ميتافيزيك الاقتصاد السياسي
الطريقة

نحن الآن في ألمانيا ! وسنتكلم الآن عن الميتافيزيك بينما نتكلم عن الاقتصاد السياسي. وسنتابع في عملنا هذا دراسة تناقضات برودون. ولقد أجبرنا الآن أن نتكلم الانكليزية وأن نصبح انكليزا. وأصبح الموقف الآن متغيرا. إن برودون ينقلنا إلى بلادنا العزيزة ويجبرنا أن نصبح ألمانا مرة أخرى إن شئنا أو لم نشأ.

إن كان الانكليزي يحول الرجال إلى قبعات فإن الألماني يحول القبعات إلى أفكار. فالرجل الانكليزي هو ريكاردو – اقتصادي مشهور وصاحب بنك غني–، أما الألماني فهو هيجل – أستاذ فلسفة بسيط في جامعة برلين.

إن لويس الخامس عشر – آخر الملكيين المطلقين وممثل انحلال الملكية الفرنسية – كان قد ألحق ببطانته طبيبا كان الرجل الاقتصادي الأول في فرنسا. هذا الطبيب، هذا الاقتصادي، مثـّل انتصارا معينا للبورجوازية الفرنسية. إن الطبيب كويزني Quesnay خلق العلم من الاقتصاد السياسي، ولقد لخصه في كتابه المشهور « اللوائح الاقتصادية » Tableau Economique. وعلاوة عن الكتابات والانتقادات والتعليقات الألف التي وجدت على طاولته، فإننا لا نملك إلا واحدا كتبه الطبيب نفسه. إن هذا الكتاب الذي نملكه هو « تحليل اللوائح الاقتصادية » Analyses of the Economic Table.

يمثل برودون طبيب كويزني آخر. إنه كويزني الميتافيزيك في الاقتصاد السياسي.

والآن فإن الميتافيزيك – وفي الواقع كل الفلسفة – يمكن أن تختصر، بالنسبة لهيجل، بالطريقة أو الفكرة. فيجب علينا إذن أن نوضح طريقة برودون الغامضة ككتاب « اللوائح الاقتصادية »، ولهذا السبب نقوم بتقديم سبع أو ثماني ملاحظات، مهمة أو غير مهمة، وإذا لم يفرح « الطبيب » برودون بملاحظاتنا فما علينا أن نصبح Abbé Beaudeau بودو، لكي يعطي بنفسه « شرح الطريقة الاقتصادية الميتافيزكية ».

 

الملاحظة الأولى:

«  إننا لا نقدم تاريخا بالنسبة لنظام الوقت بل بالنسبة لتتابع الأفكار، إن الأطوار الاقتصادية وهي تتجلى بمفاهيمها تكون بعض الأحيان معاصرة وبعض الأحيان معكوسة... والنظريات الاقتصادية لها نتائجها المنطقية ولها علاقتها العددية في الفهم: إن هذا النظام هو الذي نخدع أنفسنا به، إننا اكتشفناه  » (المجلد 1، صفحة 146).

لقد أراد برودون أن يخيف الفرنسيين إذ يتكلم معهم بجمل وعبارات شبيهة بأسلوب هيجل. وهكذا علينا أن نبحث في رجلين: أولا مع برودون وثانيا مع هيجل. كيف يقدر برودون أن يميز نفسه عن باقي الاقتصاديين ؟ وأي دور يلعبه هيجل في الاقتصاد السياسي عند برودون ؟

يقول الاقتصاديون عن العلاقات البورجوازية في الإنتاج وفي تقسيم العمل وفي الرصيد وفي النقد الخ.. أنها ثابتة لا تتحرك وأنها لوائح أبدية. وبرودون – وهو واضع أمامه هذه اللوائح الأبدية – يريد أن يشرح لنا عملية التشكيل وأساس تكوين هذه اللوائح والمبادئ والقوانين والمثل والأفكار.

يشرح الاقتصاديون كيف يحدث الإنتاج في ظل هذه العلاقات ذاتها، ولكن ما لا يشرحه هو كيف تنتج العلاقات ذاتها يعني، أن الحركة التاريخية التي أوجدها برودون – آخذين هذه العلاقات كمبادئ وكلوائح وكأفكار مجردة – عليها أن تجعل هذه الأفكار أن تخضع لنظام، ونستطيع أن نجد هذه الأفكار في نهاية كل كتاب يكتب عن الاقتصاد السياسي. إن جوهر الاقتصاد هو حياة الرجل النشيط الحيوي، أما جوهر برودون هو نسخ العقائد التي يفسرها الاقتصاديون. ولكن في الوقت الذي نتوقف عن متابعة الحركة التاريخية لعلاقات الانتاج – إذ أن اللوائح ليست إلا التعبير النظري – وفي الوقت الذي نريد أن نرى في هذه اللوائح مجرد مثل وأفكار مستقلة عن العلاقات الاقتصادية، عندئذ نجبر أن نعيد أصل هذه الأفكار إلى الحركة الحقيقية المجردة الصافية. وكيف تسبب الحقيقة المجردة والأبدية نهوض هذه الأفكار ؟ وكيف تتابع الحقيقة وجودها حتى تنتجها (أي الأفكار) ؟

إذا كانت شجاعة برودون ظاهر في مادة هيجل عندئذ يجب أن نقول: إنها تميز نفسها من نفسها. وما يعني هذا ؟ الحقيقة « غير الشخصية »، إذ لا يكون لها خارج ذاتها قاعدة تعتمد عليها ولا يكون لها أي شيء ذاتها ولا يكون لها موضوع لكي تشكل ذاتها، إن هذه الحقيقة تكون مجبرة أن تقلب رأسا على عقب لكي تجد قاعدة لذاتها ولكي تجابه ذاتها ولكي تؤلف وتشكل ذاتها، أي إيجاد قاعدة أو فكرة Thesis، فكرة مناقضة Antithesis، ونتيجة الفكرة Synthesis.

إننا سنقدم القاعدة المقدمة لهؤلاء الذين لا يعرفون لغة هيجل: التأكيد Affirmation والنفي Negation ونفي النفي Negation of Negation وهذا تعنيه اللغة. إنها ليست عبرية لكنها لغة هذه الحقيقة الصافية، هذه اللغة المختلفة عن لغة الفرد.

