لماذا لم تعقد الأممية الشيوعية أي مؤتمر منذ أكثر من أربع سنوات

لقد انقضى أكثر من أربع سنوات منذ المؤتمر الخامس. وخلال هذه الحقبة تغير خط القيادة بشكل جذري، كما تبدل تشكيلها وتركيب مختلف الأحزاب وتركيب الأممية الشيوعية بمجملها. ولم تتم إزاحة رئيس الأممية من مركزه فحسب، بل طُرد من الحزب أيضا، قبل أن يعود فيُقبل فيه من جديد(1)، قُبيل افتتاح هذا المؤتمر السادس. لقد جرت هذه الأحداث دون أن يُعقد أي مؤتمر، رغم أنه لم يكن هناك عائق موضوعي يمنع الدعوة إليه. وفي حين كانت تُطرح على الحركة العمالية والجمهورية السوفياتية معضلات حيوية، ظهر إجتماع الأممية الشيوعية وكأنه عمل لا داعي له:فكان يتم تأجيله سنة بعدأخرى،كأنه عائق زائد أو وزن معطِّل غير مفيد. ولم تتم الدعوة إليه إلا عندما قُدّر بأنه سيكون أمام الأمر الواقع.

خلال هذه السنوات الأربع – المليئة بالأحداث الهامة، والممزَّقة بالخلافات العميقة – وُجد وقت كاف لعقد العديد من المؤتمرات والاجتماعات والندوات البيروقراطية: كالمحادثات المنفردة لجنة الأنكلو-روسية، ومؤتمر العصبة الديمقراطية للنضال ضد الامبريالية، ومؤتمر "أصدقاء الاتحاد السوفياتي"(2) المسرحي... ولم ينقص الوقت ويضيق المكان إلا لعقد المؤتمرات النظاية الثلاث الخاصة بالأممية الشيوعية !

خلال الحرب الأهلية والحصار الامبريالي، وعندما كان المندوبون الأجانب يلاقون صعوبات هائلة ويُقتل بعضهم في الطريق، كانت مؤتمرات الحزب الشيوعي السوفياتي والأممية الشيوعية تنعقد بصورة منتظمة وفقا لأنظمة الحزب البروليتاري وروحه. فلمَ لا يتم التصرف بالشكل نفسه في هذه الأيام ؟ إن الادعاء بوجود "أشغال عملية" كثيرة الآن يعني الاعتراف بأن فكر الحزب وإرادته تعيق عمل القيادة، وأن المؤتمرات هي عبء وسط الأعمال الهامة والجدية. والحقيقة أن ذلك يعني فتح السبيل أمام التصفية البيروقراطية للحزب.

من حيث الشكل، تم حسم كل المسائل خلال هذه السنوات الأربع من قبل اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية في الاتحاد السوفياتي، أو بصورة أدق من قبل أمانة سره المستندة إلى الجهاز الحزبي التابع لها. ونحن لا نقصد هنا طبعا التأثير الأيديولوجي الذي كان يمارسه الحزب الشيوعي السوفياتي، والذي كان حجمه في أيام لينين أكبر من حجمه الحالي، والذي كان له معنى خلاقا قويا. إننا نقصد السلطة المطلقة لأمانة السر التي تفرض نفسها بواسطة السلطة المطلقة للجهاز. ولم تكن هذه السلطة موجودة في أيام لينين، كما أنه حذّر بشدة من هذا الخطر في نصائحه الأخيرة التي وجهها إلى الحزب(3).

