الفصل الثاني عشر
الستالينية


1- إخفاق الصعود الثوري لأعوام 1918-1923 في أوروبا

عام 1918 انفجرت الثورة العالمية التي انتظرتها البروليتاريا الروسية والقادة البلاشفة، وأقيمت مجالس عمال وجنود في ألمانيا والنمسا. وفي هنغاريا أعلن في مارس 1919 قيام جمهورية المجالس، وفي بافيير خلال شهر أبريل 1919. أما العمال في شمالي إيطاليا، الذين كانوا في حالة غليان متنامية منذ عام 1919 فقد احتلوا كل المصانع في أبريل 1920. واكتسحت تيارات ثورية بلدانا أخرى، من مثل فنلندا وبولونيا وتشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا وبلغاريا. بدت مقدمات إضراب عام في هولندا، بينما أقام العمال في بريطانيا العظمى « التحالف الثلاثي » للنقابات الثلاث الكبرى في البلاد، الذي زعزع أركان الحكم.

إلاّ أن هذه الموجة الثورية انتهت بالإخفاق، وقد كان وراء ذلك الإخفاق الأسباب التالية:

إن روسيا السوفييتات كانت تمزقها الحرب الأهلية، فالملاكون العقاريون القدامى والضباط القيصريون، يدعمهم الرأسماليون الروس والأجانب، حاولوا أن يقلبوا بقوة السلاح أول جمهورية للعمال والفلاحين. من هنا لم يكن بوسع سلطة السوفييتات أن تقدم إلاّ عونا ماديا وعسكريا محدودا للثورات الأوروبية، التي كانت تقاتلها الجيوش الإمبريالية كافة.

لم تتردد الاشتراكية-الديموقراطية العالمية في الانضمام إلى معسكر الثورة المضادة، ساعية بكل أنواع الوعود والمخادعات الممكن تصورها (وعدت في ألمانيا منذ فبراير 1919 بالتشريك الفوري للصناعات الكبرى، وهو ما لم يتحقق على الإطلاق) أن تحرف الشغيلة عن النضال لأجل السلطة. كما لم تتردد كذلك في تنظيم العنف المعادي للثورة، لا سيما عن طريق تنظيم الفرق غير النظامية التي دعاها نوسكي للنجدة في مواجهة الثورة الألمانية، ولقد كانت تلك الفرق نواة العصابات النازية لاحقا.

إن الأحزاب الشيوعية الفتية التي أسست الأممية الثالثة كانت تنقصها التجربة والنضج فاقترفت العديد من الأخطاء « اليسارية » أو اليمينية.

إن البورجوازية التي أرعبها شبح الثورة قدمت تنازلات اقتصادية مهمة للشغيلة دفعة واحدة، لاسيما يوم العمل من ثماني ساعات والاقتراع العام في بلدان عدة، وهو ما أوقف الصعود الثوري في العديد من تلك البلدان.

لقد انتهت الاخفاقات الأولى للثورة بهزائم دامية في هنغاريا حيث رافق سحق جمهورية المجالس اهراق دم غزير، كما في إيطاليا حيث استولت الفاشية على السلطة عام 1922. إلاّ أن الحزب الشيوعي في ألمانيا تقوّى تدريجيا واكتسب قاعدة جماهيرية أكثر فأكثر اتساعا، وانطلق في العامين 1922-1923 لكسب النقابات الكبرى ومجالس المشاريع.

ولقد كان عام 1923 عام أزمة ثورية استثنائية في البلد المذكور، فالجيش الفرنسي احتل الروهر، وتفاقم التضخم، وانفجر إضراب عام ظافر نجح في قلب الحكومة، كما تشكلت حكومة تحالف بين الاشتراكيين اليساريين والشيوعيين في ساكس وتورينج. إلاّ أن الحزب الشيوعي الذي أساءت الأممية الشيوعية نصحه فشل في التنظيم المنهجي للانتفاضة المسلحة في اللحظة المناسبة، فاستطاع رأس المال الكبير أن يعيد تثبيت الوضع واستقرار المارك، وأن يعيد إلى السلطة تحالفا بورجوازيا، مما أدى إلى وضع حد للأزمة الثورية لما بعد الحرب.