من العجيب أن نجد كل شيء في التجريد النهائي – وإذا ليس عندنا تجريد ولا تحليل – يمثل ذاته كلائحة منطقية ؟ من العجيب – إذا تجردت عن كل المواد التي تشكل البيت وإذا تجردت عن شكل المواد المركب منها وعن الشكل الذي يميز ذلك البيت عن غيره فإنك تنتهي إلى لا شيء ما عدا البنيان – أمِنَ المدهش إذا لم تأخذ حدود هذا البنيان بعين الإعتبار أن لا يبقى عندك سوى الفراغ – أي أنك لو تأخذ بعين الاعتبار قياسات الفراغ، فلا تجد شيئا متروكا على الإطلاق إلا الكمية الصافية، أي اللائحة المنطقية ؟ فإذا جردنا هكذا من كل موضوع كل الحوادث المتناسقة، الحوادث الحية أو غير الحية الناس أو الأشياء – نحن على حق أن نقول أنه في التجريد الأخير – فإن المادة المتبقية الوحيدة هي اللوائح المنطقية. وهكذا فالميتافيزيقيون الذين – عندما وضعوا هذه التجريدات يظنون أنهم يقومون بتحليل، والذين – كلما جردوا أنفسهم عن الأشياء يظنون أنفسهم أنهم يقتربون من نقطة الأصل أي اختراق اللب – إن هؤلاء الميتافيزيقيين على حق عندما يقولون أن الاشياء هنا هي كالتطريز الذي تنقشه اللوائح المنطقية على قطعة ثوب. وهذا ما يميز الفيلسوف عن المسيحي. إن المسيحي – رغم المنطق يعتقد بمفهوم تجسد واحد للكلمة Logos. أما الفيلسوف لم ينته أبدا من التجسدات. لو كان كل شيء موجودا، ولو كان كل شيء يعيش على اليابسة وتحت المياه يمكن تصغيره بواسطة التجريد إلى لائحة منطقية – إذا غرق العالم الواقعي كله في عالم من التجريدات، أي في عالم اللوائح المنطقية، فمن يعجب هذا ؟

إن كل شيء موجود، إن كل ما يعيش على اليابسة وفي الماء يوجد ويحيا فقط بسبب نوع من الحركة. إذن فحركة التاريخ تنتج العلاقات الاجتماعية، والعلاقات الصناعية تعطينا علاقات صناعية الخ.

لو استطعنا أن نحول كل شيء بواسطة التجريد إلى لائحة منطقية، لكان من السهل على كل شخص أن يجرد كل صفة مميزة لحركات مختلفة. إن تحقق الحركة في حالتها التجريدية – يعني الحركة العادية الصافية، القاعدة المنطقية الصافية للحركة. وإذا كان أي شخص يقدر أن يجد في اللوائح المنطقية جوهر كل الأشياء لكان يقدر أن يتخيل بأنه وجد في القاعدة المنطقية للحركة – الطريقة أو الفكرة المطلقة – التي لا تشرح فقط كل الأشياء بل إنها تطبق حركة كل الأشياء.

لقد عبر هيجل عن هذه الفكرة المطلقة بهذه التعابير: « الفكرة هي المطلق، هي الوصية العالية وهي القوة الميتافيزيقية التي لا يقاومها شيء، إنها ميل السبب ليعرف ذاته مرة أخرى، لكي يتذكر ذاته في كل شيء » (هيجل، المنطق المجلد الثالث). إن كل الأشياء لدى تصغيرها للائحة منطقية، وكل حركة وكل عملية انتاج لدى تصغيرها لفكرة، ينتج عندئذ أن كل مجموعة من المنتوجات والانتاج، من الأشياء والحركة، يجب أن تصغر بشكل ميتافيزيقي مطبق. فما عمله هيجل للدين والقانون الخ. يحاول برودون أن يعمله للاقتصاد السياسي.

وهكذا ما هي هذه الفكرة المطلقة ؟ هي الفكرة المجردة للحركة ؟ وما هو تجريد الحركة ؟ هي الحركة في حالتها المجردة... وما هي الحركة في حالتها المجردة ؟ هي القاعدة المنطقية الصافية للحركة أو حركة الحقيقة الصافية. وما تحتوي الحقيقة الصافية ؟ إنها تعمل على إقامة قاعدة لذاتها وعلى مناقضة ذاتها، وعلى تشكيل ذاتها وعلى وضع ذاتها بقاعدة أو بفكرة Thesis، وخلق فكرة مناقضة Antithesis، وايجاد نتيجة Synthesis وتعمل أيضا على تثبيت ذاتها، وعلى نفي ذاتها وعلى نفي نفيها...

وكيف تعمل الحقيقة لتثبت ذاتها ولتضع قاعدة لذاتها في لائحة منطقية ؟ إنه عمل الحقيقة وعمل تابعيها.

ولكن عندما تبدأ الحقيقة في وضع قاعدة لذاتها Thesis، فإن هذه القاعدة أي هذه الفكرة تناقض ذاتها Antithesis فتقسم إلى فكرتين متناقضتين – الايجابي والنفي، نعم ولا. والصراع بين هذين العاملين المضادين المتضمن في التناقض يشكل حركة الديالكتيك. النعم تصبح لا، ولا تصبع نعم، نعم تصبح لا ونعم، ولا تصبح نعم ولا، فتتعادل المتناقضات وتتجانس وتشكل بعضها. وتداخل هاتين الفكرتين المتناقضتين يشكل فكرة جديدة هي نتيجة الاثنين Synthesis. إن هذه الفكرة تنقسم مرة أخرى لفكرتين متعاكستين فتعود وتتشابك في نتيجة واحدة. ومن هذا العمل تتولد مجموعة من الأفكار. وهذه المجموعة من الأفكار تتبع نفس حركة الديالكتيك كلائحة بسيطة.

ولهذه المجموعة مجموعة أخرى متناقضة. ومن هاتين المجموعتين من الأفكار تتولد مجموعة أفكار جديدة تكون نتيجة للجميع.

وكما تتولد المجموعة من حركة الديالكتيك للوائح البسيطة، هكذا تتولد المجموعات من حركة الديالكتيك من المجموعات، وتتولد الطريقة الكاملة من حركة الديالكتيك للمجموعات.

طبّق هذه الطريقة على لوئح الاقتصاد السياسي فتحصل على منطق وميتافيزيك الاقتصاد السياسي. وبشكل آخر تحصل على اللوائح الاقتصادية التي يعرفها كل واحد، لوائح مترجمة إلى لغة بسيطة معروفة تجعلها تبدو كأنها تتفتح من جديد وتبدو كحقيقة صافية، وهكذا تبدو هذه اللوائح أنها تخلق بعضها البعض وأنها تتصل ببعضها اتصالا وثيقا بواسطة حركة الديالكتيك. يجب على القارئ أن لا يتألم لهذا الميتافيزيك الذين يتضمن هذه اللوائح والمجموعات والمناهج المزعجة. إن برودون – رغم كل التعب الذي أصابه لكي يضع مقياسا لأعالي طريقية المتناقضات – لم يكن قادرا أن يرفع نفسه عن الدائرتين الأوليتين – أي عن دائرتي الفكرة أو القاعدة Thesis والفكرة المضادة Antithesis، وحتى هذه لم يقدر أن يتكلم عنها إلا مرتين، ولقد فشل في احداهما.

