولكن إليكم أيضا ملاحظات قصيرة بصدد الأهمية العالمية للثورة الروسية.

إن روسيا لا تنتسب جغرافيا واقتصاديا وتاريخيا إلى أوربا وحسب، بل أيضا إلى آسيا. ولذا نرى أن الثورة في روسيا لم تبلغ فقط الهدف التالي وهو أنها أيقظت نهائيا من السبات أكبر بلد في أوربا وأشد بلدانها تخلفا، وأنشأت شعبا ثوريا تقوده بروليتاريا ثورية.

لم تبلغ هذا فقط. فإن الثورة الروسية قد استثارت كذلك حركة في عموم آسيا. وتبين الثورات في تركيا وبلاد فارس والصين أن الانتفاضة الجبارة في عام 1905 قد تركت آثارا عميقة وأن تأثيرها الذي يتجلى في تحرك مئات ومئات الملايين من الناس إلى الامام، إنما يستحيل استئصاله.

ثم أن الثورة الروسية قد أثرت بصورة غير مباشرة في البلدان الواقعة في الغرب. ويجب أن لا ننسى أنه ما أن وصلت برقية عن بيان القيصر بصدد الدستور (4) إلى فيينا في 30 تشرين الأول/أكتوبر 1905 حتى اضطلع هذا النبأ بالدور الفاصل في انتصار الحق الانتخابي العام انتصارا نهائيا في النمسا.

وأثناء جلسة لمؤتمر الاشتراكية-الديموقراطية النمساوية، عندما كان الرفيق ايلينبوغن – وآنذاك لم يكن قد صار اشتراكي-وطنيا، آنذاك كان لا يزال رفيقا – يلقي تقريره عن الاضراب السياسي، وضعوا هذه البرقية أمامه على الطاولة. فأوقفت المناقشات في الحال. مكاننا في الشارع ! – هذه هي الصيحة التي تدفقت في قاعة جلسات مندوبي الاشتراكية-الديموقراطية النمساوية. وفي الأيام التالية شهدت شوارع فيينا مظاهرات كبيرة جدا وشهدت شوارع براغ متاريس. فأصبح انتصار الحق الانتخابي العام في النمسا أمرا واقعا.

غالبا جدا ما نجد أوروبيين غربيين ينظرون إلى الثورة الروسية كأنما الأحداث والعلاقات ووسائل النضال في هذا البلد المتخلف تشبه قليلا جدا ما هي عليه في أوروبا الغربية، وأنه من المشكوك فيه بالتالي أن يكون بوسعها أن تتسم بأية أهمية عملية.

ليس ثمة ما هو أفدح خطأ من هذا الرأي.

فلا ريب أن أشكال وبواعث المعارك المقبلة في الثورة الأوربية المقبلة سيختلف في كثير من النواحي عن أشكال الثورة الروسية.

ولكن الثورة الروسية تبقى، رغم هذا – بفضل طابعها البروليتاري بمعنى هذه الكلمة الخاص الذي سبق وتكلمت عنه، وبفضله على وجه الدقة – مقدمة الثورة الأوربية المقبلة. ولا ريب في أنه لا يمكن لهذه الثورة المقبلة أن تكون سوى ثورة بروليتارية، وفضلا عن ذلك، بمعنى أعمق لهذه الكلمة، أي ثورة بروليتارية، اشتراكية من حيث مضمونها أيضا. إن هذه الثورة المقبلة ستبين بمقدار أكبر، من جهة، أن المعارك الطاحنة، أي الحروب الأهلية بالضبط، هي وحدها التي تستطيع أن تحرر البشرية من نير الرأسمال. ومن جهة أخرى، ان البروليتاريين الواعين على الصعيد الطبقي هم وحدهم الذين يستطيعون أن يضطلعوا وسوف يضطلعون بدور زعماء الأغلبية الساحقة من المستغَلين.

ينبغي ألاّ يخدعنا الهدوء المطبق السائد حاليا في أوربا. فإن أوربا حبلى بالثورة. ان الفظائع الرهيبة للحرب الامبريالية، وعذابات غلاء المعيشة تولد في كل مكان المزاج الثوري. والطبقات السائدة – البرجوازية، وخدم هذه الطبقات – الحكومات ، تقع أكثر فأكثر في مأزق لا يمكنها على العموم أن تجد مخرجا منه بدون هزات كبيرة جدا.

وكما أن الانتفاضة الشعبية ضد الحكومات القيصرية قد بدأت في روسيا عام 1905 بقيادة البروليتاريا، بغية الظفر بالجمهورية الديموقراطية، كذلك ستؤدي السنوات القريبة القادمة، بالارتباط بهذه الحرب اللصوصية على وجه الدقة، إلى انتفاضات شعبية في أوربا بقيادة البروليتاريا ضد سلطة الرأسمال المالي، ضد المصارف الكبرى، ضد الرأسماليين؛ وهذه الهزات لا يمكن لها أن تنتهي إلاّ بمصادرة أموال البرجوازية، بانتصار الاشتراكية.

