الطبقة والحزب والقيادة


المصدر : الحزب والطبقة
كتبه
: ليون تروتسكي
سنة: 1940
ترجمة : خالد عايد
الناشر
: سلسلة قضايا نظرية، دار الطليعة، الطبعة الأولى، أيار (مايو) 1974.


وجدت هذه المخطوطة بين أوراق تروتسكي بعد اغتياله وطبعت في شكل مقال غير مكتمل.


يمكن تقدير المدى الذي تخلفت فيه حركة الطبقة العاملة ليس فقط بأوضاع التنظيمات الجماهيرية، بل وأيضا بالتجمعات الإيديولوجية وتلك الدراسات النظرية التي تنهمك فيها مجموعات كثيرة جدا. تصدر في باريس مجلة "ما العمل ؟" التي تعتبر نفسها لسبب ما ماركسية ولكنها تبقى تماما في الواقع ضمن إطار تجريبية المثقفين البرجوازيين اليساريين وأولئك العمال المعزولين الذين تمثلوا كل رذائل المثقفين.

وككل المجموعات التي تفتقر إلى الأساس العلمي، وبدون برنامج أو تقاليد، حاولت هذه المجلة الصغيرة أن تتعلق بأذيال الحزب العمالي للوحدة الماركسية الذي يظهر أنه فتح أقصر جادة نحو الجماهير والنصر. ولكن هذه الروابط مع الثورة الإسبانية تبدو لأول وهلة غير متوقعة أبدا: لم تتقدم المجلة، بل على العكس، تراجعت. وفي حقيقة الأمر فإن هذا كليا من طبيعة الأمور. لقد تطورت التناقضات بين محافظية البرجوازية الصغيرة وحاجات الثورة البروليتارية إلى الحد الأقصى. وإن الشيء الطبيعي الوحيد هو أن المدافعين عن سياسة الحزب العمالي للوحدة الماركسية ومفسريها قد وجدوا أنفسهم وقد تخلفوا كثيرا في كلا الحقلين: السياسي والنظري.

ليس لمجلة "ما العمل ؟"، في ذاتها ولذاتها، أية أهمية مهما كانت. لكنها تحوز على الاهتمام لدلالتها. لهذا السبب نعتقد أنه من المفيد الخوض في تقدير هذه المجلة لأسباب انهيار الثورة الإسبانية، الحد الذي يكشف فيه هذا التقدير، بشكل بياني تماما، الملامح الأساسية التي تسود الآن في الجناح اليساري من الماركسية-المزيفة.

نبدأ بمقتطف حرفي من مراجعة لكراس "خيانة إسبانيا" Spain Betrayed بتساؤل فيه للرفيق كازانوفا: "لماذا سُحقت الثورة ؟" ويجيب الكاتب (كازانوفا): "لأن الحزب الشيوعي اتبع سياسة خاطئة تبعتها لسوء الحظ الجماهير الثورية". ولكن لماذا، بحق الشيطان، التفَّت الجماهير الثورية، التي تركت قادتها السابقين، حول لواء الحزب الشيوعي ؟ "لأنه لم يكن هنالك حزب ثوري حقا". إننا أمام لغو واضح: سياسة خاطئة للجماهير، حزب غير ناضج إما أنه يعبر عن وضع معين للقوى الاجتماعية (عدم نضج الطبقة العاملة، غياب استقلال الفلاحين) والذي يجب تفسيره انطلاقا من الوقائع، وتقديمها للآخرين من كازانوفا نفسه، أو أنه محصلة عمل أفراد أو مجموعات أفراد خبثاء، أفعال لا تتوافق مع جهود "الأفراد المخلصين" القادرين وحدهم على إنقاذ الثورة. بعد تلمس الطريق الماركسي والأول، يسلك كازانوفا الثاني، لقد قادنا إلى منطقة الشيطانية البحتة: المجرم المسؤول عن الهزيمة هو الشيطان الرئيسي ستالين، بالتواطؤ مع الفوضويين وكل الشياطين الصغار الأخر، ولم يرسل إله الثوريين لسوء الحظ (لينين) أو (تروتسكي) إلى إسبانيا كما فعل في روسيا سنة 1917. ويتبع بعدئذ الاستنتاج التالي: "هذا ما ينتج عن السعي بأي ثمن إلى فرض الأرثوذكسية المتحجرة لكنيسة ما على الوقائع". لقد أصبح هذا التعالي النظري أكثر بروزا من خلال حقيقة أنه من الصعب تخيل كم هو ضخم عدد الأشياء التافهة والسفالات والأخطاء، وعلى الأخص من النوع الهمجي المحافظ، التي يمكن حفظها في سطور قليلة.