لم نشرح لحد الآن سوى ديالكتيك هيجل. وسنرى كيف نجح برودون في تخفيضه إلى النسب المحقرة. وهكذا بالنسبة لهيجل، كل ما حدث ولا يزال يحدث هو الشيء الذي يحدث في عقله. وهكذا فلسفة فلسفة التاريخ ليست إلا تاريخ الفلسفة، فلسفته الخاصة. وهكذا لا يوجد « تاريخ بالنسبة للنظام في الوقت » يوجد فقط « تتابع وتلاحق الأفكار في الفهم ». فهو يعتقد أنه يبني العالم بواسطة حركة بينما هو يعيد بناء الأفكار التي هي في عقول الجميع بواسطة الفكرة المطلقة بطريقة تنظيمية.

 

الملاحظة الثانية:

إن اللوائح الاقتصادية هي الاصطلاحات النظرية، أي الفكرة المجردة المتعلقة بالعلاقات الاجتماعية للانتاج... إن برودون – وهو يمسك الأشياء بيده رأسا على عقب كفيلسوف – لا يرى في العلاقات العادية إلا تجسيدا لهذه المبادئ ولهذه اللوائح التي كانت قائمة – وهكذا يخبرنا برودون الفيلسوف أن هذه اللوائح كانت نائمة في صدر « الحقيقة الانسانية غير الشخصية ».

إن برودون الاقتصادي يفهم جيدا أن الناس يصنعون الثياب من الحرير أو القطن بعلاقات نسبية في الانتاج. ولكن ما لا يفهمه هو أن هذه العلاقات الاجتماعية المحدودة هي نتاج الناس كما أن الحرير هو نتاج الناس الخ... ترتبط العلاقات الاجتماعية وتتعلق بالقوى الانتاجية. ولدى تحقيقنا لقوى انتاجية جديدة يغير الناس نوع الانتاج وعند تغييرهم لنوع انتاجهم وعند تغيير طريقة كسبهم لمعيشتهم فإنهم يغيرون كل العلاقات الاجتماعية. إن الطاحونة التي تدار باليد تمثل لك مجتمعا يتحكم به السيد الاقطاعي، وتمثل الطاحونة البخارية مجتمعا تتحكم فيه الصناعة الرأسمالية.

إن نفس الناس الذين يؤسسون علاقاتهم الاجتماعية لتطابق انتاجهم المادي، تراهم ينتجون أيضا المبادئ والأفكار واللوائح، لكي تطابق علاقاتهم الاجتماعية.

وهكذا فإن هذه الأفكار وهذه اللوائح ليست أبدية كالعلاقات التي تعبر عنها. إنها إنتاج تاريخي وفترة انتقال.

توجد حركة مستمرة في نمو القوى الانتاجية، وتوجد حركة دائمة لتهديم وتقويض العلاقات الاجتماعية، وتوجد حركة دائمة لتشكيل الأفكار، وأما الشيء الثابت الوحيد الذي لا يخضع للحركة هو تجريد الحركة.

 

الملاحظة الثالثة:

تشكل علاقات الانتاج في كل مجتمع الكل. ويعتبر برودون العلاقات الاقتصادية كغيرها من الأطوار الاجتماعية، فهي تخلق بعضها وتنتج الواحدة عن الأخرى مثل التناقض Antithesis الناتج عن الفكرة Thesis، وهو يحقق في تتابعها وترتيبها المنطقي الحقيقة الشخصية الإنسانية غير الشخصية.

إن السيئة الوحيدة لهذه الطريقة هي أنه عندما يأتي لفحص طور واحد من هذه الأطوار، لا يقدر برودون أن يشرحها دون أن يعود ويصلها بالعلاقات الاجتماعية الأخرى، ورغم رجوعه لغيرها من العلاقات فإنه لم يستطع أن يجعلها تكون حركته في الديالكتيك. وعندما يتابع برودون – بواسطة الحقيقة الصافية – أن يخلق الأطوار الأخرى فإنه يعاملها كأنها أطفال صغار. فهو ينسى أنها بذات العمر الأول.

وهكذا لكي نصل إلى تشكيل القيمة – التي هي بالنسبة له أساس التطورات الاقتصادية – نراه لا يستطيع أن يقوم بالبحث دون أن يعود إلى تقسيم العمل وإلى المنافسة الخ... ورغم هذا نجد في لوائحه وفي التتابع والترتيب المنطقي، إن هذه العلاقات لم توجد بعد.

ولكي نبني هيكل طريقة أيديولوجية بواسطة لوائح الاقتصاد السياسي نجد أن أسس الطريقة الاجتماعية لم توضع في محلها. فأسس المجتمع المختلفة قد تحولت إلى مجتمعات مختلفة وعديدة، وهي تتبع الواحدة الأخرى. فكيف قدرت القاعدة المنطقية الواحدة للحركة وحركة التتابع والترتيب وحركة الوقت أن تشرح بنيان وهيكل المجتمع حيث توجد كل العلاقات إزاء بعضها لتساند بعضها ؟

 

الملاحظة الرابعة:

لننظر الآن ما هي الأوصاف التي يخضع بواسطتها برودون ديالكتيك هيجل عندما يطبقها على الاقتصاد السياسي.

يرى برودون أن كل لائحة اقتصادية لها جانبان – جانب خير وجانب شر. وهو ينظر إلى هذه اللوائح كما ينظر البورجوازي إلى العضماء في التاريخ: كان نابليون رجلا عظيما، قد فعل كثيرا من الحسنات وفعل كثيرا من السيئات.

عندما نأخذ هذه المتناقضات معا، جانب الخير وجانب الشر، الحسنات والسيئات، فإنها تشكل – بالنسبة لبرودون – التناقض في كل لائحة اقتصادية.

فالموضوع الذي يجب حله: الاحتفاظ بالجهة الخيرة والتضييق على الجهة الشريرة.

إن العبودية لائحة اقتصادية كأية لائحة أخرى. وهكذا لها جانبان. ودعنا نترك الآن الناحية الشريرة لنتكلم عن الناحية الخيرة لهذه العبودية. لا حاجة لأن نقول إننا نتكلم عن العبودية المباشرة، ونتكلم عن عبودية العبيد في سرينام Surinam وفي البرازيل وفي الولايات الجنوبية في أمريكا الشمالية.

إن العبودية المباشرة هي تماما محور الصناعة البورجوازية كالآلة الخ... التي هي محور الصناعة أيضا. وبدون عبودية لا تحصل على صناعة حاضرة. هي العبودية التي أعطت المستعمرات قيمتها، وهي المستعمرات التي خلقت التجارة الدولية، وهي التجارة الدولية التي نعدها الشرط السابق للصناعة ذات الانتاج الضخم. وهكذا فالعبودية هي لائحة اقتصادية ذات أهمية كبرى.

