تجذر الجماهير ومعضلات القيادة

أعلن تايلمان خلال خطابه، أو بالأحرى خلال سيل الشتائم التي وجهها إلى المعارضة، خلال الاجتماع العام للجنة التنفيذية للأممية الشيوعية في فبراير (شباط) ما يلي:

"إن التروتسكيين لا يرون تجذر الطبقة العاملة العالمية، ولا يلاحظون بأن الوضع يأخذ وجها ثوريا متزايدا" (1).

ثم ينتقل بعد ذلك، كما ينبغي، إلى الإثبات، حسب الطقوس، ليؤكد بأننا، نحن وهيلفيردينغ، ندفن الثورة العالمية. وكان يمكن تجاهل قصص تايلمان الطفولية لو لم يكن الأمر يتعلق بحزب من الأممية الشيوعية – يشكل ثاني أحزابها من ناحية العدد – يمثله تايلمان في اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية. فأين هو تجذر الطبقة العاملة الذي لا تلاحظه المعارضة ؟ لقد تحدث تايلمان وكثيرون غيره عن "التجذر" في 1921 و1925 و1926 و1927. فبالنسبة لهؤلاء لا يوجد في عام 1923 انخفاض في نفوذ الحزب الشيوعي ونمو في قوة الاشتراكية-الديمقراطية، حتى أنهم لم يتساءلوا عن سبب هذه الظواهر. ومن الصعوبة بمكان مخاطبة شخص لا يود تعلم حروف الأبجدية السياسية. ومن سوء الحظ أن الأمر لا يتعلق بتايلمان وحده، وحتى أن شخصه لا يتمتع بأية أهمية. لقد كان المؤتمر الثالث مدرسة الاستراتيجية الثورية بكل معنى الكلمة، إذ أنه كان يعلم أسلوب التمييز، وهذا هو أول شرط لحل أية مسألة. هناك فترات مد وفترات جزر، وتمر كل فترة من الفترات بدورها بعدة مراحل. وعلى التكتيك السياسي أن يتلاءم مع كل مرحلة، إلا أنه يجب في الوقت نفسه التمسك بخط سير عام يتجه نحو استلام السلطة، حتى لا نؤخذ على تعليمات المؤتمر الثالث. فتجاهل الوضع الموضوعي وأحل محل تحليلات الأحداث شعارا تحريضيا فظا هو: "الطبقة العاملة تتجذر، كما أن الوضع يزداد ثورية".

والحقيقة أن الطبقة العاملة الألمانية لم تبدأ بالتخلص من نتائج هزيمة 1923 إلا منذ السنة الماضية. ونرى في إحدى الوثائق التي نشرتها المعارضة واستند إليها تايلمان ما يلي:

"مما لا شك فيه أن هناك حركة نحو اليسار في الطبقة العاملة الأوروبية، تظهر في تزايد الاضرابات وتضاعف عدد الأصوات الشيوعية في الانتخابات. بيد أن هذا كله لا يمثل سوى المرحلة الأولى للحركة. فأصوات الناخبين الاشتراكيين-الديمقراطيين تتزايد بصورة موازية لتزايد أعداد الناخبين الشيوعيين، وتتجاوزها في بعض الحالات. فإذا ما تطور هذا السير وتعمق، فستبدأ في المرحلة الثانية الحركة التي ستقود من الاشتراكية-الديمقراطية إلى الشيوعية" (2).

فإذا نظرنا إلى نتائج الانتخابات الأخيرة في فرنسا وألمانيا، وجدنا أن هذا التقدير الخاص بالوضع الداخلي للطبقة العاملة الأوروبية – وخاصة للطبقة العاملة الألمانية – يمكن اعتباره أن لا جدال فيه تقريبا. ومن المؤسف أن صحافة الأممية الشيوعية، بما في ذلك صحافة الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي، لا تقدم تحليلا جادا، عميقا، مدعما بالوثائق والأرقام حول وضع الطبقة العاملة. فإذا ما استخدمت الإحصائيات كان استخدامها راميا إلى رسم اتجاه يدعم هيبة القيادة وتخفي معطيات وأرقام ذات أهمية خاصة لرسم الخط البياني الخاص بالحركة العمالية في فترة 1923 – 1928، وذلك عندما تتعارض هذه المعطيات والأرقام مع الأحكام الخاطئة والتوجيهات المضللة. وهذا ما يجعل من الصعب إعطاء حكم حول الدينامية الفعلية لعملية تجذر الجماهير وحول مجراها والطاقات الكامنة فيها.

