عصر الثورة الدائمة


كتبه: اسحاق دويتشر
سنة: 1964

 إسحاق دويتشر (1907 - 1967) هو من أبرز الاختصاصيين في شؤون الاتحاد السوفييتي، وهو مؤلف كتاب ممتاز عن حياة تروتسكي يقع في ثلاثة أجزاء: "النبي المسلح" و"النبي الأعزل" و"النبي المنبوذ". ولعله، في مقدمته هذه، خير من يستطيع تعريف القارء العربي على تروتسكي. لأنه قادر على إزالة التشويه الفظيع الذي تراكم خلال عشرات سنين على فكر هذا الرجل ونضاله مع احتفاظه بموضوعية الباحث عن الحقيقة. (المترجم)


لم يثر أي من السياسيين العظام في هذا القرن من الأهواء والخلافات بقدر ما أثارها تروتسكي، فمثله لم يضطهد أحد أو يلعن أو يساء فهمه. ومع ذلك، ربما لا يوجد أحد، باستثناء لينين، قد ترك أثرا على هذا العصر بقدر ما تركه تروتسكي…

فأين تكمن عظمة تروتسكي ؟ وإلى أي مدى ما تزال أفكاره ونضاله ملائمة لزمننا هذا ؟ إن ميزة تروتسكي الأساسية هي أنه "مفكر الأمام"، بالمعنى الذي تقول فيه الأسطورة الإغريقية أن "بروميثيوس" هو مفكر الأمام، على عكس أخيه "إبيميثيوس" "مفكر الوراء". إن عقله وإرادته وحيويته موجهة نحو المستقبل. إنه يراهن بكل شيء على التغير والانقلاب اللذين لا بد سيأتي بهما الزمن، هذا المخرِّب الأعظم. وهو لم يشك مطلقا بضرورة العمل من أجل التغير والانقلاب وبجدوى انتظارهما. فالنظام القائم والقوى الموجودة والوضع الراهن ما هي إلاّ لحظات عابرة في مسيرة التاريخ. إن كيانه كله يخترقه تفاؤل ثوري لا يكاد ينضب أو يحطم. وما حياته إلاّ صراع عنيف مع "ابيميثيوس"، صراع بين نفسه وبين "مفكر الوراء".

"ما دمت حيا فأنا آمل" – هكذا صرخ عندما كان شابا في العشرين من عمره. وعند عتبة القرن العشرين – أخذ هذا القسم: "ما دمت على قيد الحياة، فإني سوف أناضل من أجل الغد، الغد المشرق حيث يصبح الإنسان القوي الجميل سيدا على جدول التاريخ الجارف فيوجهه نحو آفاق لا تحد من الجمال والغبطة والسعادة !" وعند رؤيته مشهد الدم والاضطهاد الذي ابتدأ فيه القرن بدايته المشؤومة، يصيح: "أنتن أنت الحاضر فقط".

هنا استطاع تروتسكي، بسذاجة واندفاع صبياني، أن يحدد معنى حياته. وخلال جميع أطوارها ظل مخلصا لنفسه؛ وعند كل انقلاب للخط، سواء في النصر أم في الهزيمة، ظل أساس حياته واحدا. ففي ذروة قوته كان أبعد الناس عن قبول الوضع الراهن، فقد ظل يعمل من أجل التغيير والانقلاب والثورة الدائمة. وفي دركات الهزيمة، عندما كان الاضطهاد يطارده حول الكرة الأرضية، وعندما كان أولاده يموتون وأتباعه يذبحون، ظل يردد، بصورة يخنقه الألم: "ما دمت حيا فأنا آمل." ففي ختام "المحاكمة-المضادة" أمام "لجنة ديووي" في المكسيك عام 1937 قال ما يلي:

"إن تجربة حياتي، التي لم تخلُ من النجاح ولا من الفشل، لم تكن عاجزة عن تحطيم إيماني بمستقبل البشرية المشرق الوضّاح فحسب، بل، على العكس، فقد زودتني بطبع لا يقهر. إن هذا الإيمان بالعقل وبالحقيقة وبالتضامن البشري الذي حملته معي، في سن الثامنة عشرة، إلى الأحياء العالمية في بلدة نيكولاييف في الريف الروسي – إن هذا الإيمان ما زلت محتفظا به بشموله وكليته. لقد أصبح أكثر نضجا ولكنه لم يفقد شيئا من حرارته".

وكان سلاح المجرم مسلطا على رأسه عندما ردد هذا القسم، فكانت أمنيته الوحيدة، في الوصية التي تركها، هي أن يتسنى له أن يورث هذا الأمل إلى الذين سيأتون بعده:

"…ولكن مهما تكن ظروف موتي، فإني سوف أموت وأنا متمسك بإيمان لا يتزعزع بالغد الشيوعي. إن هذا الإيمان بالإنسان وبغده يزوّدني، حتى في هذا الوقت، بقدرة على المقاومة لا يستطيع أي دين أن يوفرها… إني أستطيع أن أرى شريطا من العشب الأخضر على حافة الجدار، والسماء الزرقاء الصافية فوقه، والشمس في كل مكان. إن الحياة لجميلة فلتطهرها الأجيال القادمة من كل شرّ واضطهاد وعنف، ولتتمتع بها إلى أقصى حد".

ليس أسهل من أن يرفض المرء، في نوبة من اليأس والاستهزاء، هذا الموقف وأن ينعته بأنه "تفاؤل في العهد الفيكتوري"، أو أنه نزعة عقلانية فات أوانها، أو أنه ضرب من "ميتافيزيقية التقدم". ومهما يكن من أمر، فإن تروتسكي لا ينادي بطيبة أو عقلانية فطرية في البشر، ولا يؤمن بأي كمال آلي في المجتمع البشري. إنه يرى خط التاريخ معوجا ومهشما شر تهشيم، ولا يراه في صعود مستمر. إنه يعرف تمام المعرفة أن البشر قد انقادوا إلى طرق مسدودة مظلمة، وأن الحضارات الصاعدة أو الآفلة قد دارت في حلقات مفرغة، وإن أجيالا عديدة لا نعرف وجهها ولا اسمها قد عاشت في عبودية ذليلة، وأن الإنسان قد أنزل بأخيه الإنسان كل أنواع الوحشية والعذاب.

ليس التاريخ، بالنسبة له، من صنع عقل مدبر أو إرادة جبارة، ولا هي قصد ذات نهج هادف. ومع ذلك، ففي خضم فوضى التاريخ الوحشية ونزفها الدامي، يستطيع أن يرى المأثرة الوحيدة التي سجلها الإنسان: ارتفاعه البيولوجي فوق "الصعيد الحيواني القاتم"، وتنظيمه الاجتماعي، وقدرته المدهشة على الإنتاج والخلق التي نمت بسرعة فائقة في الأجيال الأخيرة. هذه المقدرة تؤهل الإنسان الحديث أن يوّسع مرامي نمو حضارته واغتنائها في المستقبل. إنها تمكنه من أن يجعل حضارته أكثر مناعة ضد التعفن من أية حضارة انقضت. لقد كانت جميع الحضارات الآفلة تعتمد في وجودها على قوى إنتاجية جد صغيرة وهزيلة تدهورت بسرعة فائقة في المجتمعات القائمة على الرق، فكانت ضربة واحدة تصيبها بها الكوارث الطبيعية أو المآسي الاجتماعية أو الاحتلال الأجنبي كفيلة بمحوها عن سطح الأرض. وهكذا، فإن فقدان الاستمرارية في تطور الإنسان الثقافي يعود، بالدرجة الأولى، إلى عدم تطور قواه الإنتاجية. لقد خلقت التقنية الحديثة أخيرا الشروط الضرورية لهذه الاستمرارية، فزوّدت الإنسان بجميع الوسائل التي يستطيع بها أن يسجل منجزاته ويثبتها ويرسخها. ولقد مكنته مرارا من أن يعيد بناء وجوده الإجتماعي بعدما كان خرابا، وأن يضاعف ثروته المادية والروحية على نطاق متوسع. وكان هذا المصدر الأساسي للتفاؤلية التاريخية عند تروتسكي.