وبدون العبودية لما تحولت أمريكا الشمالية – وهي أكثر البلدان تقدما – إلى بلاد بطريكية. فإذا محوت أمريكا الشمالية من خريطة العالم فإنك تحصل على الفوضى – إنك تحصل على الانحدار والتأخر الكامل للتجارة والمدنية الحاضرة. واجعل العبودية أن تختفي فإنك تمحو أمريكا من خريطة العالم(1).

وهكذا فالعبودية، لأن لها لائحة اقتصادية، وُجدت دوما بين المؤسسات التي شادتها الشعوب. وكانت الأمم الحديثة قادرة أن تخفي وجه العبودية في بلدانها، ولكنها فرضتها فرضا بدون تخفيته على العالم الجديد.

فماذا يفعل برودون لتخليص العبودية ؟ إنه يضع المسألة كقاعدة هكذا: احتفظ بالجهة الصالحة لهذه اللائحة، وخفف أو ضيق الخناق على الجهة الشريرة.

لم يكن لدى هيجل مسائل ليضعها في قواعد. كان عنده ديالكتيك فقط. ولم يأخذ برودون من ديالكتيك هيجل إلا اللغة. وبالنسبة له فإن حركة الديالكتيك هي التفريق المبدئي بين الخير والشر.

ودعنا لدقيقة واحدة نعتبر برودون لائحة. ولنفحص جهة الخير والشر عنده ولنفحص حسناته وسيئاته.

لو كان يمتاز بحسنة على هيجل لأنه وضع مسائل جعل من حقه الوحيد أن يحللها لخير البشرية، فإن له سيئة أنه عُرف بالعقم عوضا أن يخلق لائحة ديالكتيكية جديدة. إن ما يشكل حركة الديالكتيك هو وجود جهتين متناقضتين وصراع هاتين الجهتين المتناقضتين وادغامهما في لائحة جديدة. إن محاولة تخفيف الناحية الشريرة تكفي لأن تقضي على حركة الديالكتيك. ليست هي اللائحة التي تضع الفكرة وتناقضها لذاتها بطبيعتها المتناقضة، إنه برودون هو الذي يضطرب ويضيع بين جانبي اللائحة.

ولأن برودون لم يستطع أن يتخلص من مشكلة شرعية وسائله فإنه يعمل أن ينتقل بسرعة إلى لائحة أخرى. ولهذا فإنه لدهشته، يتكلم عن علاقة اللوائح بالنسبة لفهمه لها.

إنه يأخذ العلاقة الأولى التي يصلها ويعمل على أن يجد لها دواء لكي يطهرها من سيئتها. وهكذا اعتقدنا أن برودون يفرض أن يداوي سيئات الاحتكار وميزان التجارة وسيئات الضرائب والملكية الأرضية وسيئات الرصيد.

ولكن أخذه للوائح الاقتصادية بالتتابع واحدة بعد الأخرى ولدى جعله الواحدة مكملة للأخرى فإن برودون يحاول أن يجعل من هذا المزيج من المتناقضات، كتابين ضخمين يحتويان على المتناقضات ودعاهما: « طريقة التناقضات الاقتصادية »، The System of Economic Contradictions.

 

الملاحظة الخامسة:

« تكون كل هذه الأفكار في الحقيقة المطلقة... متساوية في البساطة والتصميم، – وفي الواقع نصل للمعرفة فقط بواسطة « نوع من بناء أفكارن ». لكن الحقيقة بذاتها مستقلة عن الرموز الديالكتيكية ومتحررة من وحدة عقولنا ». (المجلد 2، صفحة 97).

وهنا فجأة يصبح ميتافيزيك الاقتصاد السياسي خيالا ووهما ! لم يتكلم برودون بحق أكثر من هذه المرة. ومن اللحظة التي تصغر حركة الديالكتيك إلى عملية مقابلة أو مضادة بين الخير والشر، وفي اللحظة التي تضع مسائل لتخفيف الناحية الشريرة، ومن اللحظة التي تعمل على إدارة وتسيير لائحة كدواء للائحة أخرى، عندئذ نرى أن هذه اللوائح تتجرد عن كل حقائقها، وتبطل الفكرة أن تنتج وتعمل، ولا تبقى حياة بها. وهكذا لا توضع الفكرة ولا تتشكل لتصبح لوائح. وإن تتابع اللوائح أصبح نوعا من البنيان. ويقف الديالكتيك حتى يصبح حركة الحقيقة المطلقة. ولا يوجد بعد ديالكتيك على الأكثر إلا ديالكتيك الأخلاق المطلقة الصافية.

وعندما تكلم برودون عن مجموعات اللوائح والقيم في الفهم، وعن التتابع المنطقي لهذه اللوائح، صرح إيجابيا أنه كان يريد أن يقدم التاريخ بالنسبة للوقت، وكان يريد أن يظهر أن التتابع التاريخي (أي الحوادث الآتية وراء بعضها) يظهر اللوائح نفسها. وهكذا فكل شيء بالنسبة له حدث تاريخي في أثير الحقيقة الصافية. وكل شيء ينتج هذا الأثير بواسطة الديالكتيك. وبما أنه كان عليه الآن أن يظهر هذا الديالكتيك كواقع، كانت الحقيقة هي التي أخطأته. إن ديالكتيك برودون يعاكس هيجل والآن نراه يقول أن النظام الذي يقدمه لاظهار اللوائح الاقتصادية ليس هو النظام الذي تخلق فيه كل لائحة أخرى. فالتطورات الاقتصادية لم تعد تمثل تطورات الحقيقة ذاتها.

وماذا يعطينا برودون ؟ التاريخ الحقيقي الذي هو – بالنسبة لفهم برودون – التتابع الذي تظهر فيه اللوائح ذاتها في نظام الوقت. كلا ! التاريخ والمكان الذي يتبعه في الفكرة ذاتها ! وأقل من ذلك ! لا تاريخ اللوائح المدنس ولا تاريخها المقدس ! وماذا يقول لنا عن التاريخ ؟ تاريخ متناقضاته. ولننظر كيف تقود هذه الأقوال برودون وتغرقه معها.

وقبل أن نفحص هذه الأقوال – هذه الأقوال التي تقودنا للملاحظة السادسة – علينا أن نبحث في ملاحظة أقل قيمة.

دعنا نقبل مع برودون قوله أن التاريخ الحقيقي، التاريخ بالنسبة لنظام الوقت، هو تاريخ التتابع الذي تظهر فيه الأفكار واللوائح والمبادئ ذاتها.