 

2- صعود البيروقراطية السوفياتية

لقد خرجت روسيا السوفياتية منتصرة من الحرب الأهلية عام 1920-1921، إلاّ أنها خرجت منهكة من تلك الحرب، فالإنتاج الزراعي والصناعي انخفض بشكل ذريع وأصابت المجاعة مناطق واسعة من البلاد. وبانتظار صعود جديد للثورة العالمية، ومن أجل تقديم العلاج لهذا الوضع، قرر لينين وتروتسكي القيام بتراجع اقتصادي. فلقد أبقى على الملكية المؤممة بما يخص الصناعة الكبرى بمجملها والمصارف ونظام النقل، إلاّ أنه أعيدت حرية التجارة بصدد الفوائض الزراعية بعد تمام دفع الضريبة العينية، بالإضافة إلى الأعمال الحرفية والتجارة والطناعية الصغيرة الخاصة.

كان البلاشفة ينظرون إلى ذلك على أنه مجرد عمل مؤقت حسبوا مخاطره على الصعيد الاقتصادي، إذ أنه كان بإمكان البرجوازية الصغيرة المغتنمة أن تعيد باستمرار إنتاج التراكم الرأسمالي الخاص. إلاّ أن النتائج الاجتماعية والسياسية لانعزال الثورة البروليتارية في بلد متخلف كانت أكثر رهبة من تلك المخاطر الاقتصادية. وهي تتلخص كالتالي: لقد فقدت البروليتاريا الروسية يوما بعد يوم الممارسة المباشرة للسلطة السياسية والاقتصادية. بدأت شريحة جديدة ذات امتيازات تعتلي ظهرها، وقد اكتسبت هذه البيروقراطية احتكارا حقيقيا لممارسة السلطة في كل حقول المجتمع.

لم تكن تلك السيرورة نتيجة مؤامرة عن سابق تصور وتصميم، بل نجمت عن تفاعل مجموعة من العوامل. فلقد ضعفت البروليتاريا عدديا بفعل انخفاض الإنتاج الصناعي والنزوح إلى الريف، كما فقدت تسيسها جزئيا تحت وطأة الجوع والحرمانات. أمّا عناصرها الأكثر وعيا فامتصها الجهاز السوفياتي، وكان الكثير من أفضل أفرادها قد سقطوا في الحرب الأهلية. إن تلك الفترة المضطربة بمجملها لم تكن مناسبة لتكوين الكادرات المتميزة تقنيا وثقافيا داخل الطبقة العاملة. هكذا احتفظت الأنتليجنسيا البورجوازية الصغيرة والبورجوازية باحتكارها للمعارف، ذلك أن فترة قحط عظيم ملائمة لاكتساب امتيازات مادية والدفاع عنها.

لا نعتقد أن هذه السيرورة قد بقيت خارج إدراك الماركسيين الثوريين الروس، فمنذ عام 1920 قرعت المعارضة العمالية داخل الحزب الشيوعي السوفياتي جرس الإنذار، وطرحت في الوقت ذاته حلولا غير مناسبة إلى حد بعيد. ومنذ عام 1921 أصبح شغل لينين الشاغل التفكير بالخطر البيروقراطي، وكان يسمي الدولة الروسية دولة عمالية مشوهة بيروقراطيا ويشير شبه عاجز إلى سطوة البيروقراطية الوليدة على جهاز الحزب بالذات. ومنذ عام 1923 تشكلت المعارضة اليسارية التروتسكية التي سوف تجعل من النضال ضد البيروقراطية نقطة من النقاط الأساسية في برنامجها.

وقد يكون من قبيل الخطأ الاعتقاد أن صعود البيروقراطية السوفياتية يمثل ظاهرة حتمية، فإذا كانت تغرز جذورا عميقة في الواقع الاجتماعي والاقتصادي الروسي في أوائل العشرينات، فقد كان ممكنا في الوقت ذاته مجابهتها مع حظوظ نجاح حقيقية. كان برنامج المعارضة اليسارية التروتسكية يتجه بمجمله لخلق شروط ملائمة لتقويم الوضع من جديد.

أ- عن طريق تسريع تصنيع روسيا، بزيادة الوزن النوعي للبروليتاريا في المجتمع.

ب- بزيادة الأجور ومكافحة البطالة بغية تنمية ثقة الجماهير العمالية بذاتها.

ج- بالتوسيع الفوري للديموقراطية السوفياتية والديموقراطية داخل الحزب، بغية رفع مستوى النشاط السياسي ومستوى وعي البروليتاريا الطبقي.

د- بزيادة حدة التمايز داخل الفلاحين، عن طريق مساعدة الفلاحين الفقراء عبر تقديم قروض وآلات زراعية اليهم في بناء تعاونيات إنتاجية، وفرض ضرائب تصاعدية على الفلاحين الأغنياء.

هـ- بالإبقاء على التوجه شطر الثورة العالمية، وبتصحيح الأخطاء التكتيكية والاستراتيجية للكومنترن.