أعلنت الأممية الشيوعية "حزبا عالميا متحدا" وأُخضعت لها جميع الفروع القومية. كان لينين قد لعب في هذه المسألة، وحتى النهاية، دور المعدِّل: وكرّر تحذيراته حيال الميول البيروقراطية للقيادة، خاشيا أن تنحرف الديمقراطية المركزية نحو البيروقراطية، نتيجة غياب القاعدة السياسية. غير أن المركزية القصوى انتصرت فور توقف لينين عن العمل. وأُعلنت اللجنة التنفيذية لجنة مركزية تتمتع بجميع السلطات في الحزب العالمي المتحد، على ان تكون مسؤولة أمام المؤتمرات فقط. وبالواقع ماذا نرى في هذه القضية، لم تُعقد المؤتمرات عندما كنا بأمسّ الحاجة إليها (والثورة الصينية وحدها مبرر كاف لدعوة مؤتمرين). إن اللجنة التنفيذية هي نظريا المركز القومي للحركة العمالية العالمية، ولكن هذه اللجنة عرفت في السنوات الأخيرة، ومرات عديدة، تعديلات عميقة. فخرج منها عدد من الأعضاء الذين تم انتخابهم في المؤتمر الخامس ليلعبوا دورا في القيادة، وقد جرت الأمور بشكل مشابه داخل فروع الأممية اليوعية أو أهمها على الأقل. فمن هو الذي أدخل التعديل على اللجنة التنفيذية، التي ليست مسؤولة مبدئيا إلا أمام المؤتمر...، إن لم ينعقد المؤتمر ؟ الجواب على ذلك واضح كل الوضوح: لقد جاء التعديل من النواة القيادية داخل الحزب الشيوعي السوفياتي التي كانت تلجأ عند كل تبديل لتركيبها إلى تعديل اللجنة التنفيذية، بالرغم من النظام الداخلي للأممية الشيوعية وقرارات المؤتمر الخامس.

لقد تمت التبديلات داخل النواة القيادية في الحزب الشيوعي السوفياتي ليس فقط من وراء ظهر الأممية الشيوعية، ولكن أيضا من وراء ظهر الحزب الشيوعي السوفياتي نفسه، وذلك بين المؤتمرات وبشكل مستقل عنها بواسطة انقلابات يقوم بها الجهاز. وكان "فن القيادة" يكمن في وضع الحزب أمام الأمر الواقع؛ ثم تتم التعيينات لحضور المؤتمر، الذي يتم تأخيره بناء على آلية مكشوفة الوحي، بناء على رغبة القيادة الجديدة المعينة، على حين يُطلق بكل بساطة على النواة القيادية السابقة اسم "القمة المعادية للحزب".

ونحن لا نريد الاطالة في تعداد جميع مراحل هذه العملية؛ إنني لن أذكر إلا حدثا من جملة الأحداث، ولكنه يعبّر عنها كلها أحسن تعبير. لقد كانت مجموعة زينوفييف على رأس المؤتمر الخامس، ليس فقط من الناحية الشكلية ولكن أيضا من الناحية الواقعية، وهي بالضبط التي أعطت الصبغة الأساسية لأعمال هذا المؤتمر: الصراع ضد "التروتسكية" المزعومة. ولكن هذا التكتل القيادي لم يستطع البقاء حتى انعقاد المؤتمر السادس في أي حزب من أحزاب الأممية الشيوعية. وفي يوليو (تموز) 1926 أعلنت النواة المركزية لهذا التكتل – والمؤلفة من زينوفيف وكامنييف وسوكولنيكوف وآخرين غيرهم – ما يلي:

"منذ الآن لم يعد هناك أي مجال للشك بأن النواة الأساسية لمعارضة 1923 كانت محقة عندما نبّهت غلى الأخطار الكامنة في الابتعاد عن الخط البروليتاري، وإلى أخطار نمو نظام الجهاز".

وأكثر من هذا: في الاجتماع العام للجنة المركزية ولجنة المراقبة المركزية (من 14 إلى 23 يوليو (تموز) 1926) أعلن زينوفييف – رئيس المؤتمر الخامس وروحه المحركة – بأنه يعتبر أن الخطأين الرئيسيين في حياته هما: خطأ 1917، والصراع ضد المعارضة في عام 1923. ويقول زينوفييف: "إنني أعتبر الخطأ الثاني أكثر خطورة، لأن خطأ عام 1917 الذي تمّ أيام لينين، قد صححه لينين.. بينما يكمن خطئي في عام 1923 (4) في ما ... "

"أورد جونيكيدزه – ماذا إذن، فقد حشوت دماغ الحزب كله !