لم يكن يحق إطلاقا لتايلمان أن يقول في اجتماع فبراير (شباط) للجنة التنفيذية للأممية الشيوعية بأن "التروتسكيين لا يرون تجذر الطبقة العاملة العالمية"، فنحن لم نرَ تجذر الطبقة العاملة الأوروبية فحسب بل أننا توصلنا انطلاقا من ذلك إلى تقييم الظرف منذ نهاية العام الماضي. وأكدت انتخابات الرايخستاغ في مايو (أيار) 1928 كليا وجهة نظرنا. إن التجذر يمر بمرحلته الأولى، وهو يقود الجماهير حتى الآن نحو الاشتراكية-الديمقراطية. ولم يشأ تايلمان أن يرى هذه الحقيقة في فبراير (شباط)، وهذا ما دفعه للقول: "بأن الموقف يأخذ وجها ثوريا متزايدا". وتعبير بهذه العمومية لا يزيد عن كونه جملة جوفاء. هل يمكننا أن نقول بأن الموقف يأخذ "وجها ثوريا متزايدا" ؟ عندما نرى تزايد قوة الاشتراكية-الديمقراطية التي تشكل الدعم الأساسي للنظام البرجوازي ؟

للتقرب من وضع ثوري لابد لـ "تجذر" الجماهير من الوصول إلى درجة حيث يستطيع العمال الانتقال من الاشتراكية-الديمقراطية إلى الحزب الشيوعي، وهذا ما يتم الآن دون شك، بصورة جزئية، ولكن هذا لا يمثل الاتجاه العام للتيار. إن الحكم على مرحلة أولية، نصف سليمة نصف توفيقية، بأنها مرحلة ثورية يعني الإعداد لأخطاء قاسية. علينا أن نتعلم تمييز الأمور. ومن يردد سنة بعد أخرى بأن "الجماهير تتجذر وأن الوضع ثوري" ليس قائدا بلشيفيا، وإنما محرّضا كلاميا: ويمكننا التأكد من أنه لن يعرف الثورة متى أتت فعلا.

إن الاشتراكية-الديمقراطية هي الدعم الرئيسي للنظام البرجوازي. ولكن هذا الدعم في حد ذاته متناقض. فإذا انتقل العمال من الحزب الشيوعي إلى الاشتراكية-الديمقراطية أمكن التحدث بكل يقين عن توطيد النظام البرجوازي. وهذا هو ما وقع في عام 1924. ولم يستطع تايلمان وغيره من قادة المؤتمر الخامس فهم ذلك آنذاك: ولهذا ردوا على حججنا ونصائحنا بالشتائم. أما اليوم فالوضع وضع آخر، إذ ينمو الحزب الشيوعي مع نمو الحزب الاشتراكي-الديمقراطي، ولكن نموه ما زال لا يتم مباشرة على حسابها. إن الجماهير تندفع نحو الحزبين بصورة متوازنة، ولا تزال التيار المتجه نحو الاشتراكية-الديمقراطية حتى الآن أقوى من التيار الآخر. العمال يهجرون الأحزاب البرجوازية، إنهم يستيقظون ويخرجون من خمولهم السياسي, وفي هذا تحول جديد لا يعني، وذلك جلي، تقوية البرجوازية. بيد أن تطور الاشتراكية-الديمقراطية لا يشكل كذلك وضعا ثوريا. إن علينا أن نتعلم تمييز الأمور. إذن كيف يمكن تقييم الوضع الراهن ؟ إننا نمر الآن في وضع انتقالي، مليء بالتناقضات، حيث الاتجاهات ما زالت غير متميزة، وضع يحمل في طياته احتمالات مختلفة. إن علينا أن نتابع بكل عناية التطور اللاحق للتحويل، دون أن تدوّخنا الجمل الطنانة، وأن نكون مستعدين لمجابهة تبدلات الوضع الفجائية.