وقد يقول المتشائم: ولكن تروتسكي لم يتكهن بمجيء العصر الذري، إنه لم يضع في حسابه السلاح الأخير الذي اخترعه العلماء والتقنيون. لقد أصبح بمقدورنا الآن لا أن ندمر الحضارة فقط ولكن أن ننسف الأسس البيولوجية لوجودنا أيضا. إن نمو قوانا الإنتاجية قد زوّدنا بقدرة على الإفناء الذاتي. وأن تفاؤل تروتسكي الذي يعتبر أن مقدرة الإنسان الخلاقة هي المصدر الأصلي للتاريخ، هو في أحسن الأحوال من مخلفات عصر ما قبل الذرة التي تستحق الشفقة.

إن المتشائم على خطأ. لقد تكهن تروتسكي فعلا بقدوم العصر الذري، وتكهن بذلك قبل انفجار أول سلاح نووي بعقدين من الزمن، في وقت لم تكن الفكرة فيه قد خطرت ببال أي من السياسيين أو رجال الدولة، وكان العلماء البارز ون ما زالوا ينظرون إلى الأمور بتشكك(*). فكان "مفكر الأمام" حتى في هذا المجال إذ قال بوضوح أن الثورة الاجتماعية والسياسية في عصرنا ستلازمها ثورة ضخمة في العلم والتقنية. ولكونه ماركسيا، كان تروتسكي على علم تام بأن كل تقدم الإنسان الإنتاجية والإبداعية، خلال التاريخ، يضاعف مقدرته على الاضطهاد والتخريب؛ وأن كل عمل تقدمي في أي نظام اجتماعي تمزقه تناقضاته الداخلية هو نفسه متناقض داخليا. ففي المجتمع الطبقي، تحتكر الطبقة الاجتماعية المسيطرة والفئات الحاكمة طاقتنا للسيطرة على قوى الطبيعة، وتستعمل هذه الطاقة لكي تسيطر على القوى الاجتماعية المعادية لها ولكي تخضعها أو تحطمها (وكذلك تفعل بالنسبة للعدو الخارجي). لقد أدرك ماركس وانجلز هذا الأمر، وقد ميّز هذا الإدراك تفاؤلهما الاجتماعي عن الاعتقاد الليبرالي بالتقدم الآلي للمجتمع البرجوازي. فصاغا توقعا تاريخيا مزدوجا: "إما أن تتقدم البشرية نحو الاشتراكية وإما أن تتقهقر إلى البربرية". وكان تروتسكي يطور هذا التوقع المزدوج باستمرار. ومنذ ثلاثين أو خمسين عاما، كان البرجوازي الليبرالي ينعت هذا التوقع بالمذهبية الجامدة ويعتبر أن لا مبرر له وأنه متشائم بدون سبب؛ وأما الآن فإنه يتجه نحو رفضه لأنه "تفاؤل أخرق".

إذا سلمنا بأن تقهقر المجتمع إلى البربرية يبدوا الآن أكثر خطورة من ذي قبل، وأن حتى تروتسكي لم يستطع أن يتنبأ إلى أي مدى سيصبح هذا البديل ملحا في العصر الذري: "إما الاشتراكية وإما انهيار الحضارة"، فلا نستطيع أن نأخذ على المدرسة الفكرية الماركسية، وعلى تروتسكي خاصة، سوى أنها لم تكن واعية إلى أي مدى كانت مصيبة. ومع ذلك، فإن تفاؤلية تروتسكي لم تكن تبشيرا بإيمان مستكين ولا كانت توقعاته تنبؤات عالم بالغيب. إن إيمانه بمستقبل الإنسان يرتكز على مقدرة الإنسان وإرادته لأن يعمل ويناضل من أجل مستقبله. وكان قوله "ما دمت حيا فأنا آمل" صيحة حرب، كما كانت كل واحدة من توقعاته دعوة إلى العمل. وإذا فهمنا تفاؤله على هذا النحو يكون أكثر ملائمة للعصر الذري مما هو لأي عصر آخر. فبقدر ما يقترب الإنسان من الإفناء الذاتي، بقدر ذلك يجب أن يصبح تصميمه على تفاديه أكثر توترا واندفاعا. إن تفاؤله ضروري لبقائه في حين أن اليأس المتعالي والتشاؤم المستسلم عقيمان لا يؤديان إلاّ للانتحار.

إنّ تروتسكي ماركسيّ تقليدي في أكثر من ناحية. إنه يمثل المدرسة الفكرية الماركسية في نقاوتها، كما كانت قبل أن تحطّ منها المذهبيتان الاشتراكية-الديموقراطية أو الستالينية. وتعكس كتاباته الوعي الأصيل والروعة الفكرية والاندفاع الأخلاقي للفكرة وللحركة. إن الأجيال من الاشتراكيين والشيوعيين الذين خاضوا النضال السري في روسيا القيصرية والستالينية ضد الاستغلال والاضطهاد والذين ملأوا السجون وأماكن النفي والذين عانوا من الأشغال الشاقة ومن المشنقة وفرق الإعدام، والذين لم يأملوا بأي مكافأة سوى الارتواء الأخلاقي، هؤلاء كان يحركهم طبع تروتسكي ورؤياه للمجتمع التي يعبر عنها بمرارة. لذلك كانت كتاباته وثيقة من وثائق هذا العصر. وسيجد القراء فيها نفاذا عميقا إلى مجاهل مجتمع يختلف كل الاختلاف عن مجتمعهم، مجتمع تعصف به رياح الثورة، وتلسعه سياط الفكر السياسي والاندفاع والعمل.

إن الماركسية، كغيرها من المدارس الفكرية الرئيسية والحركات الكبيرة، قد مرّت في تحولات وقفزات عديدة، فبرزت جوانب مختلفة منها إلى المقدمة في فترات متنوعة من تطورها. إن تروتسكي يلتزم بجانب وأحد من جوانب الماركسية التقليدية، جانبها الجوهري: الثورة الدائمة. كان ماركس قد طرح هذه الفكرة في منتصف القرن التاسع عشر خلال فترة ثورات عام 1848، وقد أعاد تروتسكي صياغتها في مستهل هذا القرن خلال الثورة الروسية الأولى عام 1905-1906. ومنذ ذلك الحين وهي موضع خلاف حاد وما تزال، منذ أربعين عاما، محرّمة في العالم ومدانة على اعتبار أنها رجس الأرجاس.

فما هو معناها وما هو تأثيرها على أحداث زمننا هذا ؟ لقد بذل الستالينيون (بما فيهم الخروتشوفيون والماويون) كل جهدهم لتجريح الثورة الدائمة فنعتوها بأنها هذيان الراديكالي المتطرف المهووس. وقبل أن يتهم ستالين تروتسكي بأنه "قائد طليعة الثورة المضادة في العالم" (وبأنه حليف لهتلر ولإمبراطور اليابان) كان قد وصفه بأنه "مشعل الحرائق" وبأنه "رجل متوحش" يعمل على تحضير انقلابات شيوعية في كل أنحاء العالم، وبأنه المذهبي الجامد الذي يدعو إلى الثورة "البروليتارية الخالصة"، وبأنه عدو الفلاحين و "الرجال الصغار" و"الطبقات الوسطى" الأخرى. إن ما يدحض هذه الاتهامات، في التحليل الأخير، هو أنه لا يكاد يوجه تهمة واحدة في اللائحة الطويلة من التهم التي يوجهها ستالين إلى تروتسكي إلا وارتكبها هو، لذا يمكننا أن نرى الآن أن الصورة المشوهة التي رسمها لتروتسكي لم تكن في الواقع إلاّ صورة لنفسه.

إن نظرية تروتسكي هي، في الحقيقة، مفهوم عميق وشامل يعتبر أن جميع التقلبات التي عانى منها العالم أجزاء مترابطة تعتمد الواحدة منها على الأخرى في عملية ثورية واحدة. وإذا نظرنا إلى الموضوع بشكل عام أمكننا القول: يرى تروتسكي أن الانقلاب الاجتماعي في هذا القرن شامل للعالم بطبيعته وإبعاده رغم أنه يسري على مختلف مستويات الحضارة وفي بنى اجتماعية جد متباينة ورغم أن أطواره المختلفة متباعدة فيما بينها في الزمان والمكان.