"زينوفييف – نعم لقد كان تروتسكي محقا على عكسكم في موضوعيْ الإنحراف والطغيان البيروقراطي للجهاز".

ولكن مشكلة الانحراف، أي مشكلة الخط السياسي، والنظام القائم داخل الحزب تشكل مجمل الاختلافات في وجهات النظر. ولقد رأى زينوفييف في عام 1926 أن معارضة عام 1923 كانت محقة حول هذه القضايا، وأنه يعتبر صراعه ضد "التروتسكية" في فترة 1923–1925 أكبر خطأ ارتكبه في حياته، وأكثر خطورة حتى من معارضته لتفجير ثورة أوكتوبر. ومع هذا، نشرت الصحف في الأيام الأخيرة قرارا صادرا عن لجنة المراقبة المركزية يقضي بإعادة زينوفييف مع عدد من الأشخاص إلى الحزب نظرا لأنهم "تراجعوا عن شططهم التروتسكي". إن هذه القصة، التي تؤكدها الوثائق بشكل كامل، ستبدو لأحفادنا وأحفاد أحفادنا قصة غريبة من نسج الخيال، وربما أنها لم تكن لتستحق الذكر لو أنها لا تتعلق إلا بشخص واحد، أو جماعة معينة، ولو لم تكن مرتبطة ارتباطا وثيقا بكل الصراع الفكري الذي شهدته الأممية الشيوعية في السنوات الأخيرة، ولو لم تتم عضويا وسط الشروط التي سمحت بعدم عقد أي مؤتمر خلال أربع سنوات، أي وسط السلطة اللامتناهية للأساليب البيروقراطية. في الوقت الحاضر لا تتم قيادةٌ ايديولوجية للأممية الشيوعية، بل إدارتها. ولم تعد النظرية أداة للمعرفة والتوقع، بل غدت أداة تقنية للإدارة. تلصق بالمعارضة بعض الآراء، ثم يحكمون عليها من خلال هذه الآراء. يشيرون إلى البعض "كتروتسكيين"، ثم يبرؤون ساحتهم منها فيستدعونهم ويعودون إلى العمل كما لو كانوا موظفين في سفارة !

ويصاحب مثل هذه التبدلات الايديولوجية حتما انقلابات داخل التنظيم؛ وهي تأتي دائما من الأعلى، وعندما تغدو منهجا متبعا تصبح النظام العادي لا للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي فحسب بل لأحزاب أخرى في الأممية الشيوعية. وقلما تتطابق الدوافع الرسمية لكل انقلاب في القيادة مع الدوافع الحقيقية. إن الازدواجية في مجال الأفكار هي النتيجة المحتومة لتبقرط (bureaucratisation) النظام. وخلال هذه السنوات سار قادة الأحزاب في ألمانيا وفرنسا وانكلترا وأمريكا وبولونيا...الخ أكثر من مرة على طرق انتهازية دون أن توجه لهم أي إدانة لأن موقفهم بالنسبة لقضايا الحزب الشيوعي السوفياتي الداخلية كانت خير حماية لهم.

وما تزال الأمثلة الأخيرة حية في الأذهان. لقد تمتعت القيادة الصينية التي ضمت تشين–دو–سيو وتان–بين–سيان وشركاهما، والمنشفية بعمق (5)، حتى آخر لحظة بالدعم الكامل من قبل اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية، ضد انتقادات المعارضة. وليس هذا غريبا، طالما أن تان–بين–سيان أعلن في الإجتماع العام السابع للجنة التنفيذية للأممية الشيوعية ما يلي:

"منذ أول ظهور الترونسكية تبنى الحزب الشيوعي الصيني والشبيبة الشيوعية الصينية موقفا إجماعيا ضدها (6)."

هنالك في الجنة التنفيذية للأممية الشيوعية نفسها وفي جهازها عناصر تلعب دورا هاما، مع أنها عناصر عارضت الثورة البروليتارية، ثم عرقلتها على قدر استطاعتها في روسيا وفنلندا وبلغاريا وهنغاريا وبولونيا، وفي بلدان أخرى؛ ولكنها بالمقابل أثبتت قدرتها في اللحظة المناسبة عند صراعها ضد "التروتسكية".