لو فهم مجمل القادة والكادرات البلاشفة ضرورة إنجاز برنامج من هذا النوع وإمكان ذلك، لكانت إعادة إطلاق السوفييتات وممارسة البروليتاريا للسلطة ممكنة منذ أواسط العشرينات. إلاّ أن معظم كادرات الحزب كانوا قد انخرطوا من جانبهم في سيرورة البقرطة. معظم القادة تأخروا كثيرا في فهم خطر المميت لصعود البيروقراطية. إن ضعف « العامل الذاتي » (أي الحزب الثوري) انظم إلى الشروط الموضوعية الملائمة، لتفسير انتصار البيروقراطية الستالينية في الاتحاد السوفياتي.

 

3- طبيعة البيروقراطية وطبيعة الاتحاد السوفياتي

ليست البيروقراطية طبقة مسيطرة جديدة. وهي لا تلعب أي دور ضروري في سيرورة الإنتاج. إنها شريحة ذات امتيازات اغتصبت ممارسة وظائف الإدارة في الدولة والاقتصاد السوفياتيين، وتمنح لنفسها على أساس احتكار السلطة هذا منافع وفيرة في حقل الاستهلاك (أجور مرتفعة، منافع عينية، مخازن خاصة، الخ). ليست مالكة لوسائل الإنتاج، ولا تملك أي ضمانة للاحتفاظ بتلك المنافع أو توريثها لأولادها، إنما كل شيء مرتبط بممارسة وظائف نوعية خاصة.

إنها شريحة اجتماعية متميزة من البروليتاريا تقيم سلطتها على مكاسب ثورة أكتوبر الاشتراكية، كتأميم وسائل الإنتاج والتخطيط الاقتصادي واحتكار الدولة للتجارة الخارجية. وهي محافظة كما الحال مع أي بيروقراطية عمالية، إنها تضع الحفاظ على ما تم اكتسابه فوق كل مشروع يرمي إلى التوسع بالمكاسب الثورية.

إنها تخاف من الثورة العالمية التي قد تؤدي إلى إنعاش النشاط السياسي للبروليتاريا السوفييتية وتدمير سلطة البيروقراطية على هذا الأساس. من هنا فهي ترغب في الحفاظ على الوضع القائم العالمي. إلا أنها تبقى، من حيث هي شريحة اجتماعية، ضد إعادة الرأسمالية إلى الاتحاد السوفياتي، ذلك أن هذه قد تدمر أسس امتيازاتها بالذات (وهو ما لا يمنع البيروقراطية من أن تكون الوسط الملائم لنمو مجموعات ثانوية واتجاهات فرعية يمكن أن تحاول التحول إلى رأسماليين جدد).

ليس الاتحاد السوفياتي مجتمعا اشتراكيا، أي مجتمعا بلا طبقات. إنه ما يزال، تماما كما غداة ثورة أكتوبر 1917، مجتمعا انتقاليا بين الرأسمالية والاشتراكية، ويمكن أن تتم إعادة الرأسمالية فيه، لكن على أساس ثورة مضادة اجتماعية. كما يمكن بالمقابل إعادة إرساء السلطة المباشرة للشغيلة فيه، لكن على أساس ثورة سياسية تكسر احتكار ممارسة السلطة بأيدي البيروقراطية.

رغم أن الاقتصاد السوفياتي هو نظام « سيطرة البيروقراطية على المنتجين »، ورغم أنه أعطى الأولوية زمنا طويلا لتطور الآلات على حساب استهلاك الجماهير، فهو لا يستحق وصمه بـ« الرأسمالية ». إن الرأسمالية نظام نوعي خاص للسيطرة الطبقية، يتصف بالملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وبالمنافسة والإنتاج البضاعي المعمم، وبالطابع البضاعي لقوة العمل، وبحتمية الأزمات الدورية لفيض الإنتاج المعمم، ونحن لا نجد أيا من هذه الملامح الأساسية في الاقتصاد السوفياتي.