وجدير بالذكر أنه عندما عرض تروتسكي رأيه هذا للمرة الأولى، منذ ما يقارب الستين عاما، كان النظام القديم يبدوا منيعا، وكانت أوروبا تسيطر على معظم القارات تقريبا التي كانت إمبراطورياتها وسلالاتها العظيمة تبدوا راسخة لا تقهر. وفي روسيا فقط، فُتحت ثغرة في القيصرية ثم سدّت سريعا، ومن خلالها استطاع تروتسكي أن يلمح أفق القرن المقبل. لقد كان فريدا في هذا المجال بين القادة والمفكرين الماركسيين المعاصرين، لأنه لم يجرؤ أي منهم، ولا حتى لينين، على القول أن روسيا ستكون أول دولة في العالم تبني دكتاتورية البروليتاريا وتسير في اتجاه الثورة الاشتراكية. فقد كان الماركسيون عامة يعتقدون، في ذلك الحين، أن أوروبا الغربية "ناضجة" للاشتراكية، رغم أن هذا الاعتقاد كان أفلاطونيا عند معظم الاشتراكيين الأوروبيين. أما بالنسبة لروسيا، فلم يقل أحد إنها على عتبة الثورة الاشتراكية. فقد كان الاعتقاد الشائع أنها تتجه نحو ثورة برجوازية تؤهلها أن تنعتق من النير الإقطاعي الثقيل وأن تتحول إلى دولة رأسمالية حديثة، وبمعنى آخر أنها على وشك تحقيق النسخة الروسية عن الثورة الفرنسية العظمى.

وقد خلص قسم من الاشتراكيين (المنشفيك) إلى أنه يجب أن تتولى البرجوازية قيادة الثورة القادمة. في حين كان لينين وأتباعه يدركون أن البرجوازية الليبرالية لا تستطيع ولا تريد الاضطلاع بهذه المهمة، وان الطبقة العاملة الروسية الناشئة هي القوة الوحيدة التي تستطيع، باعتمادها على الفلاحين المتمردين، ان تخوض النضال الثوري حتى نهايته. غير أن لينين ظل مقتنعا، وقد أكد هذا الاقتناع مرارا، بأن روسيا لا تستطيع أن تتخطى الثورة البرجوازية إذا كانت تعمل بمفردها، وأنها لا تستطيع الشروع في بناء الاشتراكية إلاّ بعد تقويض الرأسمالية في أوروبا الغربية. وقد ظل لينين، خلال عقد ونصف من الزمن (1903-1917) يحاول حلّ المشكلة التالية: كيف يمكن لثورة موجهة ضد المعارضة البرجوازية تقودها الطبقة عاملة اشتراكية أن تنتهي إلى تشييد نظام رأسمالي ؟ ولقد حلّ تروتسكي هذا الإشكال المذهبي إذ توصل إلى الاستنتاج أنه لا يمكن حصر الدفع الثوري ضمن أي طور معين من أطوار الثورة، فما أن تندلع هذه الثورة حتى تتخطى جميع الحواجز فلا تجرف القيصرية فحسب بل الرأسمالية الروسية الضعيفة أيضا، بحيث تنتهي إلى ثورة اشتراكية بعد أن تكون قد بدأت كثورة برجوازية.

هنا ظهرت مشكلة مصيرية. كان الماركسيون يفهمون أن قيام الاشتراكية يفترض وجود مستوى عصري عالٍ لتطور الاقتصاد والحضارة، وبحبوحة في الثروة المادية والروحية هي وحدها التي تمكن المجتمع من إيفاء حاجات جميع أعضائه ومن إلغاء الانقسامات الطبقية. ولم يكن هذا، طبعا، في متناول روسيا المتخلفة والمتأخرة. لذلك، فقد اعتبر تروتسكي أن روسيا تستطيع أن تبدأ الثورة الاشتراكية فقط، وأنها ستجد صعوبة بالغة في الاستمرار بها كما يستحيل عليها إتمامها. إن الثورة ستصل إلى طريق مسدود إلاّ إذا فجّرت حدود روسيا الوطنية وحركت قوى الثورة في الغرب. وقد سلم تروتسكي بأنه مثلما لا يمكن حصر الثورة الروسية ضمن الطور البرجوازي، كذلك لا يمكن إيقافها عند حدودها الوطنية؛ وأنها ستكون مقدمة لانتفاضة شاملة للعالم أو الفصل الأول من هذه الانتفاضة. هذه هي الثورة الدائمة على الصعيد الدولي والوطني.

ومن غرائب الأمور، أن الجانب الدولي من النظرية لم يكن موضع خلاف عندما صاغه تروتسكي لأول مرّة كما إذا فيما بعد. فقد تعرض له الماركسيون بالنقاش أقل مما تعرضوا لإصرار تروتسكي على موضوعته أن روسيا هي التي ستأخذ المبادرة في الانتفاضة الاشتراكية.

كانت الماركسية التقليدية تدرك تمام الإدراك أبعاد الرأسمالية الدولية وطابعها الأممي، وكانت تؤكد بشكل خاص على التقسيم الدولي للعمل وتعتبره إحدى سماتها التقدمية. ولقد اعتبر ماركس وانجلز ، في "البيان الشيوعي"، إن الاشتراكية تبتدئ حيث تنتهي الرأسمالية. وكانت هذه الفكرة جزءا من التراث الفكري الماركسي. غير أنها أُهملت ونُسيت في بداية القرن وكان لها تأثير ضعيف على السياسة العلمية للحركة العمالية.

لقد أنعش تروتسكي هذه الفكرة وأعطاها أبعادا جديدة. واعتبر أن الاشتراكية والدولة القومية على طرفي نقيض. وهكذا دحض بوضوح نظرية ستالين عن "الاشتراكية في بلد واحد" قبل أن يبدأ ستالين بالتبشير بها بعشرين عاما.

غير إن هذا لا يغير، كما يدعي الستالينيون، أنه عندما انعزلت الثورة الروسية في العشرينات فقد تروتسكي الأمل فيها وبأية إمكانية لبقائها وتطويرها. لقد كان تروتسكي يؤكد دوما أن الثورة لا بد من أن تبدأ على الصعيد الوطني وترك المجال مفتوحا أمام احتمال انعزالها الآني في بلد واحد. ولذا، عندما انعزل النظام البلشفي فعليا، دافع عن بقائه بحرارة ونجاح بوصفه مفوضا للشعب لشؤون الدفاع في البدء، ثم بوصفه الداعية الرئيسي للتصنيع السريع في الاتحاد السوفييتي. ولكن يصحّ القول أنه ظل يعتبر أن انحصار الثورة في بلد واحد ما هو إلا وقفة وجيزة. فقد كان يرفض أن ينظر إلى الثورة الروسية باعتبارها عملية تطور تكفي نفسها بنفسها وتنتهي عند الحدود الوطنية. كان يصرّ على اعتبارها الفصل الأول من ثورة تشمل العالم، حتى بعد أن تبيّن أن "الاستراحة" بين الفصل الأول والثاني قد طال كثيرا. وطبعا لم يعلن ستالين عن تخليه الصريح عن "حلقة الوصل" بين الاتحاد السوفييتي والشيوعية العالمية، فقد كان التعلق البلشفي بالأممية الماركسية أمتن بكثير من أن يمكن رفضه علنا. الا أن الفكرة التي كان ستالين يؤيدها لفظا فقط كانت أساسا لكل فكر تروتسكي وعمله.