يتجنب كاتب المقتطف الوارد أعلاه إعطاء أي تفسير لهزيمة الثورة الإسبانية، إنما يشير فقط إلى أن التفسيرات العميقة، مثل "وضع القوى الاجتماعية"، هي ضرورية. إن التهرب من أي تفسير ليس عرضيا. إن نقاد البلشفية هؤلاء كلهم جبناء نظريون، للسبب البسيط وهو عدم وجود شيء صلب تحت أقدامهم. ومن أجل أن لا يكشفوا عن فسادهم فإنهم يلفقون الوقائع ويحومون حول أفكار الآخرين ويقتصرون على التلميحات وأنصاف الأفكار وكأنه ليس لديهم الوقت ليعرضوا حكمتهم كاملة. وفي الحقيقة فإنه ليس لديهم من حكمة مطلقا. إن ترفُّعهم هذا مشبع بشعوذة ثقافية.

لنحلل خطوة خطوة تلميحات وأنصاف أفكار كاتبنا. بالنسبة إليه لا يمكن تفسير سياسة الجماهير الخاطئة إلا كسياسة "تعبر عن وضع معين للقوى الاجتماعية"، وبالتحديد عدم نضج الطبقة العاملة وغياب استقلال الفلاحين. إن من يبحث عن لغو لا يستطيع أن يجد لغوا أكثر صراحة من هذا. تفسر "سياسة الجماهير الخاطئة" بـ "عدم نضج" الجماهير. ولكن ما هو "عدم نضج" الجماهير ؟ من الواضح أنه نزوعها نحو السياسات الخاطئة. مم تشكلت السياسة الخاطئة ومن كان المبادر إليها: الجماهير أم القادة هذا ما يقفز عنه كاتبنا بسكوت. بواسطة اللغو يضع المسؤولية على عاتق الجماهير. هذه الحيلة الكلاسيكية لكل الخونة والمتساقطين ومفوضيهم تثير القرف والاشمئزاز، وخاصة فيما يتعلق بالبروليتاريا الإسبانية.

في تموز سنة 1936 دون الإشارة إلى فترة سابقة قاوم العمال الإسبان هجوم الضباط الذين أعدوا مؤامرتهم تحت حماية "الجبهة الشعبية". شكلت الجماهير على عجل ميليشيا، وشكلت لجان العمال: قلاع دكتاتوريتها في المستقبل. وعلى الجانب الآخر، ساعدت المنظمات القيادية للبروليتاريا، البرجوازية على تحطيم هذه اللجان وتصفية هجمات العمال على الملكية الخاصة وإخضاع ميليشيا العمال لقيادة البرجوازية، وأكثر من ذلك، مع مشاركة الحزب العمالي للوحدة الماركسية في الحكومة وتحمل مسؤولية مباشرة في عمل الثورة المضادة هذا. ماذا يعني "عدم نضج" البروليتاريا في هذه الحالة ؟ من البديهي أنه لا يعني إلا: بالرغم من الخط السياسي الصحيح الذي اختارته الجماهير، إلا أنها لم تكن قادرة على سحق ائتلاف الاشتراكيين والستالينيين والفوضويين والحزب العمالي للوحدة الماركسية مع البرجوازية. تأخذ هذه القطعة من السفسطة كنقطة انطلاق لها مفهوما ذا نضج مطلق، ألا وهو: وضع ملائم جدا للجماهير حيث لا حاجة بها إلى قيادة صحيحة وأكثر من ذلك أنها قادرة على الانتصار ضد قيادتها ذاتها. ليس هنالك، ولا يمكن أن يكون، نضج كهذا.

يعترض حكماؤنا متسائلين: ولكن لماذا يسلم العمال الذين يظهرون هكذا غريزة ثورية صحيحة وهكذا مواصفات قتالية راقية لقيادة خائنة ؟ وجوابنا هو: لم يكن هناك حتى مجرد تلميح بالتسليم. إن خط مسيرة العمال قد قطع في كل الأوقات زاوية معينة مع خط القيادة، وفي اللحظات الأشد حرجا أصبحت هذه الزاوية 180 درجة، وساعدت القيادة بعدئذ، بشكل مباشر أو غير مباشر، على إخضاع العمال بالقوة المسلحة.

في أيار 1937، انتفض عمال كاتالونيا ليس بدون قيادتهم ذاتها فحسب بل وضدها أيضا. لقد كرر القادة الفوضويين (وهُم برجوازيون أنذال مثيرون للعواطف يتنكرون برخص في زي ثورويين) مئات المرات في صحافتهم أن الاتحادية القومية للعمال أرادت الاستيلاء على السلطة وإقامة دكتاتوريتها في أيار، وكان باستطاعتها ذلك دون أية مشقة. يقول القادة الفوضويون هذه المرة الحقيقة غير المغشوشة.