إلاّ أنه إذا لم يكن الاقتصاد السوفياتي رأسماليا فهو ليس اشتراكيا أيضا، على الأقل بالمعنى التقليدي للكلمة، كما يتبين من كتابات ماركس وانجلز ولينين بالذات. فالاقتصاد الاشتراكي يتحدد بنظام المنتجين المتشاركين الذين ينظمون بأنفسهم حياتهم الإنتاجية والاجتماعية عن طريق وضع تسلسل في الحاجات التي ينبغي كفايتها تبعا للموارد التي في حوزتهم ولوقت العمل الذي هم مستعدون لتكريسه للجهد الإنتاجي، والاتحاد السوفياتي على بعد بعيد عن هذا الوضع. إن اقتصادا اشتراكيا يتحدد بزوال كل إنتاج بضاعي، وماركس وانجلز يوضحان أن هذا الزوال ليس خاصا « بالمرحلة الثانية » من المجتمع اللا طبقي، التي تطلق عليها عادة تسمية « المرحلة الشيوعية »، بل هو من سمات المرحلة الأولى المسماة « اشتراكية »، وذلك على عكس العقيدة المعتمدة رسميا في الاتحاد السوفياتي.

إن ستالين الذي فضل النظرية المضادة للماركسية حول الإمكانية المزعومة لإنجاز بناء الاشتراكية في بلد واحد، إنما كان يعبر بصورة تجريبية عن النزعة المحافظة البرجوازية الصغيرة لدى البيروقراطية السوفياتية المؤلفة من خليط من الموظفين القدامى في الدولة البرجوازية ومن محدثي النعمة في جهاز الدولة السوفياتية وشيوعيين مفسدين ومستخفين، وتقنيين شباب راغبين في « النجاح في المهنة » دون أدنى مراعاة للمصالح الطبقية للبروليتاريا.

لقد واجه تروتسكي والمعارضة اليسارية هذه النظرية بمبادئ أساسية في الماركسية (« لا يمكن تحقيق المجتمع اللا طبقي إلا على المستوى العالمي، بحيث يضم على الأقل بعضا من الدول المصنعة الرئيسية » -« تشرع الثورة بالانتصار في بلد من البلدان، ثم تمتد على الصعيد الدولي، وتخوض في نهاية المطاف معركة حاسمة على المستوى العالمي »)، وهما لم يدافعا بذلك عن موقف « انتضاري » أو « انهزامي » تجاه الثورة الروسية. لقد سعيا لحفز فوري لتصنيع البلاد، وذلك قبل ستالين وبصورة أكثر عقلانية، وكانا نصيرين للدفاع عن الاتحاد السوفياتي ضد الامبريالية، وللدفاع عمّا بقي من مكاسب ثورة أكتوبر ضد أي محاولة لإعادة الرأسمالية في الاتحاد السوفياتي، وقد ظلا كذلك إلى النهاية. إلاّ أنهما فهما أن مصير الاتحاد السوفياتي سوف يحسمه في نهاية المطاف ما يؤول إليه الصراع الطبقي على المستوى العالمي، وهو استنتاج لا يزال اليوم صحيحا كما كان صحيحا بالأمس.

 

4- ما هي الستالينية ؟

حين ألقى خروتشيف مرافعته المشهورة ضد جرائم ستالين في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي، فسر تلك الجرائم بـ« عبادة الشخصية » التي هيمنت خلال ديكتاتورية ستالين. وهذا التفسير الذاتي، لا بل السيكولوجي، لنظام سياسي قلب رأسا على عقب حياة عشرات الملايين من الكائنات البشرية، لا يتفق إطلاقا مع الماركسية. فظاهرة الستالينية لا يمكن اختصارها بالخصائص السيكولوجية أو السياسية لرجل فرد. إن الأمر يتعلق بظاهرة اجتماعية ينبغي تعرية جذورها الاجتماعية.

إن الستالينية في الاتحاد السوفياتي هي التعبير عن الانحطاط البيروقراطي لأول دولة عمالية، حيث اغتصبت شريحة اجتماعية ذات امتيازات ممارسة السلطة الاقتصادية والسياسية. إن الأشكال الفظة (الإرهاب البوليسي، التطهيرات الجماعية في الثلاثينات والأربعينات، اغتيال مجمل الكادرات القديمة للحزب الشيوعي السوفياتي تقريبا، ومحاكمات موسكو، الخ.) والأكثر « دقة » لهذه السلطة البيروقراطية يمكن أن تتبدل، إلاّ أنّ أسس الانحطاط البيروقراطي تبقى قائمة بعد ستالين كما في ظل ستالين.

فلسلطة لا تمارسها سوفييتات ينتخبها كل الشغيلة بحرية، والمشاريع لا يسيّرها الشغيلة. لا الطبقة العاملة ولا أعضاء الحزب الشيوعي يتمتعون بالحريات الديموقراطية الضرورية للتمكن بحرية من تحديد الخيارات الكبرى بصدد السياسة الاقتصادية والثقافية، الداخلية والعالمية.