خلال العشرين أو الخمس والعشرين سنة التي تقع بين أوائل العشرينات وأواخر الأربعينات، كانت جميع الدلائل في الوضع العالمي تشير إلى عكس ما تقوله نظرية تروتسكي. فلم تحرز الثورة أيّ تقدم خارج الاتحاد السوفييتي، وبدا وكأنها ستظل محصورة داخل الحدود السوفييتية إلى الأبد. ولا يمكن الجزم إلى أي مدى يعود ذلك لظروف "موضوعية" أم إلى أي مدى ساهمت الستالينية في إطالة "الوقفة" في التطور الثوري. على كل حال، فالستالينية لم تتكيّف مع الإطار الوطني للثورة وحسب، بل أعلنت عن انكفائها على ذاتها وعن اكتفائها الذاتي على الصعيد الوطني. ولقد هلّل العديد من المعادين للشيوعية لستالين على فعلته هذه، هؤلاء الذين كانوا يفضلون رجل الدولة الواقعي ستالين تروتسكي "الحالم" و"مشعل الحرائق". وكذلك فعلت جميع الأحزاب الشيوعية. فكان لسان حالها: "أليس ستالين على حق عندما يجعل الاشتراكية في بلد واحد محطا لآماله ؟ إن روح الاستسلام الخبيثة المعادية للثورة هي وحدها التي تدفع تروتسكي إلى رفض فكرة تحقيق الاشتراكية في بلد واحد".

لقد تبين ان انتصار ستالين، رغم أنه استغرق مدة طويلة، زال بمجرد أن زال الوضع الذي أنجبه. وبإمكاننا الآن أن نرى أن "الاشتراكية في بلد واحد" هي ردة فعل أيديولوجية لظروف آنية وشكل من أشكال "الوعي الزائف"، وليست برنامج عمل واقعي. لقد ابتدأ الفصل الثاني من الثورة الدائمة قبل اقتراب الاتحاد السوفييتي من الاشتراكية بمدة طويلة. (إنه لمن الافتراء على الحقيقة ان ندعي أن الاتحاد السوفييتي كان أيام ستالين، أو هو الآن، مجتمعا اشتراكيا؛ فرغم تقدمه الحديث يبقى في منتصف الطريق بين الرأسمالية والاشتراكية). إن أعوان ستالين السابقين يتنكرون الآن لمقدرته الشهيرة كرجل دولة ويسخرون منها، ويصفون حكمه بأنه حقبة طويلة من عنف لا مبرر له ضد الشعب الروسي. ولا يمكن قبول هذه الهجمات إلاّ بصعوبة، لأنها تجنح نحو تمويه الوقائع الأكثر عمقا التي بنيت عليها الحقبة الستالينية. لم يكن باستطاعة الثورة الروسية المعزولة أن تضطلع بنجاح بالمهام التي أخذت على نفسها أن تحققها لأنه كان يستحيل تنفيذ هذه المهام في نطاق دولة واحدة. فكانت معظم أعمال ستالين محاولات في "تربيع الدائرة" بواسطة الإرهاب الجماعي، وكانت نظريته عن الاشتراكية في بلد واحد، عن حق، "مدينة فاضلة برغماتية" كما وصفها تروتسكي. فقد تخلى عنها الإتحاد السوفييتي جملة وتفصيلا في نهاية الحرب العالمية الثانية عندما اجتاحت جيوشه، وهي تطارد جيوش هتلر، عشرات البلدان الأجنبية حاملة الثورة على رؤوس حرابها وفي قلاع دباباتها.

وتلا ذلك انتصار الثورة الصينية عام 1948-1949، هذه الثورة التي لم يحسب لها ستالين حسابا وبذل أقصى جهده لوضع العراقيل في طريقها. فانتهت "فترة الاستراحة" إلى غير عودة. ورفع الستار عن فصل آخر من فصول الثورة العالمية. ومنذ ذلك الحين والغليان الثوري يجتاح آسيا وأفريقيا وحتى أمريكا اللاتينية. وكانت كل واحدة من هذه الانتفاضات، في ظاهرها، ذات طابع وبعد وطنيين، ومع ذلك فقد اتخذت كل واحدة منها مكانها في النهج العالمي. فما من أحد يستطيع إيقاف الدفع الثوري. لقد عادت الثورة الدائمة إلى سابق عهدها، فمهما طالت استراحاتها المقبلة ومهما بلغت هزائمها اللاحقة ستبقى المضمون الاجتماعي-السياسي لهذا القرن.

إن التاريخ، في معظم الحالات، لا يمنح تأكيده المطلق لأية فكرة استباقية عظيمة. وهو لم يمنح مثل هذا التأكيد حتى لتروتسكي، لأنه لا يوجد مفكر سياسي معصوم عن الخطأ. إن نبوءة تروتسكي العظيمة آخذة بالتحقيق، ولكن ليس على الشكل الذي تنبأ به. وقد لا يبدو الفرق شاسعا بالنسبة للأجيال القادمة بقدر ما يبدو لنا. ففي عصر لاحق، عندما ينظر المؤرخ إلى الوراء، سيرى استمرارية العملية كلها، فلن يولي الوقفات والفواصل أهمية بالغة. أما بالنسبة للأجيال المعاصرة، لجيل تروتسكي وجيلنا، فالوقفات والفواصل مليئة بالتوتر والاصطدام بقدر ما هي الفصول الرئيسية؛ إنها تشغل حيزا هاما من حياتنا وتمتص طاقتنا ومجهودنا. لقد أمضى تروتسكي النصف الأول من حياته والثورة في ذروة مدّها، وأمضى النصف الثاني منها والثورة في جزر. من هنا كانت الخيبات والهزائم التي تلت انتصاراته، والعقم النسبي للقسم الأكبر من نضاله ضد ستالين. وفي الاتحاد السوفييتي أبيدت المجموعة الواسعة والهامة من اتباعه بحيث إذا التروتسكيون السوفييت، شأنهم شأن "التشرينيين" [الأكتبريين أو الدكمبريين] منذ ما يزيد عن مئة عام، "جيلا من الثوريين بدون أبناء"، أي بدون خلفاء مباشرين. وفي خارج الاتحاد السوفييتي، لم تكن التروتسكية حركة سياسية فعالة، فعجزت الأممية الرابعة" عن أن تبدأ بداية حقيقية. وعجزت حتى عبقرية تروتسكي السياسية عن تحويل الجزر إلى مدّ.

وبالإضافة إلى ذلك، فقد سلكت الثورة الدائمة خطا يختلف كل الاختلاف عن الخط الذي توقع لها تروتسكي أن تسلكه. فقد توقع، انسجاما مع تقاليد الماركسية التقليدية، أن تكون الفصول القادمة منها في دول الغرب "المتقدمة والمتحضرة". ولكن عوضا عن ذلك، غدت بلدان الشرق المتخلفة والمتأخرة المسرح الرئيسي للثورة. هذا لا يعني أن تروتسكي قد تغافل عن الطاقات الكامنة في الشرق، غير أنه يعتبرها طاقات ثانوية إذا ما قورنت بطاقات الغرب التي ظل يعتقد أنها الطاقات التي تلعب الدور الحاسم.

إن قصر النظر هذا يرتبط ارتباطا وثيقا بالتقييم الماركسي لدور الطبقة العاملة الصناعية في المجتمع الحديث، هذا التقييم الذي يتلخص بهذه العبارة الشهيرة: "إمّا أن تكون الثورة من صنع العمال وإمّا أن لا تكون هنالك ثورة البتة". ومع ذلك، فلم تكن أية واحدة من الانتفاضات الاجتماعية خلال العقدين الأخيرين "من صنع العمال" وحسب. لقد نفذتها جميعها منظمات عسكرية متماسكة أو أحزاب برقراطية صغيرة، وكان الفلاحون أكثر فاعلية فيها من البروليتاريا الصناعية. وقد تجلى هذا بشكل خاص في أعظم هذه الانتفاضات: الثورة الصينية. فلقد نقل أنصار ماو تسي تونغ الثورة من الريف إلى المدينة، في حين كان تروتسكي يعتبر أن انتقال الثورة من المدينة إلى الريف هو قانون مطلق، وان هذه الثورة لن تنجح إلاّ بمبادرة المدن وتحت قيادتها.