لقد تخلفت قيادة الحزب العمالي للوحدة الماركسية فعلا في ذيل الاتحادية القومية للعمال، وكل ما فعلوه أنهم غلفوا سياستهم بلفظية مختلفة وكان (شكرا لهذا، وهذا وحده) أن البرجوازية نجحت في سحق انتفاضة أيار التي قامت بها البروليتاريا "غير الناضجة". يجب أن لا يفهم المرء أي شيء على الإطلاق في جو العلاقات المتبادلة بين الطبقة والحزب، بين الجماهير والقادة، لكي يكرر القول الفارغ بأن الجماهير الإسبانية تبعت (مجرد تبعية) قادتها. إن الشيء الوحيد الذي يمكن قوله هو أن الجماهير التي سعت في كل الأوقات إلى شق طريقها في الاتجاه الصحيح لم تجد قيادة جديدة تتوافق ومتطلبات الثورة. أمامنا عملية ديناميكية عميقة، المراحل المختلفة للثورة تتناوب بسرعة، والقيادة أو أجزاء مختلفة منها تنتقل بسرعة إلى جانب العدو الطبقي، وحكماؤنا ينهمكون في نقاش ستاتيكي خالص: لماذا تبعت الطبقة العاملة، ككل، قيادة سيئة ؟

هنالك مثل قديم، تطوري ليبرالي، يقول: يحصل كل شعب على الحكومة التي يستحقها. على أن التاريخ قد بين أن نفس الشعب قد يحصل في مجرى حقبة قصيرة نسبيا على حكومات مختلفة تماما (روسيا، إيطاليا، ألمانيا، إسبانيا.. الخ) وأكثر من ذلك فإن نظام هذه الحكومات لا يسلك على الإطلاق اتجاها واحدا وحيدا: من الطغيان إلى الحرية، كما تخيل الليبراليون التطوريون. وهذا هو السر: إن الشعب يتكون من طبقات متعادية، وتتكون الطبقات نفسها من شرائح مختلفة ومتناقضة جزئيا وتقع تحت قيادة مختلفة، بالإضافة إلى أن كل شعب يقع تحت تأثير الشعوب الأخرى التي تتكون بالمثل من طبقات. لا تعبر الحكومات عن "النضج" المتنامي منهجيا "لشعب"، ولكنها نتاج الصراع الحاصل بين الطبقات المختلفة والشرائح المختلفة ضمن نفس الطبقة، وأخيرا نتاج عمل القوى الخارجية ـ التحالفات والحروب وما شابه. يجب أن يضاف لما سبق أن حكومة، بعد أن تكون قد أقامت نفسها، قد تستمر أطول بكثير من علاقة القوى التي أنتجتها. من هذا التناقض التاريخي تخرج الثورات والانقلابات والثورات المضادة.. الخ.

من الضروري اللجوء إلى نفس الأسلوب الجدلي في معالجة مسألة قيادة طبقة ما. يقبل حكماؤنا ضمنا البديهية القائلة أن كل طبقة تحصل على القيادة التي تستحقها. وفي الواقع أن القيادة ليست على الإطلاق مجرد "انعكاس" لطبقة أو نتاج لإبداعيتها الحرة. تتشكل القيادة عبر عملية صدامات بين الطبقات المختلفة أو احتكاك بين الشرائح المختلفة ضمن طبقة معينة. وحالما تظهر القيادة فإنها تعلو باستمرار فوق طبقتها وتصبح بذلك معرضة لضغط وتأثير الطبقات الأخرى. قد "تتحمل" البروليتاريا لمدة طويلة قيادة تعاني انحطاطا داخليا كاملا، ولكنها لم تعط بعد فرصة إظهار هذا العجز وسط الأحداث الكبرى. إن هزة تاريخية كبيرة لشيء ضروري للكشف بحدة عن التناقض بين القيادة والطبقة، والهزات التاريخية الأعظم هي الحروب والثورات. لهذا السبب بالضبط غالبا ما تأخذ الطبقة العاملة على حين غرة بالحرب والثورة. ولكن حتى في الحالات التي تكون فيها القيادة قد أظهرت فسادها الداخلي لا تستطيع الطبقة أن تفرز قيادة جديدة فورا، وخاصة إذا لم ترث عن الحقبة السابقة كوادر ثورية قوية قادرة على استخدام انهيار الحزب القائد القديم. لا يبقي التفسير الماركسي، أي الجدلي وليس المدرسي، للعلاقة المتبادلة بين الطبقة وقيادتها حجرا واحدا من سفسطة كاتبنا الشرعوية دون أن يقلبه.