لكل مبدأ كان له عصره الذي أظهر ذاته به. إن مبدأ السلطة مثلا ظهر في القرن الحادي عشر كما أن عصر الفردية ظهر في القرن الثامن عشر. ففي التتابع المنطقي نجد أن العصر هو الذي كان يتبع المبدأ وليس المبدأ هو الذي كان يخص العصر. وهكذا يكون أن المبدأ هو الذي صنع التاريخ وليس التاريخ هو الذي صنع المبدأ. وحتى نخلص المبدأ ونخلص التاريخ، علينا أن نسأل أنفسنا لماذا نرى مبدأ ما ظهر في القرن الحادي عشر أو في القرن الثامن عشر ولم يظهر في عصر آخر، لذلك نحن مجبرون أن نفحص بدقة كيف كان الناس في القرن الحادي عشر وكيف كانوا في القرن الثامن عشر، وماذا كانت حاجياتهم الضرورية وقواهم الإنتاجية ونوع إنتاجهم والمواد الأولية التي تستعمل للمواد الأولية – وبكلمة واحدة، نسأل ماذا كانت العلاقات التي حصلت بين الإنسان والإنسان من جراء هذه الأحوال الموجودة. ولكي نصل إلى أعماق هذه الأسئلة – أي لكي نعرف تاريخ الناس المدنس الحقيقي في كل عصر ولكي نظهر هؤلاء الناس أنفسهم كحكام وممثلين لهذه المسرحية ؟ ولكن عندما يظهر الناس كممثلين وكحكام تاريخهم فإنك تصل إلى نقطة البداية لأنك تكون قد أهملت وهجرت تلك المبادئ الرئيسية التي تكلمت عنها عند الابتداء.

لم يذهب برودون بعيدا في ملتقى الطرق، هذه الطريق التي يمشي عليها المثالي « الايديولوجي » لكي يصل الطريق الرئيسي للتاريخ.

 

الملاحظة السادسة:

دعنا نعبر ملتقى الطرق مع برودون.

نحن نوافق على أن العلاقات الاقتصادية – كما ينظر لها بأنها قواعد ثابتة غير متبدلة وبأنها مبادئ أبدية ولوائح مثالية – وجدت قبل وجود أناس أذكياء، ونحن نوافق أن هذه القوانين والمبادئ واللوائح كانت – منذ ابتداء الزمن – نائمة في « الحقيقة الانسانية غير الشخصية ». ورأينا مع كل هذه القيم الأبدية الثابتة والتي لا تتبدل أن التاريخ معكوس في الحقيقة الصافية لحركة الديالكتيك. إن برودون بقوله هذا – في حركة الديالكتيك أن الأفكار لا تختلف – يكون قد حطم ظل الحركة وحركة الظلال، إذ أن كل شخص كان يقدر أن يخلق من هذه الحركة تشبيها للتاريخ. وعوضا عن ذلك نراه يريد أن يصبغ التاريخ بصيغة تفكيره. إنه يضع اللوم على كل شيء حتى على اللغة الفرنسية، فيقول برودون الفيلسوف: « ليس صحيحا أن نقول أن شيئا ما يظهر وأن شيئا ما ينتج: ففي الحضارة كما في الكون نرى أن كل شيء وجد وصنع في الوجود منذ الأبدية ». (المجلد 2، صفحة 102).

إن قوة المتناقضات الإنتاجية التي تعمل والتي تجعل برودون يعمل هي كبيرة، ولدى محاولته أن يشرح التاريخ نراه مجبرا أن ينكره ولدى محاولته أن يشرح ظهور العلاقات الاجتماعية المتتابعة نراه ينكر أي شيء يقدر أن يظهر، ولدى محاولته شرح الإنتاج بكل تطوراته نراه يتساءل إن كان يمكن إنتاج أي شيء.

وهكذا لا يوجد تاريخ بالنسبة لبرودون، وهكذا لا يوجد تتابع للأفكار. ورغم ذلك فكتابه لا يزال موجودا، وبالتأكيد إن هذا الكتاب – لنستعمل تعبيره الخاص هو « تاريخ فيما يتعلق بتتابع الأفكار ». وكيف نجد قاعدة – إن برودون رجل القواعد – تساعده أن يوضح كل هذه المتناقضات في فقرة واحدة.

لهذا الحد نقول أنه اخترع حقيقة جديدة، هذا الاختراع الذي ليس هو حقيقة مطلقة صافية ولا حقيقة عامة للناس الذين يعيشون ويعملون في أزمنة مختلفة، لكنها حقيقة تختلف عن حقيقة الشخص « المجتمع » – الموضوع « الانسانية » – التي يصورها برودون بهيأة عبقرية اجتماعية، بشكل حقيقة عامة، وأخيرا يصورها بهيأة حقيقة إنسانية. هذه الحقيقة التي يتكلم عنها بأسماء كثيرة تخون ذاتها دوما وكل لحظة كما تخون حقيقة برودون الفردية ذاتها بناحيتها الشريرة والجيدة وبوسائلها العديدة.

إن الحقيقة الإنسانية لا تخلق « الحقيقة » لأنها مختبئة في أعماق الحقيقة الأبدية والمطلقة. إنها تقدر أن تكشف عنها النقاب، لكن حقائق كهذه كما كشف عن نقابها – هي غير تامة وغير كافية بالنتيجة متناقضة « وبما أن اللوائح الاقتصادية – كونها حقائق مكتشفة، وقد أظهرها الإنسان بحقيقته، بواسطة العبقرية الاجتماعية – إن هذه اللوائح غير كاملة وتحتوي على جرثومة التناقض. وقبل أن رأى برودون العبقري الاجتماعي – العوامل المتناقضة – وليست القواعد المتلاحقة – كانت كلا هاتين الحقيقتين العوامل المتناقضة والقواعد المتلاحقة مختبئتين في الحقيقة المطلقة. إن العلاقات الاقتصادية – التي تحققت على الأرض هذه الحقائق غير الكافية – متناقضة بذاتها وهي تمثل ناحيتين: ناحية صالحة وناحية شريرة.

إن عمل العبقري الاجتماعي هو أن يجد الحقيقة الكاملة والفكرة بمفهومها الكامل – يعني القاعدة المتناسبة المتلاحقة لكي تقضي على التناقض –.

هذا هو السبب أيضا – في وهم برودون – أن هذه العبقرية الاجتماعية انتقلت من لائحة للائحة أخرى دون أن تكون قادرة – رغم كل اللوائح التي تحتويها – أن تنزع ذاتها من الله ومن الحقيقة المطلقة.

« وفي البدء يضع المجتمع (العبقرية الاجتماعية) واقعا أوليا، إنه يضع افتراضا.. تناقضا واقعيا، وتناقضه ينتج ويظهر في الاقتصاد الاجتماعي بنفس الطريقة التي يمكن لنتائجه أن تفرض على العقل، على تكوين الحركة الصناعية – وهي تتبع في كل الأشياء تنقل الأفكار – وينقسم إلى قسمين: قسم له تأثيراته النافعة وقسم له تأثيراته المتقلبه. ولكي نخلق انسجاما بين تشكيل هذين المبدأين ولكي نحل هذا التناقض على المجتمع أن يخلق تشكيلا آخر، ويخلق تشكيلا ثالثا، وتقدم العبقرية الاجتماعية ستحتل مكانتها في هذه العملية حتى – عندما تنتهي كل متناقضاتها – لا يعود برهان يوضع حدودا للتناقضات البشرية – فإنها تعود بفقرة واحدة إلى أمكنتها الأولى وبقاعدة واحدة تحل مسائلها كلها ». (المجلد 1، صفحة 133).