ومع ذلك، لا يجب أن نتعجل باستنتاج، كما يفعل بعض الكتاب وبخاصة س. رايت مِلز، فنقول أن هذا كله إنما يخطِّئ المفهوم الماركسي الذي يعتبر أن الطبقة العاملة الصناعية هي "الباني التاريخي" الرئيسي للاشتراكية. ولا يجب أن ننسى أن الطبقات العاملة في أوروبا كانت، بالتأكيد، البناة الرئيسية للاشتراكية خلال ما يزيد من عن القرن؛ وأن الجيل تلو الجيل منها قد ناضل بذكاء واندفاع وبطولة أدهشت العالم. فلا شيء يستطيع أن يمحي من سجلات التاريخ أعمال "الشارتيين" الإنكليز ومقاتلي "عامية باريس"، أو نضال العمال الألمان ضد بسمارك وسلالة هوهنزولرن، أو النضال السرّي الملحمي الذي خاضه العمال الاشتراكيون والشيوعيون في بولونيا خلال نصف قرن، أو الانتفاضات البروليتارية الروسية عام 1905 و1917. تلك مآثر لا تجاريها مآثر في سجلات البشرية، فالعبيد والأرقاء والفلاحون "الأحرار" ومعدمو المدن، الذين يشكلون الطبقات المستغَلة والمضطهَدة في المجتمعات البدائية، لم يتمكنوا من مجاراة الطبقة العاملة الحديثة، من بعيد أو من قريب، في مجالات التفكير السياسي والسيطرة على النفس والتنظيم والعمل. لقد كان "أجراء المصانع" في سان بطرسبرغ هم الذين "ابتكروا" المؤسسة التي دعيت "مجالس مندوبي العمال" (السوفييت)، وليس المثقفون البلاشفة والمنشفيك. حتى مجالس السوفييت الحالية المنحطة والنقابات الغربية التي طغت عليها البرقراطية ستبقى صروحا تشهد على إبداع الطبقة العاملة السياسي، بالرغم من التشويه الخبيث التي أُلحقت بها. إن جميع الهزائم التي مُني بها العمال، وفشلهم في قطف ثمار انتصاراتهم، وحتى عجزهم عن لعب أي دور حاسم في انتفاضات العقدين؛ كل هذا لا يكفي لتجريدهم من لقب "بناة الاشتراكية الرئيسيون". هذا اللقب الذي نالوه خلال قرن من الزمن. علينا أن نحتفظ بتقدير للنسبة والبعد لكي نتفادى التعميم عن عملية تاريخية بعيدة المدى انطلاقا من طور واحد فقط من أطوارها.

ولا بد من الإقرار، بأن تعقيدات التطور التاريخي كانت امتحانا قاسيا للمفهوم الماركسي حول الاشتراكية البروليتارية ولقناعات الحركة العمالية وآمالها. إن الثورة الدائمة تعصف بالعالم، ولكن هل هي ثورة الاشتراكية البروليتارية ؟ لكي تحافظ فكرة تروتسكي على صوابيتها لا بد من أن تتحقق فرضيتها الأولى: على عمال الأمم الصناعية المتقدمة، إن في الاتحاد السوفييتي أو في الغرب، أن يتحرروا من الخنوع والتشوّش والاستسلام الذي دفعتهم إليه الستالينية والإصلاحية الغربية، وعليهم أن يفرضوا أنفسهم مجددا كبناة الاشتراكية الرئيسيين. إن مسألة "من سوف يسيطر على ثورة هذا القرن" ما زالت موضع نقاش: هل ستسيطر البرقراطيات الطائشة المتحكمة أم الطبقة العاملة التي تمثل مصلحة المجتمع العامة ؟ وعلى هذه المسألة يتوقف مصير أشياء هي أهمّ بكثير من صواب أية عقيدة، فجميع القيم المادية والروحية التي خلقها الإنسان وراكمها موضوعة على المحكّ.

إن القائلة بأن الطبقة العاملة هي التي تلعب الدور الرئيسي في الثورة الاجتماعية وأنه يجب أن تظل تلعب هذا الدور، هذه الفكرة تحدِّد تفكير تروتسكي السياسي ومفهومه للنظام السوفييتي وللحزب البلشفي ونضاله ضد المذهبيات الاشتراكية-الديموقراطية والستالينية على السواء. إن مفهوم "الديموقراطية العمالية" هو المفهوم الرئيسي الذي تدور حوله جميع أفكاره وحججه.

يعتبر تروتسكي، كغيره من الماركسيين الثوريين، أن دكتاتورية البروليتاريا هي الشرط السياسي الضروري لانتقال العالم من الرأسمالية إلى الاشتراكية. ولم يكن أي من رفاقه أو خصومه، ولا حتى لينين، أكثر صلابة وتصميما منه في التمسك بهذا المبدأ في النظرية وفي التطبيق. إن تصوير تروتسكي على أنه إنسان مائع، أو مثقف حالم أو داعية إلى العنف، أو أنه "غاندي" الحركة البلشفية هو افتراء على التاريخ. إن هذا الشهيد العظيم لم يكن يحيا على حليب الماعز ولا كان يتاجر بحليب اللطف الإنساني. كان يعلم أن عددا كبيرا من الانعطافات الهامة في التاريخ قد تلطخت بالدم البشري. فلم يتقاعس عن استعمال القسوة عندما كان مقنعا بأنها ضرورية لتقدّم المجتمع. وإن إدانته باسم الحضارة الغربية وقيمها ضرب من التدجيل والمراوغة، هذه الحضارة التي ترزح على ضميرها المذابح الجماعية خلال الحربين العالميتين والتي عرّضت البشرية لأهوال الحرب النووية. إن تروتسكي يختلف عن أولئك الجزارين الذين يمجدهم التاريخ في أنه لم يكن يتلذذ، ولا في أي حال من الأحوال، بقساوته ولا بطعم الدم. لقد حضّر لأعظم انتفاضة مسلحة – انتفاضة أكتوبر 1917 – بحيت شهد أشدّ المراقبين عداء لها بأن عدد ضحاياها لم يتجاوز العشرة؛ وعندما كان قائدا في الحرب الأهلية كان يعالج موضوع سفك الدماء بالطريقة التي يعالجه بها الجرّاح كمرحلة محدودة لا بد منها في عملية جراحية ضرورية ومنقذة.

وكان يؤمن بدكتاتورية البروليتاريا لأنه كان يسلِّم بأن أصحاب الأراضي والرأسماليين ومالكي العبيد لا يتنازلون عادة عن ممتلكاتهم وسلطتهم بدون قتال وحشي. لذا كانت الدكتاتورية هي وحدها التي تمهّد الطريق أمام الثورة في روسيا. ولكن كيف تكون طبيعة هذه الدكتاتورية ؟

يتوجب علينا، في هذا الصدد، أن نعيد لأفكار تروتسكي معناها الأصلي (وبالنسبة للينين والبلاشفة الأول طبعا)، لأن تجربة الأنظمة الكلِّية (Totalitarian) قد راكمت على هذه الأفكار شوائب ثقيلة ومنفّرة لا تمت إليها بأية صلة. إن دكتاتورية البروليتاريا، بالنسبة لتروتسكي، هي ديموقراطية عمّلية ويجب عليها أن تكون كذلك. وليس هذا بالقول الخبيث. يجب أن نتذكر أن تروتسكي، كغيره من الماركسيين، معتاد على وصف جميع الديموقراطيات البرجوازية (الملكية الدستورية في بريطانيا، وجمهورية فيمار في ألمانيا، والجمهورية الفرنسية الثالثة، والنظام السياسي في الولايات المتحدة) بأنها "دكتاتوريات برجوازية". وكان يعلم، طبعا، ان هذه الأنظمة ليست دكتاتورية أو شبه دكتاتورية على الصعيد السياسي والدستوري البحث؛ ولذلك كان على علم تام بالحريات التي يتمتع بها الشعب في ظل الديموقراطية البرلمانية.