إنه يرى نضج البروليتاريا كشيء سكوني (ستاتيكي) تماما، مع أن وعي طبقة، خلال الثورة، هو العملية الأكثر ديناميكية والتي تحدد بشكل مباشر مجرى الثورة. هل كان من الممكن في كانون الثاني 1917، وحتى في آذار، بعد الإطاحة بالقيصرية، إعطاء جواب حول ما إذا كانت البروليتاريا الروسية قد "نضجت" بما يكفي للاستيلاء على السلطة خلال ثمانية إلى تسعة أشهر ؟ لقد كانت الطبقة العاملة في ذلك الوقت غير متجانسة على الإطلاق اجتماعيا وسياسيا، وقد جُدّدت أثناء الحرب بنسبة 30-40 بالمئة من صفوف البرجوازية الصغيرة (التي غالبا ما كانت رجعية) وعلى حساب الفلاحين المتخلفين، والنساء والشباب. ولم يتبع الحزب البلشفي في آذار 1917 سوى أقلية لا تُذكر من الطبقة العاملة، وأكثر من ذلك كان هناك نزاع ضمن الحزب نفسه. ودعمت الأغلبية الساحقة من العمال المناشفة و"الاشتراكيين الثوريين"، أي الوطنيين الاشتراكيين المحافظين. لقد كان الوضع اقل ملاءمة حتى من ذلك بما يختص بالجيش والفلاحين. يجب أن نضيف لهذا: المستوى الثقافي العام المنخفض في البلد، وغياب التجربة السياسية بين الشرائح الأوسع من البروليتاريا، خاصة في المقاطعات، ناهيك عن الفلاحين والجنود.

ماذا كان رصيد البلشفية ؟ لم يكن أحد يمتلك مفهوما ثوريا واضحا ومدروسا بإمعان في بداية الثورة غير لينين. كانت كوادر الحزب الروسية مبعثرة، وإلى درجة لا باس بها، ضائعة، ولكن كان للحزب سلطة بين العمال المتقدمين، وكان للينين سلطة فائقة بين كوادر الحزب. وكان مفهوم لينين السياسي يتوافق مع التطور الفعلي للثورة، ويترسخ مع كل حدث جديد. إن عناصر الرصيد هذه فعلت العجائب في وضع ثوري، ألا وهو ظروف الصراع الطبقي الحاد. وعدّل الحزب سياسته بسرعة لتتوافق مع مفهوم لينين، أي لتتوافق مع المجرى الفعلي للثورة. ولحسن الحظ فقد قوبلت بدعم لا يتزعزع بين عشرات الآلاف من العمال المتقدمين. وخلال بضعة شهور استطاع الحزب أن يقنع غالبية العمال بصحة شعاراته مقيما نفسه على أساس تطور الثورة، واستطاعت تلك الأغلبية، منظمة في السوفياتات، بدورها أن تجذب الجنود والفلاحين، كيف يمكن استنفاذ هذه العملية الجدلية الديناميكية بواسطة قانون حول نضج أو عدم نضج البروليتاريا ؟ لقد كان لينين عاملا أساسيا في نضج البروليتاريا الروسية في شباط أو آذار 1917. إنه لم يهبط من السماء. وإنما جسد التقاليد الثورية للطبقة العاملة. ومن أجل أن تجد شعارات لينين طريقا إلى الجماهير كان لابد من وجود كوادر، حتى لو كانت قليلة العدد في البداية، وكان لابد من وجود ثقة الكوادر في القيادة، ثقة قائمة على أساس تجربة الماضي بكاملها. إن حذف هذه العناصر من حسابات المرء يعني ببساطة تجاهل الثورة الحية واستبدالها بتجريد "علاقة القوى"، لأن تطور الثورة يتكون بالضبط مما يلي: تتغير علاقة القوى على الدوام وبسرعة تحت تأثير التغيرات الحاصلة في وعي البروليتاريا، وجذب الشرائح المتقدمة للمتخلفة والثقة المتنامية للطبقة في قوتها الخاصة. إن النابض الحيوي في هذه العملية هو الحزب، تماما كما أن النابض الحيوي في ميكانيزم الحزب هو قيادته. إن دور ومسؤولية القيادة هائلان في حقبة ثورية.