إن الستالينية تعني في العالم الرأسمالي قيام الأحزاب التي تتمبع سياسة الكريملين بإخضاع مصالح الثورة الاشتراكية في بلدانها إلى مصالح ديبلوماسية الكريملين. فهذا الأخير يستخدم الأحزاب الشيوعية الستالينية، وحركة الجماهير التي تشرف عليها، كمجرد عملة للتبادل في جهوده لتكريس الوضع القائم العالمي مع الامبريالية.

إن الستالينية تمثل على الصعيد الايديولوجي تشويها تبريريا وتجريبيا للنظرية الماركسية. فبدل أن تلعب النظرية الماركسية دور أداة تحليلية لتطور تناقضات الرأسمالية وموازين القوى بين الطبقات والواقع الموضوعي للمجتمع الانتقالي من الرأسمالية إلى الاشتراكية، بغية إسناد نضال البروليتاريا التحرري، يجري الحط منها إلى مستوى أداة تبرير لكل من « الانعطافات التكتيكية » للكريملين والأحزاب الستالينية.

تسعى الستالينية لتبرير هذه المناورات باسم حاجات الدفاع عن الاتحاد السوفياتي، « القلعة الرئيسية للثورة العالمية » كما كان يسمى قبل الحرب العالمية الثانية، و« مركز المعسكر العالمي للاشتراكية » كما أصبح يسمى منذ الحرب العالمية الثانية. وبالفعل على الشغيلة أن يدافعوا عن الاتحاد السوفياتي ضد محاولات الإمبريالية إعادة سلطة رأس المال إليه.

إلاّ أن المناورات التكتيكية الستالينية التي ساهمت في هزيمة كذا من الثورات في العالم، والتي سهلت وصول هتلر إلى السلطة في ألمانيا عام 1933، وحكمت على الثورة الإسبانية لعام 1936 بالهزيمة، وأجبرت الجماهير الشيوعية الفرنسية والإيطالية على إعادة بناء الدولة البورجوازية والاقتصاد الرأسمالي في بلادها ما بين 1944 و1946، وأدت إلى سحق الحركة الثورية في أندونيسيا والبرازيل والشيلي والعديد من البلدان الأخرى مذ ذاك، لا تتوافق إطلاقا مع مصالح الاتحاد السوفياتي كدولة، بل مع المصالح الضيقة المتعلقة بالدفاع عن امتيازات البيروقراطية السوفياتية المتناقضة في كل من تلك الحالات مع المصالح الحقيقية للاتحاد السوفياتي.

 

5- أزمة الستالينية

إن انحدار الثورة العالمية بعد عام 1923 والوضع المتخلف للاقتصاد السوفياتي هما الدعامتان الرئيسيتان لسلطة البيروقراطية في الاتحاد السوفياتي، وهاتان الدعامتان قد تآكلتا تدريجيا منذ نهاية الأربعينات.

فلقد تلا عشرين عاما من هزائم الثورة صعود جديد للثورة العالمية، انحصر في البدء في بلدان متخلفة هي الأخرى (يوغسلافيا، الصين، فيتنام، كوبا)، إلاّ أنه امتد إلى الغرب منذ ماي 1968. وبعد سنوات من جهود « التراكم الاشتراكي »، توقف الاتحاد السوفياتي عن أن يكون بلدا متخلفا، إذ هو اليوم القوة الصناعية الثانية في العالم، ويبلغ المستوى التقني والثقافي فيه مستوى العديد من البلدان الرأسمالية المتقدمة. أمّا البروليتاريا السوفياتية فهي، إلى جانب بروليتاريا الولايات المتحدة، البروليتاريا الأقوى من حيث العدد.

ضمن هذه الشروط، بدأت تزول أسس سلبية الجماهير في البلدان التي تسيطر عليها البيروقراطية السوفياتية، حيث تتوافق مع انتعاش النشاطات المعارضة انقصافات داخل البيروقراطية بالذات التي تخضع، منذ القطيعة بين ستالين وتيتو عام 1948، لسيرورة تمايز متنامية. إن التداخل بين العاملين يشجع على فورات مفاجئة للنشاط السياسي الجماهيري تنطلق على طريق الثورة السياسية، كما حدث في أكتوبر-نوفمبر 1956 في هنغاريا، أو خلال « ربيع براغ » عام 1968 في جمهورية تشيكوسلوفاكيا الاشتراكية.