غير أن تروتسكي كان يصرّ على وصف النظام البرلماني الغربي بأنه دكتاتوريات برجوازية بالمعنى العام لهذه العبارة، أي أنه نظام يقوم على الملكية الرأسمالية ويضمن للطبقات الحاكمة تفوقها الاقتصادي والاجتماعي وبالتالي طغيانها الثقافي والسياسي. إن عبارة "الدكتاتوريات البرجوازية" تصف بدقة هذا التفوق والطغيان، وهي لا تعني بالضرورة أي نظام دستوري معيّن أو أية طريقة في الحكم. لذلك، فعندما يتكلم تروتسكي (أو لينين أو ماركس) عن دكتاتورية البروليتاريا، فإنه يستعمل هذا التعبير بمعناه العام للإشارة إلى نظام يضمن للطبقة العاملة التفوّق الاجتماعي، وهو ليس حكما مسبقا على طريقة الحكم أو شكله الدستوري. وإن دكتاتورية البروليتاريا، شأنها شأن الدكتاتورية "البرجوازية"، إما أن تكون دكتاتورية واما أن تكون ديموقراطية في طابعها السياسي، وقد تتخذ أشكالا دستورية متنوعة. ففي الفترة التي تلي الثورة مباشرة، وخلال الحرب الأهلية، لا بد لها من أن تتخذ طابعا ديكتاتوريا بحثا، أما في ظروف أكثر طبيعية فإنها تتجه نحو اتخاذ شكل ديموقراطي. وحتى في طورها الدكتاتوري البحث، كما كان النظام السوفييتي في أول عهدهن تضمن الديموقراطية العمالية حرية أصيلة للتعبير وللمناقشة للعمال على الأقل، وتمكنهم من ممارسة رقابة فعلية على الحكومة. ولا علاقة لهذا المفهوم للدكتاتورية بأي حكم يستمد شرعية وجوده من نفسه وتسيطر عليه فئة "اشتراكية" ذات امتيازات، أو بحكم فردي أو بأي نظام حكم "وحداني" أو كلي؛ إنه عكس ذلك تماما. ولا عجب أن تدين الستالينية هذا المفهوم بأنه هرطقة منشفية، ولا عجب أيضا أن يمحي التفكير الشيوعي. فقد انتزعت المدرسة الستالينية من عقول تلامذتها الإيمان بأن الطبقة العاملة هي أو أنها يجب أن تكون، بانية الاشتراكية.

وينبثق مفهوم تروتسكي للحزب، وغيره من المفاهيم، من هذا الاقتناع. يكفي أن نشير في هذا الصدد إلى أن تروتسكي ظل على خلاف مع لينين خلال ما يقارب الخمسة عشر عاما، وأنه عارض ستالين خلال ما يقارب العشرين عاما، فهو لم يواكب البلاشفة إلاّ خلال ست سنوات فقط، تلك السنوات التي "هزّت العالم" بين عام 1917 و1923. إن أسباب مساجلاته مع لينين ليست نفسها الأسباب التي دعته إلى معارضة ستالين. ورغم ذلك، فلكلاهما أساس واحد، هو رفض تروتسكي لأي شكل من أشكال الوصاية الحزبية على العمال. وكان يشك قبل عام 1917 أن لينين يطمح إلى ممارسة هذه الوصاية, وقد وجد هذا الطموح مجسّدا ومكتملا في شخص ستالين. ولقد اعترف تروتسكي من تلقاء نفسه بأنه ارتكب خطأ فادحا في تقييمه للينين الذي درّب الحزب البلشفي لكي يقود العمال وليس لكي يروضهم أو يخضعهم. وعندما ميّز تروتسكي الناضج بين القيادة الشرعية من جهة وبين الوصاية والاغتصاب من جهة أخرى، صحّح بذلك النظرة الجزئية التي كان يحملها؛ كان قد اعتمد أكثر من اللازم على عفوية الوعي الطبقي عند العمال، وعلى ذكائهم وإرادتهم الثورة الفكرية، فاعتبر أن هذه العوامل تكفي بحد ذاتها لتأمين أنصار الاشتراكية. وكان يجنح إلى النظر إلى الطبقة العاملة وكأنها فئة إجتماعية متجانسة يحرّكها حسّ اشتراكي واحد ويملك جميع أفرادها مقدرة فائقة على العمل السياسي. فلم تكن طبقة كهذه بحاجة إلى دليل خاص، لذا كان على الحزب أن ينصر فيها وأن يعبر عن تطلعاتها.

إن لينين، الذي كان الاعتقاد الأساسي عنده هو الإيمان برسالة العمال التاريخية بوصفهم بناة الاشتراكية الرئيسيين، فقد نظر إلى الطبقة العاملة من زاوية نقدية وأكثر واقعية. فكان يراها فئة معقدة غير متجانسة فيما بينها، تتكون من عدة مجموعات لكل منها أصله وماضيه، ترتبط كل منها بالفلاحين وبالبرجوازية الصغيرة وبسائر مجموعات الطبقة العاملة نفسها بشتى الارتباطات، ولكل منها مستواه الثقافي ووعيه الاجتماعي، ولكل منها درجة من المقدرة (أو من العجز) على خوض النضال الثوري. ولا يجمع بيت أجزاء هذه الكتلة المتمايزة كل التمايز فيما بينها إلاّ وضعها البروليتاريا في المجتمع وعداؤها للاستغلال الرأسمالي، بينما تفرق فيما بينها قوى فاعلة في داخلها ووجود درجات متباينة في تقبلها للاشتراكية. كانت هذه الطبقة الحقيقية مكونة من عناصر تقدمية وأخرى رجعية، من عناصر صافية الرؤيا وأخرى بليدة، من عناصر شجاعة وأخرى جبانة، لذا كانت بحاجة إلى أن يقودها الحزب لكي ترقى إلى مستوى "رسالتها" الثورية. وبالتالي، فلا يكفي أن ينصهر الحزب بالعمال مكتفيا بامتصاص تطلعاتهم والتعبير عنها؛ عليه أن يقولب هذه التطلعات. وأن يربط نفسه في البدء بالعمال المتقدمين لكي يتسنى له أن يثقف بواسطتهم العمال المتأخرين. يتوجب على الحزب، إذن، أن يكون "طليعة بروليتارية" ونخبة ماركسية واضحة الرؤيا منضبطة لا تقهر وقادرة على تكوين "القيادة العامة" للثورة.

لقد تبنّى تروتسكي الناضج هذه الفكرة اللينينية ولم يتخلّ عنها قط. ولكن من العبث محاولة إنكار الأخطار الموجودة في داخل حزب النخبة، هذه الأخطار التي كان تروتسكي الشاب شديد الحساسية تجاهها بحيث إذا ما عدنا الآن إلى مساجلاته السابقة ضد نهج لينين الحزبي وجدنا أنها تنبؤات صادقة لما حصل في النظام الستاليني. فمن السهل جداً أن تتحول النخبة إلى فئة ذات امتيازات (Oligarchy)، وتولد هذه الفئة الدكتاتور المعصوم عن الخطأ الذي لا يمكن إزاحته. ومهما يكن من ا مر، فإن تروتسكي قد قبل بنهج لينين بسبب تحليل هذا الأخير للعلاقة بين الحزب والطبقة تحليلا واقعيا جدا، وبشكل خاص بسبب الطريقة التي كان حزب لينين يمارس بها قيادته (على عكس الطريقة الستالينية أو الخروتشوفية). فبالرغم من الدرجة العالية من الانضباط في الحزب فقد ظل تجمعا حرا للثوريين يسلم بالحقوق الديموقراطية داخل التنظيم ويستفيد منها إلى أقصى حد، إذ كان الحزبيون ينتقدون قياداتهم بدون خوف ودون أن يكون هذا الحق منة تتصدق بها القيادات عليهم. فكانوا يناقشون، في معظم الأحيان، كل قضية سياسية أساسية علنا. وكان النقد المرّ ورقابة القاعدة العاملين اللذين يوازيان الصلاحيات الواسعة التي تتمتع بها اللجنة المركزية اللينينية التي تحتكر سلطة شديدة المركزية وتفرض على الحزبيين العمل بشكل موّحد وفق أوامرها.