وكما أن الفكرة العكسية انقلبت قبلا إلى تناقض كهذا تصبح الفكرة الآن فرضية. وهذا التبديل في الشروط – الذي أوجده برودون – لا يعود يدهشنا. الحقيقة الإنسانية – التي هي صافية – وهي تتضمن رؤيا غير كاملة تجد في كل خطوة تخطوها مسائل يجب أن تحلها. وكل فكرة Thesis جديدة تكتشفها في الحقيقة المطلقة – وهي نفي الفكرة الأولى، تصبح نتيجة Synthesis وتقبل هذه النتيجة ببساطة كحل للمسألة. وهكذا نرى هذه الحقيقة تتدخل في كل المتناقضات الجديدة حتى – لدى وصولنا لآخر هذه التناقضات – تدرك كل أفكارها Thesis وكل أفكارها المعاكسية Antithesis أنها فرضيات متعاكسة. وفي مثل هذه الفوضى « تعود الانسانية (العبقرية الاجتماعية) بقفزة واحدة إلى أمكنتها الأولى وتحل بقاعدة واحدة كل مسائلها ». وتشكل هذه القاعدة الوحيدة اكتشاف برودون الحقيقي – وهو « القيمة المشكلة ». تقوم الفرضيات بالنسبة لهدف ما. إن العبقرية الاجتماعية كهدف لها – نتكلم الآن بفم برودون – إذ تضع ذاتها في المرتبة الأولى، كانت تهدف أن تنقض الناحية الشريرة الموجودة في كل لائحة اقتصادية حتى تبقى الناحية الصالحة. فالصالح والصيرورة الحسنة، والهدف الحقيقي الواقعي، هو المساواة. ولماذا تهدف العبقرية الاجتماعية إلى المساواة بينما لا تهدف للامساواة أو للأخوة أو للكاثوليكية أو لأي مبدأ آخر ؟ لأن « الإنسانية حققت فرضيات عديدة بالنسبة لفرضية متفوقة » وهذه هي المساواة. وإذا وضعناها بكلمات أخرى: لأن المساواة هي مثالية برودون. يتصور أن تقسيم العمل والرصيد، والمعمل – وكل العلاقات الاقتصادية – اخترعت فقط لفائدة المساواة، ولكنه رأى أن هذه المفاهيم انقلبت ضدها وبما يستنتج أنه يوجد تناقض وإذ يوجد تناقض فإنه يوجد بين رأيه الثابت والحركة الحقيقية.

وطالما أن الناحية الصالحة في علاقة اقتصادية هي التي تؤكد المساواة فإن الناحية الشريرة تؤكد اللامساواة. إن كل لائحة جديدة هي فرضية العبقرية الاجتماعية لكي تخف اللامساواة التي خلقتها الفرضية السابقة. وباختصار، إن المساواة هي « النسبة الأصلية » أو الميل الصوفي، الهدف الإلهي، وهذه كلها تقر العبقرية الاجتماعية وتضع أمام عينيها دوما كل هذه الأقوال بينما تدور في حلقة مفرغة من التناقضات الاقتصادية – وهكذا فالعزة الإلهية هي القاطرة التي تجعل حقيبة برودون الاقتصادية تتحرك كحقيقة الإرادة الصافية. ولقد كرس للعزة الإلهية فصلا خاصا، ويأتي بعد الفصل الذي خصصه لبحث الضرائب.

إن العزة الإلهية أو الهدف الإلهي هي الكلمة الكبيرة المستعملة اليوم لتشرح حركة التاريخ. والواقع أن هذه الكلمة لا تشرح شيئا.

إنها حقيقة عندما نقول أن ملكية الأرض في اسكتلاندا أصبح لها قيمة جديدة لدى نمو الصناعة الانكليزية. لقد فتحت هذه الصناعة منافذ جديدة للصوف، ولكي يصير إنتاج الصوف بكميات ضخمة يجب تحويل الأرض غير المزروعة إلى أرض مزروعة. ولتحقيق هذا التحويل يجب تحديد الملكيات القابلة للتحويل. ولتحقيق هذه الملكيات القابلة للتحويل يجب القضاء على الملكيات الصغيرة، وهذا لا يعني طرد ألوف الساكنين على الأرض من مساكنهم، ووضع محلهم ملايين من الخراف يحميها بعض الرعاة. وهكذا بعد تحويلات متتابعة، نرى أن الممتلكات الأرضية في اسكتلندا قد تلخصت بطرد الرجال ووضع الخراف محلهم. والآن قل إن العزة الإلهية بالنسبة لتأسيس ملكية الأرض في اسكتلندا كان هدفها أن تضع الخراف مكان الرجال، وهكذا تحصل على التاريخ الذي كونته العزة الإلهية.

طبعا، إن الميل نحو المساواة يعود لعصرنا. ولنقول الآن أن كل العصور السابقة – إذا كانت لها حاجات مختلفة ووسائل إنتاج الخ. كانت تعمل حسب إرادة العزة الإلهية لتحقيق المساواة وهذا يعني أولا، أن نبدل وسائل ورجال عصرنا برجال ووسائل العصور السابقة لنسيء فهم الحركة التاريخية التي بواسطتها نرى الأجيال المتتابعة قد حولت النتائج التي طبقتها الأجيال التي سبقتها. يعرف الاقتصاديون جيدا أن الشيء الحقيقي الذي كان بالنسبة لشخص ما منتوجا حسنا كان بالنسبة لشخص آخر مادة أولية لإنتاج شيء جديد.

افترض، كما يفترض برودون، أن العبقرية الاجتماعية انتجت أو أخرجت الأسياد الاقطاعيين تديرهم العزة الإلهية لتحويل الساكنين عندهم إلى عمال مسؤولني متساوين في العمل، ولدى هذه الفرضية تكون قد وضعت شيئا مكان شيء آخر وتكون قد أثرت على استبدال الأهداف والأشخاص الذين يستحقون العزة الإلهية التي أسست ملكية الأرض في اسكتلندا حتى تضع الخراف مكان الناس.

وبما أن برودون يهتم بالعزة الإلهية فنحن ننصحه أن يقرأ كتاب « تاريخ الاقتصاد السياسي » للكتاب فيلنوف، الذي يتبع أيضا مفهوم العزة الإلهية. إن هذا لا يعد مساواة بل يعد كاثوليكية.