ولا تكتفي الاشتراكية الديمقراطية ببساطة بمجرد زيادة عدد أصواتها الانتخابية؛ وهي تنظر بعين القلق إلى تدفق العمال, والذي يسبب لها كثيرا من الصعوبات. وقبل أن ينتقل العمال بشكل جماهيري من الاشتراكية-الديمقراطية إلى الحزب الشيوعية – وهذا ما سيتم – علينا أن ننتظر وقوع احتكاكات قوية جديدة داخل الاشتراكية الديمقراطية نفسها، وأن ننتظر تشكيل تجمعات وانشقاقات جديدة. وهذا ما سيفسح المجال على الأرجح أمام الحزب الشيوعي للقيام بمناورات فعالة هجومية، على خط "الجبهة الموحدة"، بغية الإسراع في عملية التمايز الثوري للجماهير، وانتزاع العمال من أيدي الاشتراكية-الديمقراطية. ولكن الويل إذا اكتفت مناورات الأحزاب الشيوعية بالنظر من جديد في فم الاشتراكيين-الديمقراطيين "اليساريين" (الذين ما زال بوسعهم الانتقال كثيرا نحو اليسار) بانتظار ظهور أضراس العقل عندهم... ولقد رأينا من قبل مثل هذه "المناورات" المنفذة على نطاق ضيق في الساكس (1923) (3)، وعلى نطاق واسع في انكلترا والصين (1925–1927). وهي قد أدت في كل هذه الحالات إلى ضياع الفرصة الثورية، وسببت هزائم كبيرة.

إن قول تايلمان لا يمثل رأيه الخاص وحده، ولا أدل على ذلك من مشروع البرنامج الذي يقول:

"إن توطيد عملية تجذر الجماهير، وتزايد تأثير ونفوذ الأحزاب الشيوعية... يدلان بوضوح على حدوث مدّ ثوري جديد داخل مراكز الإمبريالية".

إن هذا القول، إذا أخذناه كتعميم لطرح برنامج على أساسه، خاطئ تماما. لقد عرف عصر الإمبريالية والثورات البروليتارية وسيعرف ليس فقط "توطيد عملية تجذر الجماهير" بل كذلك حقبات تنحرف فيها الجماهير نحو اليمين، ليس فقط حقبات تزايد لتأثير الأحزاب الشيوعية بل أيضا عقبات انحدار مؤقت، وخاصة في حالات الأخطاء والهزائم وعمليات الاستسلام. فإذا نظرنا إلى الأمر كتقييم "ظرفي"، إلى حد ما صحيح في حقبة معينة، وفي عدد من البلاد، لا في العالم أجمع، فإن مكان هذا الحكم ليس في برنامج، ومن الأجدر وضعه في قرار مفصل: فالبرنامج موضوع لحقبة كاملة من الثورة البروليتارية. ومن المؤسف أن قيادة الأممية الشيوعية لم تظهر خلال السنوات الخمس الأخيرة بأنها تملك الفهم الدياليكتيكي بالنسبة لنمو الأوضاع الثورية ثم اختفائها. إنها قد تمسكت بسكولاستيكية مستمرة حول "التجذر"، دون أن تفكر بالمراحل الحية للصراع الذي تشنه الطبقة العاملة العالمية.

لقد أدت هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية إلى إصابة الحياة السياسية في هذا البلد بشكل خاص بأزمات متعددة، وهذا ما وضع الطليعة الثورية البروليتارية في كل مرة أمام وضع يحمل مسؤوليات جسام. وكان السبب المباشر لهزائم البروليتاريا الألمانية في السنوات الخمس الأولى الضعف الشديد للحزب الثوري، أما هزائم السنوات الخمس التالية فكانت ناجمة عن أخطاء القيادة.