جرى إلى الآن قمع هذه الحركات الجماهيرية عبر التدخل العسكري للبيروقراطية السوفياتية، إلاّ أنه بمقدار ما تنضج هذه السيرورات ذاتها في الاتحاد السوفياتي فلن يكون بإمكان أية قوة خارجية أن توقف أمواج الثورة السياسية في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي، وسوف يعاد إرساء الديموقراطية السوفياتية، ويتم التحطيم النهائي لأي خطر يهدد بعودة الرأسمالية. سوف يمارس السلطة السياسية الشغيلة والفلاحون الكادحون، كما سيصبح النضال من أجل الثورة الاشتراكية في سائر أنحاء العالم أسهل بما لا يقاس.

 

6- الإصلاحات الاقتصادية

بعد موت ستالين، ولاسيما في بداية الستينات، بدأت حركة إصلاح واسعة لطرائق التخطيط والتسيير في الاتحاد السوفياتي وفي العديد من « الديموقراطيات الشعبية ». وقد كانت الإصلاحات الأكثر إلحاحا في ميدان الزراعة، حيث كان إنتاج المواد الغذائية على أساس الفرد عند وفاة ستالين أدنى بعض الأحيان مما كان عليه عام 1928، وأدنى فيما يخص الإنتاج الحيواني، مما كان عليه في عهد القياصرة. استهدفت تدابير متتالية إثارة اهتمام الفلاحين، وعقلنة استخدام الآلات الزراعية (التي بيعت للكولخوزات)، وإقامة مزارع دولة عملاقة على « الأراضي البكر » في كازاخستان، والمضاعفة الكثيفة للتثميرات في الزراعة.

أمّا الإصلاحات على صعيد الصناعة فكانت أكثر بطءا وترددا، فالضرورة الموضوعية لتلك الإصلاحات نجمت عن أزمة نمو الاقتصاد السوفياتي وعن انخفاض في نسبة النمو السنوية للإنتاج الصناعي، وهي تتوافق مع نفاد الحوافز التي سمحت بالتسيير كيفما أتفق لعملية التصنيع الواسع، أي دون بذل جهد لتوفير أقصى ما يمكن من نفقات اليد العاملة، والمواد الأولية والأراضي. لقد أدى استنفاد الاحتياطي لضرورة اعتماد حساب أكثر دقة، وخيار أكثر عقلانية بين مختلف مشاريع التثميرات. إن ازدهار الاقتصاد ومضاعفة المشاريع وموارها هددا بزيادة التبذير إلى الحد الأقصى ما لم يتم اعتماد طرائق إدارة وتخطيط أكثر عقلانية.

إن ضغط الجماهير الكادحة التي أنهكتها عقود من التضحيات والتوترات وترغب في تحسين استهلاكها وتنويعه، بالإضافة إلى ضرورة الاقتراب بالقرارات -على مستوى الصناعة الخفيفة- من تلك الرغبات الاستهلاكية، قد فعلا فعلهما في الاتجاه ذاته. وقد شجع عنصر آخر أيضا السعي وراء الاصلاحات، ونقصد بذلك التأخر التكنولوجي المتناهي بالنسبة للثورة التكنولوجية الثالثة للاقتصاد الرأسمالي، وهو تأخر ناجم عن نظام حوافز مادية بالنسبة للبيروقراطية يثبط الهمم إزاء الاختبار والتجديد على صعيد التكنولوجيا، لذا تم تعديل شكل تلك الحوافز مذ ذاك.

لقد جرى الاعتقاد بالحؤول دون تبذير المواد الأولية وقوة العمل وبتشجيع استخدام للتجهيز أكثر عقلانية، عن طريق ربط العلاوات المقدمة للمديرين بـ« الربح » (الفرق بين سعر الكلفة وسعر المبيع) المفترض أنه « يؤلف » النتيجة الإجمالية النهائية للمشروع، بدل ربطها بالإنتاج الخام المعبر عنه بمصطلحات مادية. كانت النتائج متواضعة، لكن إيجابية في الصناعة الخفيفة، إلاّ أنها لم تعدل أبدا في طبيعة النظام الهجينة، لأن أسعار المبيع ظلت تحددها سلطات الخطة المركزية.