لابد من التمييز بين "الديموقراطية المركزية" عند لينين وبين المركزية-البرقراطية الشديدة التي تطبع الحقبة الستالينية. فلم يكن حزب النخبة، بالنسبة للينين، هيئة تكفي نفسها بنفسها وتحل محل الطبقة العاملة في بناء الاشتراكية. كان عليه أن يبقى جزءا من الطبقة العاملة، مثلما تبقى الطليعة في الجيش جزءا من القوة المقاتلة حتى وهي تعمل كفصيلة خاصة تنفذ مهمة معيّنة. كانت القاعدة تتمتع في الحزب اللينيني بكامل حريتها في تغيير اللجنة المركزية، مثلما كان يحق للطبقة العاملة، نظريا، أن تخرج الحزب الحاكم في الجمهورية السوفييتية وأن تأتي بغيره. كان الطابع الخاص للديموقراطية العمالية هو وجود الديموقراطية في داخل الحزب.

بالرغم من أن هذا النهج لا يرقى إليه أي شك، فإن أحداث الثورة قد طمست معالمه. ولم يكن ذلك "صدفة تاريخية" أو مجرد تعبير عن إرادة ستالين الشرّيرة. إن نشوء الستالينية هو أبشع تعبير عن تخلف روسيا القديمة. كانت الثورة والحرب الأهلية قد أنهكتا الطبقة العالمة الروسية التي تقطعت بشكل فاجع إلى عدد ضئيل جدا منها، وغدت غير منظمة، وأدّى انهيار الاقتصاد بمجمله إلى تحطيم معنوياتها. فأثبتت أنها غير قادرة على المحافظة على الديموقراطية العمالية وعلى السيطرة على الحزب الحاكم. وفي داخل الحزب أيضا، فشلت القاعدة في حماية حقوقها ومراقبة قادتها. فاكتسى النظام البلشفي طابعا بروقراطيا وحدانيا احتفظ به خلال عقود من الزمن.

وقد شكّل صراع ستالين ضد تروتسكي مرحلة حاسمة من مراحل هذا التحول. فإن حدّة هذا الصراع ووحشيته القصوى تعودان في الواقع إلى كون "التروتسكية" تمثل وعي الثورة، ولأنها كانت تذكر الحزب البلشفي باستمرار بالتزاماته تجاه الديموقراطية العمالية، ولأنها كانت توقظ في نفوس الطبقة العاملة تطلعا، لم يكن قد خبا بعد، إلى استعادة دورها في قيادة التحويل الاشتراكي. فكانت التروتسكية خلال حقبة كاملة من الزمن البديل الثوري الوحيد للستالينية.

كانت أفكار تروتسكي حول "بناء الاشتراكية" في تضاد تام مع نظرية ستالين وتطبيقه. والعودة إلى الماضي قد توضّح أبعاد هذا التضاد. كان تروتسكي أول من دعا وناضل في سبيل التصنيع السريع في الاتحاد السوفييتي، لذا فإن له فضله على صعود الاتحاد السوفييتي الاقتصادي والمالي. وكان يعتبر أن تجميع المزارع خطوة ضرورية تلازم التصنيع، وأنه الطريق إلى نمط من الإنتاج الزراعي يتفوق على ذلك النمط الذي يقوم على الملكيات الريفية الصغيرة التي تفلح بواسطة أدوات قديمة بالية. ويصح القول أن ستالين قد سرق شعارات تروتسكي بعد أن هزمه وأنه أخذ برنامج التصنيع والتجميع عن "المعارضة اليسارية".

ولقد دفع هذا بعض "الأخصائيين في شؤون الاتحاد السوفييتي" إلى القول أنه لا يوجد فرق كبير بين ستالين وتروتسكي، وأنه ليس ثمة من مجال للمفاضلة بينهما. إن هذه الحجة تتعامى عن نقطة هامة وهي أن ستالين إرتدى "ثياب" تروتسكي بعد أن غمّسها بدم الفلاحين والعماّل الروس. هنا، باختصار، يكمن الفرق بين الرجلين في "طريقة بناء الاشتراكية".

كان تروتسكي يعتبر في منهاجه أنه يجب دفع التصنيع إلى الأمام بموافقة العمّال وليس رغم إرادتهم ومصالحهم. وكان هذا المنهاج يفترض وجود توسّع متوازن متوازٍ في الصناعة الإنتاجية والاستهلاكية، ووجود تحسن مضطرد في مستوى الشعب المعاشي، واشتراك العمال الإرادي الواعي في عملية التخطيط، "التخطيط من الأعلى والتخطيط من الأسفل في الوقت نفسه". غير أن ستالين قد شجّع تطورا ذا وجه واحد هو تطور الصناعات الإنتاجية وأهمل الصناعات الاستهلاكية. فانخفض بالتالي مستوى الجماهير المعاشي أو ظل راكداً؛ وعندما احتجّ العمال على سلبهم منافع التصنيع حرموا من أي مشاركة في تقرير السياسة الاقتصادية، كما حرموا من جميع حقوق الاحتجاج والإضراب وإبداء الرأي. وخلال عقدين من الزمن، ظلّ العمال يدفعون ثمن أتفه الإساءات إلى "انضباط العمال" سنوات من العبودية والتعذيب في جحيم معسكرات الاعتقال الستالينية. وكان صوت تروتسكي، خلال الثلاثينات، هو الصوت الوحيد الذي ارتفع ليدافع عنهم، هذا الصوت الذي ترامت أصداؤه في كل أنحاء العالم ضد الدعاية الستالينية الكاذبة التي تصمّ الآذان. ومن ناحية أخرى، كانت دعوة تروتسكي لتجميع الزراعة تسلم بأنه سيجري تنفيذ هذا التجمع تدريجيا بواسطة الإقناع وبموافقة الفلاحين، وليس كما فرضه ستالين "بالجملة" في الفترة بين عام 1929 و1932.

يقول البعض أنه لو حلّ الإقناع محل القسر في تحديد سرعة التصنيع والتجميع في الاتحاد السوفييتي لما كان أمكنه أن يبني قوته الاقتصادية والعسكرية بالسرعة اللازمة لكي يخرج منتصرامن الحرب العالمية الثانية ولكي يتمكن من تحطيم الاحتكار الأمريكي للطاقة الذرية بعد ذلك بمدة قصيرة. لا يمكن قبول مثل هذا التفكير أو رفضه إستنادا إلى أسس تجريبية بحتة. إن حجة تروتسكي المضادة جديرة بأن نوليها أهمية بالغة إذ تعتبر أنه لو توفرت قيادة اقتصادية أكثر عقلانية وتحضرا من قيادة ستالين وأكثر استجابة منها لحاجات الشعب، لقامت قوة الاتحاد السوفييتي الاقتصادية والعسكرية على أسس أرسخ وأصبحت أكثر فعالية مما هي عليه الآن. إن المكاسب التي جناها ستالين بسبب دفعه لتطور جد سريع، عاد فخسرها بسبب سوء إدارة البرقراطية وهدرها الفظيع للرجال والعتاد. إن خلفاء ستالين يرددون اليوم نفس الانتقادات التي وجهها تروتسكي لمشاريع السنوات الخمس خلال عهد ستالين عندما كان هؤلاء شركاء في أعمال سيّدهم. وإذا كان بالإمكان القول أن "الأسلوب" الستاليني كان حتميا من وجهة النظر التاريخية، فإنما يعود ذلك فقط إلى كون الزمرة السوفييتية الحاكمة خاصة والبرقراطية السوفييتية عامة شديدة التخلف والروعنة والوحشية فلم تسلك طريقا لبناء الحكم السوفييتي أكثر تحضرا وأقرب إلى الاشتراكية. وفي التحليل الأخير، يمكن القول إن مساوئ البرقراطية إنما تنبثق عن البربرية الروسية القديمة التي استمرت بعد ثورة أكتوبر وتغلبت عليها. فكانت مأساة روسيا، ومأساة تروتسكي أيضا، هي أنها لم تستطع الارتفاع فوق البربرية حتى وهي تناضل للإنعتاق منها.