إن انتصار أكتوبر هو شهادة جدية على "نضج" البروليتاريا. ولكن هذا النضج نسبي. وبعد سنوات قليلة سمحت البروليتاريا ذاتها بخنق الثورة على أيدي بيروقراطية برزت من صفوفها. ليس النصر على الإطلاق فاكهة ناضجة لـ"نضج" البروليتاريا. إن النصر مهمة استراتيجية. وإنه لمن الضروري استعمال ذلك من أجل تعبئة الجماهير، آخذين كنقطة ابتداء المستوى المعين لنضجها، من الضروري دفعها إلى الأمام وتعليمها أن تفهم أن العدو ليس كلي الجبروت بأي شكل من الأشكال، وأنه ممزق مشطور بالتناقضات، وأنه خلف الواجهة الجليلة يسيطر الهلع. لو أن الحزب البلشفي فشل في القيام بهذا العمل لما كان بالمستطاع حتى الكلام عن انتصار الثورة البروليتارية، ولكانت السوفياتات قد سُحقت من قبل الثورة المضادة ولكان صغار الحكماء في كل البلدان قد كتبوا مقالات وكتبا حول النغمة التي تُردد أنه لا يستطيع أحد في روسيا أن يحلم بدكتاتورية البروليتاريا إلا التخيليون المنعزلون، وهم غاية في الصغر عدديا وغاية في عدم النضج.

إن الإشارة إلى "غياب استقلال" الفلاحين هي بنفس الدرجة من التجريد والتحذلق والزيف. متى وأين على الإطلاق لاحظ حكماؤنا فلاحين في مجتمع رأسمالي يمتلكون برنامجا ثوريا مستقلا أو قدرة على المبادرة الثورية المستقلة ؟ يستطيع الفلاحون أن يلعبوا دورا كبيرا جدا في الثورة، ولكنه ليس أكثر من دور مساعد.

في كثير من الحالات، تصرف الفلاحون الإسبان بجرأة وقاتلوا بشجاعة، ولكن من أجل أن تستثير البروليتاريا جمهرة الفلاحين فإن عليها أن تعطي مثالا على انتفاضة حاسمة ضد البرجوازية وتلهم الفلاحين بالثقة في إمكانية الانتصار على أنه في تلك الأثناء، كانت المبادرة الثورية للبروليتاريا ذاتها مشلولة في كل خطوة بواسطة تنظيماتها نفسها.

ليس "عدم نضج" البروليتاريا و"غياب استقلال" الفلاحين عاملين نهائيين أو أساسيين في الأحداث التاريخية. فوراء وعي الطبقات توجد الطبقات ذاتها، قوتها العددية ودورها في الحياة الاقتصادية، ووراء الطبقات يوجد نظام معين للإنتاج يحدده مستوى تطور القوى المنتجة. لماذا لا نقول إذن أن هزيمة الثورة الإسبانية حددها المستوى المنخفض للتكنولوجيا ؟

يضع كاتبنا الحتمية الميكانيكية محل التكُّيف الجدلي للعملية التاريخية. من هنا كانت التهكمات الرخيصة حول دور الأفراد، جيدا كان أم سيئا. إن التاريخ عملية صراع طبقي. لكن الطبقات لا ترمي بثقلها كاملا في المعركة، أتوماتيكيا وفي آن واحد. في عملية الصراع، تخلق الطبقات أجهزة مختلفة تلعب دورا مهما مستقلا وتكون عرضة للتشويهات. إن هذا أيضا يوفر الأساس لدور الأشخاص في التاريخ. إن هنالك بالطبع أسبابا موضوعية عميقة خلقت دور هتلر الأتوقراطي، ولكن لا يستطيع أحد اليوم إنكار الدور التاريخي الضخم الذي لعبه هتلر إلا متحذلقي "القدرية" ذوي الفكاهة الغبية. إن وصول لينين إلى بتروغراد في اليوم الثالث من نيسان 1917 قد قلب الحزب البلشفي في الوقت المناسب ومكنه من أن يقود الثورة إلى النصر. قد يقول حكماؤنا أنه لو مات لينين في الخارج في بداية عام 1917 لقامت ثورة أكتوبر "بنفس الشكل تمام". ولكن الأمر ليس كذلك. لقد مثـّل لينين أحد العناصر الحية في العملية التاريخية وجسّد خبرة وفطنة الجزء الأكثر نشاطا من البروليتاريا. إن ظهوره في الوقت المناسب على ساحة الثورة كان ضروريا من أجل تعبئة الطليعة وإعطائها فرصة حشد الطبقة العاملة والجماهير الفلاحية. يمكن للقيادة السياسية في اللحظات الحرجة من الانعطافات التاريخية أن تصبح عاملا حاسما بنفس قدر الدور الذي تلعبه القيادة العامة خلال اللحظات الحرجة من الحرب. ليس التاريخ عملية أتوماتيكية، وإلا لماذا القيادة ؟ لماذا الأحزاب ؟ لماذا البرامج ؟ ولماذا الصراعات النظرية ؟