إن أهمية تلك الإصلاحات جميعا محدودة، بقدر ما لا تحل المشكلة الأساسية، فما من « آلية اقتصادية »، خارج الرقابة الديموقراطية والعامة التي يمارسها جمهور المنتجين والمستهلكين، يمكنها أن تبلغ الحد الأقصى من المردود مقابل الحد الأدنى من الجهود. كل إصلاح يميل إلى إحلال شكل جديد من التعسفات البيروقراطية والتبذيرات محل الشكل السابق، وليس هناك من عقلنة إجمالية للتخطيط ممكنة في ظل سلطة البيروقراطية وانتفاعها المادي المعتبر محركا رئيسيا لتنفيذ الخطة. إن الإصلاحات لم تعد الرأسمالية ولم تعد إدخال ربح المشاريع كدليل لقرارات التثمير، إلاّ أنها زادت من تناقضات النظام الداخلية. فمن جهة زادت من حدة اندفاع جناح من البيروقراطية لصالح استقلال أكبر لمديري المعامل، وألغت بعض مكاسب الطبقة العاملة من مثل ضمان حق العمل، وزادت من جهة أخرى من حدة مقاومة الشغيلة للميول إلى تحطيم تلك المكتسبات والاقتصاد المخطط.

 

7- الماوية

كان انتصار الثورة الصينية الثالثة عام 1949 أهم انتصار حققته الثورة العالمية منذ انتصار ثورة أكتوبر الاشتراكية. فهو كسر التطويق الرأسمالي للاتحاد السوفياتي وحفز حفزا عظيما سيرورة الثورة الدائمة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وعدل موازين القوى بشكل محسوس على المستوى العالمي على حساب ألإمبريالية. ولقد تم ذلك الانتصار لأن القيادة الماوية للحزب الشيوعي الصيني قطعت على مستوى الممارسة مع الخط الستاليني القائل بـ« كتلة الطبقات الأربع » وبالثورة على مراحل، وقادت انتفاضة زراعية واسعة واتجهت نحو تدمير الجيش والدولة البرجوازية، رغم إعلاناتها المؤيدة لتحالف مع تشانغ كاي تشيك.

إلاّ أن هذه الثورة الظافرة كانت منذ البدء مشوهة بيروقراطيا، فالقيادة الماوية حدّت من نشاط البروليتاريا المستقل، إذا لم تمنعه منعا تاما، والدولة العمالية التي أقيمت لم يتم إرساؤها على أساس المجالس العمالية والفلاحية المنتخبة ديموقراطيا. انتشرت أشكال إدارة وامتيازات بيروقراطية تتشبه بتلك القائمة في روسيا الستالينية. وهو ما أدى إلى استياء متنام لدى الجماهير، لاسيما الجماهير العمالية والشابة، سعى ماو إلى احتوائه عن طريق تفجير « الثورة الثقافية البروليتارية الكبرى » بين عامي 1964 و1965.

هذه « الثورة » دمجت أشكالا أصيلة من التعبئة والوعي المعاديين للبيروقراطية لجماهير المدن مع محاولة ماو تطهير جهاز الحزب الشيوعي من خصومه داخل البيروقراطية. وعندما هددت تعبئة الجماهير والتطور الأيديولوجي الأكثر فأكثر نقدية من جانب « الحراس الحمر » بالإفلات من رقابة الجناح الماوي، أوقف هذا الجناح « الثورة الثقافية »، وأعاد إلى حد بعيد وحدة البيروقراطية، مرجعا إلى مراكز القيادة معظم البيروقراطيين الذين تمت تنحيتهم حين بلغت تلك « الثورة » ذروتها.

إن النزاع الصيني-السوفياتي الذي أثارته محاولة البيروقراطية السوفياتية فرض رقابة صارمة على قيادة الحزب الشيوعي الصيني، وإلغاء المساعدة الاقتصادية والعسكرية المقدمة لجمهورية الصين الشعبية ردا على رفض ماو الانحناء أمام تلك القرارات التعسفية، تحول تدريجيا من نزاع بين البيروقراطيتين إلى نزاع على مستوى الدولة وإلى معركة تنظيمية وأيديولوجية داخل الحركة الستالينية العالمية. لقد وجهت النزعة القومية الضيقة للبيروقراطيتين السوفياتية والصينية ضربة قاصمة لمصالح الحركة العمالية والمعادية للإمبريالية على المستوى العالمي، وسمحت للإمبريالية بالمناورة لاستغلال النزاع الصيني-السوفياتي.