 

الملاحظة السابعة والأخيرة:

يتبع الاقتصاديون طريقة معينة. وتوجد مؤسستان للاقتصايين، طبيعية واصطناعية. إن مؤسسات الاقطاعية هي مؤسسات اصطناعية ومؤسسات البورجوازية هي مؤسسات طبيعية. وفي طريقتهم هذه يشبهون اللاهوتيين الذين يؤسسون نوعين من الديانة. إن كل ديانة لا تخصهم تكون من صنع الناس، بينما ديانتهم انبثقت عن الله.

فعندما يقول الاقتصاديون أن علاقات الوقت الحاضر – علاقات الانتاج البورجوازي – هي طبيعية، فإنهم يعنون أن هذه علاقات تخلق فيها الثروة وتنمو القوى الانتاجية وتتوافق قوانين الطبيعة. ويعنون أن هذه العلاقات طبيعية مستقلة عن تأثير الزمن. هي قوانين أبدية يجب أن تحكم المجتمع دوما. هكذا كان يوجد تاريخ ولكن سوف لن يوجد بعد الآن. كان يوجد تاريخ منذ أن كانت المؤسسات الاقطاعية موجودة ونجد في هذه المؤسسات الاقطاعية علاقات انتاج مختلفة تمام الاختلاف عن علاقات المجتمع البورجوازي، هذا المجتمع الذي يعده الاقتصاديون طبيعيا وأبديا.

كان للاقطاعية بروليتاريا أيضا « وعبوديتها » وكانت تحتوي على كل جراثيم البورجوازية – كان للانتاج البورجوازي عاملان متناقضان دعيا بالناحية الصالحة للاقطاعية وبالناحية الشريرة لها، غير معتبرين أن الناحية الشريرة هي التي تغلب في النهاية. إنها الناحية الشريرة التي تنتج الحركة التي تصنع التاريخ لأنها تخلق الصراع. ولو كان الاقتصاديون، أثناء عصر حكم الاقطاع، يتحمسون لفضائل الفروسية وللانسجام الجميل بين الحقوق والواجبات، ولحياة المدنية البطريكية، ولحالة الصناعة المزدهرة في الضواحي، ولجمعيات والأخويات، ولكل شيء كان يشكل الناحية الصالحة في الاقطاعية، لو وضعوا أمام أنفسهم مسألة تخفيه كل شيء كان يرمي ظلا على هذا الرسم – العبودية، الامتيازات، الفوضى – فماذا كان حدث ؟ إن كل العوامل التي دعت لخلق الصراع كانت تحطمت ولازدهر نمو البورجوازية.

بعد انتصار البورجوازية لم يقدم أي سؤال عن الناحية الصالحة أو الشريرة في الاقطاعية. إن البورجوازية امتلكت القوى الانتاجية التي نمت تحت النظام الاقطاعي. وكل الاشكال الاقتصادية القديمة وكل العلاقات المدنية المقابلة، والدولة السياسية هذا التعبير الذي كان يطلق على المجتمع القديم، لقد تحطمت هذه الأشكال.

وهكذا يجب أن نعتبر الانتاج الاقطاعي – لنحكم عليه بنزاهة – كنوع من الانتاج القائم على التناقض. ويجب أن يظهر كيف كانت الثروة تنتج ضمن هذا التناقض وكيف كانت القوى الانتاجية تنمو بنفس الوقت كصراع طبقي، وكيف كانت طبقة من الطبقات – الناحية الشريرة وسوء المجتمع – تنمو حتى ساعدتها الأحوال المادية أن تتحرر لتبلغ نضجها. أليس هذا خيرا أن نقول أن نوع الإنتاج أي العلاقات التي تنمو بواسطتها القوى الإنتاجية، ليست إلا قوانين أبدية لكنها تقابل نموا محدودا للناس ولقواهم الإنتاجية، وأن تغييرا في القوى الإنتاجية عند الناس يسبب تغييرا ضروريا في علاقات إنتاجهم ؟ وبما أن الشيء الرئيسي يجب أن لا يطرد من ثمار المدنية، ومن القوى الإنتاجية المطلوبة، فإن الأشكال الخرافية التي في ظلها أنتجت يجب أن تتحطم، ومن هذه اللحظة تصبح الطبقة الثورية محافظة.

تبتدئ البورجوازية من البروليتاريا التي هي ذاتها أثر بال لبروليتاريا الزمن الاقطاعي. وفي مجرى نموها التاريخي نجد أن البورجوازية تقوي صفتها التناقضية، هذه الصفة التي تختفي بادئ الأمر، ولا توجد إلا في حالة متأخرة، وبينما تنمو البورجوازية، فإن بروليتاريا جديدة تنمو في صدرها، وهي بروليتاريا حديثة، فينشأ صراع بين طبقة البروليتاريا وطبقة البورجوازية، صراع – وقد شعر به كل فرد وفهمه وحبذه وأدركه – يعبر عن ذاته، ويبتدئ في بعض أوقات النزاع المؤقت. ومن الناحية الثانية، إذا كان كل أعضاء البورجوازية الحديثة عندهم نفس المصالح طالما أنهم يشكلون طبقة ضد طبقة أخرى، فيكون لهم مصالح مضادة ومعاكسة طالما أنهم يقفون وجها لوجه مع طبقة أخرى، وهذا التناقض في المصالح ينتج عن أحوال الاقتصادية في الحياة البورجوازية ليس لها صفة عامة وبيسطة بل لها صفتان مضادتان: أي أن نفس العلاقات التي تنتج للغني تنتج للفقير أيضا. ونفس العلاقات التي نجدها في نمو القوى الانتاجية، نجد فيها تأخر للقوى الانتاجية، ونجد أن هذه العلاقات تنتج الثروة البورجوازية أي ثروة الطبقة البورجوازية. وتنمو هذه الثروة فقط لدى القضاء وباستمرار على ثروة الأعضاء الأفراد في هذه الطبقة وبإنتاج بروليتاريا متزايدة.

وكلما كانت الصفة التناقضية كبيرة كلما وجد الاقتصاديون – الممثلون العلميون للانتاج البورجوازي – أنفسهم في نزاع مع نظريتهم، وهكذا تقوم مدارس مختلفة.

