رأس المال
المجلد الأول


كتبه: كارل ماركس سنة 1867
نشر لأول مرة: 1887
ترجمة: فالح عبد الجبار وآخرون


المجلد الأول: عملية إنتاج الرأسمال
     القسم الثامن: التراكم البدائي
          الفصل الثاني والثلاثين: الميل التاريخي للتراكم الرأسمالي


الميل التاريخي للتراكم الرأسمالي

إذن، ما هو فحوى التراكم الأولى لرأس المال، أي منشؤه التاريخي ؟ فبما ان هذا التراكم ليس تحولاً مباشراً للعبيد الأرقاء والأقنان إلى عمال مأجورين، وليس بالتالي مجرد تبدل في الشكل، فانه لا يعني سوى انتزاع ملكية المنتخبين المباشرين، أي انحلال الملكية الخاصة القائمة على العمل الشخصي لمالكها.

إن الملكية الخاصة، بوصفها نقيض الملكية الاجتماعية الجماعية، لا توجد الا حيث تكون وسائل العمل والشروط الخارجية للعمل ملكاً لأفراد خاصين. بيد ان طابع الملكية الخاصة هذا يختلف تبعاً لكون هؤلاء الأفراد شغيلة أم غير شغيلة. ان التلاوين التي لا تحصى والتي نراها في الملكية الخاصة لأول وهلة، لا تعكس غير الأوضاع الوسيطة الواقعة بين هذين القطبين المتضادين.

إن ملكية الشغيل الخاصة لوسائل إنتاجه هي قاعدة الإنتاج الصغير، والإنتاج الصغير بدوره، هو الشرط الضروري لتطور الإنتاج الاجتماعي والشخصية الفردية الحرة للشغيل نفسه. وبالطبع فان أسلوب الإنتاج هذا كان قائماً في ظل العبودية والقنانة وغيرهما من أشكال التبعية الشخصية. ولكنه لا يزدهر، ولا يطلق العنان لكامل طاقاته، ولا يبلغ شكله الكلاسيكي الوافي، الا حيثما يكون الشغيل هو المالك الخاص الحر لشروط عمله الخاصة التي يستخدمها بنفسه، حيث يكون الفلاح مالكاً للأرض التي يزرعها، والحرفي للأدوات التي يستخدمها استخدام القنان الحاذق لأداته.

ويفترض أسلوب الإنتاج هذا، سلفاً، تجزؤ الأرض ووسائل الإنتاج الأخرى. انه يستبعد تركز وسائل الإنتاج هذه، كما يستبعد التعاون وتقسيم العمل في نطاق عملية الإنتاج الواحدة، وسيطرة المجتمع على الطبيعة وتنظيمها اجتماعياً، والتطور الحر للقوى المنتجة الاجتماعية. انه لا يتلاءم الا مع الحدود البدائية الضيقة للإنتاج والمجتمع. والسعي لتخليده يعني كما يقول بيكور بصواب السعي إلى "تعميم المستوى المتوسط بمرسوم". ولكنه يولد، عند مرحلة معينة من تطوره، الوسائل المادية لفنائه هو. ومنذ تلك اللحظة، تبدأ تضطرم في أحشاء المجتمع قوى جديدة ومشاعر جديدة تحس أنها مقيدة بأسلوب الإنتاج هذا. ويقتضي الأمر تدميره، فيدمر. ان تدميره، تحويل وسائل الإنتاج الفردية والمبعثرة إلى وسائل إنتاج اجتماعية مركزة اجتماعياً، وبالتالي تحويل الملكية القزمة للكثرة إلى ملكية عملاقة للقلة، وانتزاع الأرض ووسائل المعيشة وأدوات العمل من الجماهير الشعبية الواسعة، ان هذا الانتزاع المرعب، المؤلم، لملكية الجماهير الشعبية يؤلف المقدمة في تاريخ رأس المال. وينطوي هذا التاريخ على طائفة من الطرائق القسرية، التي لم نعرض منها سوى الطرائق الصانعة لحقبات كاملة، مثل طرائق التراكم الأولى لرأس المال. ان انتزاع ملكية المنتجين المباشرين قد تم بأكثر الأشكال الوحشية قسوة، وبدافع أحط الأهواء وأكثرها مقتاً ودناءة وسُعاراً. ان الملكية الخاصة المكتسبة بعمل مالكها، أي المرتكزة، ان جاز القول، على اندماج الشغيل الفردي المستقل، بأدوات ووسائل عمله، تُزاح من قبل الملكية الخاصة الرأسمالية، التي تقوم على استغلال قوة عمل الغير، الحرة شكلياً(18).

وما أن تكون عملية التحول هذه قد فسخت المجتمع القديم، بدرجة كافية، من حيث السعة والعمق، وما أن يتحول الشغيلة إلى بروليتاريين، ووسائل عملهم إلى رأسمال، وما أن يقف الأسلوب الرأسمالي للإنتاج على قدميه هو، حتى نجد شكلاً جديداً لمواصلة إضفاء الطابع الاجتماعي على العمل ومواصلة تحويل الأرض ووسائل الإنتاج الأخرى إلى وسائل إنتاج مُستمرة اجتماعياً، أي وسائل إنتاج جماعية، وبالتالي لمواصلة انتزاع ملكية المالكين الخاصين. فذلك الذي ينبغي انتزاع ملكيته الآن لم يعد الشغيل الذي يعمل لأجل نفسه بنفسه، بل الرأسمالي الذي يستغل كثيرين من العمال.