قد يجد العديد من القراء صعوبة في تصوّرضخامة الصراع الذي كان يدور في روسيا خلال عقدين من الزمن ولكن من المؤكد أن تروتسكي حمل معه إلى حلبة هذا الصراع الدفع الفكري والأخلاقي وحرارة المأساة ودفء الإنسانية. إن انعتاق روحه والحقل الواسع الذي تشمله اهتماماته ونشاطه تنعكس كلها في كتاباته. لقد قال ذات مرّة عن لينين أنه يفكر "على صعيد القارات والحقبات التاريخية" إن هذا القول ينطبق عليه أيضا. ورغم أن فكره كان ما يزال، مثل عصره، مركزا حول أوروبا، فقد كان يتخطى هذه الحدود دائما ليصل إلى قارات وشعوب أخرى كانت "صامتة" آنذاك، وليصل إلى حقبتنا هذه حيث أصبح لكل شعب صوته الخاص، الأمر الذي تمكن أخيرا من أن يضفي طابعا شاملا على السياسة اليومية. وفي سنوات نفيه الأخير، عندما كان الاضطهاد الغربي "الديموقراطي" أو الستاليني يطارده من الجزيرة التركية القصية إلى مخبئه في جبال الألب الفرنسية إلى قرية نروجية وأخيرا إلى ضاحية من ضواحي مدينة المكسيك لم يتوقف عقله وقلبه لحظة واحدة من معانقة العالم. لم تكن نزعته الأممية مجرد قناعة فكرية، كانت غريزية في عفويتها أيضا، تكشف عن نفسها في تضامن حي وفعّال مع كل قطاع من القطاعات البشرية المضطهدة والمناضلة… فقد كان يشعر في كل أمّة ومع شعب وكأنه في بيته، فكل شعب من الشعوب وكل أمة من الأمم سوف تساهم بحصتها في الثورة الدائمة.

ومن ناحية أخرى، كان اتساع أفق آرائه مثيرا للدهشة. فقد كان تروتسكي قائدا سياسيا، وعالما اجتماعيا واقتصاديا، وقائدا حربيا، ومفكرا عسكريا و"أخصائيا" لامعا في شؤون الثورة المسلحة، ومؤرخا، وكاتب سِيَر، وناقدا أدبيا، وسيدا من أسياد النثر الروسي، وأحد أعظم خطباء التاريخ كله، يخترق عقله الثاقب الأصيل ومقدرته الخارقة على التعبير كل حقل من حقول نشاطه. فهو يعالج كل موضوع بطريقته الخاصة، كما لم يعالجه إنسان من قبل أو من بعد. وحتى عندما يلجأ إلى ترديد البديهيات الماركسية، يبدو وكأنه يعيد اكتشاف الحقيقة التي تحويها هذه البديهيات فيبث فيها حياة جديدة بحيث لا تخرج وكأنها "كليشيهات" ممجوجة؛ فهو يرددها ليستنبط منها استنتاجات جديدة خلاّقة. إنه، في عدة نواح، أكثر الماركسيين مذهبية إلاّ أن شخصيته تطرد رائحة المذهبية. وعندما يتكلم، يتكلم عن حجّة ولا يتكلم كأحد الكتبة الهواة؛ وهو في روحه وطبعه وأسلوبه أقرب إلى ماركس من جميع رسله وأتباعه.

"الأسلوب والإنسان"، إلاّ أن الأسلوب هو العصر أيضا. إن أسلوب تروتسكي يعكس، بشكل رائع، الفترة البطولية من تاريخ الثورة والماركسية بظلامها وبألوانها الزاهية. ومنذ ذلك الحين، حجب الدم والوحل، خلال الحكم الستاليني، هذه الفترة عن أعين الجيل الحاضر، وكذلك فعلت المبهمات الباهتة الرتيبة خلال المرحلة التي عقبت المرحلة الستالينية في الاتحاد السوفييتي وفي البلدان الشرقية الأخرى.

… حقا إن تروتسكي نفسه قد فشل في محاولاته لخلق حركة شيوعية مستقلة وفعالة على الصعيد السياسي. مع ذلك، فالآراء المغروسة في أعماق الواقع الاجتماعي لا يمكن تحطيمها، على حد قول تروتسكي، حتى عندما يقتل دعاتها أو يذهبون ضحية الإبادة الجماعية. لا بد لهذه الآراء من أن تبرز مجددا وأن تمتلك عقول أناس آخرين قد لا يعلمون من هو أول من صاغ هذه الأفكار أو دعا إليها. وفي بعض الأحيان، يسير الجدول في مجراه مسافة طويلة في الصحراء ثم يختفي فجأة ويغور تحت الأرض، ويبقى مطمورا طوال مسافة طويلة من مسيرته ثم ينفجر مجددا إما على شكل جدول واحد وإما على شكل عدة تيارات متباينة. إن "التروتسكية" تمرّ بوضع يشابه هذا الوضع. فبعد ربع قرن من تصفيتها "النهائية" طفت إلى السطح في الاتحاد السوفييتي ليس بشكلها القديم المعترف عليه ولا حتى باسمها ذاته، وإنما كأنها قد قسّمت إلى العناصر التي تكونها وتوزّعت على تيارات مبعثرة.
ففي الخلاف بين خروتشوف وماوتسي تونغ الذي يمزّق العالم الشيوعي، يتهم الطرفان بعضهما البعض بالتروتسكية. وطبعا يحاول كل طرف أن يلصق التهمة بالآخر بغية تشويه سمعته بأسهل طريقة ممكنة، فعند أتباع كل طرف لا يزال الاستهجان الستاليني للتروتسكية متقدا. ومع ذلك هنالك ما هو أهم من هذه الألاعيب السجالية في هذا الاتهام المتبادل. إن خروتشوف يبدوا فعلاً لماو وكأنه تروتسكي متخفٍ وكذلك يبدو ماو لخروتشوف. وبالإضافة إلى ذلك، لكل منهما بعض الحق في أن يفكر عن الآخر ما يفكره، لأنهما ينفذان وصية تروتسكي السياسية، ولكن ينفذ كل منهما جزءا مختلفا منها رغم أنهما يفعلان ذلك بشكل مشوّه وربما دون علمهما. إن النزعة الخروتشوفية المعادية للستالينية هي انتصار لتروتسكي بعد موته: فكل إصلاح تقدمي داخلي نفذ في الاتحاد السوفييتي منذ عام 1953 لم يكن سوى صدى بعيد لآمال تروتسكي ومطالبه التي طرحها ذات مرّة، في حين ما تزال نزعة الانتهازية والاكتفاء الذاتي الموروثة عن العهد الستاليني تهيمن على السياسة الخارجية للاتحاد السوفييتي. وعلى العكس من ذلك، ما يزال نظام ماو الداخلي، الذي يعكس فقر الصين وتخلفها، أقرب إلى النموذج الستاليني، في حين نجد أن نقد ماو لسياسة خروتشوف الخارجية والطريقة التي يعالج بها القضايا الشيوعية العالمية تحوي، ولا شك، بعض معطيات الثورة الدائمة الأساسية معروضة بشكل فظ.

يا له من مثال ساخر على "قانون التطور غير المتكافئ" ! أن التروتسكية تعود إلى المسرح، إلى حدٍ ما، غير أن عناصرها تمتزج بشكل فاجع بتركيبات غريبة من العناصر الستالينية. إن الحركة الشيوعية، التي ما زالت تعاني من "فقر الدم" السياسي، لم تع بعد الطريقة التي تؤكد فيها تقاليدها المطمورة استمراريتها على شكل استمرارية وسط التقطع. إلاّ أن انبعاث أفكار تروتسكي ما يزال في بدايته. علينا أن نرى كيف سيستمر هذا الانبعاث، وأن نرى كيف ومتى ستلتحم آراء تروتسكي فيما بينها مجددا، ليس كنسخة عن التروتسكية القديمة، ولكن بامتصاصها لها وتجاوزها إياها نحو طور جديد من أطوار الماركسية، وفي وعي اشتراكي جديد أغنته تجارب عصرنا. ومهما يكن من أمر فمن المؤكد أن معرفة كتابات تروتسكي ونضاله أمر ضروري للغاية لفهم الغليان الذي يعاني منه العالم الشيوعي والتغيرات التي ستطرأ عليه في السنوات المقبلة.

… أما على صعيد الآراء فأنا على ثقة أن تروتسكي ما يزال معلما ممتازا.

1964
إسحق دويتشر


(*) هذا التكهن موجود في مقالة لتروتسكي بعنوان "الراديو والعلم والتقنية والمجتمع" ص6-9. (المترجم)