تمثل الماوية على المستوى الأيديولوجي تيارا خاصا داخل الحركة العمالية، العديد من وجوهه تنويع من التشويه الستاليني للماركسية-اللينينية، إلاّ أنه لا يمكن حصره بالستالينية. ففيما الستالينية ناتج وتعبير في الوقت ذاته عن ثورة مضادة سياسية داخل ثورة بروليتارية ظافرة، فالماوية هي في الوقت ذاته تعبير عن انتصار ثورة اشتراكية وعن الطبيعة المشوهة بيروقراطيا منذ البدء لتلك الثورة. إنها تدمج إذا ملامح مقاربة أكثر مرونة وأكثر انتقائية للعلاقات بين الأجهزة والجماهير، مع ملامح مميزة لخنق كل استقلال لنشاط الجماهير وتنظيمها، لاسيما الجماهير العمالية. وهي تتميز على وجه الخصوص بعدم فهم الطبيعة الاجتماعية للبيروقراطية العمالية وأصول الانحطاط البيروقراطي المحتمل للثورات الاشتراكية والدول العمالية، طالما هي بذاتها التعبير الأيديولوجي عن واحد من أجنحة البيروقراطية. وهي إذ تماثل بصورة غير مسؤولة وغير علمية بين « البيروقراطية » و« بورجوازية الدولة » في الاتحاد السوفياتي، تبرر مسبقا كل انعطافات السياسة الخارجية الصينية والمجموعات الماوية، إلى حد وضع الإمبريالية الأمريكية والاتحاد السوفياتي، والأحزاب البرجوازية والأحزاب الشيوعية، على قدم المساواة، لا بل إلى حد اعتبار الاتحاد السوفياتي والأحزاب الشيوعية « العدو الرئيسي للشعوب »، عارضة التحالف مع القوى الإمبريالية العظمى والأحزاب البورجوازية في مجه الاتحاد السوفياتي والأحزاب الشيوعية. زد على أن هذه التكتيكات تستند إلى الموضوعة التي تقول أن معظم البلدان الرأسمالية ليست اليوم إزاء مهمة الثورة الاشتراكية، بل فقط إزاء مهمة « النضال من أجل الاستقلال القومي في مواجهة القوى العظمى ».

إن الطابع الاعتباطي لهذه النظريات جميعا، التي ليست في نهاية المطاف أكثر من تبريرات لاحقة لمناورات بيكين الديبلوماسية، تمد جذورها في تشويه الماركسية المثالي والإرادي، فبحجة مكافحة « النزعة الاقتصادية » التي هي المراجعة « الأخطر » للماركسية، يتوقف « الماويون الأورثوذكسيون » عن اعتبار الطبقات الاجتماعية كحقائق موضوعية تحددها علاقات الإنتاج التي تعقدها في إنتاجها لحياتها المادية. تجري مماثلة الطبقات الاجتماعية مع خيارات إيديولوجية، ولا تعود البروليتاريا مجموع من يحصلون على أجور لقاء عملهم، بل أولئك الذين « يسيرون وفقا لخط ماو تسي تونغ ». وبهذه الطريقة تجري مماثلة تيارات ذات أيديولوجية بورجوازية أو بورجوازية صغيرة داخل الطبقة العاملة مع « البورجوازية » أو « ممثليها »، والنضال الأيديولوجي داخل الحركة العمالية مع « الصراع الطبقي بين البروليتاريا والبورجوازية ». يشكل ذلك مذ ذاك ركيزة رفض الديموقراطية العمالية، وتبرير استخدام العنف والقمع داخل الحركة العمالية، ورفض كل التراث الماركسي-اللينيني للنضال من أجل الجبهة الموحدة للمنظمات العمالية في وجه العدو الطبقي المشترك. تتم مماثلة ديكتاتورية البروليتاريا مع « فكر ماو تسي تونغ »، ويمارسها « حزب ماو تسي تونغ ». هكذا تغلق الحلقة، وبعد الدخول في حرب ضد سلطة البيروقراطية في الاتحاد السوفياتي، تنتهي القيادة الماوية إلى تنصيب نظام قيادة بيروقراطية شبيهة جدا بتلك الموجودة في الاتحاد السوفياتي، حتى ولو أحاطت بها بهارج « ديموقراطية مباشرة » و« مشاركة » جماهيرية باتخاذ القرارات. ولا يقل رفض ماو عن رفض ستالين أو خروتشيف أو بريجنيف للنظرية اللينينية حول ديكتاتورية البروليتاريا كديكتاتورية مرتكزة إلى ممارسة السلطة من جانب مجالس العمال والفلاحين المنتخبة انتخابا حرا وديموقراطيا.

 

المراجع:

أرنست ماندل، حل البيروقراطية.

ل. تروتسكي، دروس أكتوبر.

ل. تروتسكي، المجرى الجديد.

ل. تروتسكي، الثورة المغدورة.

م. ليفن، معركة لينين الأخيرة.

موضوعات المؤتمر الرابع والخامس للأممية الرابعة: صعود الستالينية وانحدارها - انحدار الستالينية وسقوطها.

سميزدات أ (منشورات سوي).

بولونيا-هنغاريا 1956 (منشورات F.D.I باريس).