إن تجاهل النظام الداخلي وخرقه، واللجوء إلى الانقلابات داخل التنظيم والأفكار، وتأجيل المؤتمرات والاجتماعات، وتنمية لأساليب التعسفية لا يمكن أن تكون كلها وليدة الصدفة، ولا بد أن يكون وراءها أسباب عميقة.

إنه لنقص في الماركسية تفسير هذه الأمور بأنها ناجمة فقط أو بصورة رئيسية على الأقل عن أسباب شخصية (صراع الجماعات على السلطة، الخ)، رغم أن هذه الدوافع تلعب في بعض اللحظات دورها (انظر "وصية" لينين). غير أن الأمر يتعلق بعملية عميقة طويلة الأمد لا يمكن أن تستند إلى أسباب نفسية فحسب ولكن في الدرجة الأولى إلى أسباب سياسية، وبالفعل فهي تستند إلى مثل هذه الأسس.

يعود تبقرط النظام كله داخل الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي، والأممية الشيوعية بشكل رئيسي، إلى تفاقم التباعد خلال السنوات الخمس الأخيرة بين الخط السياسي للقيادة والآفاق التاريخية للبروليتاريا. وكلما تفاقم التباعد كلما أثبتت الأحداث خطأ هذه السياسة، وكلما انعدمت القدرة على تطبيقها مع احترام نظم الحزب وعلى ضوء النقد، كلما غدا ضروريا أكثر فأكثر فرضها على الحزب من الأعلى بواسطة الجهاز، وحتى بالوسائل الخاصة بالدولة.

في مثل هذه الظروف لم تعد القيادة تحتمل إطلاقا النقد الماركسي. إن النظام البيروقراطي يتسم بالشكلية الجامدة، والسكولاستيكية هي الايديولوجية الأكثر تناسبا معه. ولقد كانت السنوات الخمس الأخيرة مرحلة تشويه للماركسية التي تحولت إلى مذهب سكولاستيكي بغية تغطية الانحراف السياسي وخدمة عملية الاغتصاب البيروقراطي.


(1) في نوفمبر (تشرين ثاني) 1927 طُرد زينوفييف من الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي. ثم أعلن استسلامه السياسي بعيد انعقاد المؤتمر الخامس عشر في ديسمبر (كانون أول) من السنة نفسها، فأعيد إلى الحزب في السنة التالية.
 

(2) كانت الأممية الشيوعية حتى عام 1927 توجّه اهتماما للأحزاب والنقابات العمالية. وبمناسبة العيد العاشر لثورة أكتوبر، تمّ خلق منظمة تضم عددا من شخصيات "أصدقاء الاتحاد السوفياتي". وكان ذلك بداية أسلوب امتد فيما بعد واتسع، وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية حيث ظهرت "حركة السلام".
 

(3) إشارة إلى "وصية" لينين التي كان محظورا حيازتها أو توزيعها داخل الاتحاد السوفياتي في تلك الحقبة، وكانت عقوبة من يقدم على ذلك النفي إلى المعسكرات. ولم تنشر هذه الوثيقة بصورة رسمية داخل الاتحاد السوفياتي إلا بعد تقرير خروتشوف أمام المؤتمر العشرين في عام 1956، وذلك في جزء إضافي من مجموعة المؤلفات الكاملة مع عدد من النصوص الأخرى التي كانت ممنوعة أيضا من قبل.
 

(4) وقد نشرت اللجنة المركزية هذا التصريح المختزل من جديد قبل المؤتمر الخامس عشر.
 

(5) لقد لجأ تشين–دو–سيو فيما بعد إلى إعادة فحص السياسة التي سار عليها والتحق بالمعارضة اليسارية. وتقول الوثائق الرسمية التي ينشرها القادة الصينيون الحاليون حول تاريخ الصين بأن تشين–دو–سيو هو المسؤول الأول عن سياسة فترة 1925–1927 والهزيمة التي نجمت عنها، ويلزمون الصمت حول دور الأممية الشيوعية.
 

(6) عن التقرير المختزل – صفحة 205