عندنا الاقتصاديون الضالون الذين ينتحلون في نظريتهم بالنسبة ما يدعونه سيئات الانتاج الرأسمالي عندما يقابلون هذه النظرية بالبورجوازية أنفسهم إذ لا يهتمون لآلام البروليتاريا التي تساعدهم أن يجمعوا ثروتهم. ونجد في هذه المدرسة المضرة الكلاسيكيين والرومانتيكيين. الكلاسيكيون، كآدم سميث وريكاردو، يمثلون بورجوازية لا تزال تصارع ببقايا آثار المجتمع الاقطاعي، ويعملون على أن يطهروا العلاقات الاقتصادية من بقايا الاقطاعية وليزيدوا القوى الانتاجية وليقودوا الصناعة والتجارة. إن البروليتاريا تشارك في هذا الصراع وتقوم بتجربة هذا العمل وتتألم لأجله. إن البروليتاريا تشارك كآدم سميث وريكاردو اللذين يمثلون مؤرخي هذا العصر، لم يحملا أية رسالة إلا ليظهرا كيف أن الثروة تتجمع في علاقات الانتاج البورجوازي، وكيف يضعان قواعد هذه العلاقات في لوائح وقوانين، وأن يظهروا أن هذه القوانين واللوائح رفيعة وعالية وتناسب انتاج الثورة. إن الفقر في نظرهم ليس إلا الصرخة الصغيرة التي ترافق ولادة الطفل، في الطبيعة أو في الصناعة.

أما الرومانتيكيون فإنهم يخصون عصرنا الذي نجد فيه البورجوازية تعاكس البروليتاريا مباشرة في هذا العصر الذي يتكاثر فيه الفقر كما تتكاثر الثروة. يلقى الاقتصاديون من برجهم العالي، نظرة احتقار على الآلات البشرية التي تصنع الثروة. إنهم ينسخون كل التطورات التي تقدم بها سابقوهم.

وتأتي في الدرجة الثانية « المدرسة الانسانية » Humanitarian School التي توافق مع الناحية الشريرة لعلاقات الانتاج. وهي تبكي وتنوح على شقاء وتعاسة البروليتاريا، وعلى المنافسة الدائمة بين البورجوازيين أنفسهم، إنها تنصح العمال أن يتعلقوا بالصبر ويعملوا بنشاط وأن ينجبوا أطفالا قليلين، وهي تنصح البورجوازيين أن يفرضوا نشاطا منطقيا في الانتاج. وتعتمد نظرية هذه المدرسة على تمييز لا ينتهي بين النظري والواقعي، بين المبادئ والنتائج، بين الفكرة التطبيق، بين الشكل والمضمون، بين الجوهر والحقيقة، بين الحق والواقع وبين الناحية الصالحة والناحية الشريرة.

إن مدرسة الشفقة والرحمة Philanthropic هي المدرسة الانسانية ولكنها تحاول أن تصل الكمال. إنها تنكر ضرورة التناقض، وتريد أن تجعل كل الناس بورجوازيين، إنها تريد أن تحقق النظرية طالما هي بعيدة عن الواقع وطالما أنها لا تحتوي على تناقض. وهي تكمل – دون أن تقوله – أنه من السهل أن تخلق فكرة مجردة من المتناقضات التي نصادفها كل لحظة في الحقيقة الواقعية. وهذه النظرة تصبح حقيقة مثالية. يريد الانسانيون أن يتكلموا عن اللوائح التي تعبر عن فكرة العلاقات البورجوازية لكن دن إرجاعها إلى التناقض الذي يشكلها ولا يفترق عنها، يفكرون أنهم يحاربون البورجوازية جديا، وعلميا، بينما هم بورجوازيون أكثر من الجميع.

وبما أن الاقتصاديين هم الممثلون العلميون للطبقة البورجوازية، هكذا الاشتراكيون والشيوعيون هم نظريو صراع البروليتاريا. وطالما أن البروليتاريا لم تنم كفاية لتشكيل طبقة بذاتها وطالما أن صراع البروليتاريا ذاته مع البورجوازية لم يتخذ صفة سياسية بعد، والقوى الانتاجية لم تنم بكفاية في صدر البورجوازية ذاتها لتساعدنا على تحرير البروليتاريا وعلى تشكيل مجتمع جديد، فإن هؤلاء النظريين هم الطوباويون الذين – ليحققوا رغبات الطبقات المظلومة – يقدمون مناهجهم ويمضون ليفتشوا عن علم خلاق، ولكن لدى القول أن التاريخ يتحرك إلى الأمام، ويتقدم معه صراع البروليتاريا ويصبح أوضح، فإنهم لا يحتاجون أن يفتشوا عن العلم ولا يقدمون إلا المناهج، وطالما أنهم لا يزالون إلا في بداية الصراع، فإنهم لا يرون في الفقر إلا الفقر، دون أن يروه في الناحية الثورية التي ستجتاح المجتمع كله. ومن هذه اللحظة يوافق العلم – العلم الذي هو انتاج الحركة التاريخية – على هذه الناحية ولا يبقى نظريا بل يصبح ثوريا.

ولنعد الآن لبرودون.

لكل علاقة اقتصادية ناحيتها الصالحة وناحيتها الشريرة. ويرى برودون أن الاقتصاديين يعرضون الناحية الصالحة ويرى الاشتراكيين يرفضون ولا يقبلون الناحية الشريرة. فهو يستعير من الاقتصاديين ضرورة العلاقات الأبدية، ويستعير من الاشتراكيين خياله ليرى في الفقر لا شيء سوى الفقر. إنه يتفق مع كليهما إذ أنه يريد أن يقع على سيطرة العلم. والعلم بالنسبة له يصغر حتى يصبح نسبيا لقاعدة علمية، وهو الرجل الذي يفتش عن القواعد. إنه أقل من الاقتصاديين بما أنه – كفيلسوف – أراد أن يبدع قاعدة – فكر أنه يقدر أن يستغني عنهم وأن يمضي بمفرده ويبحث القضايا الاقتصادية – وهو أقل من الاشتراكيين لأنه لم تكن عنده الشجاعة الكافية ولا النظر البعيد لكي يرتفع عن مصاف البورجوازيين.

إنه يريد أن يكون الفكرة الناتجة Synthesis، إنه خطأ مركب. إنه يريد أن يظهر بمظهر رجل العلم الذي هو أعلى من البورجوازية والبروليتاريا، إنه بورجوازي صغير يتأرجح بين رأس المال والعمل، وبين الاقتصاد السياسي والشيوعية.


(1) كان هذا حقيقة بالنسبة لسنة 1847. في ذلك الوقت كانت التجارة الدولية في الولايات المتحدة محدودة على استيراد المهاجرين والمنتوجات الصناعية، وعلى تصدير القطن والتبغ، أي على نتاج عمل العبيد في الجنوب. وكانت الولايات الشمالية تنتج القمح واللحوم وترسلها للولايات التي كانت تقوم على العبودية. لقد كان الوقت الذي بدأت الولايات الشمالية بتصدير القمح واللحوم وأصبحت بلدا صناعيا، وعندما أصبح احتكار الصوف يجد منافسة قوية في الهند ومصر والبرازيل الخ... إن تحرير العبيد أصبح ممكنا في مثل هذا الوقت. ورغم هذا فإن تحرير العبيد أدى إلى خراب الجنوب الذي لم ينجح في أن يبدل العبيد السود بعبودية الهنود « الصينيين ». (الملاحظة لانجلز للطبعة الألمانية).