ونحن، الشيوخ، لربما لن نعيش حتى المعارك الفاصلة في الثورة المقبلة. ولكن بوسعي، كما أعتقد، أن أعرب بثقة كبيرة عن الأمل في أن الشباب الذي يعمل جيدا جدا في الحركة الاشتراكية في سويسرا وفي العالم أجمع، – في أنه سيكون من حظ هذا الشباب لا أن يناضل وحسب، بل أيضا أن ينتصر في الثورة البروليتارية المقبلة.


(1) المقصود هنا الحرب الروسية اليابانية (1904-1905) التي انتهت بهزيمة روسيا.
 

(2) في 6(19) اب/اغسطس 1905 نشر بيان القيصر بتأسيس دوما الدولة ولائحة بالانتخابات اليها. اسمى الدوما باسم دوما بوليغين، أي باسم وزير الداخلية بوليغين الذي عهد اليه القيصر بوضع مشروع الدوما . دعا البلاشفة العمال والفلاحين الى مقاطعة دوما بوليغين مقاطعة نشيطة، مركزين الحملة التحريضية كلها حول الشعارات التالية: الانتفاضة المسلحة، الجيش الثوري، الحكومة الثورية المؤقتة. استغل البلاشفة حملة مقاطعة دوما بوليغين لاجل حشد جميع القوى الثورية ولاجل القيام باضرابات سياسية جماهيرية ولاجل الاعداد للانتفاضة المسلحة.
لم تجر الانتخابات الى دوما بوليغين، ولم تفلح الحكومة في الدعوة الى عقده، فان تعاظم نهوض الثورة، والاضراب السياسي في عامة روسيا في تشرين الأول/اكتوبر 1905 قد كنسا الدوما.
 

(3) حزب للبرجوازية الصغيرة في روسيا . انبثق في اواخر عام 1901 وأوائل عام 1902 بنتيجة توحيد مختلف فرق الشعبيين وحلقاتهم.
تضمن برنامج الاشتراكيين الثوريين الزراعي مطلب القضاء على الملكية العقارية الإقطاعية ، والغاء الملكية الخاصة للأرض، وإحالة جميع الأراضي الى المشاعات الفلاحية على أساس الانتفاع المتساوي بالارض عن طريق العمل، مع اعادة توزيع الأرض بانتظام حسب عدد الأفواه في العائلة او حسب عدد أفراد العائلة القادرين على العمل. اما في الواقع فان تحقيق" الانتفاع المتساوي بالأرض عن طريق العمل" مع بقاء علاقات الإنتاج الرأسمالية لم يكن من شأنه ان يعني الانتقال الى الاشتراكية ، بل كان من شأنه أن يؤدي فقط الى القضاء على العلاقات شبه الإقطاعية في الريف والى تسارع تطور الرأسمالية.
كان الإرهاب الفردي الطريقة الرئيسية عند الاشتراكيين-الثوريين للنضال ضد القيصرية.
بعد هزيمة الثورة الروسية الأولى 1905-1907،عانى حزب الاشتراكيين-الثوريين أزمة: فان قيادة الحزب قد عدلت عمليا عن النضال ضد القيصرية . إبان الحرب العالمية الأولى وقف الاشتراكيون-الثوريون بأغلبيتهم مواقف الاشتراكية الشوفينية. بعد إطاحة القيصرية في فبراير 1917 دخل زعماء الاشتراكيين-الثوريين الى الحكومة المؤقتة البرجوازية ، وناضلوا ضد الطبقة العاملة التي كانت تهيئ للثورة الاشتراكية، واشتركوا في قمع الحركة الفلاحية في صيف 1917. بعد ثورة أكتوبر الاشتراكية، ناضل الاشتراكيون-الثوريون بنشاط ضد السلطة السوفييتية.
 

(4) المقصود هنا البيان القيصري المنشور في 17(30) تشرين الأول/أكتوبر 1905 والذي كان يتضمن وعدا بمنح"الحريات المدنية" وعقد" الدوما التشريعي". كان البيان تنازلا انتزعه النضال الثوري من القيصرية، ولكن هذا التنازل لم يقرر البتة مصير الثورة،كما زعم الليبراليون والمناشفة. فقد فضح البلاشفة كل كذب البيان القيصري ودعوا الى مواصلة النضال، الى إسقاط الاتوقراطية(الحكم المطلق) .
كان للثورة الروسية الأولى تأثير ثوري كبير في الحركة العمالية ببلدان أخرى، وخاصة في النمس-المجر.
ففي فيينا وسائر المدن الصناعية في النمس-المجر، قامت مظاهرات جبارة. وفي براغ، ظهرت المتاريس. وبالنتيجة، تم في النمسا إقرار الحق الانتخابي العام.