إن انتزاع الملكية هذا يتحقق بفعل القوانين الملازمة للإنتاج الرأسمالي نفسه عن طريق تمركز رؤوس الأموال. فالرأسمالي الواحد يقضي على الكثير من أقرانه. وإلى جانب هذا التمركز، أي انتزاع حفنة من الرأسماليين لملكية الكثيرين منهم، يتطور التطبيق التكنيكي الواعي للعلم، والاستثمار المنهجي للأرض، وتحول وسائل العمل إلى وسائل عمل غير قابلة للاستخدام الا بصورة مشتركة، والتوفير في وسائل الإنتاج كافة باستعمالها كوسائل إنتاج لعمل اجتماعي مركب، وإشراك الشعوب كلها في شبكة السوق العالمية، ويتطور كذلك الطابع العالمي للنظام الرأسمالي. وإلى جانب التناقص المستمر لعدد أساطين رأس المال، الذين يغتصبون ويحتكرون كل مزايا عملية التحول هذه، يتسع نطاق البؤس، والاضطهاد، والاسترقاق، والانحطاط، والاستغلال؛ ولكن ينمو في الوقت نفسه عصيان الطبقة العاملة، الطبقة التي يتزايد عددها باستمرار والتي تتعلم وتتحد وتتنظم بفعل آلية عملية الإنتاج الرأسمالي ذاتها. ان احتكار رأس المال يغدو قيداً لأسلوب الإنتاج الذي نما معه وبه. وان تمركز وسائل الإنتاج وجعل العمل اجتماعياً يبلغان ذلك الحد بحيث يأخذان بالتنافر مع إطارهما الرأسمالي. فينفجر هذا الإطار. وتدق ساعة نهاية الملكية الرأسمالية الخاصة. ويجري انتزاع ملكية منتزعي الملكية.

إن الأسلوب الرأسمالي للتملك الناجم عن الأسلوب الرأسمالي للإنتاج، وبالتالي الملكية الرأسمالية الخاصة، هما أول نفي للملكية الخاصة الفردية القائمة على عمل الفرد بالذات. ولكن ا لانتاج الرأسمالي يولد، بحتمية قانون طبيعي عملية من عمليات الطبيعة، ما ينفيه هو نفسه. وهذا نفي النفي. انه لا يعيد الملكية الخاصة، بل الملكية الفردية على أساس إنجازات الحقبة الرأسمالية: أي على أساس التعاون والحيازة المشتركة للأرض ولوسائل الإنتاج التي أنتجها العمل نفسه.

ان تحول الملكية الخاصة المبعثرة، القائمة على عمل مالكيها إلى ملكية رأسمالية خاصة، هو بالطبع عملية أبطأ وأطول واصعب واشق، بما لا يقاس، من تحول الملكية الرأسمالية الخاصة، التي ترتكز واقعياً على عملية الإنتاج الاجتماعية، إلى ملكية اجتماعية. ففي الحالة الأولى كان الأمر يتعلق بقيام حفنة من الغاصبين بانتزاع ملكية الجماهير الشعبية، اما في الحالة الثانية فالمقصود قيام الجماهير الشعبية بانتزاع ملكية حفنة من الغاصبين(19)

 


(1) "لقد بلغنا وضعاً جديداً تماماً بالنسبة إلى المجتمع... فنحن نسعى إلى فصل كل نوع من الملكية عن كل نوع من العمل"
Sismondi. "Nouveaux Principes de l'Economie Politique". t.II (Paris, 1827), p. 434
 

(2) "ان رقي الصناعة الذي ليست البرجوازية الا خادماً منفعلا له ومقسوراً على خدمته يستعيض عن انعزال العمال الناتج عن تزاحمهم، باتحاد ثوري بواسطة الجمعيات. وهكذا ينتزع تقدم الصناعة الكبرى من تحت اقدام البرجوازية نفس الاسس التي شادت عليها نظام انتاجها وتملكها. ان البرجوازية تنتج قبل كل شيء حفاري قبرها، فسقوطها وانتصار البروليتاريا كلاهما امر محتوم لا مناص منه... وليس بين جميع الطبقات التي تقف الآن امام البرجوازية وجهاً لوجه الا طبقة واحدة ثورية حقاً، هي البروليتاريا. فان جميع الطبقات الاخرى تنحط وتهلك مع نمو الصناعة الكبرى، اما البروليتاريا فهي، على العكس من ذلك، اخص منتجات هذه الصناعة. ان الفئات المتوسطة، من صغار الصناعيين والباعة بالمفرق والحرفيين والفلاحين، تحارب البرجوازية من اجل الحفاظ على وجودها بوصفها فئات متوسطة. فهي ليست اذن ثورية، بل محافظة، واكثر من محافظة ايضاً، انها رجعية، فهي تطلب ان يرجع التاريخ القهقرى ويسير دولاب التطور إلى الوراء" (كارل ماركس وفريدريك انجلز. "بيان الحزب الشيوعي"، لندن، 1848).