يتساءل الكاتب كما سمعنا من قبل: "لماذا، بحق الشيطان، التفَّت الجماهير الثورية، التي تركت قادتها السابقين، حول لواء الحزب الشيوعي ؟" إن السؤال مطروح بطريقة خاطئة. إذ ليس صحيحا أن الجماهير الثورية قد تركت كل قادتها السابقين. إن العمال الذين كانوا مرتبطين سابقا بتنظيمات معينة قد استمروا في الالتصاق بها بينما هم يلاحظون ويفحصون. والعمال بشكل عام لا يدخلون بسهولة في قطيعة مع الأحزاب التي أيقظتهم على الحياة الواعية. وأكثر من ذلك فإن وجود حماية متبادلة ضمن "الجبهة الشعبية" قد أخلدهم إلى السكينة: بما أن الكل موافق، فإن كل شيء على ما يرام. استدارت الجماهير الجديدة والطازجة بشكل طبيعي نحو الكومنترن بوصفه الحزب الذي أنجز الثورة البروليتارية المنتصرة الوحيدة والذي كان قادرا على تأمين الأسلحة لإسبانيا، كما كان يؤمل. وأكثر من ذلك فإن الكومنترن كان البطل الأكثر حماسا لفكرة "الجبهة الشعبية"، وقد عمل ذلك على بث الثقة بين الشرائح غير المجربة من العمال. ضمن الجبهة الشعبية كان الكومنترن البطل الأكثر حماسا للطابع البرجوازي للثورة، وقد عمل ذلك على بث الثقة في البرجوازية الصغيرة، وجزئيا المتوسطة. هذا هو السبب في أن الجماهير "التفت حول لواء الحزب الشيوعي".

يرسم كاتبنا المسألة وكأن البروليتاريا في مخزن أحذية جيد الترتيب تنتقي منه زوجا من الأحذية. وحتى هذه العملية السهلة، كما هو معروف جيدا، لا تكلل دائما بالنجاح. وبما يختص بقيادة جديدة، فإن الاختيار محدود جدا. إذ لا يمكن إقناع الشرائح العريضة من الجماهير بأن القيادة الجديدة هي أكثر ثباتا وأكثر مدعاة للثقة وأكثر ولاء من القديمة إلا تدريجيا وعلى أساس تجربتها ذاتها عبر مراحل متعددة. من المؤكد أنه يمكن لحزب ضعيف، أثناء الثورة، أي عندما تتوالى الأحداث تباعا، أن ينمو بسرعة إلى حزب قوي شرط أن يفهم بجلاء مجرى الثورة وأن يمتلك كوادر صلبة لا تفقد وعيها بالجمل ولا تخاف الملاحقات. ولكن هكذا حزب يجب أن يكون متوفرا قبل الثورة طالما أن عملية تثقيف الكوادر يتطلب فترة من الزمن لا بأس بها وأن الثورة لا تعطي مثل هذه الفترة.

على يسار كل الأحزاب الأخرى في إسبانيا، وقف الحزب العمالي للوحدة الماركسية الذي ضم دون شك عناصر بروليتارية ثورية لم تكن وثيقة الصلة بالفوضوية سابقا. ولكن هذا الحزب بالضبط هو الذي لعب دورا مميتا في تطور الثورة الإسبانية. ولم يستطع أن يصبح حزبا جماهيريا لأنه من أجل ذلك كان من الضروري أولا الإطاحة بالأحزاب القديمة ولم يكن ذلك ممكنا إلا بنضال لا يعرف المصالحة وبفضح لا يرحم لطابعها البرجوازي. إذ أنه بالرغم من نقد الحزب العمالي للأحزاب القديمة إلا أنه ألحق نفسه بها بما يختص بالمسائل الأساسية: شارك في كتلة "الشعب" الانتخابية، ودخل الحكومة التي صفت لجان العمال وانهمك في صراع لإعادة تشكيل هذا الائتلاف الحكومي؛ واستسلم مرة تلو المرة للقيادة الفوضوية، وقاد بالارتباط معها سياسة نقابية خاطئة، واتخذ موقفا متذبذبا غير ثوري من انتفاضة أيار 1937. ومن وجهة نظر الحتمية بشكل عام يمكن طبعا القول أن سياسة الحزب العمالي للوحدة الماركسية لم تكن عرضية. كل شيء في هذا العالم له سببه. ومهما يكن من أمر، فليست سلسلة الأسباب في تولُّد "وسطية" (Centrism) الحزب العمالي للوحدة الماركسية مجرد انعكاس لوضع البروليتاريا الإسبانية أو الكتالونية، بأي شكل كان. تحركت عِلَّتان باتجاه إحداهما الأخرى بزاوية، وبلحظة معينة دخلتا في صدام عدائي. يمكن أن نفسر سياسيا ونفسيا (عن طريق الأخذ بالحسبان التجربة الأممية السابقة وتأثير موسكو وتأثير عدد من الهزائم.. الخ) لماذا تمخض الحزب العمالي للوحدة الماركسية عن حزب وسطي، ولكن ذلك لا يغير من طابعه الوسطي ولا يغير من حقيقة أن الحزب الوسطي يعمل دون انقطاع ككابح دون الثورة، ويجب أن يسحق في كل مرة رأسه ذاته، وأنه قد يتسبب في انهيار الثورة. كما أنه لا يغير من حقيقة أن الجماهير الكتالونية كانت أكثر ثورية بكثير من الحزب العمالي للوحدة الماركسية الذي كان بدوره أكثر ثورية من قيادته. إن وضع المسؤولية عن السياسات الخاطئة على عاتق "عدم نضج الجماهير" في هذه الظروف يعني الدخول في شعوذة خالصة غالبا ما يعود إليها الدجالون السياسيون.