ففي 1918–1919 ظهر وضع ثوري افتقد إلى الحزب البروليتاري الثوري، وفي عام 1921 عندما بدأت عملية الجزر، حاول الحزب الشيوعي، الذي نمت قوته، الدعوة إلى الثورة، ولكن الشروط المسبقة كانت مفقودة. وتبع ذلك عمل تحضيري، "الصراع من أجل الجماهير"، أدى إلى انحراف يميني داخل الحزب. وتحطمت القيادة المحرومة من الإمكانيات والمبادرة أمام الانعطاف المفاجئ للوضع الذي كان يتجه نحو اليسار (خريف 1923). وأزيح الجناح اليميني ليحل محله الجناح اليساري، الذي تطابقت غلبته مع انحسار المد الثوري. ولكنه لم يشأ فهم ذلك بل حافظ على خط "السير نحو الانتفاضة". ومن هنا نشأت أخطاء جديدة اضعفت الحزب وأدت إلى قلب القيادة اليسارية. واللجنة المركزية الحالية، المعتمدة بصورة سرية على جزء من عناصر "اليمين"، قد عملت دائما وبضراوة على محاربة اليسار، مردّدة في الوقت نفسه بطريقة ميكانيكية أن الجماهير تتجذر وأن الثورة تقترب.

إن تاريخ الحزب الألماني يقدم لوحة لتكتلات تقفز فجأة إلى السلطة كل بدورها، تمثل مختلف أجزاء الخط البياني السياسي: فكل مجموعة قيادية تصاب بالإفلاس عند كل انعطاف للمنحنى السياسي إلى أعلى أو إلى أسفل أي نحو أزمة ثورية أو نحو "استقرار" مؤقت، وتترك مكانها للمجموعة المنافسة. وكان ضعف جماعة اليمين كامنا في عجزها عن توجيه نشاط الحزب على طريق النضال الثوري من أجل السلطة، عند تغيّر الوضع. أما ضعف مجموعة اليسار فناجم عن عدم فهمها لضرورة تعبئة الجماهير حول مطالب انتقالية يفرضها الظرف الموضوعي في مرحلة الإعداد. فضعف كل مجموعة يمثل المكمل التناظري لضعف المجموعة الأخرى. كان تغيير القيادة في كل تبدّل في الوضع يؤدي إلى جعل الكادرات الحزبية العليا عاجزة عن اكتساب خبرة واسعة، تشمل في الوقت نفسه فترات الصعود والانحطاط، والمد والجزر، والمناورة والهجوم. ولا تستطيع قيادة أن تتعلم بمعنى ثوري تماما إلا إذا فهمت طبيعة عصرنا، وحركته المفاجئة وانعطافاته الحادة. أما فرز القادة بالصدفة أو "التعيين" فهو بشكل أكيد السبيل الأفضل للسير نحو إفلاس جديد عند أول أزمة اجتماعية كبيرة مقبلة.

إن القيادة هي التوقيع. وينبغي التوقف في الوقت المناسب عن مدح تايلمان لا لشيء إلا لأنه يجمع من حمأة الوحل كل الكلمات البذيئة ليوجهها إلى المعارضة، مثلما تم مدح تان–بين–سيان في الإجتماع السابع لمجرد قيامه بترجمة شتائم تايلمان إلى الصينية. ولا بد من أن نقول للحزب الألماني بأن حكم تايلمان على الوضع السياسي في فبراير (شباط) هو حكم فظ وبدائي وخاطئ. ولا بد من الاعتراف الصريح بجميع أخطاء الاستراتيجية والتكتيك المرتكبة خلال السنوات الخمس الأخيرة، ودراستها بكل جدية قبل أن تشفى الجروح الناجمة عنها: إذ أن دروس الاستراتيجية لا تعطي كل ثمارها إلا إذا لاحقت الأحداث خطوة خطوة.


(1) صحيفة برافدا – 17 فبراير (شباط) 1908.
 

(2) "في المرحلة الجديدة".
 

(3) انظر رقم 1