يتبدّى التزوير التاريخي في ما يلي: إن مسؤولية هزيمة الجماهير الإسبانية تقع على عاتق الجماهير العاملة وليس تلك الأحزاب التي شلَّت، أو ببساطة سحقت، الحركة الثورية للجماهير. ينكر وكلاء الحزب العمالي للوحدة الماركسية ببساطة مسؤولية القادة من أجل أن يتنصلوا من تحمل مسؤوليتهم هم. إن هذه الفلسفة العاجزة، التي تسعى لأن تصالح الهزائم كحلقة ضرورية في سلسلة التطورات الكونية، غير قادرة على الإطلاق على طرح (وترفض أن تطرح) مسألة تلك العوامل الملموسة كالبرامج والأحزاب والأشخاص الذين كانوا وراء الهزيمة. إن فلسفة القدرية والانبطاح هذه تتعارض على خط مستقيم مع الماركسية كنظرية للعمل الثوري.

إن الحرب الأهلية عملية تحل فيها المهام السياسية بالوسائل العسكرية. ولو كان ما تسفر عنه هذه الحرب يحدد بـ"وضع القوى الطبقية" لما كانت الحرب نفسها ضرورية. إن للحرب تنظيمها الخاص، سياستها الخاصة، وسائلها الخاصة، قيادتها الخاصة، التي بواسطتها يحدد مصيرها مباشرة. وبالطبع فإن "وضع القوى الطبقية" يوفر الأساس لكل العوامل السياسية الأخرى؛ ولكن بالضبط كما أن أساس بناية لا يقلل من أهمية الجدران والنوافذ والأبواب والسطوح، كذلك لا يبطل "وضع الطبقات" أهمية الأحزاب واستراتيجيتها وقيادتها. بإذابتهم للملموس في المجرد، توقف حكماؤنا حقا في منتصف الطريق. كان يمكن أن يكون الحل الأكثر "عمق" للمسألة هو عن طريق إعلان أن هزيمة البروليتاريا الإسبانية تُعزى إلى التطور غير الكافي للقوى الإنتاجية. إن هكذا مفتاح يمكن لأي أحمق أن يصل إليه.

بتقليصهم إلى الصفر أهمية الحزب والقيادة، ينكر هؤلاء الحكماء بشكل عام إمكانية الانتصار الثوري، لأنه ليس هناك من أرضية لتوقُّع ظروف أكثر ملاءمة. لقد كفَّت الرأسمالية عن التقدم، ولا تنمو البروليتاريا عدديا، وعلى العكس فإن جيش العاطلين عن العمل هو الذي ينمو، الأمر الذي من شأنه تقليص، وليس زيادة، القوة القتالية للبروليتاريا وله أثر سلبي أيضا على وعيها. وبالمثل، ليس هناك من أرضية للاعتقاد بأن الفلاحين قادرون على الوصول إلى وعي ثوري أرقى في ظل نظام الرأسمالية. وهكذا يكون الاستنتاج الذي يتوصل إليه تحليل كاتبنا هو تشاؤمية كاملة، وتملص من المنظورات الثورية. يجب أن يقال لإنصافهم أنهم أنفسهم لا يفهمون ما يقولون.

وفي واقع الأمر، فإن المطالب التي يضعونها على وعي الجماهير وهمية تماما. لقد أعطى العمال الإسبان، ومثلهم الفلاحون الإسبان، أقصى ما تستطيع هذه الطبقات إعطاءه في وضع ثوري. إننا نضع في ذهننا، بالضبط طبقة من الملايين وعشرات الملايين.

تمثل (ما العمل ؟) مجرد واحدة من تلك المعابد أو الكنائس أو المدارس الصغيرة التي، بينما هي ترتعد خوفا من مجرى النضال وهجمة الرجعية، تصدر جرائدها الصغيرة ودراساتها النظرية في زاوية، وعلى الهوامش بعيدا عن التطورات الفعلية للفكر الثوري، ناهيك عن حركة الجماهير.

لقد وقعت البروليتاريا الإسبانية ضحية ائتلاف من الإمبرياليين، والاشتراكيين والفوضويين والستالينيين والجمهوريين الإسبان، والحزب العمالي للوحدة الماركسية على الجناح الأيسر. إنهم جميع شلُّوا الثورة الاشتراكية التي بدأت البروليتاريا الإسبانية بتحقيقها فعلا. ليس من السهل التخلص من الثورة الاشتراكية. ولم يبتكر أحد بعد وسائل أخرى لذلك عدى عن القمع الوحشي وتقتيل الطليعة وإعدام القادة... الخ. لم يشأ الحزب العمالي للوحدة الماركسية ذلك طبعا. إنما أراد، من ناحية، أن يشارك في الحكومة الجمهورية وأن يدخل كمعارضة محبة للسلام مخلصة، في الكتلة العامة للأحزاب الحاكمة؛ ومن ناحية أخرى أن ينجز علاقات رفاقية سلمية في الوقت الذي كانت تدور فيه حرب أهلية ضروس. لهذا السبب بالذات وقع الحزب العمالي للوحدة الماركسية ضحية لتناقضات سياسته نفسها. كانت السياسة الأكثر انسجاما في الكتلة الحاكمة متبعة من قبل الستالينيين. لقد كانوا الطليعة المقاتلة في الثورة المضادة، أي الجمهورية البرجوازية. وأرادوا أن يجتثوا الحاجة إلى الفاشية ببرهنتهم للبرجوازية الإسبانية والعالمية على أنهم أنفسهم قادرون على خنق الثورة البروليتارية تحت شعار "الديمقراطية". لقد كان هذا هو فحوى سياساتهم. إن مفلسي الجبهة الشعبية الإسبانية يحاولون اليوم أن يلقوا باللوم على المخابرات الستالينية (ج. بي. يو). إنني على ثقة بأنه لا يمكن الاشتباه بنا كمتساهلين نحو جرائم المخابرات الستالينية. ولكننا نرى بوضوح، ونخبر العمال، أن المخابرات الستالينية عملت في هذه اللحظة كمجرد الفصيلة الأكثر تصميما في خدمة الجبهة الشعبية. هنا تكمن قوة المخابرات الستالينية وهنا يكمن الدور التاريخي لستالين. لا يستطيع إلا المخابرات الستالينية الجاهلة تنحية هذا جانبا بفكاهات صغيرة حمقاء عن الشيطان الرئيسي.

لا يضير هؤلاء السادة مسألة الطابع الاشتراكي للثورة. لقد أعلن أتباع موسكو (لصالح إنجلترة وفرنسا) الثورة الإسبانية ثورة برجوازية. فوق هذا الأساس، قامت السياسات القاصرة للجبهة الشعبية، السياسات التي كانت ستكون خاطئة تماما حتى لو كانت الثورة الإسبانية برجوازية بالفعل. ولكن الثورة عبرت ومنذ البدء عن طابعها البروليتاري بشكل أكثر وضوحا بكثير من ثورة سنة 1917 في روسيا. في قيادة الحزب العمالي للوحدة الماركسية يجلس اليوم سادة يعتبرون أن سياسة أندريس نين كانت "يسارية" جدا، وأن الشيء الصحيح حقا كان البقاء كجناح يساري للجبهة الشعبية. يكتب فكتور سيرج، الذي هو في عجلة للحط من قدر نفسه بميل طائش نحو المسائل الجدية، أن نين لم يرغب في الخضوع لأوامر أوسلو أو كيوكان. هل يكون رجل جدي قادرا فعلا على تقليص مسألة المحتوى الطبقي للثورة إلى ثرثرة صغيرة ؟ لا يملك حكماء (ما العمل ؟) أي جواب مهما كان عن هذا السؤال. إنهم لا يفهمون السؤال نفسه. ما هي بالفعل أهمية حقيقة أن البروليتاريا "غير الناضجة" أسست أجهزتها الخاصة للسلطة، واستولت على المشاريع وسعت إلى تنظيم الإنتاج بينما حاول الحزب العمالي للوحدة الماركسية بكل قوته أن يتجنب القطيعة مع الفوضويين البرجوازيين الذين (بالتحالف مع الجمهوريين والبرجوازيين والاشتراكيين والستالينيين الذين هم ليسوا أقل برجوازية) هاجموا الثورة البروليتارية وخنقوها ! من الواضح أن هذه "التوافه" لا تثير إلا اهتمام ممثلي "الأرثوذكسية المتحجرة". بينما يمتلك حكماء (ما العمل ؟) في المقابل جهازا خاصا يقيس نضج البروليتاريا وعلاقة القوى بشكل مستقل عن مسائل الاستراتيجية الطبقية الثورية.